عبده علي الفهد

Share to Social Media

النسر والثعلب
بقلم : عبده علي الفهد
Abdualialfahad@gmail.com

اعتاد جندب وحمدون ورضا على الاستماع لقصص تروى لهم بعد تناول طعام العشاء من قبل جدهم عطاء. أتى حمدون إلى جده وهو ممدد على فراشه، فقال: يا جدي حلمت حلمًا أحب أن تفسره لي.
رأيت في منامي أن لي جناحين أطير بهما، وكنت أحلق عاليًا في السماء، وفجأة شعرت بجوع وظمأ، فهبطت قرب جدول ماء، فتجمع حولي الأعداء ومنعوني من شرب الماء، وكانوا حفاة عراة هيئاتهم بشعة ومتنوعة، ثم أمسكوا بي وقصُّوا جناحي ونبذوني في العراء، فلم أعد قادرًا على الطيران والارتفاع في الهواء، بعدها استيقظت مرعوبًا، فهل لك أن توضح لي ما جرى؟
قال جندب: قبل تفسير رؤياه، أولًا: يا جدي الغالي أريدك أن تحكي لي حكاية قبل أن أخلد إلى منامي؟
- ما نوع الرواية التي تحب أن تسمعها؟
- رواية لم يسبق أن حكيتها لأحد، حكاية تكون طويلة المدى، بدايتها في الأرض ونهايتها في السماء.
- فهمتك يا جندب، تريد أن أحكي لك قصة النسر والثعلب. لكن قبل أن أبدأ عليك أن تنادي أختك رضا كي تنضم إلينا إذا فرغت من تناول طعام العشاء، كي تستمعوا حسب المعتاد، أخشى أن تأتي بعد أن نختم الحكاية فتوقظني من الرُّقاد.
- ها نحن لبينا الطلب وحضرنا بعد أن دعانا جندب. نحن بجانبك نستند على ركبتيك، لولا عمى عينيك لرأيت ما يسرك.
- إذًا اسمعوا يا أحبائي ولا تكثروا من عتابي، آتوني بالماء فقد داهمني الظمأ.
وبعد أن شرب جرعة من الماء، قال:
- ها أنا قد ارتويت، وعلى النبي صليت، وبسم الله ابتدأت.
كان هناك نسر لديه عزة وأنفة وكبرياء، لا يعتدي على الأحياء، مأكله الجيف ومخ العظام الصماء، ومشربه زلال بيض النعام والسلحفاة. ذات يوم اشتد به الجوع فطار وحام في الهواء باحثًا عن عظام أو جيف الأنعام، لكنه لم يجد مقصده ومرامه، جفَّ لعابه ووهنت عزيمته، حط على صخرة عالية واقفًا على قدميه، فلمح ثعلبًا خارجًا من أحد البيوت يحمل ديكًا بين فكيه، فقبع تحت شجرة كثيفة وبدأ بنتف ريشه بعد أن فصل رأسه عن جسده.
حاور النسر نفسه فقال:
عليَّ أن أنزل إلى جوار الثعلب، أتلطف إليه وأتخذه صديقي، عله يجود عليَّ من الديك بما يسد رمقي.
طار وهبط غير بعيد من الثعلب، فقال: يا ابن عُرس من أين لك هذا؟
- ألقى الثعلب ما في فمه ووضع الديك تحت قدمه.
فأجاب: مشيت الحفاء ودست الظلماء، تسللت فدخلت البيت في الخفاء، رآني الديك فصاح ولاح، فنبح الكلب أشد النباح، فقطعت رأسه وكتمت أنفاسه، نجوت بأعجوبة من الهلاك بعد أن حملته وقفزت من الشباك، والآن قد علمت بما عانيت حتى جلبت ما رأيت.
- ألا تخبرني لماذا أتيت؟
- لقد سئمت من الهواء والطيران في السماء، عانيت من الوحدة بعد فراق الأصدقاء، فوصل إلى مسامعي كرمك وحسن طباعك، فرغبت بالعيش معك والفوز برضاك، وكل ما أطلب أن أصير أحد أصدقائك، تعطيني ما تيسر من الديك، أقرضني في عُسري، سأقضيك في يُسري.
نظر الثعلب إليه فأطال ثم قال:
- أيُعقل هذا؟ من يمشي على الأرض يقرض من يطير في السماء؟! ألم تحلق عاليًا في الهواء فترى ما لم أرَ؟ تعيش من الأخطار في مأمن ومنأى، في حين يحفني الويل والبلاء صباحًا ومساءً، ما تقوله ليس عدلًا، هل لديك حديث غير هذا؟
- إذًا اعتبرني ضيفًا حلَّ عليك، هيا أطعمني فقد صار لي حق لديك، إذا لم تطعمني قاتلتك وفضحتك.
رأى الثعلب أن النسر جادٌّ في طلبه، ولو ماطله قد يزيد غضبه، فقاسمه الديك مغلوبًا على أمره.
حمد النسر الله وشكره بعد أن أعطاه الثعلب نصف الديك فأكله. بقي النسر على هذه الحال عدة أيام وليالٍ، يموت الثعلب ويحيا عندما يرى النسر يأكل ما جنى، بحث الثعلب عن مكيدة تُبعد النسر عن طريقه، فقال:
- أرى أن لك في الطيران باعًا يفوق ما عداك من الطيور، فإذا ما بسطت جناحيك وقع كل ما على الأرض تحت عينيك غير مستور.
- نعم ولكن أنت تتفوق في عدة أمور، تستطيع المرور في الأنفاق والأدغال وتحت جذوع أشجار التوت، والدخول والخروج من نوافذ البيوت.
تبسم الثعلب فقال:
- سبق وأن طلبت صداقتي، وها أنا قد أبديت موافقتي، بشرط أن نتبادل المهارات؟
قال النسر:
- وكيف ذلك؟
- أعلمك الخنسات تحت الأشجار والممرات والغوص في الماء، مقابل أن تعلمني الطيران والتحليق في السماء.
- اتفقنا.
قال الثعلب: اركب على ظهري تتعلم الخنسات الآن.
رد: بل اركب أنت أولًا لتتعلم الطيران.
- نحتكم إلى أول قادم.
أطلت الأفعى برأسها من جحرها، فشاهدت ثعلبًا ونسرًا يقفان أمامها.
فقالا: قد اختصمنا، وإليك احتكمنا.
نظرت إليهما فقالت: كلاكما أعداء، والفرار عنكما أولى، ثم انسحبت إلى الوراء.
قدم الأرنب، فلما اقترب منهما ارتعب وارتجف، وعلى رجليه وقف.
قالا: قد احتكمنا إليك فاحكم بيننا ولا تخف.
شاهد الأرنب اللعاب يسيل من فم الثعلب، ووجد النسر شاهرًا للمنقار والمخلب، فقال: انتظرا حتى أعود، سأذهب وأحضر الكتاب ثم أنظر حكمكما في أي باب من الأبواب. فرَّ مسرعًا وحمد الله وشكره الذي هداه لهذه الحيلة وأرشده.
قدم الذئب وخلفه الأسد.
قال الثعلب: أتى الذئب الذي لا يُخاف أحد سواه، وإذا حكم فلا يجرؤ مخلوق مخالفة قضاه.
وصل الذئب فجلس القرفصاء، نظر إليهما فسمع وأصغى.
فقال: ليتقدم أحدكما ويشرح الشكوى.
برز الثعلب فقال: اتفقنا بإرادتنا على أن أعلمه الخنسات والغوص في الماء، مقابل أن يعلمني الطيران في السماء.
- إذًا هذا هو الاتفاق، فأين الاختلاف؟
- هو ليس خلافًا وإنما تباينات حول من يبدأ ونوع الضمانات.
نظر إلى النسر فقال: هناك اختلاف في الجوهر والمظهر، ومضمون الحكم في حالتكما غير ظاهر، فأحدكما من عالم الطيور الجارحة، أما الآخر فمن الوحوش المفترسة، ولكل عالم قوانينه وأحكامه، فلا أستطيع الفصل بينكما إلا في حالة واحدة، هي أن ينتمي أحدكما للعالم الآخر، عندها تحدث المساواة في الشكل والمظهر، ويكون الحكم إلى العدالة أظهر.
قالا: وكيف ذلك؟
- بأن يصبح النسر ثعلبًا، أو أن يصير الثعلب طيرًا.
قالا: ولكن كيف يجري هذا ويكون؟
- أنا سأجتهد برأيي ولا آلو أو أزيد زيادة، اعلما أن الأحكام تُبنى على القصد والإرادة. فننظر أي منكما أراد أن ينتمي إلى الآخر فيكن هو من قصد الأذية والشر. وبما أن النسر هبط من عالم الحرية في السماء، إلى عالم العبودية والاستجداء على الأرض الجرداء، فقد أفصح عن إرادته ورغبته بالانتماء إلى الثعالب وتقاسم الغذاء والماء، فحكمي أن تكون البداية بتعليمه أولًا.
أذعن النسر وصعد على ظهر الثعلب، فبدأ بحشره بين الأشواك والممرات والسراديب الضيقة.
فقال الأسد: أرى أن حكمك جانبه الصواب وخاب.
بُهت الذئب؛ فلم يكن يعلم أن الأسد يقف خلفه يسمع كلامه.
فقال: اعذرني سيد الغابة فلم أكن أعلم بوجودك البتة، مع ذلك أرني ما الذي شاب حكمي وأخابه؟
قال: كل ما في الأمر أنك غير قادر على تنفيذه بإتقان، غدًا نلتقي في هذا المكان ونرى ما جرى وكان، إن تخلفت سترى ما لم يكن في الحُسبان.
أتى الذئب إلى المكان قبل طلوع النهار فرأى النسر ذليلًا مهانًا، منتوف الريش، لا يُرى سوى مخالبه والمنقار، ارتعب الذئب رعبًا شديدًا، أين سيذهب من تهديد الأسد والوعيد؟
وصل الأسد ونظر إلى الذئب فقال:
ما لي أراك ملهوفًا غير قادر على الوقوف؟
رد: أنظر كيف صار نسر السماء، خلع ثياب الطيران في الهواء وارتدى زي الغوص في الماء. نفذ الثعلب ما حُكم عليه به، فعلمه وأحسن تدريبه وتهذيبه. شاهد كيف غشيه الوقار، وغدى ذا جلد ناعم خاليًا من الريش والشعار.
هز الأسد رأسه وقال: لم يعد هذا وقارًا، بل هو ذل وعار، لا تكثر القيل والقال، عليك تنفيذ الشق الآخر من الحكم في الحال؟
- يا ملك الغابة ها أنت ترى أن التنفيذ صار خارجًا عن الإرادة، وبات من المحال أن يطير النسر حاملًا للثعلب على ظهره.
رد الأسد: إن كنت تريد الإبقاء على حياتك لا بد لك من تنفيذ حكمك.
قال الذئب بعد أن لاحظ غضب الأسد يزداد: سيدي الأسد، من الواضح أن الثعلب قد تجاوز حده، لذلك يقع على كاهله إطعام النسر حتى يعود إلى سابق عهده.
ظل الثعلب طيلة شهرين يتقاسم مع النسر ما يفترسه نصفين، فنحل جسمه وخف وزنه، وبدأ يتحسر من سوء أعماله، فلما نبت ريش النسر وعاد إلى حاله ذهب إلى الذئب وجاء به.
فقال: انظر إلى النسر بإتقان، فقد أضحى قادرًا على الطيران، الآن انتهى عملي، أبعده عني.
ذهب الذئب إلى الأسد فأخبره بما جد واستجد، نهض الأسد من الموضع الذي كان فيه ممتدًا، فقال بغضب: اذهب واجلبهما، فمن سمع ليس كمن رأى.
بلمح البصر أسرع الذئب وأحضرهما إلى العرين، نظر الأسد فأطال النظر، ومن عينيه تطاير الشرر.
فقال: أراك بحكمك قد حابيت، ربما تكون قد ارتشيت، أجبني، هل انتهيت من تنفيذ ما قضيت؟
رفع الثعلب أنفه عاليًا نحو الذئب ثم ابتسم، مغريًا الذئب كي ينطق بكلمة نعم.
فقال: يا ملك الغابة أطال المولى بقاءك، قد نسي الذئب ما قضى به بمجرد أن رآك.
التفت الأسد نحو الذئب، وكشر عن أنيابه وبرزت مخالبه.
فصرخ الذئب: تذكرت، تذكرت، لا تغضب، ليس الأمر كما ذكر الثعلب. الآن عليك أيها الثعلب أن تمتطي ظهر النسر وتركب.
هز الأسد رأسه وطلب من الأرنب الإسراع في إبلاغ الجميع بالحضور للمشاهدة والاستماع.
أطلَّت الأفعى والسنجاب والسنور والغراب وتجمهرت الظباء والغزال والأيل والعُقاب. وكان من ضمن الحضور كل أصناف الطيور، حان وقت التنفيذ فقد تأهب الجميع.
بسط النسر جناحيه فوقف الثعلب مرعوبًا، تقدم الذئب وساعده على الركوب، وقال: اصعد لعل الله يكفر عنك الذنوب.
تأكد النسر من ركوب الثعلب على ظهره، فبسط جناحيه واستقام على رجليه ومد عنقه فأسرع ونعق، فحمله وطار عاليًا في السماء.
فحفت الأفعى وزجلت الطيور وانقلبت على ظهرها الخُنفساء كي ترى ما يجري في الهواء.
وعلى مسمع ومرأى، قال النسر للثعلب وهو على ظهره في كبد السماء: سأكون بك رحيمًا، أنت مخير بين أمرين لا ثالث لهما، أن ألقيك على أرض مروية بالماء، أو على أرض يابسة جرداء؟
فقال: كِلاهما هلاك في الحالتين، فليكن الوحل والماء أهون الشرين.
فألقاه فهوى، فغار في الطين وغاص حتى غاب خبره ولم يتبقَّ ظاهرًا سوى جزء من ذيله.
فهلل الجمهور وكبَّر، هذا جزاء من مكر وغدر.
- والآن ما رأيكم فيما جرى؟
حمدون: تجاوز النسر حدود الانتقام، كان بإمكانه قطع ذيله وبتر أذنيه بدلًا من الإعدام.
جندب: صحيح أن ما قام به الثعلب لا يُطاق، لكن تصرف النسر كان خارجًا عن النطاق.
رضا: من وجهة نظري أن إرادة الثعلب اتجهت نحو قتل النسر وهلاكه، فبعد نتف ريشه وتقييد حريته أضحى عاجزًا عن كسب قوته، وكان سيؤول به المآل إلى موته لولا تدخل الأسد وإجبار الثعلب على تغذيته وإطعامه. وعلى هذا توافر لدى الثعلب القصد والإرادة للقتل، وباشر تنفيذ الجريمة، لكن لم تحدث النتيجة وهي القتل، لسبب خارج عن إرادته، وهو الظهور المفاجئ للأسد، لذلك ما قام به النسر من عقاب يتناسب مع الجرم الذي اقترفه ثعلب الغاب.
- حان وقت الذهاب للمنام.
وفي الختام أنصحكم إن حلت بكم الأهوال لا تستنجدوا بضعيف، فسلاح الضعفاء في أغلب الأحوال هو المكر والاحتيال. فمن بلغ القمة لا يستعين بمن هو في الحضيض.
حمدون: قبل ذهابي أريد أن أسمع تفسير حلمي؟
- يبدو أنك ستنال مكانة مرموقة عالية، ويكون لك قوة تساندك يمينك وشمالك، ولكن يظهر من الحلم أنك ستفقد تلك المكانة وتهبط إلى الحضيض، فينال منك الأعداء ويفرضوا عليك حصارًا بعد أن يقضوا على من بجانبك من مناصريك.
هنا قُطعت الأحداث، والله أعلى وأعلم. فإن تحقق ما رأيت حينها قد تطلب العون والمساعدة، فلا تطلب ذلك من ضعيف، بل استنجد بقوي.
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Story Chapters

النسر و الثعلب
Write and publish your own books and novels NOW, From Here.