عبده علي الفهد

Share to Social Media

ملقاط ذاق الأمرّين من قسوة خالته التي تزوّج بها أبوه بعد وفاة أمه، نشأ يتيماً في بيئة ريفيّة تعتمد في دخلها على المواشي، والغلّات الزراعية، حُرِم ملقاط من التعليم مثله مثل سائر أقرانه، وتراكمت الأعمال على عاتقه منذ طفولته، تنهال عليه الأوامر والطلبات في كل الأوقات مصحوبة أحياناً بالتهديد والوعيد، وأخرى بالضرب الشديد، فكان لخالته النصيب الأوفر

فطلباتها لا تُعدّ ولا تحصر، وليس لها أول ولا آخر.

"ملقاط، استيقظ في الأسحار كي تحلب الضان والأبقار، ومع شروق الصباح اذهب لجمع الأحطاب من المروج والضياع، ولا تنسى جلب الماء،

وفي الضحى اذهب بالشاة إلى المرعى، ثمّ عرّج على المزرعة؛ لتحضر علف البقرة، وبعد الغداء عليك بريّ الزرع كي لا يتلف من الظمأ، ثم تفقّد الأغنام قبل حلول الظلام، ثم قم بغسل أواني الطعام قبل خلودك للمنام، وإن حدث وقصّرت فقد أنذرتُ وأعذرت".

أما والده فكلّ ما يريده منه هو أن يطيع خالته في كل ما تأمره كيلا يحلّ عليه غضبه،

ملّ وكلّ..

وجد أن هذا الحال لا يحتمل، تفطرت قدماه من الذهاب والإياب، وتمزقت ثيابه من حمل الأحطاب على ظهره، لم يحصل على شكر أبيه، ولم يسلم الضرب من خالته على قفاه، كره اسمه ومن سماه، (حط يا ملقاط، شيل يا ملقاط، اذهب يا ملقاط، تعال يا ملقاط)...

في ليلة من ليالي رمضان جلس جوار أبيه في الديوان، فسأل: يا أبي أخبرني ما هي ليلة القدر التي حدثنا بها الإمام بعد صلاة الفجر؟

رد: ليلة القدر تنزل في العشر الأواخر من رمضان التي نحن فيها الآن، من رآها حلت عليه بركة المال وأتته بما يطلبه في الحال.

من أين تنزل يا أبي وما هو شكلها؟

رد: تهبط ليلًا من السماء كوميض ووهج يتلألأ.

هل حدث وأن رآها أحد من أهل البلد؟

رد: يقال إن رجلًا أخرج رأسه ذات مساء من نافذة بيته ليلًا كي يراها، وعندما شاهدها مارة، قال: يا ليلة القدر كبري رأسي.

فكبرحجم رأسه في الحال، وصار أمر إدخاله من النافذة محال..

وبقي على حاله حتى اجتمع الناس..

صباحًا حول داره..

ناظرين إلى رأسه بعد أن صار منفوخًا بحجم البالونة..

فلم يكن أمامهم من خيار سوى هدم الجدار..

بعدها اثقل الرجل رأسه ولم يعد جسده يقوى على حمله..

مضى عام وهو باق لا يطيق ولا يطاق..

وفي أواخر رمضان..

ترقب ليلة القدر فشاهدها في نفس المكان..

فقال: يا ليلة القدر صغري رأسي..

فصار رأسه بحجم رأس الأرنب البري..

قبيح المنظر من شاهده اشمأز وفر..

لا توضع عليه عمامة ولا يتسع فمه لبلع طعامه..

بقي يكابد الهول حتى حال عليه الحول..

لمح رياحًا للغبار تثير..

فصاح دون تفكير..

يا ليلة القدر..

أعيدي رأسي القديم على بدني السليم..

فعاد إليه رأسه بعدها ثابر على التأني وترك التمني..

هل هناك من رآها غيره يا أبي؟

نعم يروى أن نهر الماء الجاري الذي لاينقطع ليل نهار..

شح في دهر من الدهور..

فتقاطر الناس عليه وتزاحموا..

كي ينهلوا..

ومع السحر كان الجميع قد غادر..

عدا عجوز بقي لدوره منتظرًا..

واضعًا غرب الماء تحت القطر..

فلمح وميضًا وسمع صريرًا وجحافلًا..

من فوقه في الهواء تمر..

فنادى: يا ليلة القدر اجعلي من هذه القطرات النادرة سيولًا متدفقة هادرة..

فكان نهر دافق..

ذهب ملقاط إلى الفراش بعد أن غشاه النعاس..

فراودته الأفكار فيما جرى وصار..

ثم قرر أن يكون لليلة القدر في الانتظار..

لعلها تخلصه مما ظل ينغصه..

فداوم على المبيت في السطح..

عله يرى الفتح..

وفي الثلث الأخير من الليل..

صوب بصره نحو القمر..

غاص وتأمل..

فإذ هو يشاهد جملًا يهوي من السماء نحوه..

قال في نفسه ربما يكون هذا الجمل هو ليلة القدر..

فصاح بعجل

يا ليلة القدر،

من قال ملقاط قال طاط..

ومن ثناها تبرز..

برق بارق فتطاير الشرر..

فلم يعد للجمل بعدها أثر..

بات ليلة في سبات..

وفي الصباح سمع الصياح..

إنها خالته كالعادة تيقظه من رقاده..

بمجرد أن نادت يا ملقاط..

ضرطت..

كررت النداء فتبرزت..

تلفلفت خجلة..

فولت مدبرة صوب زوجها كي تخبره..

اصعد أنت وأيقظه..

فتح الباب بغضب حاملًا في يده قطعة خشب..

وقف عند أقدامه فوخزه بظهره..

انهض يا ملقاط..

قبل أن يكمل النداء ضرط..

عاود النداء فتبرز..

تراجع للوراء عائدًا من حيث أتى..

بعد أن وجل وخجل..

قالت: أصابني ما أصابك.. هلم نظف ثيابك..

تبادلًا الأفكار محاولين تفسير ما جرى وصار..

فتحاشوا إزعاجه تاركين ملقاط يغط في رقاده..

فذهبت هي بالمواشي المرعى..

وباشر أباه الحراثة وسني الماء..

صحا ملقاط في الضحى..

لم تصدق عيناه ما ترى..

وجد جواره..

الخبز والشاي وإبريق الماء..

أكل وتهنا ثم صال في الدار وجال..

عاد للمنام وبقي على هذا الحال..

ملك أمره وصار أمير نفسه..

لم يعد هناك من يزعجه..

ينادوه بالإشارة لحضور تناول طعامه..

افتقده الرعاة وأهل الديرة..

فكان من سأل عن ملقاط ضرط..

كان له ابنة عم تدعى حمط..

فارعة لبقة بارعة..

لم يضاهيها في جمالها أحد من البشر..

فيمن تقدم أو تأخر..

ورقاء عنقاء غيداء مكلثمة ململمة مشربة..

وضحى فلجى بلجى دعجى..

مكتنزة..

إن مشت اهتزت وتدلت..

وإن وقفت تكورت وتجلت..

سألت:

لماذا تقومين بالرعي أنت يا عمتي أين ملقاط؟

فضرطت..

فعاودت عليها السؤال فتبرزت..

فتطايرت ثيابها كريش طائر..

بقت عارية..

لم يستر جسدها سوى شعرها ساتر..

فكانت تلك الواقعة كبيرة من الكبائر..

ذاع صيت ملقاط بين العامة..

وتجنب الجميع ذكر اسمه..

رسا رأي أبيه وخالته على وجوب تغيير اسمه..

فأرسلوا إلى صاحب الكتاب فحضر..

فذبحوا له كبشًا أحمر..

وبعد أن أتم الطعام تقدموا له بطيب الكلام..

طالبين تغيير اسم ابنهم بتودد واسترحام..

رد: على الرحب والسعة..

ثم باشر بفتح الكتاب ليرى طالعة..

قائلًا: عليكم أن تخبراني ما هو اسمه كي أقوم بتغييره؟

تبادلا فيما بينهم النظرات الخاطفة..

فلم يجر أي منهما على ذكر اسمه..

فقالا: دعك من اسمه فمن نطق به لحقته رمة..

رد: لا بدّ من معرفته في كل الظروف كي أتمكن من مطابقة النجوم والحروف..

ردا: اسمه عتيد، اسم أداة تؤخذ بها الوقيد..

نظر إليهم متبلدًا لا يبدي ولا يعيد..

فأخذا بيده وأوصلوه إلى الديوان..

فأشارا إليه بالبنان..

وقالا: إنه ذاك الموجود جوار الموقد..

رد: ملقاط الوقيد، وعلى الفور ضرط ضراطًا شديدًا.

تمالك نفسه فتلملم وتحرز..

وصاح ملقاط: فتبرز..

غادر الدار في حينه..

تنبعث منه روائح نتنة تاركًا الكتاب على عتبة الباب..

في أحد الأيام اشتاق ملقاط لرؤية حمط..

كان قد يئس من وصالها وقنط..

فطرق الباب طرقًا خائبًا..

ردت حمط: بصوت شاحب..

من الطارق؟

أنا ملقاط، فسمعت ضراطه..

فتصنعه، إنها لم تسمع..

فقالت: من أنت؟

رد: افتحي أنا ملقاط..

مباشرة فتحت الباب..

فوجدت ملقاط وقد تبرز على الثياب..

فحطت يدها على أنفها وأسرعت في غلق بابها..

تندم وتحسر على ما بدر..

وتبين له سوء فعله بغيره من البشر..

فقرر أن يعود إلى سابق عهده..

انتظر ليلة القدر بفارغ صبره..

وعندما رآها عابرة..

قال: يا ليلة القدر يا من لا يرد طلبك..

من قال ملقاط تبسم ومن ثناها ضحك..

من وقتها تجول في المزارع والمراعي دون جدوى فلم يسمع له داعي..

ضاق به الحال فشد الرحال..

حط رحاله في ديرة أخواله..

من رحب بملقاط تبسم وتمتع ومن كرر ضحك وتكعكع..

ذكر اسمه راج وعاد الاندماج..

ذات يوم عاد برفقة خاله في زيارة خاطفة لأهله..

وعلى قارعة الطريق شاهد حمط..

فتلعثم وتعثر وثبر..

نظر إليه خاله فقال: ثقلتك أمك يا ملقاط ماذا حل بك؟

لاحظت حمط على وجه خاله الابتسامة..

ثم قال: هيا ملقاط واصل المسير أتبع ذلك ضحكًا شديدًا..

عندها أيقنت حمط ذهاب ما كان يكتنف اسم ملقاط من لغط..

استمر جسد ملقاط خلف خاله سائر في الخط..

مع بقاء روحه ملتصقة بروح حمط..

قال: سنعرج لزيارة قبر أمك يا ملقاط..

رد: نعم اسمها حمط..

ماذا تقول هل نسيت اسم أمك يا ملقاط؟

ماذا دهاك منذ رأيت الفتاة، وأنت في حال يرثيك..

صحيح ما تقوله يا خال عين الصواب..

إنها حمط ابنة عمي شهاب..

رأيتها بعد طول غياب..

فانتابني رجفان مصحوب بالخفقان..

وقد أضحيت قاب قوسين أو أدنى من الجنان..

متعثر القدمين خفيف الجسد..

طائش العينين..

لم أر سواها أحد..

نظرتها دون ساتر فكانت أحد الكبائر..

رد: توقف عما تقول..

فقد أثرت فيّ غرائز الفضول..

إن كنت فيها راغب ستراني إلى أبيها ذاهب بها لك خاطب..

عليك يا خال بحث الخطى سنراه في المرعى..

سمعت حمط الهرج فامتطت السرج..

وبلمح البصر غابت عن النظر..

وصلت إلى أبيها على عجل فحكت له ما حصل..

ثم قالت: اعلم يا أبي..

إني من ملقاط مرتابة وأنا منه محتاطة..

قال: يا ابنتي إن الخيرة ما اختاره الله، وليس لنا من خيره سواه..

اجتمع ملقاط بأهله بعد أن زار قبر أمه..

فتحاشى الجميع ذكر اسمه..

تجنبا حدوث رمة حسب سابق عهده..

فكرر خاله نداءه في كل أمر حكاه..

بحضور من سمع ورآه..

وكلما قال يا ملقاط تبسم أمام الحضور..

وإن كرر ضحك بمرح وسرور..

فعمة البهجة وبسط البساط..

بعد أن صاح الجميع يا ملقاط..

مبتسمين ضاحكين مسرورين..

قال ملقاط: أبي استمع لخالي..

اذهبا على الفور دون سخط اخطبا لي حمط..

رد شهاب في الوهلة واللحظة..

شرطي الوحيد..

أن تلد البغلة..

اشرط غيره عافاك الله وهداك..

هذا شرطي لا غيره ولا سواه..

نظر ملقاط إلى وجه خاله فرآه متبلدًا..

فقال: ومتى عساها أن تلد؟

يا ملقاط: هذا شرط يلزم من عدمه العدم..

فلم يحدث في دهر من الدهور أن ولدت بغلة على مر العصور، ولم ينتظر حدوثه في المستقبل المنظور..

ملقاط: أليست أنثى كسائر الإناث تحمل من بعلها في سائر الأوقات؟

رد: ما قلته صحيح، ولكن الأمر يحتاج إلى توضيح..

فالبغلة هجين ناتجة عن تزاوج بين حمار وأنثى خيل..

والبغلة لا تحمل من الخيل والحمار على حد سواء، هل فهمت القصد والفحوى؟

نعم، ولكن يمكن لها أن تحمل من البغل على ما أرى؟

رد: كلّا فالبغل شأنه شأنها..

كانت حمط تسترق السمع خفية..

وبعد أن انصرف ملقاط وخاله..

حضرت إلى أبيها مسرعة متلهفة..

تستوضح منه فحوى ما قاله..

رد: بعد أن رأيت منك الأعراض..

أتيتهم بشرط تعجيز لا تنجيز..

لكن أخبريني سبب نفورك من ابن عمك؟

ردت: أمره عجيب وماضيه مريب..

عاد ملقاط إلى الديرة معتاض

فترقب ليلة القدر على امتعاض

وعندما لمحها قال:

يا ليلة القدر يا من داعيك مجاب..

اجعلي بغلة عمي شهاب لا تنقطع عن الإنجاب..

أتى الصباح إلى الموضع..

فوجد البغلة تهمهم..

وصغيرها يرضع..

بأربعة وجوه من الجهات الأربع..

وجه خروف ووجه قنفذ ووجه قرد ووجه سبع مربع..

فهلل وكبر وانشرح واستبشر..

وصاح ولاح حتى اجتمع حوله البشر..

أصيبت حمط بالذهول فما حدث غير معقول..

وكان أبوها شهاب شارد الذهن فاقدًا للصواب..

اعتراه الإحراج فرضخ

وبدأ التحضير للزواج..

أقام في ديرة خاله فتغيرت أحواله..

أحتاج إلى المال وإطعام العيال..

عاد إلى أبيه عله يجد مبتغاه..

لمح خالته مع صاحب الكتاب في لهو وطرب..

ودون أن يلحظوه ذهب..

وصل إلى المزرعة فشاهد أباه مع غزية..

في أوضاع مزرية..

طفق عائدًا من حيث أتى..

فوجد القدر يغلي تفوح منه روائح الانتعاش..

بعد أن ذبحت خالته أحد الكباش..

حاول معها بشتى العبر أن يحصل منها على أحد الهبر..

فأمسكت ذراعه وكاد أن ينكسر..

عاد أبوه من الحقل..

فأمر ملقاط أن يسرع بالذهاب كي يعزم صاحب الكتاب..

لتناول طعام فهو لديه من أعز الأصحاب..

فأخذ ملقاط بيده رغيف عيش رقيق..

وشتته فتات على طول الطريق..

وعند وصوله عند صاحب الكتاب..

قال: أتيت أحذرك عليك الاختباء وسرعة الذهاب..

أبي يبحث عن سلاح لقتلك أيها الغزي..

متهمًا إياك بعمل الفحشاء مع خالتي..

دار صاحب الكتاب وحار وتوارى عن الأنظار..

عاد ملقاط وأخبر والده بعدم تلبية صاحب الكتاب لطلبه إلا إذا ذهب إليه بنفسه..

ذهب أبوه من نفس الطريق فكان أثناء الطريق ينحني لأخذ فتات الرغيف الصغار..

فظن صاحب الكتاب أنه أتى لقتله وهو يتجهز بجمع الأحجار..

ففر واختفى أثره تاركًا داره..

انتظر ملقاط وخالته مجيء أبيه بضيفه إلا أنه عاد بمفرده..

أكلوا نصف الكبش طوالي..

واحتفظوا بالآخر لليوم التالي..

ذهب ملقاط صباحًا بغرز الأثوار..

وعند وصوله أخبر أباه بغضب خالته الشديد..

لما بلغها من أمر الغزية وما أتاه من أعمال مزرية..

ارتعب وارتهب وجمع لها كوم من الحطب كي يطفي عنها الغضب..

عاد ملقاط نحو الدار..

فأخبر خالته بعزم والده على ضربها ضربًا مبرحًا..

بسبب ما ارتكبته مع صاحب الكتاب من أمر فاضح..

فتركت البيت إلى بيت أهلها ذهبت..

انفرد ملقاط فأكل اللحم واحتاط..

بقيت في بيت أهلها صامتة لم تخبرهم لماذا أتت..

وهي تخشى ان يبلغهم أمرها المراب مع صاحب الكتاب..

بعد عدة شهور ذهب لمراجعتها بسرية..

فهو يخشى أن تكون قد أخبرتهم بما حصل منه مع الغزية..

بقيا طيلة ثلاثة أيام..

في أكل ومدام..

فضاق بهم المقام..

فطردوا شر طردة وعاد كلاهما إلى سابق عهده..

فوجدوا ملقاط قد ذبح الكبش الآخر..

وباع الأثوار ورابع البقر..

وترك لهم الدار ونحو خاله فر...

عاد إلى حمط بالجواهر والدرر وصافي العسل وسمن البقر..

خدم خاله في آخر أيامه..

توفي تاركًا خلفه ثروة طائلة..

كانت من نصيب ملقاط وحمط..

فخاله لم يخلف قط..

فشيد القلاع وزرع الضياع..

ورزق من الأولاد أسباع..

أضحى سلطان زمانه بعد أن كثر أعوانه..

فعاش برغد ومن لجأ إليه سعد..

فكان له رغد عيش وحماية جيش..
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Story Chapters

ملقاط
Write and publish your own books and novels NOW, From Here.