كائن نهاري

منذ أن أصبحت كائناً نهارياً وأنا أتقيأ الليل مرةً كل أربع ساعات من لحظات الصباح الأولى حين أستيقظ إلى أفول الشمس عندما أنعم بغفوتي الكبرى. وفي المرات التي لم أكن فيها قادراً على التقيؤ، أخرجه في الحمام سائلاً متخثراً بمواد شمعية قريبة من اللون الأخضر، وكنتُ حين أصاب بإمساك إضافة إلى غثياني المتبقي من عدم قدرتي على التقيؤ، أتخلص منه بطرقٍ أخرى: أتعرقه أحياناً قليلة؛ أطبعه بسبابتي وإبهامي الأيسر على صفحات بيضاء فارغة كنتُ أعددتها فراشاً وثيراً لأحلامي الصغيرة، تجف من ثم الصبغة لتصبح كلماتٍ أستطيع قراءتها على ضوء الشمس. تنمو وتنسل بمرور الوقت فتصير كتاباً مهيباً يقف على رف مكتبتي النهارية. حين لا يحدث أي من تلك الأعراض، تتحول بشرتي السمراء المشربة بأحمر إلى سوادٍ كثيف متجهم ينفر منه من حولي. لم يسبق أن رآني أحد بذلك الشكل سوى الخادمة التي كانت ترسلها أمي كل أسبوع لتنظف شقتي الصغيرة. لم تجرؤ على المجيء بعد ذلك، ولم ترسل أمي خادمة أخرى بعدما اعتقدت ــ حسب ظني ــ أن الأمر لا يعدو تحرشاً جنسياً.

كنت أتخلص من الليل بطريقة غير مألوفة، كما أنها غير إرادية بادئ الأمر وهذا ما جعل الأمر أشبه بتحولي بطريقة بشعة إلى آلة أو أداة لقوى غير طبيعية أرفض الإيمان بها؛ وهذا ما كان أكثر قسوة بالنسبة إلي.

فيما بعد تحول الأمر تدريجياً إلى تفاعل إرادتي مع ما يجري، وجدتني أقتصر على سماع أجنحة الملائكة ترفرف عبر صوت فيروز. زرعتُ حديقة مصغرة جانب العمارة في الأرض الخلاء. اشتريتُ زوج بلابل وكناري، لم يلبثا سوى يومين حتى أطلقتهم محتفظاً بأقفاصهم كذكرى جميلة، كنت قد سجلت تغاريدهم في هاتفي. كتبت شعراً حالماً على غير العادة حين تحولت تلك المكتبة الصباحية التي يمتلكها ذلك العجوز العقيم لمقهى صباحي أشرت عليه به، كنت ــ قبل أن أكون هذا الكائن النوراني الذي أعتقده ــ ألتقيه في عددٍ من الصباحاتٍ التي لا أبتدئ بها يومي بالأحرى، وكان على فراغه الذي آنسته منه لا يفتحها في غير الصبح أبداً. وصلتُ أمي وأقاربي على فترات منتظمة. لم يكن أحد يرحب بي سوى أمي طبعاً التي ما كانت تستسيغ زياراتي الصباحية، إلى أن طلبت مني ذات مرةٍ أن أرجئ الزيارة لما بعد الظهر على الأقل حتى تكون أنشط في استقبالي.

الضوء الذي في داخلي أصبح مرئياً، تتحسسه الطرقات، وتصد عنه أعمدة الإنارة، تخذله الأرصفة. الحديث الذي كنتُ أتجاذبه مع الوحدة بعد أن ألوكه كثيراً انحصر في ابتسامة صافية لا أشعر بجهد في فعلها.

كنتُ أنطلق في فضاءات واسعة لا تتشابه الأيام فيها، وأتجاوز آفاقاً شاسعة تحيطني فيها أفكار جديدةٌ لا تخبو، أصبح صوتي جهورياً، لم أعد أستخدمه كثيراً. كنت غالباً ما أكتفي بتلك الابتسامة. لم تعد هناك أسرار، كان كل شيءٍ جلياً وواضحاً.

فيما بعد حين تحولتُ لسحابةٍ شديدة البياض في كبد السماء كنتُ أدرك الفجوة العميقة بين الناس والطبيعة وأنا أهطل عرق الحياة الصباحية الجميلة على بيتِ أمي، والحديقة التي زرعتها جانب العمارة، وعلى السقف الطيني الذي يظلل مكتبة العجوز المغلقة. 


 



مشاركة:
فيسبوك تويتر بنترست واتساب لينكدان

0 تعليقات

اكتب تعليق

مقالات متعلقة

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.