السمة العامة للثورات الأوروبية التي انتهت بإيجاد المجتمع الأوروبي الحاضر، هي زيادة الحرية، بإلغاء القيود السابقة، والاعتراف بالحقوق الجديدة.
وجميع الثورات — ليس في أوروبا وحدها، بل في جميع القارات الأخرى — تجري على أسلوب لا يتغير، هو اضطهاد سابق يجمد ويتعنت ولا يقبل المفاوضة، ثم انفجار، ثم تغيير يؤدي إلى محو هذا الاضطهاد.
ويبدو لنا من النظر في الثورات أن الشعب كله ينهض بها، ولكن عند التأمل نجد أن طبقة واحدة تحس الاضطهاد أو الضغط أكثر من غيرها، وهي التي تضطلع عندئذ بالدعوة إلى الثورة، وتوضح فلسفتها، وتهيئ محركاتها، حتى ينضم الشعب كله إليها، بعد أن يعرف عدالة موقفها وشرف غايتها، وواضح أنه إذا لم ينضم الشعب إليها فإنها لن تنجح.
ونحن نذكر ثلاث ثورات أو ثلاثة طرز للثورات، اختلفت الطبقات التي قامت بها؛ ففي سنة ١٢١٥ ثارت طبقة النبلاء في إنكلترا على الملك جون وأجبرته على أن يعترف بحقوق لأفرادها انتفع بها الشعب كله، وفي سنة ١٧٨٩ ثارت الطبقة المتوسطة في فرنسا على الملك والنبلاء، وحصلت على حقوق لها وللشعب، وكان من هذه الحقوق إلغاء الرق الزراعي؛ أي الإقطاعي.
وفي سنة ١٨٤٨ ثارت طبقات العمال في كل أوروبا تقريبًا، وحصلت على حقوق جديدة لم يكن العمال يعرفونها في العصور السابقة.
والثورة في كل هذه الحالات هي انتفاض طبقة لا تطيق القيود المفروضة عليها، وهي تستعين بالشعب بعد أن تبسط له قضيتها العادلة، وهو ينضم إليها، فتكون الثورة الشعبية.
وهذه القيود، أو هذا الاضطهاد، أو هذا الضغط، الذي يبعث إحدى الطبقات على الثورة، تتعدد ألوانه، ففي أيام الملك جون الإنكليزي، كانت الضرائب الباهظة هي التي دفعت بالنبلاء إلى أن يجبروا هذا الملك على ألا يفرض ضريبة إلا بعد استشارتهم في مجلسهم الذي أصبح بذرة البرلمان الحاضر.
وفي الثورة الفرنسية نجد الضرائب الباهظة التي لا توزع بالعدل، وإنما تخص بها الطبقة المتوسطة، ويعفى منها النبلاء والكهنة، أو لا يتحملون إلا القليل منها، وهذا إلى تعنت الملك ورفضه إيجاد برلمان، وإلى فساد القضاء؛ مما أحدث إحساسًا عامًّا في الأمة بأن الحكومة ليست لخدمة الملك والنبلاء والكهنة فقط.
وفي ثورات سنة ١٨٤٨ نجد أن العمال — ونعني عمال المصانع، وليس عمال المزارع — يواجهون حالات جديدة لم يواجهها أسلافهم، وهي الإنتاج بالآلات؛ أي بالحديد والنار بدلًا من الأيدي، فيطلبون التغيير في أجورهم ومركزهم الاجتماعي بما يطابق هذا التغيير في الإنتاج، ولكنهم يجدون الرفض، فيثورون، ومنذ ثوراتهم هذه بدأت البرلمانات تعرف أحزاب العمال، وبدأت النقابات تتألف لصون مصالحهم.
ومع تعدد الثورات في أوروبا فإن الثورة الفرنسية الكبرى التي وقعت في ١٧٩٨ تعد الطراز الأعلى الذي تدرس جميع سماته وفكرياته، بل إن لغة هذه الثورة قد انتقلت إلى الأمم الأخرى، كما انتقلت إليها الأفكار والنظريات التي قال بها دعاة هذه الثورة ونظموها.
فكلنا يعرف «الحرية والإخاء والمساواة».
وكلنا يعرف «الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية».
وكلنا يعرف «حرية الفكر والعقيدة».
وجميع هذه الكلمات، هي كلمات، هي أفكار فرنسية مترجمة إلى جميع اللغات المتمدينة.
ومع أن نابليون قد فسق بمبادئ هذه الثورة، فإنه لم يستطع إلغاءها؛ إذ ما كاد ينفى من فرنسا إلى جزيرة سانت هيلينا حتى هب الشعب الفرنسي يستعيد هذه المبادئ ويسترشد بها طوال القرن التاسع عشر، بل إن نابليون نفسه كان يحس القوة الإغرائية في مبادئ الثورة، كما ترى مثلًا في المنشور الذي نشره على أسلافنا سنة ١٧٩٨ من الإسكندرية؛ إذ ذكَّرنا — كما يروي لنا الجبرتي — بالأخوية والتسوية والحرية، وتحدث عن المماليك بنفس اللهجة التي كان يتحدث بها الثائرون في فرنسا عن النبلاء، وكلماته في هذا المنشور عن المماليك لا تختلف عما كان يكتبه الكتاب الفرنسيون عن النبلاء في فرنسا، فقد جاء فيه قوله يخاطب الشعب المصري:
إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعض هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فلماذا نميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم، ويختصوا بكل شيء حسن فيها، من الجواري الحسان، والخيل العتاق، والمساكن المفرحة؟
وما يسمى «قانون نابليون» هو في الحقيقة قانون الثورة التي قامت بها الطبقة المتوسطة، إذ هو يعالج مشاكل هذه الطبقة.
وما يسمى «ديمقراطية» إنما هو التراث الذي خلقته الثورة الفرنسية، فإن لهذه الكلمة من المعاني العديدة الحميمة في شئون الأمم ما يجعلها تتجدد وترتفع إلى مستويات لم يكن يقصد إليها حتى واضعوها أيام الثورة، فقد كانوا يعرفون منها الدستور والبرلمان فقط.
ولكننا نعرف منها طرازًا من التعليم في المدارس، وحركة سوائية بين الجنسين في المجتمع، ونظامًا في العائلة، وآراءً اقتصادية في مقدار العقارات الزراعية، واعترافًا بحقوق العمال في تأليف نقاباتهم … إلخ.
وقد أنجبت الثورات بكتَّابها وزعمائها … وهم جميعهم يؤمنون بمذهب حرية الإنسان وإخاء البشر حتى لنحس حين نقرؤها أننا نتلو خطابًا من صديق؛ لأن كلماتهم تشع بإشعاعات البر والشرف والصداقة.
اعتبر كلمات الشاعر «ملتون» الذي يعد كاتب الثورة الإنكليزية أيام «كرومويل» فقد كتب عن حرية التأليف يقول:
لكأنما تقتل إنسانًا حين تقتل كتابًا حسنًا
لا … بل إن قاتل الإنسان إنما يقتل مخلوقًا عاقلًا
أما قاتل الكتاب الحسن فإنه يقتل العقل نفسه
وكم من إنسان يحيا على الأرض وهو عبء عليها!
ولكن الكتاب الحسن هو دم الحياة الغالي لروح الحكمة، قد حُنِّطَ وأودع، كي يحيا حياة تتجاوز الحياة.
ويقول ملتون أيضًا:
الحرية هي خير المدارس للفضيلة.
ويقول:
دعوا مناقشة الحقائق حرة دون أن يمس المؤلف أي خطر منها.
لقد عين ملتون في هذه الكلمات دستور المؤلفين، أو اعتبر كلمات «توماس بين» كاتب الثورة الأمريكية في سنة ١٧٧٦:
إن غاية الحكومة أن تحمي حرية الإنسان وطمأنينته.
ولكن للثورة الأمريكية كاتبًا آخر جاء بعدها بنحو سبعين سنة، هو الرئيس لنكولن، الذي نص — وهو رئيس الدولة — على أن من حق الشعب أن يغير الحكومة بالطرق الدستورية، فإذا لم يستطع ذلك فله أن يغيرها بالقوة.
«وأبراهام لنكولن» هذا هو الذي وقف حياته لتحرير الزنوج ونقلهم من الرق إلى مرتبة البشر.
ولكن كتَّاب الثورة الذي احترفوا الحرية ونادوا بها وحضوا عليها أكثر من غيرهم، هم بلا شك أولئك العظماء الفرنسيون: فولتير وديدرو وروسو، وذكرهم يغني عن شرح ما كتبوا.
هؤلاء الكتاب هم أصدقاء الإنسان الذين وقفوا في صفوف الشعب، وقالوا بالحرية، ودعوا إلى الإخاء، وحضوا على الشرف، ولا تزال كلماتهم تجري على ألسنتنا فتزيدنا إنسانية.
وكلماتهم هذه هي التي أدبت الملوك، وعاقبت الطغاة وعممت الكرامة بين الناس: فلا رق، ولا إقطاع، ولا حكم بغير دستور، ولا ضرائب بغير مراقبة البرلمان، ولا رقابة على الفكر والقلم، ولا انتهاك للعامل ومنعه من تأليف النقابات.
السمة العامة للثورات هي إيجاد حقوق جديدة للشعب، وإلغاء قيود قديمة، ويجري هذا مع الانحياز إلى ناحية الفقراء، بحيث توضع الحدود لمنع الثراء الفاحش، كما يُحمى الفقراء من الفقر الفاحش؛ أي بكلمة أخرى: يعم الثورات جميعها روح اشتراكي … بل تقاليد اشتراكية.