hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

لم يكن نقص الشجاعة أو الافتقار إلى روح المغامرة هو ما منع القبطان بيتر كرام من
خليج ماكريل كوف بولاية مين، من زيارة معرضباريس بقاربه الأحادي الصاري. كذلك
لم يكن السبب وراء فشل رحلته الشهيرة خللًا في قاربه. فمنذ إبحار القبطان كرام بيَختِه
معتمدًا على حسابات تقريبية إلى بوسطن، وذلك رغم ظروف الطقس غير المواتية، بما في
ذلك الرياح الجنوب شرقية الشديدة قبالة كيب إليزابيث، ثم عودته في أمان بحمولة من
شراب روم ميدفورد كي يُخرِسَألسنةَ المنتقدين الذين تنبَّئوا بوقوع كارثة حتمية، لم يكن
على الإبحار. ومن المُسلَّم به في ماكريل كوف أن القبطان بيتر « تُود » ثمة شك في قدرة قاربه
كرام كان سيصل إلى باريس منتصرًا لولا العداوة الخبيثة لقوة يبغضها ويهابها كل رجل
عاقل.
قال قبطان كرام في لامبالاة لجاره، الشمَّاس سيلزبي، وذلك في متجر الأخير في أحد
«! قادر على الإبحار، لا ريب في ذلك « تُود » آه، إن » : أيام بداية شهر يونيو
«. قادرٌ على الإبحار حقٍّا « تُود » إن » : وافقه الشمَّاس قائلًا
نظر القبطان نظرةً ذات مغزًى إلى الشمَّاس، الذي علا وجهَه تعبيرٌ منفتح، كما لو
كان يُخبره أن البلاط الملكي يرحِّب بأي مراسلات إضافية.
واصل القبطان كرام حديثه، خافضًا صوته بحيث صار ضربًا من الهمس الواثق:
وإذا كان لأحد أن يكتشفسببًا عقلانيٍّا يمنعه من حَملي وحَملك وحَمل توباياس، ابن أندرو »
«. جاكسون، إلى المعرضالكبير هناك، فهو أنت أيها الشماس
كان الشماسيشتهر بأنه، حين يكون غير مخمور، أقْدَرُ الرجال على التفكير المنطقي
المحكم، في الأمور اللاهوتية والدنيوية على السواء، في ذلك الجزء من الساحل. كان يتعاطف
« تود » الرحلة الرهيبة للقارب
من قلبه مع مشروع القبطان، لكنه شعر أن من واجبه أن يتقدَّم في تروٍّ وبصورةٍ تحليلية
وبحذر.
«. قارب يُعتمد عليه « تُود » امممم، إن » : قال وهو يهز رأسه
لكن الشماس واصَل حديثه «. إنه كذلك. قارب قديم ومخضرم » : قال القبطان مؤكدًا
«. لا أقصد أي إساءة لكن خشب قاعه رخو بعضالشيء » : قائلًا
رخو أم غير رخو، إنه يبحر في الرياح وكأن له روحًا، » : أجاب مالك القارب قائلًا
«. ويملك أمر نفسه كما لو كان إنسانًا
ومَن » : وأضاف «. الطريق إلى باريس طويل » : قال الشماس معبرًا عن رأي مختلف
«. إنما يضعون أرواحهم على أكُفِّهم —« تُود » يمخرون عُباب البحر بالقوارب—يقصد بهذا
أيها الشماس! أنت لا تُنكر قوة العناية الإلهية أو » : قال القبطان بصوت مهيب
«؟ الصلوات، أليس كذلك؟ ألن تأتي معنا
قطعًا لا أنُكرها. » : قال الشماسوقد هدَّأته المجاملة التي تُشير إلى قدرته على الشفاعة
إن الرجل الورِع لا يهاب غضبة الأعاصير ولا ثورة وحوش البحر. أأنت واثقٌ أن بوسعك
«؟ تحديد المسار
رد القبطان ونبرة الجدية تزداد وضوحًا في صوته بينما تفاصيل الرحلة تتَّضح أكثر
إنه مسار مستقيم إلى هيفي » : وأضاف «. ما لم تكن الجغرافيا تكذب كفقر الدم » : في عقله
دي جراس، وكذلك إلى بانجور. سنسلك منعطفًا قصيرًا حول كيب سيبل وبهذا نكون قد
لا يستطيع الإبحار؟ أعطني رياحًا جنوبيةشرقية « تُود » وصلنا فعليٍّا. من ذا الذي يقول إن
أو جنوبية غربية، وبوصلة أندرو جاكسون القديمة المأخوذة من القارب باريدا بي، وكمية
كافية من المؤن، وبرميلين أو ثلاثة براميل من الروم سعة عشرين جالونًا، وبَركة صلواتك
إلى باريس في غضون ستين يومًا رغم « تُود » صباحًا ومساءً، وأقسم أنني سأصل بالقارب
«! أنف العواصف أو بعلزبول
طرق القبطان بقبضته غطاء برميل اللحم الخاصبالشماسسيلزبي بقوة كي يُظهر
عزمه الذي لا يلين. توافد عدد من الجيران على المتجر في أثناء حديثه وتحلَّقوا حوله، وقد
رغم أنف العواصف أو » : جذبتهم حماسة ألفاظه، وهلَّلوا لقَسمه الجريء. فكرر كلماته
«! بعلزبول
أيها القبطان، » : قال الشماس وهو يأتي من وراء النضد ويرفع كلتا يديه اعتراضًا
أيها القبطان. لا تقُل شيئًا متسرعًا كهذا. رغم أنني أجُلُّ ملَّاحيك الورعين، وأقُدِّر الإبحار في

ولا يُوجَد ما نخشاه من ألاعيب إبليس، ،« تُود » مركب يجدُر الإبحار فيه ومتين مثل المركب
فإنني أومن بالمثل أن روح العزيمة والإقدام في مثل هذه اللحظات تكون حمقاء ولا داعي
لها. وأقول أيضًا إنك لو كنت متشككًا في اصطحاب برميلين أو ثلاثة من الروم لمثل هذه
«! الرحلة الطويلة، فمن الحصافة أن نُؤمِّن أنفسنا جيدًا، قبطان كرام
من الحقائق الموثَّقة جيدًا شأن غيرها في تاريخ ماكريل كوف أنه في صبيحة يوم
الإثنين السابع عشرمن يونيو عام ١٨٧٨ ، أبحر القارب الشراعي الأحادي الصاري المسمَّى
بحمولته المسجلة التي تتراوح بين ٨٨٢٥ و ١٠٠٠٠ طن، تحت قيادة القبطان ،« تُود »
كرام، من هافر وعلى متنه الشماسسيلزبي وتوباياس، ابن أندرو جاكسون، ونحو ثمانين
جالونًا من روم ميدفورد. يُصنَّف كل من الشماسسيلزبي وتوباياسعلى أنهما من ضمن
حمولة القارب، وليس طاقم البحارة. وحتى يصبحوا جاهزين للمغادرة مبكرًا رأوا أن
من الحصافة الانطلاق في الليلة السابقة على الموعد المحدد. وحسب اقتراح قدمه الشماس،
ومفاده تحديدًا أن أي فائض من مشروب الروم متبقٍّ من الرحلة يمكن التخلُّص منه
بطريقةٍ مربحة في باريس عن طريق مقايضته مع أهل البلاد بأي بضائع يعرضونها،
أضاف القبطان برميلًا رابعًا إلى المخزون الموجود على متن القارب بالفعل. وحين تولَّى
القبطان قيادة القارب في الصباح، وجد الراكب الأصغر سنٍّا متكومًا على نفسه في القمرة
الداخلية، وهو غير واعٍ مطلقًا لطبيعة هذه اللحظة المهمة. بالمقارنة بتوباياس جاكسون،
كان الشماسسيلزبي مستفيقًا للغاية، لكن وفق أي معيار آخر كان مخمورًا بشدة. جلس
الشماس خلف العارضة الأمامية، واضعًا ذقنه على راحتي يده، وينشد بصوت حزين
ترنيمة تلو الأخرى من بحور شعرية متعددة، لكن بلحن واحد لا يتغير. وحين دعاه
القبطان كي يساعدَه في جذب حبل الشراع الأمامي لم يصدر عنه أي رد فعل. لم يتحرك
الشماس، وإنما جلس وعيناه المرهقتان مثبتتان على براميل الروم في المساحة المخصصة
بصوتٍ أعلى «! إن صوت النعم الإلهية يتسلَّل إلى الجبال » : لها عند مؤخرة السفينة وقال
وبنبرةٍ أشدَّ حزنًا مما سبق.
.« تُود » كان سكان الخليج جميعهم قد جاءوا إلى الشاطئ كي يشهدوا مغادرة القارب
كان ثمة تنبؤاتٌ عديدة بالطقس، وتعالَتْ صيحات الثناء الموجَّهة للربان الجريء. وحتى
أولئك الجيران الذين كانوا يتقبَّلون مغامرته كانوا يحثُّونه على أن يُرجئ البدء فيها ليوم
تكون فيه الظروفمواتية أكثر. وأشاروا إلى سحابة الضباب الكبيرة التي تملأ الأفق باتجاه
البحر وأحاطت بالفعل بجزيرة داميسكوفوكانت تُسرع في اتجاه فنار بولد هيد والساحل

لقد حسبتُ حساب الضباب الكثيف إلى أن » : الرئيسي. لكن القبطان رد عليهم بمرح قائلًا
أتجاوز هذه السحابة. أعتقد أن عليَّ تفقُّد البوصلة الهوائية الخاصة بأندرو جاكسون الآن
«. وفي وقت لاحق أيضًا
في ظل هذه الظروف المثبطة، ومع نبوءات الشر التي تتردَّد خلفه والضباب الكثيف
الممتد أمامه، وأحد رفيقيه مخمور عاجز أسفل سطح المركب، والآخر يُصدر ضوضاء غير
مريحة أعلاه، بدأ القبطان بيتر كرام رحلته التي لا تُنسى. وقف بقامةٍ منتصبةٍ عند مؤخرة
القارب، وصبَّ لنفسه قدحًا ممتلئًا من الروم ليكون خط دفاعه الأول ضد الضباب. بعد
ذلك فرد الشراع الرئيسي، وحيدًا ومن دون مساعدة، ثم عاد إلى الدفة. كان قد أقسم أمام
عبر المحيط الأطلسيرغم أنف « تُود » كل من حضرمن أهل ماكريل كوف أن يبحر بالقارب
بعلزبول. وسينجح في هذا أو يقضينَحْبه وهو يحاول، ومعه الشماسسيلزبي وتوباياس،
ابن أندرو جاكسون.شرب قبطان كرام قدحًا آخر من الروم. رفرفالشراع الرئيسيمع أول
هبَّةٍ من الرياح الحاملة للضباب. وبعد أن لوَّح مودِّعًا بلباقةٍ للجمع المحتشد على الشاطئ،
وبعث بقبلةٍ حانيةٍ إلى زوجته الباكية، التي باتَت تَعدُّ نفسها أرملة منذ ذلك الحين، وقد
كان من السهل عليه التعرف عليها فورًا من بُعد بفضل منديل الجيب الذي تحمله، بعد
كل هذا أمسك بمقبضالدفة ووجَّه القارب في اتجاه الرياح. امتلأت الأشرعة وأخذ القارب
الأنيق رغم قِدَمه يشق طريقه نحو البحر المفتوح، بينما طغا علىصوت الموجات وصيحات
الحضور على الشاطئ دويُّ الصوت الرخيم للشماس سيلزبي، وهو يغني بأعلى صوته
قائلًا:
ستبقى روحي العازمة »
في هذا الجسد،
وتجلس وتقضيوقتها في الغناء
«. طلبًا للنعيم الأبدي
بعد مرور ثمان وعشرين ساعة « تُود » ورَدَت باكورة الأنباء إلى ماكريل كوفعن رحلة
على مغادرة القارب، وذلك من طاقم سفينة لنقل الأخشاب من هاليفاكسوالتي رسَت هناك
بسبب الضباب. أفاد الطاقم بأن الضباب كان كثيفًا للغاية بالخارج؛ أشد كثافة من أي
شيء يمكن تذكُّره في هذا الوقت من العام. لقد تفادَى بالكاد الاصطدام بصخرة كلامشيل،
وهي صخرة معروفة مجاورة لجزيرة بامبكين، على مسافة عشرين ميلًا. وبينما كانوا

يبتعدون عنها لاحظوا قاربًاصغيرًا أحادي الصاري، وكان عالقًا بين الصخور. وقد تعجبوا
حين جاءهم الجواب، بصوت غليظ كالضباب، إن لم يكن أشد غلظة وأكثر تقلقلًا، يفيد
من ماكريل كوف، وأنه من المقرر أن يتجه إلى معرض « تُود » بأن القارب الجانح هو قارب
باريسوعلى متنه حمولة منشراب الروم. كان قبطان المركب يتوقَّع في ثقةٍ أن يحرِّرهم المد
القادم. وقد قُوبِلَت عروضالمساعدة من جانب طاقم القارب بصيحات الاستهزاء، وببعض
الإشارات المهينة إلى بعلزبول، والتي لم يستطع طاقم سفينة نقل الأخشاب فهمها بوضوح.
لم يكن ثمَّة مبررٌ يدعوني إلى المكوث » : اختتم قبطان سفينة نقل الأخشاب حديثَه قائلًا
هناك والتعرُّضللغرق. لذا حوَّلتُ الدفة وابتعدتُ عن القارب العالق عندصخرة كلامشيل.
ومن وجهة نظري الشخصية، فإن جميع الموجودين على متن القارب كانوا يلفُّون حبل
«. الصاري الرئيسي أكثر مما ينبغي
على مدار الأسابيع الثلاثة التالية لم يسمع سكان ماكريل كوف القلقون أيَّ أخبارٍ
عن مصير أبناء بلدتهم المغامرين. وظل الضباب جاثمًا على الساحل طيلة ذلك الوقت.
وفي النهاية شتَّتتْه رياح شمالية غربية بعيدًا عن الشاطئ، وفي اليوم الثاني بعد انقشاع
الضباب اقترب قاربٌ بُخاريٌّ يُدعى مونبيم، يعمل في صيد الأسماك، من الخليج وهو يقطر
قاربًا أحادي الصاري على متنه ثلاثة من الملاحين الواهنين المنهكين، والساخطين تمامًا.
.« تُود » كان هذا القارب هو
وهو جانح في المياه الضحلة عند صخرة « تُود » أفاد رُبان قارب الصيد بأنه عثر على
كلامشيل. في البداية لم يكن ثمة علامة على وجود حياة على متن القارب، لكن عند الاقتراب
من الصخرة بقدر ما يستطيع القارب البخاري، اكتشف أن ثمة ثلاثة رجال قد فقدوا
وَعْيهم في القمرة الداخلية، وأن بجوارهم عدة براميل فارغة لا تزال تنبعث منها رائحة
الروم. أخرج الرجال الثلاثة من القارب، وربطه بحبل في قاربه البخاري، ونجح في سحبه
نحو المياه العميقة. وقد استعاد البحارة الذين جرى انتشالهم وعيهم جزئيٍّا بفضل تأثير
القهوة الساخنة والملابس الجافة والمعاملة الطيبة، لكن بدا أنهم لا يزالون في حالة من
الذهول الجزئي، وكانت القصة التي رووها مفككة بشدة لدرجة أنه لم يستطع أن يفهم
منها شيئًا.
،« تُود » بالطبع كان الاستنتاج الأول الذي خلص إليه الناس في ماكريل كوف هو أن
الذي شوهد جانحًا عند كلامشيل يوم ١٩ يونيو من جانب سفينة نقل الأخشاب، ووُجد
جانحًا على الحَيد عينه في ١١ يوليو من جانب سفينة الصيد، ظل في هذا الموضع بين هذين

التاريخين، وأن الطاقم، في تلك الأثناء، استهلك براميل الروم الأربعة. كانت هذه النظرية
تُشير ضمنًا إلى نهاية مخزية لمغامرة بدأت بقدر كبير من الشجاعة الظاهرية، لدرجة أنه
لعدة أسابيع تعرضالقبطان كرام والشماس سيلزبي وتوباياس جاكسون لقدر كبير من
السخرية من جيرانهم وأصدقائهم، بل وصار القارب نفسه مادة للاستهزاء في الخليج.
تحمَّل البحارة العائدون كل هذا بخنوع استثنائي لبعض الوقت. لكن في نهاية
المطاف، بدءوا يُلمحون إلى أن ذلك التوبيخ غير مستحَق؛ وأن ثمة سببًا عجيبًا غامضًا وراء
فشلهم الظاهري، وأنه لو عُرفَت الحقيقة كلها فسيُنظَر إليهم على أنهم أبطال واحدة من
أطول وأروع المواجهات مع كائن شيطاني في هذا العصرأو سواه.
بدأت القصة تتسرَّب شيئًا فشيئًا؛ وقد حدث هذا في جانب منه عبر الحوارات الدائرة
في متجر الشماس سيلزبي، وفي جانب آخر عبر محادثات توباياس جاكسون التي كان
هدفها تسلية الرفاق في ساعات المرح، وفي جانب ثالث عبر تلميحات على لسان الشماس
نفسه في الصلوات والتحذيرات التي يلقيها في غرفة المقدسات بالكنيسة المعمدانية. وحين
صارت القصة كلها معروفة، بدت منطقية وحاسمة لدرجة أنها كانت مقنعة تمامًا عند
روايتها للمرة الأولى.
لقد واجهت قوة خبيثة بكل عداء هؤلاء المسافرين منذ البداية ودفعتهم نحو صخرة
كلامشيل، رغم معرفة القبطان كرام الأكيدة بأنه كان على مسافةٍ لا تقل عن سبعة عشر
ميلًا إلى الجنوب من تلك الصخرة حين علق مركبه بها. وبمجرد أن جنح القارب وبات
ينتظر المد كي يطفو، صار من الضروري، كإجراء احترازي ضد الضباب البارد، استهلاك
كمية كبيرة من الروم لأغراضطبية. لم يتذكر المسافرون مناداةَ سفينة نقل الأخشاب لهم،
غير أنهم تذكروا وجود سفينة سوداء ضخمة تُبحر من غير أشرعةٍ في مواجهة الرياح، لكن
لم تكن مدفوعةً بقوة البخار، ولم يكن على متنِها أي طاقم بشري، وأنها ظهرت من بين
الضباب على مقربة من صخرة كلامشيل. واقترب من حاجز السفينة الشبح هذه وحشٌ له
رأسيفوق في الحجم برميل الروم بأربعة أضعاف، وعينان تسطعان كجمرتين خضراوين
متَّقدتين، وتساءل، بصوت غير بشري مريع، عمن زعم أن بمقدوره قطع البحر رغم أنف
بعلزبول. وفي مواجهة صرخات التحدي، وقراءات الشماس المتكررة لأحد النصوص من
سِفر أيوب، اختفى الشبح (إذ آمنوا أنه كذلك) على نحو مفاجئ كما ظهر.
غير أن ذلك لم يكن إلا حدثًا تافهًا، كادوا ينسونه تمامًا في خضم الأحداث اللاحقة
الأشد رعبًا. كان توباياس جاكسون، هو مَن اقترح أن السبيل الوحيد هو تخفيف الحمولة
حين وجد أن القارب لم يطفُ مع المد. وهكذا عملوا بجد على إفراغ محتويات أحد براميل

الروم، وبحلول الليل، شعروا أن القارب يرتفع وينخفض تحت أقدامهم مع حركة المياه،
وهو ما أسعدهم بشدة. بعد ذلك وجه القبطان كرام القارب في اتجاه هافر، على نحوٍ
مباشرقدر المستطاع، مع منح نفسه المساحة للانعطاف حول كيب سيبل.
منذ اللحظة التي أخذ القارب يطفو فيها،صارت الرحلة سلسلة متصلة من الكوابيس؛
فبعد أن تحرروا من الضباب صار الجو حارٍّا وثقيلًا وضاغطًا بشكل عجيب على الرئتين،
رغم أن الشمس كانت تشرق في سطوع وكان يوجد، ما يبدو للجميع وكأنه، نسيم عليل.
وأحيانًا حتى في منتصف الظهيرة كانت السماء تُظلم فجأة على نحوٍ تام بينما تظهر
أضواء فسفورية حول صاري المركب وحول فتحات براميل الروم. بدا الهواء مشحونًا
بالكهرباء. وذات يوم بدت البوصلة وكأنما أصابها مسٌّ شيطاني؛ وباتت غير نافعة بالمرة
كأداة للملاحة؛ إذ أخذت الإبرة تدور وتدور من دون سبب واضح، بسرعة لا يستطيع أحد
أن يتتبعها ببصره من دون أن يصاب بالدوار والارتباك. وفي النهاية ثبَّت القبطان كرام
الإبرة في مكانها حتى لا تتحرك، لكن بمجرد أن توقفت الإبرة عن الدوران بدأ القارب نفسه
يدور بعنف شديد لدرجة أنهم سارعوا إلى تحرير الإبرة.
وفي اليوم الرابع أو الخامس صارت الرياح أقوى، وأخذ القارب يشق طريقه فوق
قمم الموجات. تأثر الشماسوتوباياستأثرًا شديدًا بالحركة، ولزما القمرة الداخلية. وحتى
القبطان نفسه، وهو البحار المخضرم الذي اجتاز عواصف عدة، لم يفلت من الإصابة
بالدوار، لكن رغم مرضه الشديد فإنه ظل ملازمًا موقعه عند الدفة، موجهًا مقدمة المركب
نحو هافر. تحولت الرياح إلى عاصفة، وبدا أن الموجات تحركها رغبة خبيثة لغمر القارب
الهش وابتلاعه، وملأ الرعد المفزع السماء، واندفع البرق من كل بوصة مربعة من السماء،
وأخذ القارب يشق طريقه في مشقة. في هذه الحالة الطارئة صار من الضروري تخفيف
الحمولة أكثر، كوسيلة لحماية الذات. ونجح القبطان، بقدر من المشقة، في إيقاظ رفيقيه
المريضَين واهنَي العزيمة، وشرعَت الأيدي كلُّها في العمل على إفراغ البرميل الثاني بطاقةٍ
ولَّدها القنوط. وهكذا اجتاز القارب العاصفة.
وفق ما تذكَّره المسافرون المنهكون بشدة، والذين كانوا في ذلك الوقت قد فقدوا
القدرة على إحصاء الأيام والساعات وبدءوا يقيسون الأحداث عبر وسيلة أخرى، فإنه
عند الربع الأخير من البرميل الثاني أو الربع الأول من البرميل الثالث، صار البحر فجأة
يموج بزواحف عظيمة الحجم وشديدة العداء. وقد أكد القبطان كرام والشماس سيلزبي
وتوباياس جاكسون كلهم على أن تلك الكائنات لم تكن حيتانًا ولا دلافين. فقد كانت هذه

الوحوش، التي ملأت المياه حول القارب وكانت تتدافع فيما بينها في خضم محاولاتها
الخبيثة للنَّيل من القارب الصغير وتدميره، أكبر حجمًا بكثير من أي حوت، وأكثر حيوية
من أي دُلْفين. كانت كائنات عظيمة الحجم، بدائية، تُصدر أصواتًا عالية بحيث تجعلك
تتجمَّد من الخوف. كانت تسبح حول القارب، تُحملق بعيون جائعة في الطاقم البائس،
وتدفع الماء بذيولها الضخمة بحيث صار الزَّبد الأبيضيغطي الماء على مرمى البصر. وبين
أكبر هذه الوحوش المريعة كان الشماس سيلزبي واثقًا أنه رأى الوحش المريع ذا الرءوس
السبعة والقرون العشرة المذكور في سِفر رؤيا يوحنا.
همسالشمَّاسإلى القبطان بمجرد أن تمالك نفسه بعدما تملَّكه الرعب بحيث استطاع
«! إنه بعلزبول. إنه الوحش العجوز الأقرن عينه » : استخدام لسانه
وكأنما يؤكد ما أدركه الشمَّاس، ملأ الهواء صوت ضحكة شيطانية، وأخرج الوحش
رءوسه السبعة من الماء، وتقدم مباشرة نحو القارب، بينما تراجعت الوحوش الأخرى.
هاجمنا الوحش مباشرة، واختبأ القبطان » : قال الشماس بعد ذلك وهو يصف الأزمة
وتوباياس جاكسون بين البراميل دون حراك، وكأنهما سمكتان مفلطحتان. كنت أعلم أن
الصالحين يجب ألا يشعروا بالخوف؛ لذا فقد وقفت في ثباتٍ ونظرت للوحش في عينيه
مباشرة. حينئذٍ بدأت علامات عدم الارتياح تظهر على الوحش. ارتبك واهتز قليلًا، وحدَّق
فيَّ بكل شراسة. تشجعتُ قليلًا، لكن ظلت ساقاي مهتزتين، فمددتُ يدي إلى الأسفل نحو
المغرفة الصفيحية وبدأت أتحسس موضع سدادة أحد البراميل. أعطاه هذا مزية لحظية،
فاقترب من جانب المركب، غير أنني نظرت في عينيه، فتوقف وتسمَّر في موضعه كما لو كان
«! فلتغرب عن هنا يا بعلزبول! نحن نعرفك، ويجدر بك المغادرة » : قدضُرب بالنار. قلت
أعرفك بالمثل أيها الشمَّاسسيلزبي، وحريٌّ بكم » : بنبرة غاضبة، وأضاف «! ها ها ها » : قال
«! العودة إلى ماكريل كوف إذا كنتم تقدِّرون حياتكم. مُحال أن تعبروا الأطلسي رغمًا عني
وبعد ذلك أطلق زئيرًا غير أرضي، وأمكنني الشعور بتوباياس جاكسون، الذي كان راقدًا
«. عند قدمي اليمنى، وهو يرتجف كقنديل البحر
«؟ ماذا عن القبطان » : تساءل أحد الحاضرين
زحف القبطان إلى القمرة الداخلية. لا يعيبه هذا كبحَّار » : واصل الشماسحديثه قائلًا
أو كرجل؛ لأن زئير ذلك المخلوق كان قويٍّا مزلزلًا. أما أنا، كما ترون، فعليم بالكتاب المقدس
وأنا أنظر إلى عينيه «! بعلزبول » : وقوي العقيدة، وكنت أعرف نقاط ضعف الوحش. قلت
قد تزأر وتهتاج كما يحلو لك، لكن لن تستطيع إخافتي. قاوم الشيطان وستتحرَّر » ، مباشرة

منه. أيها الثعبان القديم، أيها الغريم، أيها المعذِّب، يا أمير الدَّنَس، فلتغرب عنا! انصرف
«!« الآن
«؟ وهل انصرف » : تساءل أحد جيران الشماس
ليس على الفور. فالكذَّاب العجوز ماكر لعين. سبح بعيدًا بضع مئات » : قال الشماس
اسمعني » : من قصبات القياس في تردُّد وتشكُّك، ثم استدار مجددًا. وقال بصوت مستميل
أيها الشماس سيلزبي. لقد أتيت بروح ودودة صافية، وما منضرورة تدفعك إلى الحديث
معي بغلظة. وما دمتم تعقدون العزم على العبور، فلن أمنعكم، بل ربما أعينكم وأوفر
عليكم المشاق. فقط أدِر عينيك بعيدًا إلى أن أتمكن من الاقتراب من القارب. بعد ذلك لُفوا
حبل القَطر حول أحد قروني، وسأجركم حتى الساحل الفرنسي في وقت أقل من الوقت
بل المؤكد أنني » : رددتُ عليه بغضب قائلًا «! الذي تقطعه البرقية في العبور. أعدكم بهذا
«!« أعرفك وأعرف ألاعيبك الماكرة. لا نريد منك أن تقطر القارب يا بعلزبول. والآن انصرف
وفي تلك المرة انصرف بالفعل. إذ أطلق هو وآلاف الشياطين » : ثم أضاف الشماس
الأقل شأنًا عواءً غاضبًا مرتفعًا بشدة لدرجة أنه كاد يقتلع الشمسمن كبد السماء ويوقعها
على رءوسنا، ثم غاصوا جميعًا فجأة في الماء. صار البحر هادئًا، والطقس صافيًا، مع رياح
جنوبية غربية مواتية، واتجه القارب في سلاسة إلى المعرض. كنا مسرورين بالهرب من
حبائل الشيطان لدرجة أننا نسينا الجانب التجاري لرحلتنا، وأجهزنا على البرميل الثالث
«. وبدأنا في احتساء ما في البرميل الرابع
لم تختلف رواية القبطان كرام عن المواجهة التي جمعتهم بالوحش الشيطاني في
قلب المحيط كثيرًا عن رواية الشماس، باستثناء تفصيلة واحدة غير مهمة. فوفق ما يذكر
القبطان فقد كان الشماس سيلزبي هو مَن التمس ملاذًا في القمرة الداخلية حين بدأ
بعلزبول يزأر، وأنه هو، أي القبطان، هو مَن صدَّ جيش الشر بفضل قوة شخصيته.
وحين سُئل توباياس جاكسون عن الدقة النسبية للروايتين، اعترفسرٍّا أن ذاكرة القبطان
والشماس يعوزها الدقة، وأنه هو، أي توباياس، مَن أنقذ القارب. فقد سبحت السمكة
الشيطانية نحو القارب وأمسكت الحافة العليا له بزعنفتها الضخمة الشبيهة بالمخلب،
فالتمس القبطان والشماس ملاذًا في القمرة الداخلية أسفل السطح، وبدا دمار المركب
كله وشيكًا، وحينها أمسك توباياس، وكان الوحيد الذي ظل محتفظًا بحضوره العقلي،
بوتد تصادف أنه في متناوله وأخذ يضرب بعلزبول بقوة على رأسه وبراثنه حتى أفلت
قبضته الجهنمية حول القارب. لم يصرف ذلك الاختلاف الطفيف في الرواية بين المسافرين

الثلاثة الانتباه عن الحقائق الأساسية، وهي أن بعلزبول ظهر حقٍّا، وأنه قد جرت مواجهته
بجسارة، وأجُبر على الفرار.
أما بشأن الجزء المتبقي من الرحلة، فلم يكن ثمة اختلاف. فقد وجد المسافرون
أنهم ليسوا ندٍّا لبعلزبول، الذي رغم ما مُني به من هزيمة في المواجهة المباشرة، كان عدوٍّا
واسع الحيلة ومثابرًا وامتلك مزية عظيمة بفضل تسخيره الخبيث والجائر لقوى غيبية.
فحين كان القبطان يحاول رصد موضع الشمس كي يحدِّد خط الطول ودائرة العرض
اللذين فيهما القارب، كانت الشمسلا تثبت في مكانها، وإنما بتحريضمن الشيطان كانت
تتراقصفي السماء بصورة تجعل التقدير الملاحي مستحيلًا. أيضًا لم تُقدِّم نجوم الليل أي
بيانات نافعة للحساب؛ إذ كانت تتراقص مغادرة كوكباتها في استهتار شديد بالعواقب،
وشهد المسافرون الثلاثة على متن القارب بأن أربعة أقمار كانت تظهر كثيرًا في الوقت
ذاته، وأن مجموعة الدب الأكبر كانت تُشرق دائمًا من الغرب وتغرب في الجنوب الشرقي.
وفي بعضالأحيان، كانت الرياح تهب من كل جهات البوصلة وكان القارب يظل ساكنًا في
موضعه لساعات، تقرعه الرياح المتصارعة.
وبصرف النظر عن تلك العوائق التي كانت تعترضعبورهم السلس، يؤمن القبطان
كرام بأنه كان سيتمكن في نهاية المطاف من الوصول إلى فرنسا، لولا أن بعلزبول لجأ إلى
حيلة غير متوقعة لا يمكن قهرها. كانتضربة خبيثة لعملية الإبحار؛ضربة تحت الحزام.
فيومًا بعد آخر، استنادًا إلى كل الشواهد، حقق القارب على ما يبدو تقدُّمًا لا بأس
به، وكان الطاقم قد وصل إلى النصف الأخير من البرميل الرابع والأخير. كانت الرياح تهب
في ثبات، وكان الشراعان الأمامي والرئيسي متحررَين على نحوٍ ملائم، وكانت المياه تتموج
عند مقدمة القارب، وبدأ القبطان في النظر عن كثب بحثًا عن أي علامات على اليابسة.
٤٠ ′ غربًا، ° وفق حساباته التقريبية، كان من المفترضأن يكون القارب عند خط الطول ٥
بالقرب من جزيرة أوشان. ظهرت اليابسة بالفعل — خط أزرق باهت من اليابسة —
لكن ما أثار دهشتهم وحيرتهم البالغة أنها لم تظهر أمامهم ولا على أي من الجانبين،
بل كانت خلف القارب مباشرة، وكانوا يُبحرون مبتعدين عنها، رغم أنه وفق ما تنبئ به
الرياح والبوصلة وتلاطم الأمواج وكل مؤشرآخر يعرفه البحارة، فإن ملامحها كانت تزداد
وضوحًا مع انقضاء كل لحظة. أمسك القبطان كرام ببرميل فارغ (كانت كلها قد أضحت
فارغة) وألقاه من فوق سطح القارب. تجاوز البرميل القارب مسرعًا من الخلف إلى الأمام،
واختفى للحظة تحت العارضة الأمامية، وسرعان ما فُقد عند الأفق إلى جهة الشرق.

نظر البحارة الثلاثة الباسلون بعضهم إلى بعض بأعين قانطة. وعبر هذا الاختبار
الحاسم، عرفوا أن القارب كان يبحر، على مدار أيام وأيام، إلى الوراء، في عكس اتجاه
الرياح وفي مخالفة لكل قوانين الطبيعة. لم يكن ثمَّة جدوى من النضال ضد عدو يمتلك
هذه الموارد الشيطانية تحت إمرته. شعروا بالقنوط والأسى، ورزحوا تحت وطأة شعور
الإحباط الرهيب، ولم يدروا بشيء إلى أن وجدوا أنفسهم على متن سفينة الصيد البخارية
متجهينإلى ماكريل كوف. فهم لم يعلموا أيشيء عن جنوحهم الثاني عندصخرة كلامشيل!
لم يعلموا أيشيء. كان ذلك حادثًا فريدًا، لكن أي حادث يمكن أن يفاجئهم الآن؟
إلى فرنسا، على « تُود » كانت هذه هي القصة التي رُويت عن رحلة القارب المسمى
ألسنة البحارة الشجعان الذين حاربوا صعوبات خارقة للطبيعة. وبعد أن سمع أهل
ماكريل كوف القصة باهتمام، وقيَّموها في أناة، ودققوا في الأمر عن كثب، اتفقوا جميعًا
على نقاطٍ ثلاث:
١) أن الرحلة، رغم فشلها، توجب إظهار التقدير لكلٍّ من القارب، وطاقم القارب، )
ولكل أهل ماكريل كوف على وجه العموم.
٢) أن بعلزبول، حين تُحركه دوافع الضغينة، يصير من الصعب هزيمته. )
٣) لو كان شراب الروم قد دام معهم لفترة أطول، لتمكن البحارة الثلاثة في نهاية )
المطاف من العبور ومن مشاهدة روائع المعرضرغم أنف بعلزبول
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

« تود » الرحلة الرهيبة للقارب
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.