hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

مرَّت عدة أيام، وكان السيد زخاريوس، رغم مُشارفته على الموت، ينهضمنسريره ويعود
إلى الحياة المفعمة بالنشاط بفضل إثارة خارقة للطبيعة. لقد عاش بفضل غروره. إلا أن
جيراند لم تخدَع نفسها؛ فجسد والدها وروحه قد فُقدا إلى الأبد.
جمَع العجوز كلَّ ما تبقى له من أموال غير مكترث بأولئك الذين يَعُولهم، وأظهر
طاقة هائلة في السير والبحث والتمتمة بكلمات غريبة غير مفهومة.
وذات صباح نزلت جيراند إلى ورشة السيد زخاريوس، فلم تجده هناك، وانتظرته
طوال اليوم، لكنه لم يعد.
بكت جيراند بشدة، لكن والدها لم يُعاود الظهور.
بحَث أوبير في كل مكان في البلدة، وسرعان ما عاد مُقتنعًا بحزنٍ أن العجوز قد ترك
البلدة.
«! دعنا نبحث عن أبي » : بكت جيراند عندما حمل لها المُتدرِّب هذا النبأ الحزين، وقالت
«؟ أين يُمكن أن يكون موجودًا » : فسأل أوبير نفسه
خطر على باله إلهامٌ فجأة. وتذكر آخر الكلمات التي تفوَّه بها السيد زخاريوس. لا بد
أن العجوز يَعيش الآن في الساعة الحديدية القديمة التي لم تَرجع إليه حتى الآن! لا بد أن
السيد زخاريوس ذهَب بحثًا عنها.
كان هذا ما قاله أوبير لجيراند.
«. لنَنظُر في كتاب أبي » : فأجابت جيراند

ونزلا إلى الورشة. كان الكتاب مفتوحًا على المقعد، وكانت كل ساعات اليد وساعات
الحائط التي صنعها العجوز، وتلك التي أعُيدت إليه بسبب عدم انتظامها، مشطوبًا عليها
ما عدا واحدة:
بيعت للسيد بيتوناتشو، ساعة حديدية ذات جرس وأشكال متحركة، أرُسلَت إلى »
«. قلعته في أندرمات
التي تحدَّثَت عنها سكولاستيك بحماس بالغ. « المعنوية » لقد كانت تلك هي الساعة
«! والدي هناك » : فصاحت جيراند
«! لنُسرع إلى هناك، فربما نتمكن من إنقاذه » : فأجاب أوبير
«. ربما ليس لهذه الحياة، بل للحياة الأخرى على أقل تقدير » : فتمتمَت جيراند
« دينتس دو ميدي » أسترحمكِ بالله يا جيراند! قلعة أندرمات تقع عند وادي جبل »
«! الذي يَبعُد عن جنيف مسافة عشرين ساعة. هيا بنا
في ذلك المساء سار كل من أوبير وجيراند ووراءهما الخادمة العجوز على الطريق
المحيط ببحيرة ليمان. قطعوا خمسة فراسخ أثناء الليل، ولم يتوقَّفوا في بيسانج ولا في
إيرمونس حيث توجد قلعة آل مايور الشهيرة. عبروا بصعوبة نهر درانس، وسألوا عن
السيد زخاريوس في كل مكانٍ ذهبوا إليه، وسرعان ما اقتنعوا أنهم يسيرون على دربه.
وفي الصباح التالي بعد أن مرُّوا على تونو، وصَلوا عند بزوغ الفجر إلى إيفيان حيث
يمكن رؤية الأراضيالسويسرية ممتدة على ما يزيد عن اثني عشرفرسخًا. إلا أن الخطيبَين
لم يُلاحظا المناظر الخلابة؛ بل تقدَّما إلى الأمام مباشرةً بدافع قوة خارقة للطبيعة. كان
أوبير يتكئ على عصًا غليظة ويمدُّ يده تارة لجيراند وتارة لسكولاستيك، وبذل جهودًا هائلة
ليَدعم رفيقتَي دربه. تحدَّث ثلاثتهم عن أحزانهم وآمالهم، وفي النهاية اجتازوا الطريق
الجميل المُجاوِر للماء، وعبروا الهضْبة التي تربط حدود البحيرة بمرتفعات شاليه. وسرعان
ما وصلوا إلى بوفريه حيث يصبُّ نهر الرون في بحيرة جنيف.
بعد مغادرة تلك البلدة انحرفوا عن البحيرة، وزاد شعورهم بالتعب وسط هذه المناطق
الجبلية. وخلال وقتٍ قصير تركوا خلفَهم قرى فيونا وشيسيه وكولومبيه شبه الخالية.
كانت رُكَبهم ترتعش، وكانت أقدامهم تَنجرح من الحوافالحادة التي تغطي الأرضكدغل
من الجرانيت؛ لكنهم لم يجدوا أثرًا للسيد زخاريوس!

ورغم ذلك، فقد صمَّم الخطيبان على العثور عليه ولم يَركنا إلى الراحة لا في القرى
المنعزلة ولا في قلعة مونتيه التي تُشكِّل مع الأراضيالتابعة لها إقطاعية مارجريت دوقة
سافوي. وأخيرًا، وصلوا في وقت متأخِّر من اليوم وقد أضناهم التعب إلى دَيْر نوتردام
دوسيكس الذي يقع عند سفح دينتس دو ميدي، على ارتفاع ستمِائة قدم فوق سطح نهر
الرون.
استقبل الناسك الرحَّالة الثلاثة مع حلول الليل؛ ولم يكن باستطاعتهم أن يخطوا
خطوةً أخرى، وهنا كان من الضروري أن ينالوا قسطًا من الراحة.
لم يَستطِع الناسك أن يُبلغهم أيَّ خبر عن السيد زخاريوس. ولم يكن أمامَهم سوى
الأمل في العثور عليه حيٍّا وسط هذه الأماكن الموحشة الحزينة. كانت الليلة مظلمة، وكان
صوت الرياح يَضرب بقوة بين الجبال، وكانصوت الكتل الجليدية يُدوِّي عاليًا وهي تنزلق
من فوق قمم المنحدرات المتكسرة.
جلسأوبير وجيراند أمام مِدفأة الناسك، وقصَّا عليه قصتهما الحزينة. كانت المعاطف
المغطاة بالثلوج تجف في إحدى الزوايا، بينما كان كلب الناسك ينبح في الخارج في أسًى،
واختلط صوته بصوت العاصفة.
لقد دمَّر الغرور ملاكًا خُلق للصلاح. إنه حَجَر العَثْرة الذي » : قال الناسك لضيوفه
تَصطدِم به مصائر الإنسان. لا يمكن مواجهة الغرور بالعقل؛ فالغرور أصل كل الشرور،
«! والإنسان المغرور بطبيعة الحال يرفضالاستماع للعقل. ولا يَسعنا إذًاسوىالدعاء لوالدك
كان الأربعة جالسين على رُكَبهم عندما اشتدَّ نباحُ الكلب؛ إذ أخَذ أحد الأشخاصيَطرق
على باب الدَّيْر.
«! افتح باسم الشيطان »
انفتح الباب تحت ضغط الطَّرْقات، وظهَر رجل غير مهندم ومُنهَك ورَثُّ الثياب.
«! أبي » : فصاحت جيراند
لقد كان السيد زخاريوس.
«! أين أنا؟ في الأبدية! لقد انتهى الزمن؛ فالساعات لم تَعُد تدق، والعقارب توقفت » : قال
بشفقة شديدة جعلت العجوز يبدو كما لو كان قد عاد إلى «! أبي » : فأجابت جيراند
عالم الأحياء.
أنت هنا يا جيراند؟ وأنت يا أوبير؟ آهٍ أيها الخطيبان الأعزاء، سوف » : صاح قائلًا
«! تتزوَّجان في كنيستنا القديمة

«! أبي، عُد إلى جنيف، تعالَ معنا » : فقالت جيراند وهي تَحتضنه بذراعيها
فانتزع العجوز نفسه من حضن ابنته وأسرع إلى الباب، ووقَف على العتبة التي كان
الثلج يتساقط عليها في هيئة رقائق كبيرة.
«! لا تَهجُر أبناءك » : صاح أوبير
لماذا أعود إلى تلك الأماكن التي هجرَتْها حياتي بالفعل، والتي » : فردَّ العجوز في حزن
«؟ دُفن فيها جزء من نفسي إلى الأبد
«. رُوحك ليسَت ميتة » : فقال الناسك في جدية
«… رُوحي؟ آهٍ، كلا … إن عجلاتها جيدة! أنا أراها تدقُّ بانتظام »
«! رُوحك غير مادِّية … رُوحك غير فانية » : فأجاب الناسك بصرامة
«! نعم، مثل مجدي! لكنها محبوسة في قلعة أندرمات، وأرُيد أن أراها ثانيةً »
فرسم الناسكُ الصليبَ على نفسه؛ ووقَفت سكولاستيك تقريبًا بلا حَراك. وأمسك أوبير
جيراند بين ذراعيه.
«. قلعة أندرمات يَسكنها شخصملعون، شخصلا يُحَيِّي صليب الدَّيْر » : قال الناسك
«! أبي، لا تذهب إلى هناك »
«… أرُيد رُوحي! رُوحي ملكي »
«! أمسِكوه! أمسِكوا أبي » : وصاحت جيراند
«! رُوحي ملكي … ملكي » : لكن العجوز قفز فوق العتبة، وانطلق في الليل يَصيح
أسرعت جيراند وأوبير وسكولاستيك خلفه. خاضوا الطرق الوعرة التي انطلق فيها
السيد زخاريوسكالعاصفة، مدفوعًا بقوةٍ لا تُقاوَم. تناثر الجليد حولَهم، واختلطَت رقائقه
البيضاء بزَبَد الأنهار الفائضة.
وأثناء مرورهم على الكنيسة المشيَّدة تخليدًا لذكرى مذبحة الكتيبة الطيبية، رسموا
الصليب على أنفسهم بسرعة. أما السيد زخاريوس فلم يرَهُ أحد.
وفي النهاية ظهَرت قرية إيفيونا وسط هذه المنطقة المُجدِبة. إن أشد القلوب قساوة
كان ليتأثَّر عند رؤية هذه القرية الصغيرة المنعزلة وسط هذه الأماكن المقفرة الرهيبة. أسرع
العجوز وغاصَفي وادي جبل دينتس دو ميدي، الذي تشقُّ قِمَمه الحادة عَنان السماء.
وسرعان ما ظهَرت أمامه أطلال قديمة وكئيبة، تشبه الصخور الموجودة عند القاعدة.
وأسرع في خطاه بمزيد من الاندفاع. «! إنها هناك … هناك » : صاح قائلًا
كانت قلعة أندرمات أطلالًا حتى في ذلك الحين، وكان يعلوها برجٌ سميك مُتداعٍ، كانت
جملوناته مهدَّدة بالانهيار في أيِّ لحظة. كانت أكوام الأحجار المسنَّنة كئيبة المنظر. وظهر

وسط هذا الحُطام العديد من الغُرَفالمُظلِمة ذات الأسقف المجوَّفة التي أصبحت الآن أوكارًا
للأفاعي.
كان مدخل القلعة بوابة ضيِّقة خفيضة، تُطل على حفرة مكتظَّة بالقُمامة. لم يكن
أحدٌ على علم بهُوية ساكن تلك القلعة. ولا شك أن أحد الحُكام العسكريين، الذي كان
نصف سيد ونصف قاطع طريق قد أقام فيها؛ حيث سكَنها بعدَ قُطَّاع الطريق أو مُزوِّري
العملات الذين شُنقوا في مسرح الجريمة. وتذهَب الأسطورة إلى أنه في ليالي الشتاء يأتي
الشيطان ليقود الرقصات الشيطانية على هذه الأوَدية العميقة المُنحدِرة المَحصور بينها ظل
هذه الأطلال.
إلا أن السيد زخاريوس لم يَفزع من منظرها المخيف، ووصَل إلى البوابة، ولم يَمنعه
أحد من اجتيازها. ظهر أمام عينَيه بهوٌ واسع وكئيب، ولم يَمنعه أحدٌ من عبوره. اجتاز
ساحة مائلة تُفضي إلى ممرٍّ طويل، بدا أن أقواسه الحجرية تَحجب ضوء الشمس عن
أحجاره السُّفلية الثقيلة. لم يلقَ تقدُّمه أيَّ مقاومة، وتبعتْه جيراند وأوبير وسكولاستيك
عن كَثَب.
كان السيد زخاريوس واثقًا من طريقه كما لو كانت تقودُه يدٌ لا تُقاوَم، وكان يسير
بخطًىسريعة. ووصَل إلى بابٍ قديم مُتهالِك سقط أمامضرباته، في حين شكَّلت الوطاويط
دوائر مائلة حول رأسه.
سرعان ما وصَل إلى قاعة فسيحة محفوظة على نحوٍ أفضل من القاعات الأخرى،
وكان يُغطي جدرانها ألواح عالية مرسوم عليها ثعابين وغِيلان وأشكال غريبة أخرى على
نحوٍ مُختلط. كان العديد من النوافذ الطويلة والضيقة التي تشبه المنافذ ترتعش تحت
وطأةضربات العاصفة.
ولما وصل السيد زخاريوس إلى منتصف هذه القاعة صاح فرحًا.
فعلى حاملٍ حديديٍّ متصل بالحائط كانت توجد الساعة التي تَكمن فيها حياته
بالكامل. وكانت هذه التحفة التي لا نظير لها تُمثِّل كنيسة رومانية قديمة، وكان لها دعائمُ
صلاة » ؛ من حديد مُطاوِع، وبرجُ جرسٍ ثقيل يدقُّ مجموعة أجراس كاملة لترانيم اليوم
والقداسوصلاة الغروب وصلاة الليل والتبريك. وفوق باب الكنيسة، الذي يُفتَح في « التبشير
كان يتحرَّك في مركزها عقربان، « قطعة زخرفية على شكل وردة » ساعة كل قداس، وُضعَت
وكان القوسالزخرفي المحيط بها يُشبه وجه الساعة ويُظهِر الساعات الاثنتَي عشرة بنقشٍ
بارز. وكما قالت سكولاستيك، فإنه بين الباب والقطعة الزخرفية المنقوشة على شكل وردة

كان يوجد قولٌ مأثور على لوح نُحاسي متعلِّق باستغلال كل دقيقة في اليوم. وكان السيد
زخاريوس قد ضبَط تعاقُب هذه الشعارات الزخرفية باهتمام مسيحي حقيقي؛ فقد كانت
ساعات الصلاة، وساعات العمل، وساعات الوجبات، وساعات الاستجمام، وساعات الراحة
مُتعاقِبة وفقًا للنظام الديني، وكانت تضمَن بالتأكيد الخلاصللشخصالذي يلتزم بالأوامر
بدقة.
تقدَّم السيد زخاريوس مُنتشيًا من الفرحة ليُمسك بالساعة؛ فدوَّى من ورائه صوتُ
ضحكٍ مُخيف.
استدار، ومن خلالضوء مصباح يَغشاه الدخان أبصرالرجل العجوز الضئيل الحجم
الذي كان يتجوَّل في جنيف.
«؟ أنت هنا » : فقال
فخافت جيراند واقتربت أكثر من أوبير.
«. طاب يومُك يا سيد زخاريوس » : فقال الوحش
«؟ من أنت »
السنيور بيتوناتشو في خدمتك! لقد جئتَ لتُعطيني ابنتك! لقد تذكَّرتَ كلماتي القائلة: »
«.« جيراند لن تتزوَّج أوبير »
فاندفع المُتدرِّب الشاب صوب بيتوناتشو الذي هرَب منه مثل الشبح.
«! توقَّف يا أوبير » : فصاح السيد زخاريوس
واختفى. «. طابت ليلتُك » : فقال بيتوناتشو
«! أبي، دعنا نَخرج من هذا المكان البغيض! أبي » : صاحت جيراند
إلا أن السيد زخاريوسلم يَعُد موجودًا؛ فقد أخَذ يُطارد طَيْف بيتوناتشو عبر الممرات
المتداعية. وظلت سكولاستيك وجيراند وأوبير في القاعة الكبيرة الكئيبة دون أن يَنْبِسوا ببِنْت
شَفَة وتملَّكهم اليأس. جلست الشابة على مقعدٍ حجَري، وجثَت الخادمة العجوز بجوارها،
وأخذت تُصلي؛ أما أوبير فظلَّ واقفًا يُراقب خطيبته. تجوَّلت أضواء خافتة في الظلام، ولم
يَكسِر صمتَ المكان سوى تحرُّكات الحيوانات الصغيرة التي تعيش في الخشب القديم،
.« ساعة الموت » والضوضاء التي تُحدِّد ساعات
وعندما بزَغضوء النهار انطلقوا على السلالم التي لا تَنتهي والمُلتفَّة أسفل هذه الكتل
المتحطِّمة؛ وتجوَّلوا على مدار ساعتين دون أن يُقابلوا أيَّ كائن حي، ولم يسمعوا سوى
صدًى بعيد يردُّ على صيحاتهم. وفي بعض الأحيان كانوا يَجدون أنفسهم مدفونين على

بُعدِ مائة قدم تحت الأرض، وفي أحيان أخرى يَصِلون إلى أماكن يُمكن أن يُطلُّوا منها على
الجبال المُقفِرة.
وفي النهاية قادَتهم الصدفة مرة أخرى إلى القاعة الفسيحة التي آوتهم أثناء تلك
الليلة الموجعة. لم تَعُد تلك القاعة خالية؛ بل كان يوجد بها السيد زخاريوس وبيتوناتشو
يتحدَّثان، وكان أحدهما واقفًا ومتصلِّبًا كالجثة في حين كان الآخر جاثمًا على طاولة من
رخام.
عندما رأى السيد زخاريوس جيراند تقدَّم نحوها وأخَذها من يدها صوب بيتوناتشو
«! انظري إلى مولاكِ وسيِّدكِ يا ابنتي. انظري إلى زوجك يا جيراند » : قائلًا
فارتجفت جيراند من رأسها إلى قدمَيها.
«. كلا! إنها خطيبتي » : وصاح أوبير
«! كلا » : أجابت جيراند كصدًى حزين
وبدأ بيتوناتشو يضحك.
إذًا أنت تتمنَّيْن موتي! إن حياتي محبوسة في تلك الساعة، إنها » : فصاح العجوز
الساعة الأخيرة التي ما تزال تعمل من بين كل الساعات التي صنعتُها بيدي، وهذا الرجل
هذا الرجل لن يُعيد «. عندما أحصُل على ابنتك ستُصبح هذه الساعة ملكًا لك » : يقول لي
ملء الساعة، ومن المُمكن أن يَكسرها ويُلقيَني في هُوة الضياع. آهٍ يا بنيتي، أنتِ لم تعودي
«! تُحبِّينني
«! أبي » : فهمسَت جيراند وهي تستعيد وعيَها
واستطرَد قائلًا: «! آهٍ لو تعلمين كم عانيتُ وأنا بعيد عن هذه الساعة؛ سبب وجودي »
على الأرجح لم يكن يَعتني بها أحد. وربما تُركَت زنبركاتها للتآكُل، وتروسها عالقة. أما »
الآن، عندما تُصبح بين يديَّ؛ فإنني أستطيع أن أنُعش هذه الصحة باهتمام بالغ؛ لأنني
يجب ألا أموت؛ فأنا أعظَم ساعاتي في جنيف. انظري يا بُنيتي كيف يتقدَّم العقربان
بخطوة واثقة. انظري، الساعة الخامسة على وشك أن تدق. استمعي جيدًا، وانظري إلى
«. القول المأثور الذي سوف يَنكشف
دقَّت الساعة الخامسة بضوضاء دوَّت دوِيٍّا حزينًا في رُوح جيراند، وظهرت الكلمات
التالية بحروف حمراء:
يجب أن تأكُل من ثمار شجرة العلم.

نظَر أوبير وجيراند أحدهما إلى الآخر في ذهول؛ فهذه الكلمات لم تَعُد تلك الأقوال
التقيَّة التي حفرها الساعاتي الكاثوليكي. لا بد أن الشيطان قد نفَث فيها. ورغم ذلك، فلم
يُعِر زخاريوس الأمر بالًا، واستطرد قائلًا:
أتسمَعين يا جيراند؟ أنا حي، أنا ما أزال حيٍّا! اسمعي أنفاسي، انظري إلى الدم يَسري »
في عروقي! لا، لن تَقتُلي والدك، وسوف تَقبلين هذا الرجل زوجًا لك؛ كي أصبح خالدًا
«! وأحصُل على قوة الرب في النهاية
وعند سماع هذا التجديف رسمت سكولاستيك العجوز علامة الصليب بينما ضحك
بيتوناتشو عاليًا من الفرح.
وعندها يا جيراند ستكونين سعيدة معه. انظري إلى هذا الرجل، إنه الزمن! وجودك »
«! سيكون مُنظَّمًا بدقة مُطلَقة. جيراند، لقد منحتُك الحياة؛ فامنحي الحياة لوالدك
«. جيراند، أنا خطيبك » : فهمس أوبير
«! إنه والدي » : فأجابت جيراند في وهَن
«! إنها ملكُك يا بيتوناتشو، برَّ أنت بوعدك لي » : فقال السيد زخاريوس
«. ها هو مِفتاح الساعة » : فأجاب الرجل الفظيع
فالتقط السيد زخاريوسالِمفتاح الطويل الذي يُشبه حيَّةً ملفوفة، واندفع نحو الساعة
ثم أخذ يَملؤها بسرعة مذهلة. كان صوت صرير الزنبرك يضغط على الأعصاب، وأخذ
الساعاتي العجوز يلفُّ الِمفتاح مرارًا وتكرارًا دون أن يتوقف لحظةً، وبدا كما لو كانت
الحركة خارجة عن سيطرته. وأخذ يلفُّ بسرعة مُتزايدة وبالتواءات غريبة إلى أن سقط من
الإعياء التام.
«! هذه اللفَّة تكفيها لقرن » : وصاح قائلًا
خرَج أوبير من القاعدة كما لو كان مجنونًا. وبعد فترة طويلة من التجوُّل وجَد مخرَج
القلعة البغيضة، وانطلق نحو الهواء الطَّلق، وعاد إلى دَيْر نوتردام دوسيكس، وتحدَّث في
يأس بالغ إلى الناسك المقدس إلى أن وافَق على العودة معه إلى قلعة أندرمات.
إن كانت جيراند لم تَبكِ طوالَ هذه الساعات المضنية؛ فذلك لأن دموعها قد نفدت.
لم يَبرح السيد زخاريوس القاعة، وكان يَجري كل لحظة كي يَسمع دقات الساعة
القديمة المُنتظمة.

وفي هذه الأثناء دقَّت الساعة، وظهَر على وجهها الفضيكلمات أثارت الرعب الشديد
في قلب سكولاستيك، كانت كالتالي:
يجب أن يَصير الإنسان نظيرًا للرب.
لم تظهَر على العجوز أيُّ صدمة من هذا الشِّعار الفاسق، بل قرأه بسعادة بالغة،
واستغرق في أفكاره المَغرورة، بينما ظلَّ بيتوناتشو قريبًا منه.
كان مُنتصَف الليل موعد توقيع عقد الزواج. أما جيراند التي كانت شبه فاقدة للوعي
فلم ترَ أو تسمع شيئًا. ولم يَكسر صمت المكان إلا كلمات الرجل العجوز وضحكات
بيتوناتشو.
دقت الحادية عشرة، وارتجف السيد زخاريوس وقرأ بصوت عالٍ:
يجب أن يكون الإنسان عبدًا للعلم، وأن يُضحيَ في سبيله بالأقارب وبالعائلة.
«! نعم! لا يوجد في هذا العالم سوى العلم » : وصاح
كانصوت انزلاق العقارب على وجه الساعة يُشبهصوت فحيح الثعبان، وكان البندول
يدقُّ دقات متسارعة.
لم يَعُد السيد زخاريوس يتحدَّث؛ فقد سقَط على الأرض، وأصبحت حنجرته
الحياة، » : مُتحشرِجة، ولم يَخرج من صدره المُثقَل سوى هذه الكلمات شبه المتقطِّعة
«! العلم
انضمَّ شاهدان جديدان إلى هذا المشهد هما الناسك وأوبير. كان السيد زخاريوس
ممدَّدًا على الأرض، وكانت جيراند تُصلي بجواره وهي ميتة أكثر منها حية.
وفجأة سُمعت ضوضاء قوية سبقَت دقة الساعة.
فنهضالسيد زخاريوس.
«! منتصف الليل » : قال
فمدَّ الناسك يده صوب الساعة القديمة، ولم تدقَّ ساعة منتصف الليل.
أطلق السيد زخاريوسصيحة رهيبة لا بدَّ أنها سُمعت في الجحيم عندما ظهرت هذه
الكلمات:
مَن يُحاول أن يجعل نفسه نظيرًا للرب سيكون ملعونًا للأبد!

وانفجَرت الساعة القديمة بدويٍّ يُشبه الرعد، وانفلت الزنبرك عبر القاعة مُحدثًا آلاف
الالتواءات المُذهِلة؛ وهبَّ الرجل العجوز يجري خلفه محاولًا هباءً الإمساك به وهو يَصيح:
«! روحي، روحي »
قفَز الزنبرك أمامه على جانب ثم على الجانب الآخر، ولم يَستطع الوصول إليه.
وفي النهاية أمسكه بيتوناتشو، وتفوَّه ببعضالهرطقات البَشِعة، ثم غاصفي الأرض.
سقط السيد زخاريوس إلى الوراء، ومات.
ودُفن الرجل العجوز وسط قِمَم جبال أندرمات.
ثم عاد أوبير وجيراند إلى جنيف، وخلال الحياة الطويلة التي وهَبها الرب لهما ألزَما
نفسَيهما بالصلاة من أجل خلاصرُوح طريد العلم
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.