hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

كانت ليلة حارة وغائمة، اصطبغت سماؤها بحُمرة، وحُفَّتْ بغروب منتصف الصيف
الطويل المعهود. جلسا بجوار النافذة المفتوحة، وهما يحاولان تخيُّلَ أنَّ الهواءَ أكثرُ إنعاشًا
هناك. وقفت أشجارُ الحديقة وشجيراتها متصلِّبة وقاتمة؛ فخلْفَها على الطريق اشتعل
مصباحُ غازٍ ذو لهب برتقالي مُتَوَهِّج على خلفية من زُرْقة المساء المعتمة، وعلى مسافةٍ أبعد
من ذلك، أضاءَت المصابيحُ الثلاثة لإشارة السكة الحديدية في خلفية السماء المكفهرة، وراح
الرجل والمرأة يتبادلان حديثًا هامسًا.
«؟ أَلَا يساوره الشك » : قال الرجل، بلهجةٍ لا تخلو من التوتر
كلا، ليس ذلك من » : ردَّت المرأةُ بتبرُّم واضح، كما لو أنَّ ذلك قد أزعَجَها هي الأخرى
شِيَمه؛ إنه لا يفكِّر فيشيءٍ سوى المصنع وأسعار المحروقات، أما الخيالُ والشاعرية، فذلك
«. ممَّا لا يخطر له على بال
هكذا هُمْ جميعُ الرجال الذين يعملون فيصناعة » : تحدَّث الرجل بنبرةِ مَن يُطلِق حُكْمًا
«. الحديد، إنهم بلا قلب
وأشاحت بوجه مستاء نحو النافذة. «. أجل، إنه بلا قلب » : أكَّدت المرأة كلامَه قائلةً
اقترب صوتُ الهدير والصخب البعيد وارتفعَتْ درجته، وكان المنزل يهتز؛ فكانا يسمعان
صوت القرقعة المعدنية للمقطورة. وبينما كان القطار يمر، كان ثمة وهجٌ من الضوء فوق
مجرى القطار وسحابةٌ كثيفة من الدخان؛ مرَّ جسم، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة،
سبعة، ثمانية أجسام مستطيلة سوداء؛ ثماني عرباتِ شحنٍ مرت عبر العتمة الرمادية
لجسر السكة الحديدية، وفجأةً اختفَتْ واحدةً تلو الأخرى في جوف النفق، الذي بدا، مع
آخِر واحدة منها، وكأنه ابتلَعَ القطارَ والدخانَ والصوتَ في ازدرادةٍ واحدة مباغِتة.

هذا البلد كان يانعًا وجميلًا ذات يوم، أمَّا الآن، فقد صار جحيمًا. على امتداد » : قال
هذا الطريق لا شيءَ سوى ركامِ آنيةٍ فخارية ومَداخِنَ تنفث النارَ والغبارَ إلى عَنان السماء
قال الكلمة الأخيرة «. … لكِنْ فيمَ يهمُّ ذلك؟ ستحلُّ نهاية؛ نهايةٌ لكلِّ هذه الفظاعة … غدًا
همْسًا.
«. غدًا » : قالت، هامسةً بدورها، وهي لا تزال تحدِّق من النافذة
«! عزيزتي » : وضع يده على يدها قائلًا
التفتَتْ إليه جافلةً، وراح كلٌّ منهما يتأمَّل الآخَر. رقَّتْ عيناها تحت وقع نظراته. قالت:
«… كم يبدو غريبًا ظهورُك في حياتي بهذه الطريقة لتفتح » : ثم أردفت «! عزيزي الغالي »
قالَتْها وتوقفت.
«؟ لأفتح » : ردَّ متسائلًا
وأردفت وهي لا تزال تتحدَّث برقةٍ بالغة: «. هذا العالَم الرائع كله » : قالت مترددة
«. لتفتحَ لي عالَمَ الحب هذا »
ثم فجأةً، طقطَقَ الباب وأغُلِق. أدارا رأسَيْهما، والتفَتَ هو بعنفٍ إلى الخلف. في ظُلْمةِ
الغرفة، كان يقف ساكنًا، كَيانٌضخمٌ غيرُ واضحِ المَعالِم. لم يتبيَّنا وجهه بوضوح في الضوء
الرمادي الخافت، وكان ثمة بقعٌ داكنة تحت حواجبه الكثَّة. توتَّرَتْ فجأةً كل عضلة في
جسد راوت. متى يا تُرَى فُتِح الباب؟ وماذا سمع؟ أسَمِع كلشيء؟ وماذا رأى؟ اصطخبت
في رأسه الأسئلة.
«! حسنًا » : وأخيرًا، جاء صوتُ القادمِ الجديد بعدَ صمتٍ بَدَا كأنه أبديٌّ، فتكلَّمَ قائلًا
وبصوتٍ مُرتبِك، أجاب الرجل الواقف عند النافذة وهو يقبض بيده على إفريزها:
«. خشيتُ أن تكون قد ذهبتَ دون أن ألتقِي بك، يا هوروكس »
تَقَدَّمَ جسد هوروكس غير المتناسِق خارجًا من الظُّلْمة. لم يُجِب بشيءٍ على تعليق
راوت، وللحظة، كان يقف بقامته الفارعة جاثمًا أمامهما يُراقِبهما.
لقد أخبرتُ السيد » : كانت المرأةصلبةً لا مُبالِية، وقالت بصوتٍ ثابت لم يرتعشمطلقًا
«. راوت بأنه من المحتمَل جدٍّا أنك ربما ترجع
أما هوروكس، الذي ما زال صامتًا، فكانت يداه الكبيرتان مقبوضتَيْن؛ وتحْتَ ظلِّ
حاجبَيْه كان الناظر ليرى حينئذٍ لهيبَ عينَيْه. كان يحاول أن يلتقط أنفاسه، وانتقلت عيناه
من المرأة التي كان قد وثِقَ فيها إلى الصديق الذي كان قد وثِقَ فيه، ثم إلى المرأة مرةً أخرى.

بحلول ذلك الوقت، وفي اللحظة الحاضرة، لم يكن الثلاثة يفهم أحدُهم الآخَرَ بالكامل،
لكنَّ أحدًا منهم لم يجرؤ على أن يلفظ كلمةً واحدة يُفصِح بها عما يجيش في صدره
ويخنقه.
وأخيرًا، كان صوت الزوج هو ما كسر الصمت.
«؟ أكنتَ تريد مُقابَلتي » : وجَّهَ حديثَه إلى راوت قائلًا
قالها وهو عازمٌ على الكذب «. لقد جئتُ كي أقابلك » : جفل راوت عندما تكلَّم، وقال
حتى النهاية.
«. هاتِ ما عندك » : ردَّ هوروكس قائلًا
«. وعدتَ أن تُرِيَني بعضَالتأثيرات الجميلة لضوء القمر والدخان » : قال راوت
وعدتُ أنْ أرُِيَك بعضَالتأثيرات الجميلة لضوء القمر » : كرَّرَ هوروكس بصوتٍ رتيب
«. والدخان
وظننتُ أنني قد أدُرِكك الليلةَ قبل أن تمضيفي سبيلك إلى » : تابَعَ راوت حديثَه قائلًا
«. الورش، فآتي معك
سادَتْ لحظةٌ أخرى من الصمت. هل كان الرجل يَتعمَّدُ أن يأخذ الأمرَ بعدم اكتراث؟
هل كان مع ذلك يعرف؟ منذ متى كان في الغرفة؟ ومع ذلك، فحتى في اللحظة التي سمعا
فيها صوتَ الباب، كانت تصرُّفاتُهما … ألقى هوروكس نظرةًسريعة على الملامح الجانبية
للمرأة، التي كانت شاحبةً تكسوها الظلالُ في الإضاءة الرمادية الخافتة. ثم ألقى نظرةً
بالطبع، لقد وعدتُك أن أرُِيَك الورشَ » : سريعة على راوت، وبَدَا أنه يسترجع نفسه فجأةً. قال
«. في ظروفِ عمَلِها الشاقَّة الحقيقية. غريبٌ أنني نسيت ذلك
«… إن كنتُ أزُعِجك » : همَّ راوت بالحديث قائلًا
تحرَّكَ هوروكسبغتةً مجدَّدًا. كانضوءٌ جديد قدسرى فجأةً في اكفهرارِ عينَيْه المتَّقِد
«. كلا، على الإطلاق » : انفعالًا، وقال
هل كنتَ تُحَدِّث السيد راوت عن كلِّ تبايُنات اللهب والظل تلك التي تراها بديعةً »
قالت المرأة ذلك مُلتفِتةً في تلك اللحظة إلى زوجها للمرة الأولى، وثقتُها آخِذةٌ في «؟ للغاية
يا لنظريتك » : التسلُّل عائدةً إليها من جديد، وصوتها أعلى قليلًا مما ينبغي. وأضافت قائلةً
المريعة تلك عن أنَّ الآلات جميلة، وكل ما عَدَاها في العالَم قبيح! ظننتُ أنه لن يُعْفِيَكَ من
كانت ثقتها بدأت «. سماعها يا سيد راوت. إنها نظريته العظيمة، واكتشافه الوحيد في الفن
تتسلَّل إليها من جديد، أما صوتها فقد كان أعلى قليلًا.

إنني بطيءٌ في » : قال السيد هوروكس بتجهُّم، ممَّا جعلها تخفِّف من نبرتها فجأة
قال ذلك ثم توقَّف. «… التوصُّل إلى اكتشافات، لكنَّ ما أكتشِفُه
«؟ ما باله » : قالت
وانتصَبَ واقفًا بغتةً. «. لاشيء » : أجاب
ووضع يدَه الكبيرة الخرقاء على كتف «. وعدتُك بأن أريك الورش » : قال مُخاطِبًا راوت
«؟ هل أنت مستعِدٌّ للذهاب » : صديقه، وأضاف قائلًا
وانتصب واقفًا هو الآخَر. «. مستعِدٌّ تمامًا » : قال راوت
ساد الصمت مُجدَّدًا، وبصعوبةٍ حدَّق كلُّ واحد منهم في الاثنين الآخَرين عبر ضبابية
الرؤية في الغَسَق. كانت يد هوروكس لا تزال مستقرةً على كتف راوت. كان راوت لا يزال
يُخَيَّل إليه بقدرٍ كبير أنَّها كانت حادثةً تافهة على أي حال، ولكنَّ السيدة هوروكس كانت
أدرى بزوجها، وميَّزَتْ ذلك الهدوءَ المتجهِّم في صوته، واتخذ ما في عقلها من ارتباكٍ هيئةً
قالها هوروكس وأنزل يده، مستديرًا إلى الباب. «. حسنٌ جدٍّا » . مُبهَمةً لشرٍّ مادي
«؟ قبعتي » : نظر راوت حوله في الإضاءة الرمادية الخافتة متسائلًا
«. تلك سلة الأشغال خاصتي » : قالت السيدة هوروكس في نوبة من الضحك الهستيري
ألَحَّ عليها باعثٌ أن تُحذِّرَه بصوت خفيض، «! ها هي » : تلاقَتْ أيديهما على ظهر الكرسي. قال
تصارعَتْ هذه الكلمات في «! احذرْ منه » «! لا تذهب » . لكنها لم تستطع أن تُعبِّرَ ولو بكلمة
ذهنها، وانقضت تلك اللحظة الخاطفة.
«؟ هل أحضرْتَها » : قال السيد هوروكس، وهو واقف والباب مُوارَب
خطا راوت نحوه. وبنبرةٍ هادئة أكثر تجهُّمًا من ذي قبل، قال صاحبُ مصنع الحديد:
«. من الأفضل أن تُوَدِّع السيدة هوروكس »
وتلامست يداهما. «. أمسيةٌ سعيدة يا سيدة هوروكس » : انتفَضَراوت واستدار، وقال
أبقى هوروكس البابَ مفتوحًا في تهذيبٍ شَكْلي غير معتاد من جانبه تجاه الرجال.
خرج راوت، ثم تبعه هوروكسبعد أن رمقها بنظرةصامتة. وقفت ساكنةً بينما راح الوقْعُ
الخفيف لأقدامِ راوت وخطواتِ زوجها الثقيلة، مثل إيقاعٍ خفيضوآخر جهير، يجتاز الممرَّ.
صُفِق البابُ الأمامي بقوة، وتحركت هي ببطء نحو النافذة، ووقفت فيها تتطلع إليهما وقد
مالت بجسمها إلى الأمام. ظهر الرجلان للحظةٍ عند البوابة في الطريق، ومَرَّا تحت مصباح
إنارة الشارع، واختفيا بين تجمُّعات الشجيرات القاتمة. سقط ضوء المصباح للحظةٍ على
وجهَيهِما، لكنَّه لم يُبدِ سوى بُقعٍ باهتة لا معنى لها، لا تُفْصِح عنشيءٍ مما كانت لا تزال

تخشاه، وتشكُّ فيه، وتتوق عبثًا إلى معرفته. ثم غاصت في الكرسيِّ الكبير ذي الذراعين
متخذةً وضعية القُرفُصاء، وعيناها مفتوحتان على اتساعهما وهي تُحدِّق عبر النافذة في
الأضواء الحمراء المنبعثة من الأفران التي كانت تومضفي السماء. وبعد مُضيِّساعة، كانت
لا تزال في المكان نفسه، ووضعية جسدها لم تشهد تغييرًا يُذكر.
كان سكون المساء الطاغي ثقيل الوطأة على راوت. سارا في الطريق جنبًا إلى جنب في
صمت، وفي صمتٍ استدارا ومضيا نحو الطريق المكسوِّ بالرماد الذي سرعان ما أفضىإلى
مشهد الوادي.
غشاوة زرقاء، نصفها غبار ونصفها ضباب، أضفت على الوادي لمسةً من الغموض.
وفيما وراءه، كانت تقع هانلي وإتروريا، وهما عبارة عن تجمُّعات سكنية رمادية ومعتمة،
ويحفهما إطار رفيع من البُقع الذهبية القليلة المنبعثة من مصابيح إنارة الشارع، وهنا
وهناك تُرى نافذة مضاءة بمصباحٍ غازي، أو الوهج الأصفر الذي يَصدر من مصنعٍ يعمل
حتى ساعةٍ متأخرة أو من حانةٍ مزدحمة. ومن بين هذه التجمُّعات، ارتفع حشدٌ من المداخن
العالية، واضحة وممشوقة في سماء المساء، العديد منها ينبعث منه الدخان، وقلة منها بلا
وهنا وهناك تجد بقعةً باهتة وأشكالًا طيفية غير مكتملة، ،« اللهو » دخان أثناء موسم
تُشبِه في هيئتها قفير نحل، كانت تدل على مكان ورشة فخَّار، أو دولابٍ دَوَّارٍ يبرز أسودَ
ومسننًا تحت السماء الحارة الغائمة، كان يشي بوجود منجم فحمٍ ما حيث يستخرجون
الفحم متقزح اللون من المكان. وعلى مسافةٍ قريبةٍ للغاية، امتدشريط السكة الحديدية على
نطاقٍ شاسع، وكانت قطارات غير واضحة المعالم تتناوب باستمرارٍ إطلاق نفثات الدخان
والهدير، ومع كل انطلاقة، كنت تسمع صوتَ ارتجاجٍ مدوِّيًا وسلسلةً من التصادمات ذات
الإيقاع المتناغم، وترى عبر مدى الرؤية الأبعد انبعاثًا لنفثاتٍ متقطعةٍ من بخارٍ أبيض. وإلى
اليسار، فيما بين السكة الحديدية والكتلة القاتمة المتمثلة في التل المنخفض على الجانب
البعيد، الذي يهيمن على مجال الرؤية بأكمله، كانت الأسطوانات العظيمة لشركة جدة
لأفران الصهر تقف عملاقة، وسوداء كالحبر، ويعلوها الدخان وألسنة اللهب المتقطعة،
وكانت بمثابة الصروح المركزية في مصنع الحديد الضخم الذي كان هوروكس مديره.
انتصبت ثقيلة ورهيبة، تحفل بثوَران مستمر من ألسنة اللهب والحديد المنصهر المتأجج،
ونحو أسفلها صلصلت طواحين الدرفلة، بينما راحت المطرقة البخارية تدقُّ بقوةٍ وتنثر
شرارات الحديد هنا وهناك. وفي اللحظة نفسها التي كانا ينظران فيها، قُذِف قدر هائل من

المحروقات في إحدى هذه الآلات العملاقة واندلعت تتألق منها ألسنةُ لهبٍ حمراء، واندفع
خليط هائج من الدخان والغبار الأسود إلى أعلى نحو السماء.
لا بد أنك تظفر بتأثيراتٍ » : قال راوت، كاسرًا حاجزًا من الصمت كان قد غدا مُقلِقًا
«. لونية جميلة بأفرانك تلك
غمغم هوروكس. وقف واضعًا يدَيه في جيبَيْ ثوبه، وهو يُقطِّب ناظرًا إلى أسفلَ نحو
السكة الحديدية الغائمة بالبخار، وإلى مصنع الحديد الدائر الكائن خلفها، مُقطِّبًا كأنه
يفكِّر في مشكلةٍ معقدة.
ألقى عليه راوت نظرةً خاطفة ثم راح ينظر إلى بعيدٍ من جديد، ثُم تابَعَ حديثه وهو
حاليٍّا، لم يَحِنْ بعدُ وقتُ تأثيرِ ضوء القمر الذي كنتَ تُحدِّثني عنه؛ إذ » : ينظر إلى الأعلى
«. لا تزال بقايا ضوءِ النهار تغطِّي القمر
بقاياضوء النهار؟ » : حدَّقَ فيه هوروكسووجهُه يعلوه تعبيرُ مَن استفاق فجأةً، وقال
نظر هو أيضًا إلى الأعلى حيث القمر لا يزال شاحبًا في سماءِ منتصفِ «. بالطبع، بالطبع
ومُمسِكًا بذراع راوت في يده، توجَّهَ صوبَ الدرب الذي «. تعالَ معي » : الصيف. قال فجأةً
كان ينحدر بهما مؤدِّيًا إلى السكة الحديدية.
تخلَّفَ راوت، والتقَتْ أعينُهما ورأيا آلافَ الأشياء التي كادت أعينُهما تُفصِح عنها.
شدَّد هوروكس قبضةَ يده ثم أرخاها. أفلت ذراعَه، وقبل أن يدرك راوت، كانا يسيران معًا
في الطريق، ذراعًا في ذراع، على غير رغبة منهما.
بدأ هوروكس في الحديث واندفع فجأةً في الثرثرة، وهو يسير بسرعةٍ بخُطًى واسعة،
انظر إلى هذا التأثير الرائع لإشارات » : مُحكِمًا في الوقت نفسه مسكة كوعه، وهو يقول
السكة الحديدية ناحية بورسلِم. أضواءٌ خضراء وحمراء وبيضاء صغيرة، وجميعها يغطِّيه
الضباب. إن لديك رؤيةً جيدة للتأثيرات الجميلة يا راوت، وهو تأثيرٌ جميل. وانظر إلى
أفراني تلك وهي ترتفع فوقَنا بينما نهبط التل. ذاك الأيمنُ الذي يبلغ ارتفاعُه سبعين قدمًا
هو المفضَّل لديَّ. لقد حشوتُه بنفسي، ولقد استمر في الغليان بابتهاجٍ بمَعِية الحديد الذي
في أحشائه على مدى خمس سنوات طوال. إنني مُولَعٌ به ولعًا شديدًا. ذلك الصف من اللون
الأحمر هناك، الذي قد تسمِّيه، يا راوت، برتقاليٍّا دافئًا جميلًا، هو أفرانُ التسويط. وهناك،
في الضوء المُتَوَهِّج، تكويناتٌ سوداء ثلاثة، أرأيتَ الرذاذ الأبيضالمنبعث من مطرقة البخار؟
إنها طواحين الدرفلة. فَلْتأتِ معي! رنين وطقطقة، هكذا لا تبرح تسمع هذه القرقعة على
الأرضية! إنها ألواحُ القصدير يا راوت، مادة رائعة. إن المرايا الزجاجية لا تضاهي هذه

الأشياءَ في درجةِصقْلِها حين تخرج من الطاحونة. وبعد ذلك، تُسحَق! إذ يأتي دور المطرقة
«! مجدَّدًا. هيا بنا
كان لا بد أن يتوقف عن الحديث كي يلتقط أنفاسَه، والْتَفَّت ذراعُه بإحكامٍ حول ذراع
راوت حتى خَدِلت، وكان قد أقبَلَ يمشي بخُطًى واسعةٍ، وكأنما كان ممسوسًا، في الدَّرْب
ذي اللون الأسود باتجاه السكة الحديدية.
لم ينبس راوت ببنت شفة، فلم يكن يفعل شيئًا سوى أنه كان يَتراجع مُقاوِمًا، بكل
ما أوُتِي من قوةٍ، جذْبَ هوروكس له.
وهو يضحك بعصبية، ولكن مع نبرةِ زمجرةٍ مكبوتة في «. اسمع » : وها هو الآن يقول
«؟ هوروكس! ما بالك تقبضعلى ذراعي، وتجرُّني إلى جانبك هكذا » : صوته
أقبضُ » : أفلت هوروكس قبضتَه بعد فترةٍ من الوقت، وتغيَّرَتْ طريقته من جديد. قال
«. على ذراعك؟ آسِف، ولكنْ أنت مَن علَّمَني عادةَ السَّيْرِ بهذه الطريقة الوديَّة
إنك لم تتعلَّم آدابَها بعدُ إذن، يا إلهي! لقد » : قال راوت وهو يَتصنَّعُ الضحك مجددًا
«! أصبتَني بكدمات
لم يُقدِّم هوروكسأيَّ اعتذار. كانا يقفان في ذلك الحين قريبَين من سفح التل، بالقرب
من السياج الذي كان يحيط بالسكة الحديدية. بدا مصنع الحديد أكبرَ حجمًا واتساعًا مع
اقترابهما منه. كانا ينظران حينئذٍ نحو أفرانِ الصهر إلى أعلى بدلًا من النظر نحوها إلى
الأسفل، وكان المشهد القَصِيُّلإتروريا وهانلي قد توارَى عن الأبصار مع هبوطِهما. وأمامَهما،
وقد «. احترسمن القطارات » : إلى جوار المرقى برزَتْ لافتةٌ تحمل عبارةً كانت تبدو مغبشة
أخفاها جزئيٍّا رذاذُ الطين الفحمي.
تأثيرات بديعة، ها هو قطارٌ آتٍ. نفثات الدخان » : لوَّحَ هوروكس بذراعه قائلًا
المتصاعدة منه، وذلك الوهج البرتقالي، وعين الضوء المستديرة في مقدمته، وتلك القعقعة
العذبة؛ كلها تأثيراتٌ بديعة! غير أنَّ أفراني هذه كانت أبدع، قبل أن نحشر الأقماعَ في
«. حلوقها ونقتصد في الغاز
«؟ كيف؟ أقماع » : ردَّ عليه راوت متسائلًا
أقماع يا صديقي، أقماع. سأرُِيك أحدَها من مسافةٍ أقرب. فيما مضى كانت ألسنةُ »
اللهب تضطرم خارِجةً من الحلوق المفتوحة، أمر رائع! ماذا في ذلك؟ أعمدة سحاب من
الدخان الأحمر والأسود في النهار، وأعمدة من نار في الليل.

أمَّا الآن فنحن نشغِّلها بأنابيب، ونوقدها لتسخين تيار الهواء، ويُغلَق الجزء العلوي
«. بقِمْع، سيُثِير ذلك القِمْعُ اهتمامك
«. ولكن بينَ الفَيْنةِ والأخرى، يحدث اندفاعٌ للنار والدخان هناك في الأعلى » : قال راوت
القِمْع ليسمثبَّتًا، وإنما مُعلَّقٌ من رافعةٍ بسلسلة، ويُضْبَط اتزانُه بثقلٍ موازِن. سوف »
تراه عن قُرْب. وبخلاف ذلك، بالطبع، لن يكون ثمة سبيلٌ لإيصال المحروقات إلى داخل
«. الفرن. وبينَ الفَيْنةِ والأخرى ينخفضالقِمْع، ويخرج الوَهَج
«. القمر يزداد سطوعًا » : نظر خلف هوروكس، وقال «. حسنًا، فهمت » : قال راوت
وهو يُمسِك بكَتِفه مجددًا، ويحرِّكه فجأةً باتجاه مَزْلَقان «. هيا » : فجأةً قال هوروكس
السكة الحديدية، ثم طرأت إحدى تلك الوقائع الخاطفة، التي تكون شديدةَ الوضوح، لكنها
تمرُّ سريعًا فتترك المرءَ مرتابًا وحائرًا. ففي منتصف المَزْلَقان، أطبقت عليه يدُ هوروكس
بإحكام، وأدارَتْه نصفَ استدارة عَكْسِيٍّا، حتى صار مُواجِهًا لشريط السكة الحديدية.
وعندئذٍ تداخلَتْ بسرعة شديدة سلسلةٌ من نوافذ العربات المُضاءة بالمصابيح مع دُنوِّها
باتجاههما، وراحت الأضواء الحمراء والصفراء للقاطرةٍ تكبر أكثرَ فأكثر، وهي تندفع
نحوهما. وحينما استوعب ما كان هذا يعنيه، أدار وجهَه إلى هوروكس، وقاوم، بكل ما
أوتي من قوة، تلك الذراعَ التي كانت تمسك به بين القضبان. لم يَدُم الصراعُ ولا لحظة
واحدة؛ فكما كان من المؤكَّد أن هوروكس كان يُمْسِك به هناك، كذلك كان من المؤكَّد أنه
سحَبَه بعنف بعيدًا عن الخطر.
قالها هوروكس وهو يلهث، بينما مر بهما القطار وهو يقعقع، «. ابتعِدْ عن الطريق »
ووقفا يلهثان أمام البوابة المؤدِّية إلى مصنع الحديد.
وهو لا يزال يحاول الإبقاء على مظهر الحوار العادي، «. لم أدرك أنه قريب » : قال راوت
بالرغم من هواجسه الداخلية.
ظننتُ أنك » : ثم تابَعَ كمَن يحاول أن يستعيد تمالُكَ نفسه «. القِمْع » : غمغم هوروكس
«. لم تسمعه
«. لم أفعل » : أجاب راوت
«. لم أكن لأدعه يدهسك حينذاك مهما كلَّفَ الأمر » : ردَّ هوروكس
«. لقد فقدتُ رباطةَ جأشيللحظة » : تحدَّث راوت
وقف هوروكسلنصف دقيقة، ثم استدار مجددًا بغتةٍ نحوَ مصنع الحديد. ثم تحدَّثَ
انظر إلى روعة تِلالي العظيمة هذه، هذه الأكوام من رماد الأتون، انظرْ إليها » : إلى راوت

في ظُلْمة الليل! تلك الشاحنة هناك، هناك بالأعلى! ها هي تصعد إلى الأعلى، وتسوي خبث
الصهر. وانظر إلى هذه المادة الحمراء النابضة وهي تنزلق على المنحدر. كلما اقتربنا، ازداد
ارتفاع الكوم وغطَّى الأفران اللافحة. انظر إلى الارتعاش في أعلى الكوم الكبير. كلا، ليس
في هذا الاتجاه! هناك، بين الأكوام. إنه يذهب إلى أفران الصهر، لكني أرغب في أن أريك
اقترب من راوت وأخذه من مرفقه، وسارا جنبًا إلى جنب. كان راوت يرد على «. القناة أولًا
هوروكس على نحو غامض. راح يسأل نفسه: ما الذي حدث حقٍّا علىشريط القطار؟ أكان
يُضلِّل نفسه بخيالاته، أم أنَّ هوروكس كان يمسك به فعلًا في طريق القطار؟ أكان لتوِّه
على شفا التعرُّضللقتل؟
هل من المتصوَّر أن هذا الوحش المترهل العابس عرف أيَّ شيء؟ لدقيقة أو دقيقتين
حينذاك كان راوت يخشىعلى حياته، لكنَّ ذلك الشعور انحسَرَعنه حين راح يفكِّر في الأمور
بصورة منطقية. ففي النهاية، ربما لم يسمع هوروكس شيئًا. وعلى أي حال، فقد أبعَدَه
عن الشريط في الوقت المناسب. لربما كان سلوكه الغريب نابعًا من مجرد غِيرته المبهمة
التي كان قد أبداها ذات مرة من قبل. كان عندئذٍ يتحدث عن أكوام الرماد والقناة. قال
«؟ رائع! أليس كذلك » : هوروكس
«! ماذا؟ بالتأكيد! الضباب في ضوء القمر! رائع » : أجابه راوت
إنَّ قناتنا في ضوء القمر » : وتوقف فجأة. ثم تابع قائلًا «. قناتنا » : قال هوروكس
وضوء النار لتأثير انطباعي هائل. ألَمْ تَرَها من قبلُ؟ غير معقول! لقد قضيتَ العديدَ من
أمسياتِك تغازِلُ النساءَ هنالك في نيوكاسل. أؤكِّد لك أنها تمنحك تأثيراتٍ جماليةً حقيقية،
«… لكنك سترى. المياه المغلية
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.