Za7makotab

شارك على مواقع التواصل

نظراتٌ حادة تترقب كل جزء يمر به ذاك الفارس الوسيم.
شعره الأسود يتدلى أسفل العمامة التي يضعها على رأسه ليتلاشى حرارة الشمس.
قطرات العرق تتساقط من على وجهه كتساقط الأمطار على ورقات الشجر.
عيون واسعة مترقبة كعيون الصقر الذي ينتظر ظهور فريسته لينقض عليها بخنجره.
(ظــــــــافــــــــر) شابُّ مفتول العضلات، يرتدي زي البدو الفضفاض ويمسك بيده عصا سميكة ملتوية إلى حدٍّ ما.
وقف ظافر للحظات ليلتقط أنفاسه وأسقط من خلف ظهره لفافةً يحملها أخرج منها قربة الماء، وارتشف قدرًا صغيرًا ليُبلل فمه، فكانت حرارة الشمس لا تُطاق ويأمل أن تصمد باقي المياه معه حتى يُكمل ما أتى من أجله.
ظل يسير ويسير وكأنه يستمتع بالسير في تلك الصحراء حتى إنه بدأ يدندن ويطلق صفيرًا ولا يُبالي بحرارة الشمس أو مِن السير وحيدًا في هذا المكان.
توقف (ظافر) فجأةً حينما لمح من بعيدٍ شيئًا ما ملونًا ملقى على الأرض.
أسرع إليه ليتحقق منه، فوجد جسد فتاة مغطى بالرمال، وشعرها يتطاير على وجهها ليخفي ملامحه.
جلس (ظافر) على ركبتيه وأمسك بحذرٍ خصلات شعر الفتاة ليبعدها عن وجهها.
لمعت عيناه عندما رأى جمالها العربي الطاغي وبعد شروده بدقائقَ معدودةٍ سحب قارورة الماء، ووضع بعض القطرات على وجه الفتاة وعلى فمها الوردي.
ما إن شعرت بتول بقطرات الماء على فمها حتى بدأت تستعيد وعيها وأمسكتْ بقوةٍ يد ظافر لتلقف منه قارورة الماء وتسكبها بقوة داخل فمها.
غضب ظافر وصاح بها:
- صبرًا يا فتاة لا تشربي الماء كله؛ فليس لدي الكثير ليكفيني، هيا دعيها فقد شربتِ مقدار ما يروي ظمأكِ.
انتبهت بتول ونظرت إليه في دهشة قائلة:
- من أنت؟ ومن أين أتيت؟!
نظر إليها ظافر بحدة وبعد صمته بلحظات قال:
- أتيتُ من حيث أتيتِ يا جميلة الصحراء.
انتفضت بتول من موضعها محاولة الوقوف وسرعان ما سقطت مرة أخرى.
- رأسي.....
- ما بكِ؟ هل تأذيتِ.
- لقد ارتطمتُ بشدةٍ على الأرض عندما أسقطني ذاك الغبي (رمح).
- من هو رمح؟ صديقك؟!
- هاهاهاها، بل الفرس الغبي الذي كنت أمتطيه.
- نعم فهمت ومتوقع منه أن يُسقطك هكذا.
نظرت إليه بتول بعمقٍ ودهشة بعد تلك الجملة قائلة:
- ولماذا مُتوقع منه إسقاطي؟!
- لأن أي حيوان، أو أي مخلوق بمعنى أدق لديه ولو قليل من الذكاء لا يمر من هنا أبدًا.
- ماذا تقول؟
- مثلما سمعتِ، هل تعلمين أين أنتِ الآن يا جميلة؟
- لا، وكيف لي أن أعلم؟؟ لقد ركضتُ مبتعدة قدر المستطاع، وكان الظلام دامسًا، وذاك الغبي رمح أخذ يجري ويجري حتى توقف هنا، أين أنا؟
اقترب ظافر من وجهها وهمس في أذنها:
- أنتِ في الربـــــــــع الخــــالــــــي عزيزتي.
تسمرت بتول قليلًا وفتحت فمها عن آخره ثم قالت وهي ترتجف: "أهذا الذي يروون عنه الأساطير الخرافية ما بين سحر وشياطين ووحوش وغيرهم من الأهوال؟".
- نعم، هو كذلك أيتها البلهاء.
صاحت بتول بغضب:
- لا تقل بلهاء، وإذا كنت كذلك فأنت مثلي تمامًا؛ على الأقل أنا لا أعلم أين أنا، وأنت أتيت إلى هنا وأنت على علمٍ بهذا المكان.
- حسنًا أصبتِ يا سمراء ولكن لديَّ أسبابي.
- وما هي أيها الذكي؟!
ارتبك ظافر ثم قال:
- قولي لي أولًا لماذا أتيتِ أنتِ إلى هنا؟!
- كنت أفر من السجن.
- ماذا؟!
- نعم كما سمعت، كنت سجينة شاهين طوال عمري.
اتسعت عين ظافر حين ذكرت اسم شاهين:
- تقصدين "شاهين" أكبر تجار الذهب هنا؟!
- نعم، يا إلهي أنت تعرفه، بالتأكيد سترشده عن مكاني.
نهضت بتول ودفعت "ظافر" بعيدًا عنها فسقط على الأرض ثم ركضتْ مبتعدة عنه فسقط منها الكيس الذي يحوي المال والحليّ.
التقطه ظافر بسرعة وفتحه فتوقفت بتول وهي تلهث من التوتر والتعب.
ابتسم ظافر ممسكًا بيده المال والذهب قائلًا بسخرية:
- الآن فهمتُ أيتها اللصة، سوف أسلمكِ للحاكم لتأخذي عقابك وأُعيد لشاهين ما سُرق منه.
سقطت الدموع على وجه بتول وتوسلت إليه:
- أرجوك لا تفعل، أنا لم أسرق أي شيء، لقد أعطتها لي السيدة سهر زوجته وهي من ساعدني على الفرار منه بعد ما قرر الزواج بي رغمًا عن إرادتي.
- هل حدث ذلك فعلًا؟!
- أقسم بالله هذا ما حدث.
- لا أصدق كلامك أيتها اللصة الجميلة فلتأتي معي.
- أنت لا تصدقني بعد أن أقسمت لك، حسنًا لتأخذ النقود والذهب ولتذهب بها إلى الجحيم.
- هاهاهاها أنا في الجحيم من الأساس.
تغيرت نظرات ظافر فجأة وأصبحت مرعبة وحادة بصورة ملفتة، رمى النقود والذهب من يده ثم أسرع تجاه بتول.
- تعالَي هنا يا لصة، لن تستطيعي الهروب في هذا المكان.
ركضت بتول وظل هو يركض خلفها ثم خارت قواها من العطش والجوع والخوف فتوقفت فجأة وهي تبكي، فـأمسك بها ظافر من الخلف وجذبها بشدة من يديها.

رفعت بتول وجهها لتنظر إليه وبعينيها الساحرتين جعلته يتسمر في مكانه.
- أرجوك لا تفعل هذا، كفاني من الظلم ما تذوقت، فلن يرحمني شاهين إذا عثر عليَّ، أرجوك يا.... ما اسمك؟
همس ظافر وهو يقترب منها، شاردًا في سحر عينيها.
- ظافر، أنا ظافر.
- حسنًا ظافر أرجوك ساعدني للخروج من تلك الصحراء والذهاب بعيدًا عن أي مكان يستطيع شاهين الوصول إليه.
- سوف أحاول أن أصدق ما ذكرتِه عن محاولة هروبك من شاهين وسوف أحاول مساعدتكِ ولكنكِ ابتعدتِ كثيرًا عن الطريق الرئيسي وإذا عُدتِ من هذا الاتجاه ستجدي نفسك في المكان نفسه الذي أتيتِ منه، لكن..........
- لكن ماذا؟!
- لكن إذا سلكنا الاتجاه المُعاكس سوف نذهب لمكانٍ آخر بعيدٍ لن يصل شاهين إليكِ فيه ولا حتى سيفكر بوجودكِ هناك.
- وهذا ما أريده تمامًا، أرجوك دعنا نرحل إلى هناك.
- تريثي أيتها البلهاء، ليس بتلك السهولة، الطريق محفوف بالمخاطر وتكسوه الأساطير المخيفة؛ فهو بؤرة الأحداث جميعها.
- أتقصد...........

- نعم منتصف الربع الخالي، حيث لقى الكثيرون حتفهم هناك وكثرت الأقاويل حول طريقة موتهم؛ فمنهم من قال إنهم قُتلوا على يد لصوص كانوا يبحثون عن الذهب، ومنهم من قال إن الكُثبان الرملية التهمتهم، ومنهم من قال....... إنهم قد تم تمزيقهم من وحوش لم نرَها من قبل، وأخيرًا قيل إنهم اختفوا في (إرم) المكان الأجمل في العالم الذي لم يتم العثور عليه من قِبل كل علماء التاريخ (موطن قوم عاد) وقيل إنه يستوطنه الجن وهم من يقومون بخطف كل ما هو حي يمر من هناك.
ساد الصمت قليلًا ثم نظر ظافر بدهشة إلى بتول قائلًا:
- لمَ لا أراكِ ترتجفين مما ذكرته، أنتِ على بعد خطوات من الهلاك، ألا تخشين ذلك؟!
ضحكت بتول بصوتٍ عالٍ وقالت بسخرية:
- لا يا ظافر أنا لا أخشى كل هذا، وعلى علمٍ بكل ما قيل عن تلك الأماكن، لكن لا أخشى شيئًا ولا حتى الموت نفسه.. فلن يحدث لي أكثر مما حدث.
قالتها وهي تنظر إلى عينيه بحدة مما أثار دهشة وخوف ظافر وحتى يخفي ارتيابه قال في تلعثم:
- هيا، الطريق طويل وعلينا السير مسرعين ولكن سأقوم بتوصيلك لبداية الطريق فقط وستكملين بمفردك، فأنا عكسك أخشى الموت.........

قاطعته بتول مبتسمة:
- وتخشى الجن والوحوش أيضًا؟!
وقف ظافر ونظر إليها وضيق من نظراته قائلًا:
- بتُّ أخشاكِ أنتِ أيتها الساحرة.
سارت أمامه بخفة ودلال قائلة:
- هناك أربعة أنواع من الخوف، أولها: الخوف من الله، وثانيها: أن تخشى الوقوع في حب أحدهم، أما ثالثها: أن تخاف من شدة الرعب، ورابعها: الخوف من الفقد أو الفراق، لكن صدقني خوفك من الله نجاة أما البقية فكلهم يؤدون إلى هلاكك لا محال هاهاهاهاها، فعليك توخي الحذر قبل أن تقع في حب بتول.
- اسمك بتول؟
- نعم نسيت أن أخبرك من قبل، أعشق هذا الاسم وخصوصًا أن أبي الغالي هو من اختاره لي (بتول طاهر عبدول)............
- لقب العائلة عبدول؟؟
- نعم، بلا فخر.
صمت ظافر وهو يُكمل سيره ولم ينبس ببنت شفة، كان فقط ينظر أمامه شاردًا في شيء ما يدور بذهنه.
لاحظت بتول صمت ظافر غير الطبيعي فقاطعت تفكيره:
- هل تتلاشى النظر إليّ، اعترف ولا تخجل.
- ولمَ أفعل ذلك؟
- هل تعلم أن اللقاء ليس إلا بداية فراق فافرح بلقاء أحدهم قدر ما استطعت.
- بل أعلم الآن أن لقاءك هو بداية هلاكي أنا.
- تقول ذلك بسبب المكان الذي ننوي الذهاب إليه؟
- بل تنوي وحدكِ، صححي جملتكِ فهناك فرقٌ كبير.
- لماذا تخاف هكذا على الرغم من أنك تجوب الصحراء وتعلم كل جزءٍ بها وعلى علم أيضًا بالأساطير التي تُقال عنها ومع ذلك تسير فيها وحيدًا، ظافر... ماذا كنت تفعل قبل أن تجدني ملقاة على الأرض وليس لديك أي شيء سوى تلك اللفافة الغريبة، تُرى ما بداخلها؟ أعطني إياها لأرى بنفسي.
صرخ ظافر:
- اتركي أشيائي وإلا تركتك وحيدة، ليس لكِ شأنٌ بما أفعله أو أنوي فعله، ما نحن إلا غريبان التقيا بنفس الطريق، لتسيري في صمت الآن.
بالفعل سكتت بتول وامتلأت عيناها بالدموع.
شعر ظافر بطريقته الفظة معها فوقف قليلًا قائلًا لها:
- حسنًا أعتذر بتول عما صدر مني ولكن اعذريني فجأة شعرت أني مرتبك وفي طريقي للتورط في شيء ما أكبر من شجاعتي.
- لا بأس يا ظافر، أنا من يجب عليه الاعتذار وأيضًا يجب عليَّ أن أشكرك على مساعدتك لي فقد كدت أموت لولا أن عثرت عليَّ.
- حسنًا لا تصمتي واحكي كيف وقعتِ في يد شاهين.
حكت بتول قصتها من وقت فراق والديها حتى سقوطها في الصحراء وعلم ظافر بكمّ معانتها منذ صغرها (فكيف لهذا الجمال أن يبكي وحيدًا؟ وكيف لهذا القلب لا ينبض إلا ألمًا)
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.