Za7makotab

شارك على مواقع التواصل

الأربعاء – السادس عشر من إبريل
مدينة قليوب – مصر
الساعة الخامسة والنصف صباحًا

انتفض (خالد) من كرسيه على صراخ أخته فاطمة من حوش المنزل. خرج مسرعًا نحو مصدر الصوت. لوهلةٍ توهم أن غطاء غرفة المجاري الخرساني يتحرك ويعود ليُغلق فتحة الصرف أو ما يقال عنه "الطرنش"، والذي كان يستخدم في الماضي لتخزين الصرف الصحي حتى تأتي سيارات النزح وتسحبه قبل دخول شبكة الصرف الصحي للمنازل.
أخذ ينادي على أخته وهو يرهف سمعه ليحدد من أين جاء صراخها. عوضًا عن ذلك سمع صوتًا مكتومًا وكأنه صادرٌ من "الطرنش". اندفع وأمسك الحلقة الحديدية الصدئة المستخدمة لرفع الغطاء. ضغط على أسنانه وبكل عزمه شد الحلقة لأعلى حتى كادت عضلات ذراعه تشق جلده. لم يستجب الغطاء في البداية إلا أنه لم يستسلم. كادت الرائحة تدفع كل ما في معدته للخارج ولكنه أجبر نفسه على التغلب على اشمئزازه.
كان عمق الطرنش يزيد قليلًا عن مترين ومساحته لا تتعدى عشرة أمتار مربعة، انبطح خالد أرضًا وأنزل رأسه في الطرنش فرأى جزءًا في أرضيته مفتوحًا لأسفل وسمع صدى صرخات تأتي منه. وقف ليلتقط أنفاسه بعد أن كادت الرائحة العفنة أن تقتله، ودون ترددٍ جلس وأنزل رجليه وقفز إلى داخل الطرنش واضعًا يده على أنفه.
تحرك خالد ببطءٍ نحو الجزء المكسور من أرضية الطرنش ليجد أنها حفرة أخرى بعمق أكثر من خمسة أمتار. نظر داخل هذه الحفرة فلم يرَ آخرها. فكر في العودة إلى بيته والاتصال بالشرطة ولكن صدى صوت صرخةٍ مكتومةٍ ألغت الفكرة من رأسه وجعلته يبدأ في الهبوط إلى أسفل حتى لامست قدماه الأرض. كان النزول سهلًا نسبيًّا فأيًّا كان من صنع هذه الحفرة قد استخدم الحوائط للصعود والنزول.
وجد خالد نفسه في ممرٍّ ارتفاعه متر ونصف وطوله عشرة أمتارٍ تقريبًا وفي نهايته حفرةٌ أخرى. مشى نحوها ببطءٍ وظهره منحنٍ متحسسًا موضع قدمه وواضعًا يده على الحائط متهيئًا لما لا يعرف كنهه.
كان الحائط باردًا قليلًا والرائحة مثل أتوبيس مزدحم.
نزل خالد تلك الحفرة وهو يتحسس موضع أقدامه. وصل إلى أرضٍ ثانيةٍ ولمرةٍ أخرى وجد أمامه دهليز ولكنه أكثر ارتفاعًا ومنحدرٌ بصورةٍ كبيرةٍ كما أن هناك كثيرًا من التفريعات.
وقف خالد ليدرس المكان قليلًا.
كانت الحوائط الصخرية لزجة بعض الشيء. اختفت كل الأصوات من فوق الأرض فلا يصل إلى أذنه إلا صوت أنفاسه وقرع دقات قلبه.
كان السكون قاتمًا حتى إنه شعر بحركة عضلات جسده. حرك خالد يده على الحائط متلمسًا آثار التكسير عليها، ثم بدأ يتحرك دون إصدار صوتٍ عدا صوت خرفشة الصخور تحت قدميه حتى وصل إلى أول ممر جانبي.
لم يكن ممرًّا بالمعنى المعروف بل أخدودًا في الحائط فقط.
تركه خالد ثم تحرك للتالي والذي بعده وهكذا دواليك. كانت كلها على نفس الشاكلة ولكن بأطوال مختلفة، بعضها طوله متر أو اثنان فقط والبعض الآخر بعمق يزيد عن عشرة أمتار.
استمر خالد في التحرك حتى نهاية الدهليز الذي انحرف إلى اليسار قليلًا. تلاشى الضوء الذي كان ينساب من فتحة الطرنش تمامًا ولكن كان هناك إضاءةٌ ضعيفةٌ تأتي من مكانٍ ما.
أغمض خالد عينيه لمدة حتى تتعود على الظلام وحين فتحهما وجد نفسه يستطيع الإبصار بصورةٍ بسيطةٍ. استمر في التحرك متعمقًا داخل ذلك الدهليز والذي كان يضيق أحيانا ليصل إلى نصف متر ويتسع أحيانًا أخرى ليصل إلى ثلاثة أمتار وقد بدا طبيعيًّا دون أي آثار تكسير. كان الكثير من تلك التفريعات ينتهي بحائط وكأنه في متاهة فيضطر للرجوع إلى آخر مكانٍ توقف عنده ليبدأ من جديد.
على الرغم من تعبه، فلم يتوقف خالد حتى رأى بصيصًا من النور مع صوت همهمات يأتيان من بعيد. اقترب ببطء حتى استطاع تمييز ما يشبه القاعة بآخر الممر.
ظل خالد قابعًا في مكانه داخل الممر محاولًا استيعاب المكان الجديد والتقاط أنفاسه لبعض الوقت. التصق بالجدار متسللًا ببطءٍ كالقط. كانت الغرفة مضاءةً بطريقةٍ جيدةٍ نوعًا ما إلا أن الرائحة المنبعثة كانت تشبه خليطًا من كل البهارات وسط سوق خضار.
ما إن اقترب خالد من القاعة حتى صرخ شيءٌ ما يشبه الإنسان من جهة اليمين ولكنه شديد البياض.
في اللحظة التالية لصراخ هذا الشيء، قفز خالد خارجًا من الممر نحو مصدر الصوت، وأثناء انقضاضه لمح خالد أخته ملقاةً على الأرض والدم يغطي وجهها وملابسها بالكامل.
غلى الدم في عروقه فَلَكم الشخص الواقف أمامه لكمةً أطاحت به فارتطم بالجدار ليقع بجانب أخته فاطمة دون حراك.
التفت خالد فوجد أن القاعة بمساحة مائة متر تقريبًا وبها تسعة آخرون من تلك الكائنات ممسكين بسيوفٍ قصيرةٍ بَلْطات ويهجمون جميعًا في نفس اللحظة إلا واحدة وقفت بعيدًا ترتعد مما تراه.
كان يبدو أنها أنثى فهي لا تتمتع بنفس البناء الجسدي للآخرين.
هاجمه الأول بشيءٍ يشبه السكين فتفاداه خالد بسهولةٍ كما تعلم في صغره وكما تدرب في قوات الصاعقة أثناء خدمته الإجبارية بالجيش. أمسك يده وبحركة بسيطة أجبره على إفلات السكين، فالتقطه خالد قبل أن يلمس الأرض وبضربةٍ واحدةٍ شطر حنجرة المقاتل الأول الذي أطلق حشرجة محاولًا إيقاف تدفق الدم دون جدوى.
وقف خالد ممسكًا بالسكين مبعدًا بين قدميه وهو يدرس هجوم الباقين عليه، كانوا جميعًا يرتدون ملابسَ وكأنهم في مشهدٍ حربيٍّ من فيلم تاريخي إلا الأنثى وشخصًا آخر بجانبها يرتديان ملابس بيضاء ممزقة تشبه الجلاليب. بينما خالد يرتدي بنطلونًا "جينزًا" وتي شيرت أزرق.

لم يتوقف باقي المقاتلين وهاجمه المقاتل الثاني ببلطة فقفز خالد جانبًا وتدحرج ليجد نفسه بجانب أقدام المقاتل الثالث، فضربه بقدمه اليمني فأخل توازنه وقبل أن يقع على الأرض كان خالد قد قفز واقفًا وبحركة دائرية كان قد قطع عنق المقاتل الثاني ليلحق بالأول. قبل أن يعي الآخرون ما حدث كان خالد قد أطلق السكين ليستقر في صدر صاحب البلطة.
أسقط المقاتل البلطة ووقف يمسك الخنجر فتوقف باقي المقاتلين وهم ينظرون إلى صاحب البلطة الذي يبدو أنه قائدهم. لم يتوقف خالد واستغل تشتتهم اللحظي فانقض على أقرب المقاتلين إليه، وبحركةٍ صغيرةٍ من حركات الدفاع عن النفس كان قد كسر أنفه فوقع على الأرض فاقدًا للوعي.
بقي في الغرفة خمسة من هذه المخلوقات بجانب الأنثى الواقفة بعيدًا والتي بدا على ملامحها الرعب. تردَّد باقي المقاتلين لبعض الوقت قبل أن يحسم أحدهما أمره وانقض على خالد الذي قفز جانبًا ثم قام بالدوران حول نفسه وضرب المقاتل في ظهره فاختل توازنه ووقع على وجهه قريبًا من البلطة. حاول أن يلتقط هذا المقاتل البلطة إلا أن "خالد" كان أسرع منه، فقفز على ظهره وأمسك رأسه بين راحتي يده وبحركة خاطفة انطلقت صوت قرقعة من رقبة المقاتل وارتخت جميع أعضائه.
قفز خالد واقفًا مواجهًا الباقين. هجم ثلاثة منهم فتفادى خالد هجوم الأول وأمسك بالثاني وكسر ذراعه فأجبره على إفلات سيفه.
أخذ خالد السيف وقتل به ذلك المقاتل ثم صد ضربة من سيف مقاتلٍ آخر وهو يضربه بقدمه في صدره ويواجه الأخير الذي لم يشعر إلا ويده تطير ممسكة بالسيف تتبعها رأسه وبسرعة هجم خالد على المقاتل الواقع على الأرض وأجهز عليه قبل أن يستعيد توازنه.
التفت خالد ليواجه آخر اثنين في الغرفة، فتقدم المقاتل الأخير والمرافق للأنثى وهو يرتعد ليقف بين خالد وبينها.
قالت الأنثى وهي ترتعد وبلغةٍ عربيةٍ مكسرةٍ: "تقاتل لا"، ثم قالت شيئًا للمقاتل الأخير بلغة لم يفهمها خالد.
قطب خالد حاجبيه وهو ممسكٌ بالسيف قائلًا:
- من أنتم أو ماذا أنتم؟
قالت الأنثى: القتال لا نريد... أنت الرحيل يمكنك.
نظر خالد إلى الأنثى للحظات ثم هرع نحو أخته دون أن يخفض عينيه عن تلك المخلوقات.
كانت أخته لا تزال تتنفس ولكن بدا أن هذه المخلوقات قد أجبروها على المشي معهم عن طريق جرحها في أماكن متعددة من جسدها دون قتلها فبِركة الدماء حولها تشي بكمية الجراح تحت ملابسها.
غلى الدم في عروق خالد، واستدار لينظر إلى الاثنين ثانية عاقدًا العزم على قتلهما، إلا أن شيئًا ما في الأنثى الواقفة هناك جعله يتراجع عما نواه.
وضع خالد يده على شعر أخته وهو ينظر إلى وجهها وحركة تنفسها حتى اطمأن على انتظامه، ثم قام لمواجهة تلك المخلوقات مرة ثانية.
نظر إليهما خالد نظرة بها من التهديد ما يزلزل أشد الرجال بأسًا:
- من أنتما؟
تقدمت الأنثى لتقف بجوار المقاتل الأخير:
- أوبجازيون نحن.
حاول خالد أن يجد مرادفًا لهذه الكلمة بالعربية ولكن دون جدوي فقال:
- ما معنى ذلك؟
كررت الأنثى إجابتها:
- أوبجازيون.
قال خالد وهو يحاول استخراج أي معلومة أخرى:
- لماذا حاولتم قتلها؟
قالت الأنثى:
- قتل لا.
ظل خالد صامتًا وهو يفكر في تركهما والعودة بأخته إلى بيتهما والذهاب بها إلى أي مستشفى، ولكن لون ملابسها الذي تحول إلى الأحمر القاني وكمية الدماء حولها لغيا الفكرة من رأسه، وخاصةً أنه لا يعرف طريق العودة مع كثرة المتاهات والطرق المسدودة وحتى لو أجبر هذه الكائنات على إرشاده فلن يستطيع حمل أخته وتسلق الجدران بها.
- "أين أغراضكما؟".
قالها خالد مفكرًا أنه ربما يجد شيئًا يساعد على وقف تدفق الدم من أخته.
قالت الأنثى وهي تشير إلى ممرٍّ خلفها في الجهة المقابلة للممر الموصل لبيت:
- خالد هناك.
مشى خالد بحذر وعيناه لا تفارقهما ثم أشار بسلاحه أن يبتعدا عن مدخل الممر. تحرك الكائنان (الأوبجازيان) بعيدًا كما أمرهما خالد وعيونهما مثبتتان عليه.
تركهما خالد ودخل ببطء إلى الممر، والذي كان طوله ثلاثين مترًا وبعرض متر ونصف كما قدره بنظره وفي نهايته توجد قاعةٌ أخرى.
تحرك خالد في اتجاه القاعة الجديدة، ثم توقف بعد بضع خطوات ورجع إلى القاعة الأولى، ومن ثم رفع سلاحه في وجه الأوبجازيين قائلًا لهما وهو يشير بسلاحه:
- ادخلا أمامي.
تحرك الأوبجازيان وهما ينظران إلى خالد بريْبة. دخلا النفق كما أمرهما فألقى خالد نظرة أخرى على أخته ثم دخل وراءهما.
لاحظ خالد في أثناء سيره أن مصدر الإضاءة هو الصخور نفسها أو بالأحرى شيء ما عليها. لمسها بيده اليسرى ثم قلب شفتيه عندما وجده لزج الملمس. مسح يده بملابسه ثم أعاد تركيزه على الاثنين السائرين أمامه.
كانت القاعة الجديدة أقل حجمًا من القاعة الأخرى، وبها عربتان مثل التي تجرهما الخيول أو الحمير ولكنهما أقل عرضًا وأطول قليلًا، ويجر كل عربة كائن لا يشبه أي من الكائنات الحية التي رآها خالد من قبل ولا حتى في حديقة الحيوانات بالجيزة. كان الكائن بحجم ما بين الحمار والحصان، دون أي شيء يغطي جلده الأبيض المتسخ، وذا أنفٍ متدلٍ وذيلٍ قصيرٍ وعينين واسعتين وأذنين كبيرتين ومرفوعتين كأذني الحمار.
أمر خالد الأوبجازيين أن يتنحيا جانبًا وانطلق مسرعًا إلى العربة الأقرب، والتي كان بها أوانٍ فخارية تحتوي شيئًا يشبه طعامًا ذا رائحةٍ نفاذةٍ وقربةٍ قذرةٍ بها شيءٌ سائلٌ، توقع خالد أن يكون ماءً.

أخذ خالد يقلب الأواني ويتفحص محتوياتها ولكنه لم يجد شيئًا يمكن استخدامه لتضميد جراح أخته، فنظر إلى الاثنين الموجودين معه ثم قال:
- لا شيء مفيد في هذه القمامة.
قالت الأنثى:
- دواء موجود.
عقد خالد حاجبيه قائلًا:
- أين؟
تقدمت الأنثى بثباتٍ نحو العربة، فتبعها المقاتل الآخر ولكنها أشارت إليه بالتوقف ثم أكملت وفتحت إحدى الأواني فقال خالد بصوتٍ خشنٍ وهو ما زال ممسكًا بالسيف:
- لو حاولتِ فعل شيء سأقتلك.
نظرت إليه الأنثى وضمت شفتيها ثم أخرجت مقدار قبضة من بودرة بنية اللون ومدت يدها لخالد قائلة:
- هذا.
خالد: كيف سيساعدنا هذا؟
الأنثى: دواء.
ثم أغلقت قبضتها وأخذت الإِناء بكل البودرة بداخله وبدأت تمشي راجعةً إلى البهو الأول الراقدة به فاطمة وبجانبها الشخص الأوبجازي الآخر. وخالد خلفهما مباشرةً ممسكًا بسلاحه.
تقدمت الأنثى نحو فاطمة وكشفت عن بطنها، ثم بدأت بوضع البودرة فوق كل الجروح وتحركها ببطء لتتأكد من دخول تلك البودرة داخل جميع الجروح، بدأ جسد فاطمة ينتفض بقوة والأنثى تكمل وضع البودرة على باقي الجروح.
رأى خالد الواقف بجانب الأنثى مباشرةً انتفاض جسد أخته:
- ماذا تفعلين؟
الأنثى: دواء.
هدأت حركة فاطمة بعد قليل ولكن حبات العرق بدأت تتدحرج على جبهتها، فغطت الأنثى بطنها وقلبتها على وجهها وفعلت الشيء نفسه بالجروح على ظهرها وكتفيها وأقدامها.
لاحظ خالد أن الشخص الآخر يحدق إلى جسد فاطمة المتعري فقال بغضبٍ وهو يشيح بسلاحه:
- انظر بعيدًا.
ترجمت الأنثى ما قاله خالد فقام الآخر بتحويل نظره ولكنه لم يبتعد عن زميلته.
انتهت الأنثى من تغطية جروح فاطمة بالكامل بالبودرة البنية ثم قالت وهي تقف:
- الحكماء يعالجونها.
ثم أشارت إلى الممر الموجود بآخره عربة أغراضهم.
ظل خالد واقفًا وهو يدير الأمر في رأسه وأخته ممددة أمامه. إنه لا يريد أن يخاطر ويرجع بها إلى بيتهما فهو لا يضمن وصولها إلى البيت سالمةً مع كمية الدم التي فقدتها وأيضًا هو لا يعلم ما تلك المادة التي وضعتها الأنثى على جروح أخته، وفي الجهة الأخرى هو لا يضمن هؤلاء الأشياء أو الأشخاص وأيضًا لا يعقل أن يختفيا هكذا ويتركا أمهما بمفردها.
ظل يفكر لوقتٍ طويلٍ وهو يعلم أنه سيلعن نفسه ألف مرة لو اتخذ القرار الخاطئ وهو أيضًا لا يملك رفاهية عدم اتخاذ أي قرار. ظل يفكر ويفكر حتى قال في النهاية:
- أين هؤلاء الحكماء؟
الأنثى: نصف يوم.... نصل الحكماء.
خالد: سنذهب معكم ولكن أقسم بالله إن تلاعبتم أو هربتم أو لم تعالجوها لأعذبكم عذابًا تتمنوا الموت معه مليون مرة.
نظرت إليه الأنثى بعيونٍ خاوية ثم قالت:
- لنذهب.
ثم التفتت للشخص الآخر قائلةً شيئًا ما بلغتهما.
بدأ الشخص الآخر بتفحص المقاتلين الراقدين على الأرض الذين فقدوا وعيهم فقط في القتال مع خالد، ثم أخذ أحد الأسلحة الملقاة وقتلهم واحدًا تلو الآخر ثم مر عليهم مرة أخرى حتى تأكد من أنهم فارقوا الحياة.
تابعه خالد باستغراب محاولًا أن يستوعب لماذا فعل هذا مع زملائه، ولكنه ترك الموضوع جانبًا حينما لم يجد تفسيرًا مقنعًا.
تقدمت الأنثى ومرافقها وخلفهما خالد حاملًا أخته بين ذراعيه وممسكًا سيفه بيده اليمني، حتى وصلوا إلى البهو الموجود بها عربات أغراضهم.
تحرك خالد إلى إحداها وعيناه لا تفارقان الشخصين الآخرين وهو يدرس كيفية التحرك إذا حاولا مهاجمته أثناء حمله لأخته.

وصل خالد إلى العربة الأقرب فجاءت الأنثى ورتبت الأغراض فوق العربة لتجهيز مكانٍ لوضع فاطمة بها، ومن ثم وضع خالد جسد أخته برفق.
قالت الأنثى وهي تشير إلى نفسها:
- چومانا لاڨون.
خالد: ماذا تعنين؟
الأنثى: اسمي.... چومانا لاڨون.
ثم أضافت وهي تشير إلى الشخص الآخر معها:
- أخي... أخي هذا.... براحت لاڨون... اسمه.
قال خالد: من أين أنتما؟
قالت چومانا: أوبجازيين... نحن... مدينة ساندرون.
قال خالد: أنا لا أفهم عما تتحدثين.... هذا لا يهم حاليًا، المهم هو إنقاذها
نظرت چومانا ناحية العربة الراقدة بها فاطمة:
- أنت... حب.... كثيرًا.
قال خالد متجاهلًا تعليقها:
- انطلقوا أمامنا وسنمضي خلفكما.
وقفت چومانا وأخوها براحت يعيدان ترتيب الأغراض على عربتهم لفترةٍ قليلةٍ ثم قالت لخالد وهي تشير إلى القاعة الأخرى:
- أسلحة... لا نتركها.
قال خالد وهو ينظر إليها بعينين ضيقتين:
- سيبقى أخوكِ هذا هنا واذهبي لتحضريها.
قالت: "حسنًا".
ثم انطلقت وعادت بعد دقائق وهي تحمل كل الأسلحة المتاحة.
قال خالد: ضعيها على الأرض وسآخذها معي في العربة.
رمت چومانا الأسلحة كما طلب خالد فأصدرت صوتًا معدنيا تردد صداه بين الصخور، ومن ثم ركبت العربة الأولى مع أخيها منتظرةً أن يركب خالد العربة الأخرى.
أخذ خالد الأسلحة ووضعها على العربة بجانب أخته واختار منها سيفًا بقبضة خشبية وأمسكه بدل الآخر. وضع يده على شعر أخته وخلل شعرها بأصابعه وهو ينظر إليها بحنان، ثم ركب العربة وهو يشير إلى چومانا التي بدأت التحرك بهزة صغيرة من الحبل في يديها المربوط حول رأس الحيوان الغريب فتبعه الحيوان الذي يجر عربة خالد.
*****

كانت العربة الخشبية ذات أربع عجلات كالعجلات المرسومة على جدران المعابد الفرعونية القديمة ولكنها لا تحتوي على أي ألوان أو أشكال جمالية، بل بلون الخشب وكأنها تنافس الكهوف قتامة.
لم يكن خالد في حاجةٍ لتوجيه الحيوان فهو يسير خلف العربة الأولى مباشرة ولذلك ربط خالد الحبل في جسم العربة وجعل يتأمل الجدران والتي كانت مضاءة بالأشياء التي تشبه الطحالب وبين الحين والآخر ينظر إلى أخته ليتأكد أنها لا تزال بخير وقد انتظم تنفُّسها وتوقف الارتجاف. كانت ألوان الصخور بكل درجات الرمادي مع بعض الصخور البيضاء والبنية والنحاسية، ولكن الاختلاف في الألوان لم يفد في تخفيف حدة الكآبة في هذا المكان.
كانت العربة الأولى تسير أمامه كصندوق وفوقه خيالان سوداوان يتحدثان أحيانا بلغتهما الغريبة. أما صوت العربة فيوحي بأنها لا تعرف معنى الصيانة. كان كل شيءٍ حولهم يدعو إلى الاكتئاب سواء من السواد المحيط بهم أو الصمت القاتل الذي لا يقطعه إلا صوت العربات.
لاحظ خالد أنه بصورةٍ لا إرادية بدأ يضم شفتيه مع كل نفسٍ ليتحول الهواء الخارج إلى صفير ليقلل من ملل تلك الحوائط. ظل الركب يسير في طريقه لعدة ساعات حتى توقفت العربة الأولى وتوقفت العربة الثانية بالتبعية. نزلت چومانا وأخذت أحد الأوعية واتجهت نحو الحائط أما براحت فبقي مكانه.
أخذ خالد السيف من عربته ومن ثم اقترب من چومانا، كان بعض الماء يتدفق على الحائط، وعلى الأرض بعض النباتات الخضراء التي تشبه نبات الزعتر بأوراقه الصغيرة على الرغم من غياب ضوء الشمس، مع بعض الفطر -أو ما يطلق عليه عيش الغراب- ذي لونٍ بنيٍّ مختلطٍ بأسود.
قطب خالد حاجبيه فعلى حسب معلوماته يجب وصول ضوء الشمس لنمو النباتات ثم قال:
- كيف تنمو النباتات هنا؟
قالت الأنثى: تنمو... مفردها... ماء، ضوء.
أخذت چومانا تنزع بعض النباتات من الأرض، ثم قطعت جذورها ورمتها وغسلت الباقي بالماء، ومن ثم وضعتها على الأرض بجوار وعاء الماء الذي ملأته. جلس أخوها براحت على الأرض بجانبها وعيناه تنظر إلى خالد ثم إلى الطعام.
أشارت چومانا إليه أن يشاركهم: طعام.
قلب خالد عينيه بين الأعشاب وبينها قائلًا: ما هذا؟
قالت الأنثى وحاجباها يعانقان بعضهما:
- طعام.... طعام.... تفهم العربية؟
قال خالد: أفهم طبعًا، ولكن ما هذا الطعام؟
قالت الأنثى اسم الطعام بلغتهم وقد بدأت الأكل مع أخيها ثم أشارت إلى خالد ثانية ليشاركهما.
اقترب خالد بدافع الفضول ثم أخذ أحد هذه النباتات وقربها من عينيه ثم بدأ يشمها فابتسمت الأنثى قائلةً وهي تشير إلى فمها: الفم.... ليس الأنف.
أخذ خالد قضمةً صغيرةً بأسنانه الأمامية، كان هذا النبات ذا طعمٍ لاذعٍ قليلًا لكنه مستساغ ورائحة مثل عشب الملاعب فقال:
- لا، وأسرعوا حتى لا نتأخر.
تركته الأنثى وأكملت طعامها مع أخيها بسرعة وهي منحنيةٌ فوق الطعام وكأنها تخاف أن يخطفه أحد.
قال خالد: أين تعيشون؟
قالت الأنثى: عقلك... غير موجود... ساندرون.
قال خالد: وأين ساندرون هذه؟
قالت الأنثى: سنصل... هنا الطريق.. نصفه.
قال خالد: إذًا أمامنا تقريبًا أربع ساعاتٍ أخرى.
قالت الأنثى بنفس اللغة العربية المكسرة: نعم، أربعة خمسة ستة
تركهما خالد يكملان طعامهما، ثم بدأ في تحريك جسده لبسط عضلاته بعد مدة الجلوس على العربة، كان يمكنه أن يمنعهما من إضاعة الوقت والاستمرار في التحرك ولكنه كان في حاجةٍ لتحريك جسمه بعد الجلوس لهذه المدة الطويلة. فجأة انقض شيءٌ ما على خالد من أعلى فقفز جانبًا وهو يضرب الشيء الذي هاجمه بسلاحه الذي لم يتركه من يده.
قالت الأنثى بهدوء: طعم سيئ.
نظر خالد إلى الوطواط الذي يضرب الأرض بجناحيه ويتلوى قبل أن يسكن فاقدًا للحياة.
قالت الأنثى: "مقاتل جيد"، ثم أشارت إلى الوطواط وكررت ثانية: طعم سيئ.
لم يرد خالد وذهب إلى أخته وأخذ يبحث في العربة حتى وجد غطاءً فغطى به أخته حتى لا يهاجمها شيء.
لم تمضِ أكثر من دقائق معدودة وقد أنهى كل من چومانا وأخيها براحت طعامه. ركبا عربتهما بعد أن ملأت چومانا جراب المياه الذي بحوزتهم وأخذت بعض الطعام معهم ثم انطلقوا.
بهزةٍ واحدةٍ من يد خالد انطلق الحيوان الذي يجر عربتهما خلف العربة الأولى ليعيد الصوت الرتيب لطرق أرجل الحيوان للأرض مع حشرجة العجلات.
بعد ساعتين من التحرك داخل أنفاق وكهوف خرجت العربتان إلى فضاءٍ واسعٍ، على أحد الجوانب جبلٌ يعلو لأكثر من مائة متر وعلى الجانب الآخر أرضٌ مستويةٌ تمتد مد البصر ومغطاةٌ بنفس الطحالب المضيئة.
كانت الطحالب مضيئة بشدة بلون أصفر حتى إنه لم يستطع أن ينظر نحوها لمدة طويلة، بينما الطحالب في الممر كانت تضيء بلونٍ يميل إلى الأخضر.
كان الجو قد أصبح أكثر حرارة من ذي قبل وكأنه أحد أيام الصيف. أوقفت چومانا العربة فتوقفت العربة الأخرى بالتبعية وهبط سكونٌ تامٌ على الجميع. قفزت من عربتها وقالت لأخيها شيئًا ما وهي تشير إلى الجبل، ثم أشارت إلى خالد ألا يتحرك وتقدمت لبعض خطوات بعيدًا عن عربتها ووقفت كالتمثال وعينيها تمسح الجبل عن يمينها.
ظلت واقفةً لبضع دقائق وعيناها تتحركان ببطءٍ شديدٍ كالرادار. توقفت وأخذت تحد النظر في اتجاه ما، تعجب خالد من وقوفها ولكنه لم يتكلم. تحركت چومانا بخفةٍ إلى أسفل الجبل ثم قفزت معتلية أول حجر ثم كالفهد قفزت إلى حجرٍ آخر ومنه إلى آخر حتى وصلت إلى ارتفاع عشرة أمتار ومن ثم تعلقت ببعض الأجزاء البارزة من الجبل وظلت تتحرك بموازاة الجبل ثم قفزت على شيءٍ أسفلها مباشرةً.
بعد صراعٍ بسيط، وقفت تشير إلى أخيها بفرحٍ وهي ترفع هذا الشيء بيدها. أطلق الحيوان الصغير الذي اصطادته صرخات استغاثة وهو يحاول التملص من قبضتها.
أخذت چومانا تدق رأس الحيوان الصغير بالصخور حتى خمدت حركته تمامًا فأمسكته بفمها حتى وصلت إلى عربتها. رفعت الحيوان الذي اصطادته باتجاه خالد وقالت بصوتٍ مرتفعٍ وهي تبتسم وحبات العرق تتدحرج على جبينها: طعم لذيذ.
تحرك الركب بعد أن خبأت چومانا وبراحت الحيوان المقتول وسط أمتعتهما، ظلوا يتحركون لمدة ساعتين أخريين والطريق يتحول تارةً ليكون بين جبلين وتارةً بين جبل وما يشبه الصحراء أو يصعد ليكون فوق هضبة تحيط بها الصحراء وهكذا حتى توقفوا في ممر بين جبلين وقفزت چومانا من عربتها وتوجهت إلى خالد قائلة: العربة هنا.
وأشارت إلى عربته ومن ثم إلى جانب الطريق.
قال خالد بشكٍّ وهو يستدير حوله فلا يرى إلا الصخور الصماء:
- هل وصلنا؟
قالت الأنثى: لا.
ثم أشارت إلى عربتها الواقف بجانبها أخوها قائلة: اركب... العربة.
قال خالد وهو يشير إلى عربته: ولماذا لا تركبان هذه العربة؟
قالت چومانا وهي تشير إلى عربته: حراس.
قال خالد:
- أنا لا أفهم لماذا نركب كلنا عربة واحدة، وماذا ستفعلون في هذه العربة؟
قال براحت شيئًا بلغتهم وردت عليه أخته باللغة نفسها ثم استدارت لخالد قائلة:
- عربة... حراس.... ركوب.... لا يمكن.
مط خالد شفتيه ولكنه لم يعترض. حمل أخته فاقدة الوعي ونقلها ببطءٍ إلى العربة الأخرى وهو لا يزال ممسكًا بسلاحه تحسُّبًا لأي حركة غدر قد تصدر من چومانا أو أخيها.
وضع أخته ببطء وأخرج ذراعيه من تحتها وغطاها بنفس الغطاء. في الوقت نفسه كانت چومانا وبراحت ينقلان الأسلحة وبعض الأغراض من العربة الأخرى ويخبآنها في العربة التي سيقودانها.
انطلق الركب بعد أن تأكدوا من أن جميع الأسلحة مخبأة بشكلٍ جيدٍ ولا يمكن كشفها، قادت چومانا وأخوها العربة بينما خالد يجلس بجانب أخته وعيناه تنتقل بين الأوبجازيين تارةً وأخته والطريق والسلاح الذي لم يتركه من يده تارةً أخرى.
بعد مرور ساعة تقريبًا توقفت چومانا بالعربة والتفتت إلى خالد وأخذت تصنع بعض الإشارات والحركات وكأنها تريد نقل رسالةً ما إلى خالد وهي تقول:
- موت.
قطب خالد حاجبيه وقبض على سلاحه بقوة قائلًا:
- ماذا تعنين؟
أشارت إليه بيدها أن ينتظر ثم أخرجت من العربة سجلًا كبيرًا وأخذت تتفحصه ثم قالت:
- تظاهر... بالموت.
مد خالد يده وأشار إليها أن تعطيه المجلد، أعطته إياه وحين نظر بداخله وجده قاموسًا بين العربية ولغة أخرى لم يرها خالد من قبل.
قال خالد:
- لماذا أتظاهر بالموت؟
قالت چومانا:
- حراس.... أمام... حراس.
قال خالد:
- هل تريدينني أن أتظاهر بالموت أمام حراس سنقابلهم؟
هزت چومانا رأسها:
- نعم... نعم
قال خالد:
- حسنًا، ولكنني لن أترك السلاح من يدي.
قالت چومانا:
- لا يروه.
قال خالد:
- حسنًا، لن يرى السلاح أحد.
غطى خالد نفسه بالغطاء مع أخته وأخفى سلاحه بينه وبينها، وتأكدت چومانا من تغطيتهم بالكامل ثم اعتدلت في جلستها وبحركة من الحبل رجع حيوان الماندور غريب الشكل للمشي بطريقته وصوت طرقات أقدامه المعتاده.
ظلت تقود العربة لمدة عشر دقائق أخرى حتى وصلت إلى مكان حراس الطريق.
كان الحراس جالسين على جانبي الطريق فقلما مر عليه أحد هنا. حين رأوا العربة قادمة من بعيد، قاموا كعادتهم وأسلحتهم موجهة ناحية القادم الجديد حتى يلقوا الخوف في قلوبهم، فقد تعلموا في أثناء تدريبهم أنه لكي يستتب الأمن يجب أن يبقى الشعب خائفًا. وقف أحد الحراس أمام حيوان الماندور فتوقف وصمت الجميع.
نظر الحارس إلى عيني چومانا وبراحت لبرهة فنظر براحت إلى الأرض أما چومانا فظلت تنظر في عيني الحارس بتحدٍّ.
لم يكن من المعتاد أن ينظر أحد إلى عيون الحراس مباشرة لعلم عامة الأوبجازيين أن ذلك قد يؤدي إلى مشاكل كثيرة وأحيانًا يتم الزج بهم في السجن حتى يكونوا عبرة لغيرهم.
ولكن لم يكن الحال هكذا مع چومانا حيث كانت تطيل النظر إلى عيونهم كلما عبرت إحدى نقاط التفتيش تلك.
قال لها الجندي أمرًا بلغتهم الأوبجازية:
- انزلوا.
نزل براحت وخلفه چومانا وهي تنظر إلى عينيّ الجندي بتحدٍّ دون أن تتكلم، فقال لها:
- ما معكِ؟
قالت بهدوء:
- أشياء لا تخصك.
قال الجندي:
- أي أشياء؟
حاول خالد أن يستنتج أي شيء من هذه اللغة ولكن كل محاولاته باءت بالفشل، قالت چومانا:
- اثنان من البشر العلويين.
اقترب الجندي من يمين العربة وجعل ينظر إلى جسدي خالد وأخته المغطيين ثم مد يده ليلمسهما ولكن چومانا صرخت بعنف:
- ابعد يدك القذرة عنهما، إنهما للملك والحاشية.
اقترب جنديٌّ آخر وقال بخشونة: من أنتِ يا امرأة؟
قالت چومانا: أنا صيادة.
قال وهو يشير بيده: وأين الباقي والحراس؟
قالت: يغلقون المنفذ وسيلحقون بنا.
تحرك الجندي إلى جوار زميله ثم قال وهو ينظر إلى خالد وأخته: سنأخذ قدم.
قالت بعنف:
- إن لمستم أيًّا منهما فسأبلغ حاشية الملك.
قال الجندي:
- قولي لهم أن أيًا منهما كان مقطوع القدم.
قالت بتحدٍّ:
- إن لم نتحرك الآن فسأبلغ سيدي زايزات أنكم عطلتمونا. وأنتم تعرفون من هو سيدي زايزات.
جاء جندي ثالث قائلًا بعنف محاولًا إخافتها:
- أين ورقك؟
أخرجت چومانا بعض الأوراق من جيب سري في ملابسها ثم فتحته بعناية وأعطته له، قال الجندي:
- يمكنني تقطيع الورق وآخذك أنتِ ومن معك.
ابتسمت چومانا قائلةً:
- لا تستطيع أن تفعل ذلك فأنت تعلم العقاب الذي سينتظرك والحقيقة أنك أجبن من أن تخدش الورقة التي بيدك.... وإن لم ترجع الورق إليّ ونرحل في الحال فسأبلغ عنكم سيدي.
فكر الرجل للحظات ثم قال وهو يرمي الورق على الأرض:
-خذي الورق.
انحنت چومانا وأخذت الورق وعلى عينيها وشفتيها ابتسامة انتصار فأكمل الجندي:
- ولكننا سنأخذ هذا.
وأشار إلى أخيها الذي امتقع وجهه ولكنه لم يستطع فتح فمه بكلمةٍ واحدة.
ابتسمت چومانا مرة أخرى وهي تقول:
- لن تفعل، وإن لم يتحرك كلانا الآن فسأقطع الورقة وأقطع جزءًا من الفرائس وأبلغ عنكم أنكم أخذتموه عنوة وسيكون عليك أن تشرح الموقف للحاشية.
امتقع وجه الرجل ثم قال وهو يصطنع الشجاعة:
- ارحلي ولا تتأخري على سيدك.
نظرت إليه بوجهٍ باردٍ ثم صعدت مع أخيها العربة وحركت لجام الحيوان فتحرك متخطيًا الجنود، أما أخوها فظل صامتًا حتى تركوا الجنود خلفهم.
ما إن ابتعدوا بمسافة كافية حتى قال براحت بلغتهم الأوبجازية:
- أيها الإله الأوحد، لقد كدت أموت خوفًا.
قالت أخته:
- اطمئن، إنهم أكثر خوفًا منا. نحن لا نملك ما نفقده، أما هم فيملكون.
بعد مرور عدة دقائق وبعد أن تأكد من أنه لا أحد يراهم قالت چومانا بالعربية:
- حراس.... تخطينا.
تحرك خالد بحذرٍ ونظر خلف العربة فلم يجد أحدًا ثم قال:
- إلى أين نحن متجهون؟
قالت چومانا: الحكماء... يعالجونها.
قال خالد: كم بقي من الوقت؟
ضاقت عينا چومانا وهي تمعن النظر إلى الطحالب: اثنان ساعة.
نظر خالد حوله ليرى إلى ما كانت تمعن النظر فيه ولكن المشهد حولهم لم يتغير فهم يسيرون في طريق بين جبلين دون أي معالم، ثم نظر إلى أخته والتي تتنفس بصورة طبيعية الآن.
سأل خالد: متى ستفيق فاطمة؟
قالت چومانا: لا معرفة.
مسح خالد العرق من رأس أخته ووجهها ثم ابتسم وهو يدعو الله من كل قلبه أن يحفظها.

بعد قليلٍ رأى خالد أن مجاري المياه الصغيرة تجمعت على يسار الطريق لتصنع مجرى أكبر بعرضٍ أقل من نصف المتر وعمق يزيد قليلًا عن ربع المتر، ظل مجرى الماء الوليد يكبر مع مرور الوقت حتى أصبح بحجم جدول ماءٍ صغير. ثم ازداد ليصبح بحجم ترعة متوسطة الحجم بعرض خمسة أمتار تقريبًا ولا يدري عمقها وعادت الصحراء ثانية على الجهة الأخرى من النهر الصغير ولكن الطحالب هنا كانت تشع بلون يميل أكثر للاخضرار.
قالت چومانا: تظاهر بالموت.
رأى خالد في آخر الطريق السائرين فيه مبنى خشبيًّا كبيرًا وكأنه بوابة للمياه على النهر الصغير.
قالت چومانا بصورة ملحة: تظاهر بالموت.... يراقبون.
استلقى خالد ساكنًا لمدة عشر دقائق كاملة ولكنه لم يكن مغمضًا عينيه بصورةٍ كاملة. رأى بعض الحراس يجلسون فوق المبني الخشبي وقد توقفوا عما يفعلون وهم ينظرون إلى العربة القادمة من خارج المدينة.
لم يتحرك خالد ولكنه لاحظ وجود حركة في الجهة المقابلة من المبنى الخشبي فحرك رأسه ببطءٍ حتى لا يلحظه أحد ووجد مجموعة أخرى من الحراس يجلسون على جزءٍ بارز من الجبل بالقرب من مدخل أحد الكهوف.
لم تتوقف أو حتى تبطئ العربة من سيرها حتى ابتعدت عنهم، وبعد مدة تقترب من عشر دقائق قالت چومانا:
- تحرك.
قال خالد: ما هذا البناء على النهر؟
قالت چومانا: تحكم.
قال خالد: تحكم في ماذا ولماذا؟
قالت: ماء.
ظل خالد صامتًا لمدة أخرى وهو ينظر حوله لنفس المناظر التي لا تتغير فكلها صخور ومعظمها مغطًى بتلك الطحالب المضيئة. ظهرت فجوة بين جبلين على يمينه فلفت نظره وجود ما يشبه حقول المحاصيل الزراعية ووسطها أشجار ذات جذوع مضيئة وكثير من الأشخاص يعملون بها.
توقفت چومانا بعد الفجوة بقليل فقال خالد:
- ماذا الآن؟
قفزت چومانا ووقفت بجانب العربة وهي تشير إليه قائلة:
- انزل.
نزل خالد وعيناه تراقبان چومانا وأخاها.
أخذت چومانا الغطاء الذي يغطي فاطمة.
أمسك خالد معصمها بقوة قائلًا: اتركيه.
نظرت إليه چومانا بعينيها الواسعتين قائلة: غطاء... ملابس.
لم يفهم خالد ما تعنيه ولكنه تركها على أية حال فأخذت الغطاء وألبسته لخالد كالعباءة.
قال خالد: لماذا؟
قالت: لا يعرفونك.
ثم أردفت مشيرة إلى العربة: اركب.
ركب خالد وأجلس أخته فاقدة الوعي ووضع رأسها على صدره. كانت إحدى يديه تسند أخته والأخرى يستند عليها. ظل صامتًا وعقله به مئات الأسئلة عن هذه المخلوقات البدائية إلا أنه آثر الصمت حتى يطمئن على أخته.
أخذت العربة منعطفًا مائلًا إلى اليسار ثم آخر إلى اليمين وبعد مائتي متر أو يزيد قليلًا رأى خالد ما غير رأيه عن هذه المخلوقات؛ فقد كان أمامه بناءٌ عملاقٌ منحوت بباطن الجبل، شيء لا يوجد إلا في الخيال.
عقد خالد حاجبيه وهو يحاول أن يستوعب ما يراه.
ظلت العربة تتحرك للأمام والبناء يزيد اتضاحًا كلما اقتربوا منه.
كان البناء ثلاثة أدوار ومزينًا ببعض التماثيل المنحوتة، ارتفاع كل دور سبعة أمتار تقريبًا والباب بارتفاع ستة أمتار وبجانب الباب أعمدة صخرية تحمل الطابق الثاني والموجود به بعض الفتحات التي يبدو أنها تستخدم كنوافذ، ونفس الأعمدة تستمر لتحمل الطابق الثالث.
ظل خالد يحدق في البناء أمامه وفي التفاصيل التي تنافس كل ما رآه في حياته دقة وفي الناس الواقفين أمام مدخله. كان هناك مجموعة من الحراس الممسكين ببعض الأسلحة والعصيان ويتحدثون فيما بينهم وأمامهم مجموعة كبيرة من البشر لا يرى آخرهم، يبدو عليهم الهزال الشديد.
انحرفت چومانا بالعربة يسارًا تاركةً المدخل الرئيسي، ليصبح المبنى على يمينهم. وبعد مائتي متر تقريبًا توقفت چومانا بالعربة قائلة شيئًا لأخيها ثم ترجمت قائلة لخالد:
- انتظر.
ببطءٍ أسند خالد أخته لتستلقي على العربة ثم قفز منها وهو يتفحص المكان حوله والمكان الذي دخلت منه چومانا.
غابت چومانا لعشر دقائق كاملة قبل أن تعود ومعها شخص آخر يرتدي ملابس بيضاء نظيفة عليها علامات ذهبية بمنطقة الصدر.
كان الرجل طويل القامة نسبيًّا، أسود شعر أسود قصير، قمحي البشرة قليلًا وذا عيونٍ بنيةٍ ويبدو على ملامحه النباهه والذكاء.
وقف الرجل ينظر إلى خالد وهو يتفحص وجهه وجسده وملابسه دون أن ينبس بحرفٍ واحدٍ، وكأنه ينظر إلى ديناصور حي.
كان خالد لا يزال يضع الملاءة فوقه كالعباءة ويظهر تحتها ملابسه الحديثة، بنطال جينز وتي شيرت.
لكزت چومانا الرجل المبهوت فانتبه وقال بلغة عربية فصيحة:
- أهلا بك يا سيدي، لقد قالت چومانا أنكما من البشر العلويين.
قال خالد: أنت تتحدث العربية بطلاقة.
قال الرجل:
- شكرًا على المجاملة سيدي، أنا من الحكماء وكلنا نتحدث العربية فنحن نتعلم من الكتب العربية.
أوشك خالد أن يسأله من أين يأتون بالكتب ولكنه فضل ترك هذا الموضوع جانبًا قائلًا:
- هل يمكنك معالجة أختي؟
اقترب الرجل من العربة وأخذ يتفحص وجه فاطمة والجروح على جسدها ثم قال:
- الأفضل أن تدخلوها إلى المشفى.
نظر خالد إلى أخته فاقدة الوعي للحظة، ومن ثم أخذ أحد السيوف القصيرة وحمل أخته متبعًا ذلك الرجل حتى دخلا من نفس مكان خروجهم وتبعتهم چومانا بينما بقي براحت بجانب العربة.
كان البناء المنحوت داخل الجبل تحفةً معماريةً وفنيةً في كل تفاصيله، الصغيرة منها قبل الكبيرة، كانت الجدران عبارة عن لوحات رائعة، أو كانت رائعة منذ أمدٍ بعيدٍ ولكن أكل عليها الدهر وشرب ولم يبقَ منها إلا آثار شاهدة على مهارة من رسمها.
دخل الحكيم ثالث غرفة إلى اليسار تبعه خالد حاملًا أخته وبعده چومانا، ثم قام الحكيم بإغلاق الستارة التي تحل محل باب الغرفة.
نظر خالد حوله، كانت الغرفة بطول سبعة أمتار وعرض خمسة. كانت خاليةً تمامًا إلا من بعض الأقمشة الموزعة على الأرض وكأنها أسرّة. لم يكن بتلك الغرفة أي من الرسومات الجدارية كالممر بل كانت أشبه بصندوق من الصخور له باب من القماش.
أشار الحكيم إلى خالد أن يضع أخته على أحد الأسرة فتوجه خالد إلى حيث أشار وببطءٍ شديدٍ وضع أخته على الأرض.
تكلم الحكيم لبعض الوقت مع چومانا بلغتهما ثم توجه بحديثه إلى خالد قائلًا:
- اسمي محتوب وأنا الحكيم المسئول عن هذا المشفى.
ثم جلس بجوار فاطمة الممددة على الأرض مكملًا:
- إصابات أختك سطحية ولكن تكمن الخطورة في ما وضعه الحراس على الجروح لتسييل اللحم.
امتعض خالد من الكلمة قائلًا:
- ماذا؟!!!
توقف الحكيم وعلى وجهه بعض علامات الأسف والأسى ثم قال:
- سأقص عليك كل شيء لاحقًا، لكن المهم أن چومانا قد وضعت بعض الأعشاب الطبية على الجروح فتوقف تأثير المواد التي وضعها الحراس، وسيأخذ تنظيف جروح أختك والعناية بها بعض الوقت حتى تسترد صحتها.
قال خالد:
- إذًا فيمكنك علاجها.
قال محتوب:
- نعم يمكنني، الأمر ليس صعبًا ولكنه يحتاج بعض الوقت فقط.
تنهد خالد بصوت منخفض:
- الحمد لله.
ثم سأل الطبيب:
- كم يستغرق هذا العلاج؟
قال الحكيم: أظنه سيستغرق تسعين أو مائة يوم.
اتسعت عينا خالد: ثلاثة أشهر؟!
قال الحكيم محتوب: نعم، ثلاثة أشهر أو أكثر قليلًا.
قال خالد: هل يمكنك عمل شيء مؤقت ونستكمل علاجها في البيت، أقصد فوق الأرض؟
قال الحكيم:
- لا أظن ذلك، لن تجد حكماء يعلمون ما أصابها ولا كيفية علاجها، ولكنني سأحاول تسريع العلاج بأقصى ما يمكنني.
كان هذا أسوأ ما يخشاه خالد، فأمه بالبيت بمفردها وستموت من القلق بسبب اختفائهما المفاجئ، وهو لا يمكن أن يرجع ويترك أخته بمفردها هنا.
كادت الحيرة تقتله ولكن فكرة أن خاله سيعتني بأمه أعطته بعض الاطمئنان وساعدته على اتخاذ قراره، فقال بعد ترددٍ مستسلمًا لقضاء الله وقدره:
- حسنًا فلتبدأ العلاج يا دكتور.
قال الحكيم:
- نحن لا نستخدم مصطلح (دكتور) هنا، هنا يطلقون علينا اسم الحكماء، وبالمناسبة ما اسمك؟
- اسمي خالد.
الحكيم: حسنًا سيد خالد، سأحضر بعض الأدوات وأعود... لن أتأخر.
رجع الحكيم محتوب بعد قليل ثم قال موجهًا حديثه إلى چومانا بعد أن وضع أغراضه بجانب فاطمة الممددة على الأرض: أحضري شعله وأكثري الإضاءة.
كانت الإضاءة ضعيفة إلى حدٍّ بعيد ولكن بعد قضاء اليوم بأكمله في هذه العتمة فإن خالد قد اعتاد على الرؤية بأقل كمية إضاءة.
عادت چومانا بعد قليل حاملةً شمعة بيضاء وأخذت تقرب اللهب من العمود الحامل للكرة المغطاة بالطحالب فزاد توهج الطحالب وتحولت الإضاءة من اللون الأخضر الضعيف إلى لونٍ أصفر قوي. كان ذلك العمود المعدني مثبتًا بالحائط وأسفل هذا العمود يوجد مكان لوضع شمعة أو مصدر للهب.
قال الحكيم محتوب بعد أن لاحظ متابعة خالد لما تفعله چومانا:
- يزيد توهج الإضاءة الصادرة من الطحالب مع ارتفاع درجة حرارتها حتى درجة معينة ولو زادت عنها فإنها تحترق.
أضاف خالد وهو ما زال يراقب ما تفعله چومانا:
- وأيضًا يتحول لونها من الأخضر للأصفر.
أخرج الحكيم محتوب سكينًا صغيرًا من حقيبة أدواته ثم غمسه في قارورة صغيرة بها سائل أحمر وبدأ يعمل على جراح فاطمة وبعد دقائق بدأ جسد فاطمة يهتز.
توقف الحكيم وتركها تهدأ ثم سأل:
- كم عمرها سيد خالد؟
أجاب خالد: تسعة عشر عامًا
قال الحكيم محتوب:
- سيد خالد، أنصحك بشدة أن تعود إلى بيتك وترجع هنا بعد مائة يوم.
هز خالد رأسه قائلًا:
- لن أتركها هنا بمفردها.
قال الحكيم:
- أنا أتفهم موقفك سيد خالد وخاصة بعد ما حدث، ولكن إذا قررت المكوث هنا فستكون هناك خطورة كبيرة عليكما وعلى چومانا وعليّ أيضًا.
قال خالد: أنا لا يهمني كل هذا الهراء، أنا لن أترك أختي معكم.
قال الحكيم: إذا كان لا بد فهناك أمور يجب أن تفهمها إذا أردت البقاء هنا، أولًا يجب أن لا يعرف أحد أبدًا أنكما من البشر العلويين لأن هذا حكم بالإعدام علينا جميعًا.
ثم أضاف وهو ينقل نظره من چومانا إلى خالد:
- سنتمنى الموت ألف مرة إن عرفوا أنك من البشر العلويين ونحن نخفيك. ثم أكمل بعد لحظات من الصمت:
- لذلك فالأفضل أن تتظاهر أنك أبكم، ثانيًا: يجب أن تغير ملابسك بملابس الأوبجازيين، ثالثًا: ستتجنب الاحتكاك بأي أحد هنا سواء أوبجازيين أو...."
صمت للحظات مفكرًا ثم أكمل: الأفضل أن نجد لك مكانًا تعيش فيه.
قالت چومانا شيئًا باللغة الأوبجازية فظل الحكيم صامتًا لمدة ثم قال لخالد: يمكنك أن تعيش في أحد حفر الأوبجاز.
امتعض خالد عندما سمع كلمة حفر ولسبب ما ربطها مباشرة بهؤلاء الواقفين أمام المشفى بالعشرات ولكنه نفض ذلك عن تفكيره قائلًا:
- لن أترك أختي ولن أبتعد عنها ما دمنا هنا.
قال الحكيم: أنت لا تفهم خطورة هذا سيد خالد، إن عرف أحد أنك من البشر العلويين فسيقبضون عليك وعلى أختك وستكون نهايتك.
قال خالد: دعهم يعرفون وسيلحقون بالآخرين.
ضاقت عينا الحكيم وردد ببطء: الآخرين!!!
تدخلت چومانا قائلةً بالعربية: قتل... حراس.
اتسعت عينا الحكيم وهو يدير عينيه بين خالد وچومانا قائلًا:
- هذه كارثة.
تحدثت چومانا لبعض الوقت بالأوبجازية مع الحكيم وفي عينيها علامات ابتهاج واضحة.
قال الحكيم لخالد وصوت دقات قلبه يكاد يصل لأذن خالد:
- تقول چومانا أنك قتلت ثمانية من الحراس بمفردك.
قال خالد: وسأقتل كل من يفكر أن يؤذي فاطمة.
قال الحكيم: هذه مشاعر نبيلة سيد خالد، ولكن الموضوع يختلف هنا.
قال خالد: لا يهم، كل ما يهمني حاليًا هو أن أبقى مع أختي.
قالت چومانا شيئًا ثانيًا ففكر الحكيم للحظات ثم قال:
- يمكنك أن تبقى هنا وسأقوم بتسجيلك كمريض وسأجعل هذه الغرفة لكما فقط ولكني لا أضمن منع الفضوليين.
قالت چومانا بالأوبجازية:
- دعهم لي.
قال خالد بالعربية وهو يشير بعد اكتراث:
- لا أهتم.
قال الحكيم: الأمور لا يتم التعامل معها هكذا وخاصة إذا كان هناك الكثير من الأرواح على المحك.
قال خالد:
- سأعيد ما قلته ثانية، أنا لا أهتم بكل الهراء الذي تقوله.
قال الحكيم بنفاد صبر:
- أمامك الكثير لتتعلمه أيها الشاب.
قال خالد: لا أظن أن أيًّا منكما يمكنه تعليمي شيئًا.
ابتسم الحكيم محتوب متجاهلًا كلامه ثم أكمل وهو يبدأ العمل على جراح فاطمة ثانيةً:
- لا أظن أن تظاهرك بالبكم سيفيد، فربما يسمعك أحد صدفة، الأفضل أن تتعلم بعض الجمل الأوبجازية حتى تستطيع التعامل هنا.
قال خالد:
- لا حاجة لأتعلم شيئًا لن يفيدني.
قال الحكيم:
- كل العلوم مفيدة حتى وإن لم تعرف قيمتها في حينها، فسيأتي يوم وتعرف.
تجاهل خالد تعليقه ولم يتكلم الحكيم مرةً أخرى وأخذ يعمل على جراح فاطمة مرة أخرى وخالد يتابع ما يفعله.
قال خالد بعد مدة:
- لماذا تعيشون هنا وليس على ظهر الأرض؟
قال الحكيم:
- هذه قصة طويلة.
قال خالد وهو يتحرك ليسند ظهره للحائط ويمد رجليه أمامه:
- ليس لدي ارتباطات مهمة اليوم ويمكنني سماعها.
ابتسم الحكيم ثم قال:
- سأحكيها لك باختصار...
لقد كان غالبية المصريين قديمًا يعبدون الإله "آمون" والبعض كان يعبد "رع" إله الشمس وآخرون كانوا يعبدون آلهة أخرى كثيرة. أما نحن فاتبعنا أمنحتب الرابع - إخناتون - الروح الحية لآتون والذي دعا لتوحيد الآلهة. استجاب لدعوته بشرٌ كثيرون من مشارق الأرض ومغاربها وجميعهم تركوا بلدانهم وقدموا إلى بلدنا. ولكن بعد فترة بدأ أعداؤنا يضيقون علينا حتى وصل الأمر إلى حرب بيننا وبينهم. انتصرنا في بعض المعارك ولكن حدث شيءٌ ما لم تذكره كتب التاريخ.
صمت للحظة ثم أضاف:
- يمكن أن تقول خيانة أو شيئًا من هذا القبيل، فجأة انقلبت كفة الحرب ولم يكن لأسلافنا بد من الهرب. حاولوا الهرب ولكن الأعداء حاصروهم، وأثناء ذلك اكتشف أجدادنا الكهف والذي قادهم إلى هذا العالم وهذا هو بداية التقويم والتاريخ الذي نستعمله فنحن في عام 3371 من الانتقال.
مال خالد بظهره للأمام قائلًا:
- هل أنتم من الفراعنة؟!
قال الحكيم:
- أنتم تطلقون علينا "المصريون القدماء"، أما نحن فنقول على أنفسنا إما أوبجازيين أو نيروسيين.
قال خالد:
- وما الفرق؟
قال الحكيم:
- الأوبجازيون تقريبًا سبعة وتسعون من كل مائة ولكن النيروسيين هم المتحكمون في كل شيء.
قال خالد:
- إذا كنتم من الفراعنة، أقصد المصريين القدماء، فهل لغتكم هذه هي الهيروغليفية؟
قال الحكيم: الهيروغليفية ليست لغة بل طريقة كتابة.
قال خالد:
- حسنا، ولكن لماذا لم تعودوا للسطح ثانيةً، أعني فوق الأرض؟
قال الحكيم:
- بعد لجوء أسلافنا الأوائل إلى هنا قام الحكماء القدامى باستخدام كل علومهم لتحويل هذا المكان إلى ما يشبه الجنة وقد كان، قاموا بإنتاج هذه الطحالب المضيئة والطعام كان متوفرًا وبالطبع العدل والأمان كانا أفضل بكثير من سطح الأرض.
صمت الحكيم للحظات ثم أكمل:
- وبعد مرور عدة أجيال ومات من قاسوا ويلات الحروب حاول الأحفاد الصعود إلى أعلى ولكن أفراد الاستطلاع رجعوا قائلين إن الفساد استشرى في المجتمع والظلم كان هو السيد، فاتخذوا قرارًا بعدم الصعود إلى السطح. وبعد مرور عدة أجيال أخرى حاول آخرون الصعود إلى أعلى ولكنهم لم يتحملوا الشمس، حتى إن بعضهم مات من تعرضه للشمس بطريقة مباشرة وآخرون أصيبوا بالعمى.
هز خالد رأسه قائلًا:
- فهمت.
ظل خالد صامتا مراقبًا ما يفعله الحكيم الذي احترم صمته. كان الجو هادئًا ولا يوجد صوت إلا صوت أنفاس الحكيم وهو يعمل بجدٍّ على جرح فاطمة أما چومانا فكانت جالسة بصمتٍ وكأنها تمثال.
بعد مدة من الصمت تعدت الخمس دقائق سأل خالد فجأة:
- لماذا خطفتم أختي؟
قال الحكيم:
- أنا بالفعل أعتذر عن هذا، ولكن ما باليد حيلة، إنهم مجبرون على ذلك.
قال خالد:
- ماذا تعني؟
قال الحكيم:
- چومانا من الأوبجاز الصيادين ومهمتها هي جذب البشر بجمالها ومن ثم يقوم الحراس بخطف من يقترب منها من البشر.
اختلس خالد نظرةً سريعةً إلى چومانا وبالفعل رأى ملامحها رقيقة حتى بمقاييس البشر.
أكمل الحكيم وهو ما يزال يعمل على جراح فاطمة:
- يتم أخذ الفريسة من البشر وجرحها في أماكن متعددة في جسدها ووضع بعض المواد في جسدها ل..."
لم يستطع الحكيم أن يكمل فسأل خالد:
- لماذا؟
قال الحكيم بعد تردد:
- الملك والحاشية يحبون لحوم البشر العلويين فهم يعتقدون أنها تزيد من قوة الرجل وجمال المرأة.
قال خالد وهو يكتم غيظه:
- هل كنتم تريدون أكل أختي؟
قال الحكيم:
- ليس نحن بل هم. الشعب منقسم إلى قلة من النيروسيين المسيطرين على كل شيء وأغلبية ساحقة من الأوبجازيين، سيطر النيروسيون ومنهم الحاشية على الحكم منذ مئات السنين ولولا أنهم يحتاجون إلى علوم الحكماء لقتلونا شر قتلة.
قال خالد:
- هذا المكان كالوباء.
تنهد الحكيم بأسى قائلًا:
- لم يكن كذلك، ولكن مع ذهاب العدل ذهب الجمال.
ظل خالد صامتًا والحكيم يعمل على جراح أخته وهو ما زال يدير الأمر في رأسه، أخذ ينظر إلى الحوائط المتسخة من علامات أيدي المرضى ثم قال فجأة:
- لماذا أصابك الذعر عندما عرفت أنني قتلت الحراس؟
قال الحكيم:
- إذا حدث أي خلاف حتى إن كان بسيطًا بين أحد الأوبجازيين وأحد الحراس فغالبًا سيتم قتل الأوبجازي، أما أن يصل الأمر أن يقتل أوبجازي أحد الحراس فإنهم يعذبونه حتى يكون عبرة لغيره، وأنت قتلت ثمانية من الحراس ولكنهم لن يصلوا إليك ولذلك فستكون چومانا هي كبش الفداء، وسينزلون بها وبأخيها العذاب أصنافًا وألوانًا، في الحقيقة أنا أعدّها الآن في عداد الموتى.
تحدثت چومانا بالأوبجازية:
- ليس لدي ما أخسره.
قال الحكيم بنفس لغتهما:
- لا، لديكِ أخ ومستقبل.
قالت: أخ سيموت معي، ومستقبل مليء بالظلم والقهر والاستعباد.
قال خالد:
- تحدثا بالعربية لأفهمكما.
ترجم له الحكيم ما قالاه فقال خالد:
- يمكنها أن تهرب إلى أي من الحفر التي ذكرتها من قبل.
ابتسم الحكيم ابتسامة حزينة اختفت سريعًا مع تجهم وجهه ثم قال:
- عقوبة إخفاء أحد المطلوبين هي منع الماء والطعام عن مناطق كثيرة ولذلك فلا أحد يمتلك الجرأة على إيواء أحد المطلوبين لأنه يعلم أن ذلك سيجلب ويلات عليه وعلى أهله جميعًا.
قال خالد:
- لماذا ستبقيني هنا إذًا؟
ابتسم الحكيم قائلًا:
- لأني أحمق. أحمق ولكن لا أرضى بالظلم الواقع على الأوبجازيين وغير موافق على اختطافكما.

ابتسم خالد لأول مرة وهو يرجع بظهره ليلامس الحائط ثانية ثم قال وهو يشير إلى چومانا:
- ما هذا الكتاب الذي تقرئين فيه يا چومانا منذ أن جئنا؟
قال الحكيم:
- تم اختيار چومانا من ضمن الصيادين وتعليمها بعض أساسيات اللغة العربية البسيطة لأن ملامحها من النوع الذي يروق للبشر العلويين فبذلك تستطيع اجتذاب الفريسة لها، ولكن الكتاب مفيد في نواحي عديدة.
لم يعلق خالد وتحرك من مكانه ليجلس قريبًا من قدمي أخته وأسند رأسه على الحائط الصلب ولم يدرِ بنفسه.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.