hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

يمتلك نبيذ أفنتال الأحمر سمة مميزة، ألا وهي أنَّ قنينة صغيرة تجعلك لطيفًا ولكن
حاسمًا، وقنينتَين تجعلانك ثرثارًا وعنيدًا، وثلاثًا تجعلك غير عاقل لدرجة التهور.
لو أن النادل في فندق برينس كارل بهايدلبرج يهتم بما هو خلاف ثمن الشراب، لكان
قد حَسَب بدقة تأثير القنينات الست الصغيرة من الأفنتال التي أحضرها إلى غرفة الدكتور
بلجلوري الموقر في عشاء الساعة السادسة لثلاثة أشخاص. بمعنى أنه ربما كان سيستنتج
هذه القصة مقدمًا من خلال ملاحظة حقيقة أن من القنينات الست الصغيرةشربتِ الآنسة
بلانش بلجلوري واحدة، وشرب الدكتور الموقر، أبوها، اثنتين، بينما كانت القنينات الباقية
من نصيب ستراوت، وستراوت هو شابٌّصغير من نيويورك من تلامذة البروفيسور شفانك
في قسم الأمراضالنفسية والعصبية بالجامعة.
لذا، أثناء الأمسية، عندما غفا الدكتور في مقعده انتهز ستراوت الشاب الفرصة ليطرح
على الآنسة بلانش سؤالًا سبق أن طرحه عليها مرتين، مرةً في ساراتوجا سبرينجس ومرةً
في مدينة نيويورك، حصل الشاب على الإجابة نفسها التي سمعها من قبلُ مرتين، ولكن
بأسلوب أكثر حسمًا، وفي الوقت نفسه ليس أقل لطفًا. لقد أعربت الفتاة عن إصرارها غير
المتزعزع على الالتزام برغبات والدها.
لم يكن الرد مبهجًا تمامًا لستراوت الشاب؛ فقد كان يعرف أكثر من أيِّ شخصٍآخر
أن الدكتور يبغضآراءه، رغم قبوله له اجتماعيٍّا وإنسانيٍّا. وكان الدكتور لا يلبث أنْ يُكرِّر:
ما من رجلٍ يُنكر الحقيقة الموضوعية للمعرفة المستقاة من الحدْس أو غيرها من الطُّرق »

الاستبطانية … ما من رجل يُنحِّي الحقيقة الجوهرية جانبًا في سعيه الأهوج نحو الظواهر
«. يمكن أن يُصبح زوجًا صالحًا لطفلتي
وقال الدكتور الشيء نفسه ثانيةً بكلمات كثيرة للغاية وبمزيد من التأكيد، بعدما أفاق
من غفوته، إثر انسحاب الآنسة بلانش بتحفُّظ.
ولكن يا دكتوري العزيز، هذا شأن من شئون القلب، وليس له » : قال ستراوت ملحٍّا
«. أدنى علاقة بالميتافيزيقا، سوف تغادران إلى نورنبيرج غدًا، وهذه فرصتي الأخيرة
أنت شابٌّ ممتاز من نواحٍ عديدة. تخلَّ عن ماديتك الشديدة وستكون » : ردَّ الدكتور
بلانش مِلكك من كلِّ قلبي. أنت سليل أسرة لا غبارَ عليها، ولكنك مُتشبِّع فكريٍّا بأخطر
الهرطقات في هذا الزمان وغيره من الأزمنة. وإذا شجعتُ هذه الهرطقة بإعطائك ابنتي،
«. فلن أستطيع أنْ أرفع عيني في وجه هيئة تدريس برينستون مرةً أخرى
أظن أن هيئة تدريس برينستون لا ناقة لها ولا جمل في هذا » : أجاب ستراوت بإصرار
«. الأمر. إنه شأن يخصني أنا وبلانش
إذًا، أمامنا هنا ثلاثة أشخاص، اثنان منهم في مرحلة الشباب، ووقع كلٌّ منهما في حبِّ
الآخر، وتُفرقهما مسألة ميتافيزيقية، وهي مسألة من أكثر المسائل التي أضاعت الجهد
البشري تجريدًا وانعدام جدوى. ولكن هذه المسألة بعينها قسَّمت مدارس أوروبا لقرون
وأسهمت إسهامًا كبيرًا في لائحة شهداء الرأي والفكر. وقد بُعِثَ هذا الجدل القديم الشهير
إلى الحياة ثانيةً بواسطة قنينات النبيذ الست الصغيرة؛ ثلاث منها متمسكة برأيها بشدة
أمام الثلاث الأخرى.
وراح في سُبات «. ما من حُجَّة في العالم يمكن أن تزعزع قراري » : قالت قنينتا الدكتور
عميق مرة أخرى.
لا يوجد أيُّ قدر من الإقناع » : قالت قنينة الآنسة بلانشبعد مُضيساعتين من الأمسية
وأكملت القنينة هامسة: «… والملاطفة يمكن أن يجعلني أعُارض رغبات أبي، ولكنني
«. آسفة أنه عنيدٌ للغاية »
لا أصُدق هذا؛ فجمود قلبك لا يقل عن جمود أفكار » : ردَّت قنينات ستراوت الثلاث
والدك الشمولية. لستِ من لحم ودم كباقي النساء. ما أنت إلَّا مجرد امتداد، يتألَّف من كتلة
من المفاهيم، ويدَّعي كونه كيانًا مستقلٍّا، ويفرضوجوده غير الحقيقي على شيطانٍ بائسٍ
مثلي. أقول إنكِ غير حقيقية. محضخلل في المنطق، خطأ في الإدراك، مغالطة في الاستدلال،
أنت فرضية مغلوطة الموضع، وإلامَ ستئُولين؟ دخان! يتطاير في كلِّ مكان. لو لم تكوني

كذلك، لكنتِ اهتممت بي. يا لي من أحمق كي أحبك! كأني بنفسي أحب ذكرى أو فكرة أو
«. حلمًا أو صيغة رياضية أو قاعدة نحوية أو أيشيء آخر يفتقر إلى الوجود المحسوس
لم تنطق بكلمة، لكن اغرورقت عيناها بالدموع.
الوداع يا بلانش، فلتبارككِ السماء حين يُزوجُك أبوك » : واصل حديثه لدى الباب قائلًا
وسحب قبعته فوق عينيه ولم يلحظ نظرةَ الألم والحيرة التي «! في النهاية لقياسٍ منطقي
غمرت وجهها الجميل.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.