بداية القصة كانت بمولد فتاة صامتة تراقب تصرفات البشر لتفهمهم وتتجنب العقاب.
سافرتْ خارج مصر، وسنها لم يتعد الثلاث سنوات، كانت أول رحلة لها في الحياة وحصلت فيها على صديق جميل لعبت معه وأخذت بعض الصور لتتذكره عندما ترحل.
وهي تلعب جاء شخص يخبرها أن تأتي هي وصديقها لأنه حان وقت الأكل، كانت تقف بعيدًا عن صديقها ولكنهم كانوا يحيطون به وهي تنظر بترقب لتفهم ما الأمر، وجاء رجل وسحب سكينًا ليذبحه فلم تتحمل رؤية صديقها وهو ينظر إليها أنها خائنة ولم تنقذه من ذلك المصير، كانت عيناه عليها وبعد أن تم ذبحه قاموا بشوي لحمه وأكلوه.
في تلك اللحظة شعرت الطفلة بعدم الأمان من جميع البشر؛ نعم كان مجرد خروف لكن لتلك الطفلة كان أول صديق تحصل عليه ولذلك السبب كانت تشعر بالخوف من اللحم وأنها تأكل صديقها ليس مجرد خروف.
عادت الطفلة من تلك الرحلة لتمكث في البيت وتنتظر موعد خروجها لتتعرف على هذا العالم، كانت فترة مملة وكانت تتساءل: (ماذا سترى في ذلك العالم؟).
في يوم من الأيام رأت مشهدًا في فيلم تموت فيه البطلة لتصبح شبحًا يتحرك بحرية وتخترق كل الأشياء ولا يستطيع أحد أن يؤذيها، ظل هذا المشهد يدور في رأسها لأيام وقررت أن تقتل نفسها لتحصل على تلك الحرية المطلقة، وحاولت الانتحار عدة مرات، ولكنها كانت خائفة ولم تتجرأ.
***
مرت الأيام لتصبح تلك الطفلة كبيرة بما يكفي لتخرج إلى الحياة وتذهب للمدرسة فاعتبرتها فرصة لتتعرف على الحياة قبل أن تموت وعندما وصلت لسن الثماني سنوات أدركت أن تلك الفعلة ستجعلها تخسر كل شيء لأنها ستكون قد كفرت بالله، وكانت تبكي وتظن أن جميع الأطفال أحباب الله إلا هي لأنها أرادت أن تنتحر.
وعلى الرغم من ذلك لم تستسلم وبحثت عن خطة أخرى لكي تموت دون أن تغضب ربها فلم تجد سوى أن يقتلها شخص آخر، لم تكن تعرف كيف؟ أو متى؟ ولكنها ظلت تنتظر من يخلصها من تلك الحياة.
وخلال فتره انتظارها مرت بمواقفَ صعبة عليها وذلك بسبب شخصيتها الصامتة، لم تخبر أحدًا عما يدور برأسها فقد كانت تفضل أن تستمع أكثر وترى ما بداخل البشر من أعينهم وأصبح لكل إنسان رأيه فيها فهناك من ظن أنها هادئة، وهناك من ظن أنها ضعيفة أو غبية أو فاشلة أو قبيحة، ولسوء الحظ أثرت عليها تلك الكلمات؛ كانت تظهر عدم اهتمامها وأحيانًا عدم فهمها، ولكن في الحقيقة كانت تبكي كل يوم لعدم قدرتها على التعبير.
ابتعدت عن البشر ولم تتحمل أن تسمع أصواتهم البغيضة فكانت تصطنع الابتسامة حتى لا يرى أحدٌ ما بداخلها.
في أحد الأيام مَدَحتْ قريبةٌ لها أخاها الأكبر فشعرت الطفلة بالغيرة وذهبت لسؤال الفتاة بكل براءة وقالت:
- وماذا عني؟
ردت الفتاة وقالت:
- هو أجمل منكِ.
في ذلك اليوم تأكدت الطفلة أن جميع البشر يرونها قبيحة وجاءتها فكرة لتصبح جميلة وذكية وهي أن تكون ولدًا لأن الأولاد هم من يحصلون على الدعم والاهتمام وهذه الفكرة ستجعل الجميع يحترمونها ويقدرونها مثل إخوانها الأولاد، وبدأت تمحو كل شيء يجعلها فتاة، واحتقرت كونها فتاة، ولأنها كانت صامتة لم تخبر أحدًا أو تظهر ما بداخلها، كانت تكرر بين نفسها أن أفكارها لها فقط ولا يجب أن يطلع عليها أحد إلى أن تصل لهدفها وتكبر وتصبح رجلًا ذا قيمة.
وزاد إصرارها على تلك الفكرة حلمٌ لأبيها فسره شيخ بأن لديه ابنًا من أبنائه سيكون لديه شأنٌ عظيمٌ في الدنيا وعندما عرفت العائلة بذلك ظل الجميع يردد أسماء إخوانها الأولاد وأصبح هناك رهانات عليهم إلا هي؛ تأكدت أن الجميع لا يراها وهي ليست سوى ظل، فقررت أن تبذل كل جهدها لتحقق ذلك الحلم الذي لا يتذكره الآن غيرها ولم يسعَ أحد لتحقيقه غيرها فكلهم لديهم الدعم الكافي لتحقيقه بكل سهوله ودون أن يتذكروا ذلك الحلم.
وبسبب ذلك الضغط لم تكن تتقبل الحياة ولكن ظل الأمل بجانبها وكانت تردد أنها ستصل لهدفها ولن تستسلم ولكنها كانت تعلم أن الوصول صعب لأنها كانت تلميذة فاشلة وكان معظم المدرسين يضربونها بسبب غبائها، كانت تحاول بكل جهد أن تجاوب على أي سؤال ولكن لم تنجح، وكانوا يستهزؤون بإجابتها وعندما تجيب على سؤال يظن المدرس أنها تغش فيسألها سؤالًا آخر فتخطئ فيتم ضربها لأنها غبية وأيضًا غشاشة.
قررت الصمت حتى وإن كانت تعلم الإجابة الصحيحة فلا أحد يثق فيها وكان الضرب أفضل من الاستهزاء بها أو ظلمها.
كانت تحتاج المساعدة لكن شعورها بعدم الأمان جعلها ترفض طلب المساعدة حتى لا تتعرض لمزيدٍ من العقاب، كان أهلها يظنون أنها متفوقة ولا تحتاج لأي مساعدة.
بحثت عن طريقة لتساعد نفسها فوجدت طريقة وهي أن تستمع لشرح والدتها لأخيها الأكبر.
كانت الأم مدرسة بارعة فأصبحت مدرسة العائلة وكانت تحب القراءة مما جعل لها حصيلة علمية كبيرة في جميع المواد.
بدأت الطفلة دراسة منهج أخيها الأكبر عندما ينام الجميع وتراجع ما شرحت الأم وظلت تفعل ذلك لمدة سنتين لتصبح ناجحة مثل أخيها فهو يكبرها بسنتين فقط وكانت تذهب إلى المدرسة لتعاقب على فشلها وأخذت تصبر نفسها بأنها فقط مسألة وقت وستثبت للجميع أنها ليست غبية.
مرت السنتان وجاء وقت جني ثمار تعبها فأصرت الدنيا على فشلها فقد تغيرت المناهج وأصيبت بحالة من اليأس ولم تعد تبالي بشيء فغدًا دائمًا أسوأ من اليوم.
لم تعد تهتم بالدراسة أو حتى تحاول من جديد فوجدت نفسها في الامتحان تبكي ولا تستطيع حل أبسط الأسئلة فأشفق عليها زملاؤها وكتبوا لها جميع الإجابات، فشعرت في تلك اللحظة أنها أصبحت شخصًا متسولًا وكم هي غبية لتصل لتلك الحالة وقررت أن تكون شخصًا متفوقًا وتحصل على شهادة تكريم مهما كلفها الأمر.
بدأت في تنفيذ خطتها ولم تحصل على شيء في أول سنة فلم تستسلم واستمرت ولكن لم تحصل أيضًا على شيء في السنة الثانية ولم يعد أمامها سوى آخر سنة وتتخرج من مدرستها فلم تنم حتى تحقق ذلك الحلم.
كانت تحلم بأنها تدرس حتى لا تضيع أي وقت، وجاء وقت معرفه الطلاب المتفوقين لتكريمهم وكانت غائبة في اليوم الذي نادوا فيه أسماء هؤلاء الطلاب وعندما ذهبت للدرس أخبرها أصدقاؤها أنهم علموا بأسماء الطلاب المتفوقين وفي تلك اللحظة لم تتجرأ بأن تسأل: (هل اسمي من بينهم؟) كانت تنتظر ليخبرها أحد فقالت لها صديقتها:
- كان اسمك من بينهم.
لم تصدق وظلت تسألها:
- هل أنتِ متأكدة؟
وكان هناك صوت في رأسها يقول (هل هي حقيقة أم فقط حلم جميل؟) لم تستوعب إلا عندما ذهبت لحفل التكريم وحصلت على الشهادة.
وعلى الرغم من إصرارها ونجاحها لكنها تعلم أنها بلا هوية لم تعرف كيف تحصل عليها، فبدأت بتقليد بعض الفتيات المحبوبة وعندما كانت في المدرسة وتلعب مع زملائها قاموا بالاستهزاء بفتاة تقلد غيرها، عندها علمت (ما ستجنيه من هذا التصرف).
ظلت تبحث عن شخصيتها، لم تكن تعلم شيئًا عن نفسها ولم يكن لديها لون مفضل أو هواية مفضلة فقط اهتمت بتغيير رأى البشر فيها فلم تدرك (أين المشكلة؟) وبحثت كثيرًا لتحلها لكن الأمر كان صعبًا.
وأثناء تلك الفوضى وقبل وصولها لمرحلة الثانوية العامة تعرضت لصدمة جعلتها شخصًا متشائمًا ولم تعد تريد العيش؛ تريد فقط النهاية والآن حتى وإن كانت النهاية سيئة وقررت الانتحار فلم تجد سوى نصف شريط من (البرشام) شربته وهي لم تأكل منذ أيام وشعرت أن الأرض تتحرك في كل الاتجاهات إلى أن سقطت.
بعدها استيقظت وهي لا تعلم كيف ولماذا هي هنا مجددًا؟
ولماذا لم ترحل؟
وهل ربها يحبها لهذه الدرجة ورفض أن تذهب إليه وهو غاضب عليها؟
تذكرت في تلك اللحظة عندما سألت والدتها عن قصة اسمها، ولماذا اختارت هذا الاسم بالتحديد؟
أخبرتها والدتها عن قصة ذلك الاسم وقالت:
- عندما كنت في سيارة الأجرة ذاهبة لأعرف نوع الجنين هل هو صبي أم فتاة، ظل صوت ينادي في أذني طوال الطريق، لم يكن صوت إنسان، أخبرني أنكِ فتاة وأخبرني باسمك.
وقالت الأم لطفلتها وهي مبتسمة:
- اسمك اختارته الملائكة.
تذكرت الفتاة كم هي مميزة عند ربها وكم مرة ينقذها ويحميها من نفسها ومن هؤلاء البشر، عرفت يومها أنه لا يهم ما يظنه الناس يكفي أن الله عالم من تكون وكيف تسعى.
ولكن يظل من المهم إيجاد طريقة صحيحة للتعامل مع البشر لتحصل على الاحترام المتبادل وأيضًا حتى لا يؤثروا على حالتها النفسية بالسلب وإلى أن تصل لهدفها يجب عليها ألا تصدق الكلام السلبي عنها فقط يجب أن تكون محاربة قوية لا تترك المعركة وتهرب.