إلى أين ستأخذني الحياة؟
لستُ أدري... كل ما أعلمه أني أصبحت حطام إنسانٍ انهدمت أحلامه فسقطت فوق رأسه... ضعيفٌ أنا أشعر بالدونية.
لا أحد يهتم بشأني...
منهك مما فعلته بحالي، يهيمن على عقلي الانتحار، يحاوطني الفراق... فارقت كل شيء، كل شخص.. حتى جسدي أخشى أن يفارقني... سيفارقني حتمًا إذا لم أرتد عن ما أفعله.
مررت بالكثير من الأحداث بحياتي فازدحمت رأسي، وضعفت شخصيتي، لم أتلقَّ اهتمامًا من أحدهم.. جميعهم فقط يدللونني، كل ما أريده واجب التنفيذ فورًا.. كم كنت سعيدًا بهم وطلباتي مجابة وكأنها أوامر ينفذونها دون جدال، لم أعلم أنني لم أجنِ سوى على حالي.. كانت طفولتي جميلة، يتمنى كل طفل أن يعيشها.
كنت مدللًا عن إخوتي فأنا الابن الأصغر لأبي.. طالما شعر إخوتي بالغيرة من معاملة أبي وأمي معي فاتفقوا على تحطيم شخصيتي.
دائما ما يقولون لستَ أخانا بل وجدناك أمام المسجد!
ماذا عن طفلٍ يعيش والشك يتخلل شخصيته، ينهش ذاكرته وكأنه يعتصر عقله كي يتذكر طفولته؟
هل لي أن أتذكر يوم ولادتي؟
محال أن أتذكر، أعلم أنكم ترون الأمر غاية في البساطة لكنني أراه كارثةً كبيرة.. كلما رأيت رجلًا يحنو عليّ ظننته أبي..
بدأت أفكر من يشبهني بالعائلة، لم أجد سوى عمي.. هل من الممكن أن يكون هو أبي؟
ذهبتُ إليه، جلست بجواره طيلة اليوم فأتى إليّ بقطعةٍ من الحلوى اللذيذة ونظر إليّ بحنانٍ يكفي الكون.
عمي وهو يعبث بشعري:
- تعلم أنني أحبك أكثر شخصٍ بهذه الأسرة.. تشبهني كثيرًا.
نظرتُ في المرآة التي تقع بجوار باب الشقة.. نعم إنها نفس الأعين العسلية والبشرة الخمرية والشعر الذهبي المسدول على الوجه وكأني قطعة انفصلت منه.
دب الشك بقلبي، عدت إلى المنزل أنظر إلى أمي البيضاء وعينيها السمراء.. لا لستِ أمي، لكنكِ تحسنين معاملتي كونكِ امرأة حنون فالحنان ينبع من حروف اسمك..
(حنان) هو اسم أمي وكل حرف من اسمها ينطق ويشهد بعشقي لها وحنانها الذي يسع الكون..
أعطتني كوبًا من الشاي المضاف إليه الحليب، رفضت أن أشربه، جلستْ بجواري.
أمي بدلال: ماذا بك حموزي؟
حمزة موجها وجهه للجهة الأخرى غير ناظرٍ لأمه:
- لا شيء، لا أريد أن أشرب شيئًا.
استكملتْ تحضير أوراق الملوخية لتعد لنا الغداء لتحضر وجبتي المفضلة ملفوف ورق العنب مع الملوخية والدجاج المشوي..
دق الباب ولأول مرة لم أهلل: "جاء أبي، جاء أبي".
فتحتْ "تاليا" الباب.
أبي بلهفة: أين حموزي حبيبي؟
وجدني أجلس بجوار النافذة البيضاء القديمة المتهالكة واضعًا قدمي داخل ملابسي من شدة البرودة، فسألني بشغفٍ وهو يقبّل يدي بحب:
- ماذا بحبيبي؟
حمزة عاقدًا يديه: لا شيء يا أبي.. لا شيء.
أمي بصوتٍ موسيقي: الغداء جاهز، تفضلوا.
حمزة وهو يركل الأرض بقدمه من شدة غضبه:
- لستُ جائعًا.
دخل أبي معي غرفتي وربت على كتفي، بدأ يتحدث معي كثيرًا ويروي حكايته الجميلة عن الحصان القديم الذي أهداه إليه جدي وباعه هو ليبتاع بعض الكتب ويستكمل دراسته.. واستكمل حديثه عن كفاحه وحبه للحياة.. لم يصل إلى شيء، لم يعرف سبب غضبي فدخلت أمي الغرفة:
أبي: تفضلي يا حنان.
أمي: حمزة حبيبي سيأكل كي لا أغضب منه.
وبعد جدلٍ كبيرٍ وافقتُ أن آكل..
مر يوم وراء يوم، وكل يوم أتوجه إلى بيت عمي لأجلس بجواره نشاهد الأفلام الأجنبية.
جاء عمي إلى بيتنا ليتناول الغداء معنا، جلست على قدمه، وعيناي تلتف حول الجميع، نظرات الشك تحاوطهم، والأسئلة تحاوطني؛ فأخي يشبه أمي، أختي تشبه أبي كثيرًا، لماذا لا أشبههم؟
هل حقا عمي أدهم هو أبي؟
لماذا ألقاني لأخيه ليكمل تربيتي؟
ماذا عن أمي؟
هل هي أمي أم اتخذتني ابنًا لها؟
ما هو سر حبهم الشديد لي وتمييزي عن أخوتي؟
وكل يوم تعاد الكرّة من جديد حتى عادت أيام الدراسة وبعد أن لاحظتُ أن عمي لم ينجب منذ أن تزوج وبدأت شكوكي تتنحى عن الحقيقة.. لو كان أبي لأنجب أطفالًا كُثر يعيشون معه..
وبعد فترة راودني الشك من جديد فجاء معلمي الذي يشبهني أيضًا.. بت أشك أنه أبي فذهبتُ إليه فتحدث بلطف:
- حمزة أنت ولد جميل وأنا أحترمك جدًّا.
حمزة رافعًا حاجبيه إلى أعلى:
- أنا أيضًا أحبك وأريد أن أسألك سؤالًا.
المعلم بفضول:
- اسأل حبيبي.
جريت بسرعة وعدت إلى فصلي متهربا منه.. كلما تلاقت أعيننا تنبض مقلتاها بالتعجب حتى تحدثت مع حالي، وقررت أن أواجه والدي بمعلمي عماد، ومن المواجهة سأعلم هل حقًّا هذا أبي؟ أراقب نظرات أمي؛ هل ستخشى خسارتي حين أراه؟
فذهبت إلى غرفة المدرسين باحثًا عنه، لم أجده.. انتظرته على الأريكة الخشبية المحطمة المتسخة.. جلست طويلًا حتى اتسخ بنطال المدرسة البني والقميص الأبيض، وحين رأيته من بعيدٍ هرولت إليه وأنفاسي تتصارع:
- يا أستاذ عماد... أريد أن آخذ درسًا خصوصيًّا؛ فدرجاتي هذا الشهر دون المستوى.
المعلم بلا مبالاة: ليس لديّ مانع... تفضل رقمي واطلب من والدك الاتصال بي لنحدد موعد الحصة الأولى.
عدت إلى المنزل وأنا في غاية السعادة، شعرت لأول مرة أنني أتصرف بدهاء... شممت رائحة العدس وأنا على سلالم منزلنا المحطمة... تعلم أمي أنني لا أحبه، لن أبالي.. نعم أنا سعيد.
انتظرتُ أبي حتى عاد، وذهبت مع "تاليا" إلى المطبخ أتناول أطباق شوربة العدس والبصل الأخضر مع الخبز، أكلتُ بِنهم وسعادة على غير عادتي حين أجد أن الطعام عدس.
نظراتٌ غريبةٌ من الجميع، وضحكات خبيثة من تاليا وأخي مؤمن حتى أنهيت الطعام وطلبتُ من والدي أن يدخل غرفتي ورائي.
ضحك الجميع حين وضعت يدي بجيب معطفي ونظرت إلى الخلف لأطلب من أبي أن يغلق الباب وراءه، لم أهتم بشأنهم.
- مستواي الدراسي أقل من زملائي يا أبي.
تحدثتُ بانكسارٍ فأجابني والدي رافعًا حاجبيه:
- هل تريد أن تأخذ دروسًا خصوصية؟
حمزة وكأنه للتو وجد طوقًا للنجاة: نعم أبي، أعلم أن هذه ليست مبادئك لكنني مضطر فقط في اللغة الإنجليزية.
الأب وهو يحرك رأسه مشيرًا بالموافقة:
-سأرسل والدتك معك إلى المدرسة كي تتحدث مع المعلم.
حمزة بترددٍ وخوفٍ: لا، رقم هاتف معلمي معي، سأعطيه لك وتحدد موعد أول حصة.
- أوامرك مجابة حموزي.
حدد أبي أول موعدٍ للدرس يوم الجمعة، وجاءت الريح بما لا تشتهي نفسي.. صدمت مما حدث حقًّا، ليتني ما طلبت حضوره إلى منزلنا.
في يوم الجمعة هندمتْ والدتي المنزل وعطرته استعدادًا للدرس، وقفتُ على أول الشارع لأصطحبه معي.
مددتُ يدي للأمام وأنا أقول:
- تفضل أستاذي.
سقطتْ الأكواب من يد والدتي حين رأته، حدقت عيناها وفتحت فمها، جاء والدي على صوت الأكواب المفتتة ليكمل مثلث الاندهاش.. نظر أبي إلى أستاذي بغضبٍ فسرعان ما هرب من المنزل!
نعم هرب.. جرى بعيدًا حيث لن تراه عيناي.
خرجت تاليا من الغرفة تدندن بصوتها العذب:
"وبحبك والله بحبك والله والله والله بح... ".
ثم صمتت تمامًا وبتعجب قالت:
- ماذا بكم؟ أين المعلم؟ حمزة، ماذا بك حمزتي.
فدفعتُها بعيدًا.. ليس هذا وقت المزاح.. ظريفة هي انتظرت حتى يتحدث أحدهم لكن دون جدوى. الصمت ساد أرجاء الشقة فإذا سقطت إبرة تستطيع أن تسمع رنينها.
عدت إلى غرفتي متمنيًا أن تنشق الأرض وتبتلعني، ولأول مرة تهتم تاليا لأمري.
دق باب الغرفة فكفكفت دمعي وتمالكت نفسي.. نظرت إلى المرآة لأرى آثار البكاء.. أمسكت منديلًا لأضعه على أنفي الأحمر وبكل هدوء قلت:
- مَن يطرق الباب؟
أجابتْ بحنانٍ على غير عادتها:
- أنا تاليا.
أخذتني بين ذراعيها متحدثة بجدية كبيرة:
- من المؤكد أن هناك سرًّا وراء غضبهم جميعًا وسأساعدك لنعرفه.
- كيف سنعرف؟ فالجميع بحالة ذهول.
تاليا: سوف أهرب من محاضرتي الثانية وآتي معك إلى المدرسة وأتحدث مع أ. عماد.
وضعنا خطةً كبيرةً لنوقع "عماد" في خانة الشك لينطق بالحقيقة.. لم أتمالك حالي من الشعور بالارتياح فصعدت فوق خزانة الثياب، وبرشاقة "سوبر مان" قفزت والضحكة تتطاير من ملامحي لأصطدم ببطن تاليا، فصرخت وضحكنا معًا ثم خرجنا من الغرفة واضعًا يدي فوق كتفها وهي تحملني من الأرض لتتساوى أطوالنا رغم قصر قامتها لكنني صغير، أنتظر أن أكبر، أعيش على أمل أن أتمدد مثل عمي وأصطدم بالباب كلما مررت منه.
دخلنا معا المطبخ وخبزنا ثلاثة أنواع من البيتزا الشهية، اتجهنا إلى غرفة والدينا، خبطنا خبطات متوالية على الباب بنغمة موسيقية، خرجا ولكن لأول مرة أرى ملامح الحزن بوجه أبي بل هو حقًّا كان يبكي.
ما الشيء الذي يبكي المرء أكثر من حسرته على ضياع من تعب بتربيته؟ فهو متعلق بي كثيرًا والآن جاء أبي صدفة ليأخدني منه، أم سيتركني؟
هل هو حقًّا أبي، أم أنا بلا أب وأم؟ بلا هوية؟ بلا مأوى؟ بلا حياة؟ حتى بلا حمزة... فأنا غريب عن نفسي.. هل حمزة هو اسمي؟ أم اكتسبته؟
-إلى أين ذهب عقل عقلة إصبعي؟
قالتها تاليا بخبث وهي تضربني على ظهري بعنف.
مجددًا:
- لولي.. ألسنا أصدقاء؟
ابتسم والداي.. أمسكتُ بقدم أبي وكأنني أشد أزره:
- أحضرنا لكم بيتزا، أرجوك تناولها معنا.
قلتها أنا.
أبي: سآكل معك وبعد الأكل سندخل غرفتنا نتحدث معًا كالرجال.
ضممنا كفينا ومررناهما فوق بعضهما بعضًا:
- سنبقى أصدقاء.
وأخرجتُ لساني لمؤمن كي يغضب، أعلم إنني شرير لكنه أيضًا دائمًا ما يغضبني.
- والآن أنا فقط غريب عنكم... تاليا صديقتك، أبي وأمي هما أبطال حياتك، أما أنا فاللهو الخفي.
قالها مؤمن فجريت بسرعة، قفزت لأجلس على قدمه.
- أنت أخي حبيبي أعيش بحمايتك لي أتذكر حين ضربني إبراهيم، لم أتجه إلا لك، ورددت لي حقي حين ضربته بمنتصف الشارع أمام الجميع.
- أنت حبيبي حموزي، قالها مؤمن.
فجريتُ وراءه حتى وصلنا غرفته، سرعان ما أغلق الباب كي لا أضربه.
مر يوم السبت بملل كدت أن أحطم الساعة وأحارب عقاربها كي تتحرك، وفي تمام الساعة السابعة صباحًا دق المنبه فاستيقظتُ وأيقظت تاليا، ارتديتُ ملابس المدرسة وارتدتْ تاليا فستانًا بلون البحر يتخلله ورود باللون البمبي، وحجابًا بلون البحر وتكحلت بالكحل الأزرق، وضعت أحمر شفاه وردي، وتناولنا الإفطار ثم هندمتْ لي شعري ونزلنا معًا بصحبة مؤمن
غمزت لها، ضحكنا معًا.
-المجانين في نعيم.
قالها مؤمن مشيرًا إلى أذنه بعلامة الجنون.
وفي تمام الساعة الثانية عشرة ظهرًا جاءت تاليا إلى المدرسة، كنت بدورة المياه، رأيتها فقررت أن أراقبها خوفا من أن تداري الحقيقة، تحدثتْ مع المشرفة تسأل عن أستاذ عماد فأجابت إنه بغرفة المعلمين.
-أخي شهاب يريد أن يدرس مع حمزة درسًا خصوصيًّا.
قالتها تاليا وهي بقمة التردد والخوف؛ فشخصيتها بها خللٌ كبيرٌ جدًّا، تهندم حجابها، تشد بفستانها وكأنها تجلس على الجمر من التردد تغيرت ملامح عماد.
- لكنني لم أعطِ لحمزة درسًا خصوصيًا.
قالها عماد، فبرزت عين تاليا:
- لماذا قال لي أخي إنك ستدرس لحمزة.
ارتبك عماد ململمًا أشياءه:
- لن أعطي درسًا خصوصيًّا لحمزة أبدًا.. أتسمعيني؟ أبدًا.
تلألأ الدمع بعينها فسرعان ما أخفض نبرة صوته معتذرًا لها
- هناك مشاكل عائلية بيننا تمنعني من مجرد دخول منزلهم.
دخلت في هذه اللحظة متدخلًا بالحديث:
- لماذا لأني أنا سبب كل ذلك تخشى من ......
صمت رهيب وكأن أحدهم ربط لساني.
- حمزة ما الذي أتي بك إلى هنا؟، قالتها تاليا بغضب.
تحدثت بجدية: امتنعي عن الحديث أختي.
- أختك؟
قالها عماد بغضبٍ، فارتبكت تاليا، أخذتني بسرعةٍ، خرجنا من الغرفة لنتهرب من الحديث معه، ولكن سقط من حقيبة يدها شيء ما... فما هو؟