Za7makotab

شارك على مواقع التواصل

*في عام ١٩٤٦ في شهر مايو وجد طلعت وظيفة عمل كبواب في بيت العمدة فأعتبر ان بدر وجهها خير عليه لأنه وجد وظيفة ذات دخل جيد، وفي سنة ١٩٥٠ في شهر سبتمبر وجد وظيفة مماثلة لعمله لأحدى العائلات الغنية في القاهرة في المعادي.
*قال لزوجته في لهفة:
-ان بدر وجهها خير علينا، لقد وجدت وظيفة أفضل من بواب في بيت العمدة، صديقي حنفي الذي كان يعمل بواب في احدى الفيلات في القاهرة، قال لي ان مالكين الفيلا أعطوه اجازة لان زوجته سوف تنجب ذلك الاسبوع، وهم في حاجة إلى بواب في تلك الفترة وحتى بعد أن ينهي حنفي اجازته هم يحتاجون بوابان ليس واحدًا، وقال لي: "أي سوف تكون صديقي في العمل أيضًا".
آه يا منيرة اسمعي، لقد قال لي ايضًا أن مالكين البيت يحتاجون خادمة، وحنفي قال لي:
-ان لم تكن زوجتي سوف تنجب لكنت أتيت بها إلى هنا لكي تعمل معي خادمة، أنت لا تدري المرتب هنا جيد جدًا، ولكن أنت تعلم حتى لو أنجبت زوجتي من سوف يهتم بأولادنا، لذا أتمنى أن تجد أنت من يعمل في تلك الوظيفة.
*عندما قال لي ذلك التمعت فكرة في ذهني، بما اننا بمفردنا وليس معنا أطفال فلتأتي للعمل معي.
*حزنت منيرة وقطبت حاجبيها وشعرت بالغضب كذلك من كلامه الذي لم ينتبه له وأردفت:
-ومن قال لك اننا ليس لدينا أطفال، ماذا عن ابنتنا بدر...؟
*حك طلعت رأسه في إحراج واستطرد:
-أنا أظن أن من الأفضل أن نعيدها لأهلها، كي لا تعرقلنا اثناء العمل.
-ومن قال ذلك، بدر فتاة هادئة تمامًا، وأنا التي أتعامل معها طوال اليوم ليس أنت، وسوف تكون معي في أي مكان أنا به مثل ظلي، كي لا تغيب عن عيني، أنا لا أستطيع العيش بدونها، أنا أشعر مع بدر عندما أنظر في عينها أتذكر أمي وأشعر في حركاتها بأختي فوزية وأشعر بطفولتها كأنها بنتي، بدر بالنسبة لي عدة أمور وعدة مشاعر ولن استغني عنها.
-افعلي ما تشائين يا منيرة، أنا قلت ذلك ليس من أجل أن أجرحك، أنا قلت ذلك لأني لا أريد أن يضايقك شيء.
-بدر سبب سعادة لنا ليست لمضايقتنا أبدًا.
-اختاري ما تشائين، المهم في النهاية أن تكوني معي، أنتِ تعرفين اني لا أستطيع أن أكون بعيدًا عنك حتى يوم واحد.
*شعرت منيرة بالخجل وأحمر وجهها وصارا خديها مثل الطماطم وأردفت:
-ولكني يا طلعت لم أجرب العمل من قبل.
-هذا ليس عمل بمعنى عمل، تعرفين الأمور الذي تفعلينها في بيتنا من تنظيف وطهي، سوف تفعلين ذلك مقابل أجر.
-ولكنني لم أترك القرية من قبل، أظن اني لن أعتاد على مكان مختلف عن القرية التي نشأت بها.
-بالعكس سوف تحبين القاهرة أكثر وترتاحين في جو المدينة وسوف تعجبين بالفيلا فهي مكان أرقى بكثير من ذلك البيت الصغير المصنوع من الطين، سوف تري العز والراحة هنالك صدقيني.
*ابتسمت منيرة وقد شرح وجهها بعلامات الرضا وأردفت:
- أنا معك في أي مكان تريدني أن أكون به معك.
★★★

سافرت منيرة وزوجها ومعهما بدر إلى القاهرة، عندما دخلت منيرة إلى الفيلا لم تصدق نفسها بل وشعرت انها في الجنة.
ظلت منيرة تنظر إلى كل شيء في دهشة ولهفة، لم تصدق ذاتها عندما رأت الفيلا وضخامتها وسألت زوجها طلعت وهي مندهشة وقد فتحت فاها على مصرعيه:
-كم شخص يعيش في هذا المكان يا سي طلعت...؟ أكيد سوف أخدم أكثر من مئة شخص ها هنا...!
*ضحك طلعت وقهقه بسبب اندهاش زوجته، فهو إلى حد ما أعتاد على مظاهر العز في العمل في بيت العمدة، ولكن الاختلاف هنا ان كل شيء على مستوي عالٍ من الرقي، وأردف موضحًا لها:
-لا يا حبيبتي صدقيني ان كل هذه الفيلا لا يعيش بها سوى أربع اشخاص، البيك والهانم وابنيهما.
*هزت منيرة رأسها وهي تستمع لزوجها وهي في عالم اخر تتأمل كل ما حولها، سواء من مبني الفيلا المكون من طابقين ويوجد مبنيين واحد على يمين الفيلا وأخر على يساره، وغير الغرفتين الكبيرتين خلف الفيلا، فهذه أماكن للخدم، وفي حين كانت منيرة تمشي سارحةً في هذا الجمال المعماري الذي حولها، وجمال الأشجار الذي تم تقليمه على أشكال لم تعتد أن ترى الاشجار عليها، وأكثر ما أسر قلبها تلك الورود التي تزين الفيلا، فجأة تثب منيرة متر في الهواء من شدة الفزعة التي افاقتها من شرودها في الفيلا:
*أخذ طلعت يقهقه بصوتٍ عالٍ، ومن ثم تمالك أعصابه وكتم ضحكته عندما رأى تعبيرات الغضب التي رسمت على وجه منيرة فور فزعتها، ومن ثم بدأ يربت على كتفها ويهدئها ويقبل يدها، وأستطرد:
-اهدئي يا حبيبتي، انه كلب، وإن هذا أمر مألوف في أي فيلا، ولا تقلقي فهو مربوط، وهو في بيته لن يؤذيكِ.
*تنفست منيرة الصعداء وقالت وهي متعجبة وهي تمصمص شفتها:
-كلب له بيت، عجيبة!
★★★

*أختار طلعت العمل في النهار كي يكون فترة عمله مع زوجته منيرة متماثلة، وكان لهما غرفة في الحديقة خلف الفيلا ينامون بها كانت غرفة كبيرة حقًا وبها كهرباء ومصنوعة من الطوب لا من الطين ومطلية باللون الابيض مما أضاف إليها لمسة رقي، كانت الغرفة بها حمام افرنجي لم تفهم منيرة كنهه.
وسألت طلعت مستغربة:
-لم دورة المياه مختلفة ها هنا...؟
-ان الحمام هنا على الطريقة الفرنجية، سوف تعتادين على الأمر مع الوقت.
*كان هناك سرير واحد في الغرفة لمنيرة وطلعت، لذا طلبت منيرة من طلعت ان يبتاع مرتبه لبدر لكي تنام عليها وأن يبتاع ستارة كذلك لكي تشكل حاجز بعد مرتبة بدر أي كأنها غرفةُ خاصةً لها تفصلها عنهما.
حقًا لم تحلم منيرة بحياة مثل هذه، وشعرت أن بدر هي بشرة خير لهما.
*كانت بدر تقضي يومها كله في جرة خالتها، أينما تمشي خالتها منيرة هي تمشي ورائها، للدرجة لم تكن تقل لها يا خالتي منيرة، بل كانت تقول لها يا أمي، حتى زوج خالتها طلعت كانت تقول له أبي، أحبتهما كثيرًا وكانوا نعم الأهل لها، وشعرت بكل الحب الذي تحتاجه في كنفهما، قد احتواها وعاملاها كأنها أكثر من ابنتهما، فاقد الشيء هو الذي يعطيه بالفعل، من يفقد الشيء هو من يشعر بقيمة الشيء وقدره الحقيقي، بينما من يمتلك الشيء في الأساس لا يشعر بقيمة ونعمة الشيء الذي في يده إلا عندما يخسرها.
*كانت الغرفة التي كانت تعيش بدر وخالتها وزوج خالتها كأنها قصر بالنسبة لهم، بالفعل أنت ترى الأشياء التي حولك كما تريد أن تراها، يعني مثلًا قد تكون في قصر ولكنك تفكر بسلبية وهذا يجعلك ترى الدنيا بعين الذبابة ترى كل ما حولك قبيح ويبعث الكأبة، بينما بالقناعة والرضا وشعورك الداخلي الذي تملئه الطاقة الإيجابية ترى كل ما حولك بشكل جميل فتنظر للدنيا بعين النحلة التي ترى الجميل فقط، فالنحلة يكون هدفها الوصول إلى ما هو جميل ألا وهي الزهور لإنتاج ما هو أجمل ألا وهو العسل.
*لذا يجب علينا أن ننظر للحياة بطريقة ايجابية لأن هذا يؤثر على افعالنا وإذا كانت افعالنا ايجابية تكون النتيجة العائدة علينا تكون بالنفع كذلك.
على سبيل المثال بإمكانك أن تشعر بالحر وأنت في وسط الثلوج وذلك بمجرد شعور كامن بداخلك، من الأفضل أن نطوع نحن أنفسنا بما نريد، أي نقوم بعمل عملية برمجة لأنفسنا بكل الصفات الجيدة.
آه ما هذا الذي اثرثر فيه دعوني أكمل لكم باقي القصة لا يوجد وقت للخواطر هاهنا.
*مرت الشهور في ذلك المكان الجديد وأصبحت بدر في السابعة من العمر.
*بدر في المطبخ مع خالتها كي تسليها أو كي لا تتركها وحدها.
ولكن كانت بدر تتسلل من حين لأخر من المطبخ عندما تنشغل خالتها في إعداد الطعام.
كانت بدر ترتدي ملابس جميلة حقًا، فكانت خالتها منيرة تحدد جزء من مرتبها كي تشتري لها فساتين جميلة، تختار لها ملابس تليق بقدر جمالها الخلاب وبقدر الفيلا التي تعيش فيها، لان منيرة لا ترغب أبدًا بأن تجعل بدر تشعر بأنها خادمة.
بدأت بدر تتسلل من المطبخ إلى أن وصلت أمام مكتب البيك الكبير، ووقفت أمام الباب وتنظر للبيك الكبير وتبتسم له ببراءة.
كان البيك الكبير لم يرى طفلة بجمال بدر، وكان على قدر من التواضع حيث كان عندما يراها يداعب وجنتيها الوردتين، وبعدما انتهى من مداعبتها نظر إلى ساعته ورأى أن الساعة قد أوشكت على الثانية ظهرًا فطلب منها أن تهم مسرعةً بأن تخبر امها منيرة ان تبدأ في إعداد المائدة، كان البيك متواضع جدًا حقًا مع الخدم ولكن أهم شيء عنده الالتزام بالعمل والدقة في المواعيد.
*نظرت بدر في عينيه وقالت : "أكل ومائدة.. حسنًا".
*دخلت بدر المطبخ وهي تتبختر سعيدة بفستانها الذي يطير معها في كل مرة تثب فيها للأمام أو لأعلى، أول ما دخلت سألتها خالتها منيرة:
-اين كنتِ يا بدر، ألم أقل لكي لا تفارقيني أبدًا.
-كنت مع البيك الكبير وقال لا تتأخري على موعد الغداء.
-أنا لن أتأخر أبدًا، لقد انتهيت لتوي ولكني أضع لمسات بسيطة، ولكن لا تخرجي وتتركين المكان الذي أنا به، حتى لا يطلب أحد منك شيئًا، أنتِ هنا لكي تكوني مثل ظلي، وليس لأخذ الأوامر من أحد.
نظرت بدر في عين خالتها عندما أخذتها خالتها ووضعتها على كرسي بجوارها وقبلتها من بين عينيها، عندما نظرت لها بدر أردفت:
-امي لا تضعي ملح في طعام البيك الكبير اليوم.
*نظرت لها خالتها ضاحكةً وأتت إليها لكي تداعبها في بطنها وأردفت:
-اه منك ، حالاً ما كبرتي وأصبحتِ تعلميني كيف اطهو كذلك.
-اه وشيء اخر يا أمي، لا تجهزي حساء الخضار للبيك الصغير.
-وأي بيك صغير، فهناك اثنين كامل وفؤاد…!
-اكيد فؤاد بيك، هو لا يحب حساء الخضار.
-حسنًا، وما رأيك في شوربة لسان عصفور هل ترين أنه سوف يحبها...؟
-نعم سوف يحبها لو وضعتي معها مكعبات من اللحم الصغير معها.
*وبللت بدر شفاها بلسانها من اشتهاء الأكل... ولكن سرعان ما سألتها منيرة متعجبة..!
-وكيف علمتي ذلك يا أريبه، نحن لا نراهم أثناء الأكل كيف علمتي من يحب ذلك ومن لا يحب.
*هزت بدر كتفها ورفعته لأعلى ومطت شفتها أي لا تعلم.
* بدأت منيرة الفأر يلعب في عبها مثل ما يقولون بدأت تشك في حدس بدر، كيف بنت في سنها تعطي أفكار كهذه...؟
ولكنها توقفت عن التفكير لكي تبدأ في تحويل شوربة الخضار إلى شوربة لسان عصفور، لم تفعل شيء سوى انها انتزعت الخضار ووضعت عوضًا عنها معكرونة لسان العصفور ومن ثم قامت بتقطيع مكعبات اللحم الكبيرة إلى مكعبات أصغر.
*كانت منيرة تربي بدر على احترام رأيها وأن تسمع لها أحيانًا كما تسمع لها بدر، وهذه طريقة جيدة في التربية حيث ينشأ الطفل لديه ثقة في نفسه وفي قراراته وثقه في من حوله حيث يسمعون ويقدرون وجهة نظرة.
*قدمت منيرة الأكل وتركت الاسرة لكي يأكلوا، وبعد دقيقتين سمعت منيرة مَن ينادي عليها صارخًا، كانت الهانم هي من تنادى عليها، نادت عليها كي توبخها، كانت مندفعة وغاضبة مثل شاحنة ضخمة على الطريق السريع وعندما وصلت منيرة أمامها اصطدمت بها وشعرت انها تجزأت إلى أشلاء من شدة السب الذي انهال عليها، وأردفت:
-أنتِ يا غبية ما هذا الطعام لا يحتوي على أي ملح نهائي...
إنها مجرد فلاحة لا تفهم في أكل الباشوات.
لو كررتِ غلطتك تلك لن يكون لكِ أكل عيش هنا.
نعم انها هنا تعيش عيشة لا تحلم بها، فلاحة مثلها بالنسبة لها جنة أن تعيش هي وأمثالها في بيت الكلب.
*طلب رفعت بيك من زوجته دولت هانم أن تتوقف قليلًا لأنه لا يحب ذلك الاسلوب، لا يحب أن يهين أي أحد، ولكنه أوضح لمنيرة أن يجب عليها أن تنتبه أكثر للأكل الذي تصنعه ويكون طعمه يستساغ، بدون الحاجة إلى التعديل من بعدها.
*كان رفعت بيك لا يهين أحد من العاملين سواء الموجودين في شركته أو من في بيته، ولكنه يحب الانضباط.
*كان كامل عمره حينها خمسة عشر عامًا، كان ينظر لها في تشفي، ويعجبه معاملة أمه لمنيرة، فهو يحب تلك المعاملة المبنية على الطبقية والعنصرية.
*بينما فؤاد كان عمره حينها اثنى عشر عامًا، ولكنه امقت تمامًا ما فعلته أمه بالخالة منيرة كما يناديها دائمًا.
*كأن الهانم وكامل من طين وفؤاد وأباه من طين اخر.
متمسكين بالفطرة التي خلقنا الله عليها ألا وهي أننا جميعًا واحد، ولا يوجد اختلاف بين أحد، والله خلق الطبقية ليس من أجل أن يذل القوي الضعيف ولكن من أجل أن نكمل بعضنا بعضًا.
*حسنًا، حسنًا... سوف أكف عن خواطري و أكمل لكم ما حدث.
*منيرة تسمع ولا تقدر أن ترد لأنهم باشوات، وحتى وأن لم يكونوا كذلك، من فرط الإهانة لم تستطع أن تحرك ساكنًا، تحبس الدموع في عينها مثل الغيوم المحملة بالمطر وقد تغير لونها، هي قوية ولا تحب ان تنكسر بسبب كلامهم، وهي فقيرة ولكن لديها كرامة، هي فقيرة ولكن لا تنكسر ولا تشعر بالذل أمام أحد.
*بعد انتهاء الغداء وخروج رفعت بيك ودولت هانم للنادي، دخل فؤاد إلى المطبخ حيث توجد الخالة منيرة وبدر الجميلة.
عندما دخل ابتسمت له بدر الجميلة بثغرها الصغير وحيته بيدها الصغيرة مؤشرة له أي مرحبًا.
نظر لها فؤاد بنفس تلك الابتسامة وحياها في لهفة، كان يحب نظرة بدر كثيرًا ولكنه نادى على الخالة منيرة وأردف:
-خالتي منيرة...!
*فزت منيرة من مكانها ووقفت احترامًا له، و استطردت:
-نعم يا سعادة البيك، تأمرني بشيء؟
-كنت أريد أن أشكرك على شوربة لسان العصفور، انها جميلةً حقًا لأنها من يدكِ.
-تسلم يا سعادة البيك، كل يوم قل لي ماذا تحب وسوف اطهوه لك.
-بصراحة يا خالتي منيرة، كنت أريد منكِ شيئًا اخر، لا تحزني مما حدث اليوم.
*نظرت له بدر بنفس تلك الابتسامة وأردفت:
-لا تقلق، لا تقلق ستكون بخير الليلة صدقني.
*ابتسم لها فؤاد ورحل.
★★★

*في المساء عندما انتهت من عملها وانتهى طلعت من عمله كذلك، حكت له ما حدث:
عندما وجدت منيرة طلعت قد دخل الغرفة شرعت في البكاء، وكأنه هو الشخص الوحيد في الدنيا الذي يجوز أن تكون ضعيفة أمامه.
هرع طلعت إليها مسرعًا وقد شعر أن قلبه يتألم من مجرد رؤية منيرة تبكي، هرع إليها وتقرب منها وأخذها بالقرب منه ووضع رأسها على صدره أو بالأصح على قلبه لكي يهدأ قلبه قليلًا ولا يتألم لألمها، وأردف مهونًا عليها متسائلًا:
-هوني عليكِ يا منيرة، لا يوجد شيء في الدنيا يستحق دمعة منكِ، أنا هنا معكِ.
لا يوجد شيء في الدنيا يستحق الحزن ما دمنا معًا سويًا.
*قالت منيرة وهي تجهش بالبكاء والدموع قد ملئت وجهها وبللت صدر زوجها وقد أحمر أنفها ووجنتيها، وقد ازداد أنفها الرقيق وشفاها المملؤة حجمها، وقد بللت الدموع رموشها مما اكسبها طولًا ولونًا أغمق وألمع، أي أن منيرة عندما تبكي تزداد فوق الجمال جمالًا.
-أول مرة أشعر بال إ ها نه، أنا... أنا شعرت بالإهانة يا طلعت.
*نظر لها طلعت ووضع سبابته على فمها كي لا تكمل.
*استغربت منيرة لأنه أسكتها ومد يده إليها وجعلها تقف أمام المرآة وسألها:
-كيف تزدادين جمالًا هكذا؟
*ابتسمت منيرة وشعرت بالخجل ونست بكائها بالرغم من حزنها.
*استمر طلعت في مداعبتها بالكلام:
-تعرفين يا منيرة أنا أكثر رجل محظوظ في العالم، لأن أجمل امرأة في العالم ملكي أنا، لالا لستِ ملكي، بل أنتِ التي تمتلكيني وتمتلكِ كل تصرفاتي، أنا أسير حبك يا منيرة، منذ أن دخلتِ حياتي وأنتِ النور الذي بها بالفعل.
*منيرة لا تفعل شيء غير انها تنظر إلى زوجها في المرآة وهو يقف خلفها معانقًا إياها، لا تستطيع على قول شيء من شدة السعادة التي تشعر بها من الكلام الذي تسمعه من زوجها، لا تقول شيء سوى انها تتمتم في قرارة نفسها بأنها تحمد الله على أنه زوجها.
-أي أحد في العالم سواء ذكر أو أنثى مع تقدم العمر يقل جماله، بينما أنتِ تزدادين جمالًا كيف ذلك قولي لي...؟ هل هذا سحر...؟
*قالت منيرة وهي تشعر بالخجل:
-صدقني أنت تجامل.
-أنا أجامل..؟ حسنًا... حسنًا.
*ومن ثم أمسك بوجه منيرة وهما أمام المرآة وأردف متسائلًا:
-انظري في المرأة، هل رأيتِ عينين نجلاءين بهذا الجمال من قبل..؟
وما بالك بتلك الرموش السوداء الطويلة التي تعلن انتهاء العرض والسرح في جمال عينيكِ عندما تغمضينها.
تدرين يا منيرة ان عينيكِ بالنسبة لي تعوضني عن الذهاب إلى المسرح الذي يذهبون إليه الناس كي يشعروا بأنهم رأوا حياة مختلفة عن حياتهم أو يشعروا بأنهم سافروا من مكان إلى مكان على حسب القصة التي تعرض أمامهم.
لست بحاجة إلى كل ذلك، لست بحاجة أن أسافر من مكان إلى مكان بسبب عرض مسرحي أمامي، بل يكفيني النظر إلى عينيكِ، في عينيكِ أرى العالم كله، في كل يوم تأخذيني إلى عالم اخر، وأحيانًا لا أسافر فقط لأماكن على الأرض من خلال عينيكِ، بل أحيانًا أشعر بأني أطير إلى السماء.
*عندما سمعت منيرة ذلك لم تتمالك نفسها ولا خجلها وأطلقت ضحكةً من قلبها من شدة الفرح.
*نظر إليها طلعت وهي يطير فرحًا واستطرد:
-آه، أنتِ الأن تريديني أن يقف قلبي من شدة السعادة، لا يوجد شيء يسعدني سوى ضحكتك، ولا يوجد شيء يكسرني سوى دمعتك، ارجوكِ ظلي اضحكِ.
*نظرت له منيرة وهي في قمة سعادتها وكي تعبر عن شكرها وحبها واحترامها وامتنانها له نظرت إليه وهي تقبل يده، هذه الطريقة التي تعبر بها عن ما بداخلها ولا تستطيع البوح به، وقالت له في خجل والابتسامة على جانب فمها الأيسر:
-لذلك تطيل النظر في عيني بدون أن تتكلم.
-صدقيني أنا لم أقل لكي سابقًا سوى اني أحب عينيكِ ولكن الليلة أحاول أن أبوح لكي بجزء من مشاعري اتجاه عينيكِ، بل أنا أطير في السماء وأحلق وأحيانًا أشعر بأني في الجنة عندما أنظر في عينيكِ.
في كل مرة أنظر في عينيكِ أرى حكاية وقصة مختلفة، وفي كل مرة تغمضي عينيك وأرى جفنك ورموشك السوداء الطويلة أشعر بأن سِتار المسرح قد انسدل وأغلق وعندما تفتحين عينيك من جديد أشعر بأنه بداية عرض جديد في عالم عينيك الساحرتين.
*انبهرت منيرة من ذلك الكلام وشعرت بأنها أسعد انسانة في الكون وسألته مستغربة:
-ما هذا الكلام الجميل يا سي طلعت، أصبحت شاعرًا ، هذا كلام كبير على امرأة غير متعلمة مثلي، بينما أنت معك ابتدائية وصرت شاعرًا أيضًا.
-ان هذه مشاعري نابعة من قلبي لم اكتسبها من تعليم ولا من أحد، وصدقيني يوجد أكثر من ذلك في داخلي ولكني أعجز عن وصفه لكِ يا منيرتى.
*أخذ طلعت منيرة إلى سريرهما وناما ووضع رأسها على صدره وبدأ يمسح بيده بحنو على شعرها الأسود كالليل والناعم كملمس الحرير.
وقال لها بصوت هامس:
-قولي لي يا حبيبتي، ماذا حدث معكِ اليوم وعكر صفو مزاجكِ هكذا.
-لا أبدًا، لم أعد أشغل بالي، بل أنا سعيدة جدًا، وقد نسيت الموضوع بفضل كلامك المعسول.
-لا لن أنام ولن أتركك إلا بعد أن تحكي لي كل ما حدث معكِ.
*سردت له ما حدث وأضافت له مدافعةً عن نفسها:
-صدقني يا سي طلعت اني لم أفعل أي شيء خاطئ كي أستحق عليه كل هذا اللوم، يعني انه إذا وجد الطعام قليل الملح فأمامه طبق صغير به ملح وبعض من البهارات.. لم يكن هناك داعٍ للإهانة... وأنا لم أفعل ذلك في كل الأكل بل فعلت ذلك في أكل البيك الكبير، ولكن الهانم هي التي استشاطت في غضبًا واهانتني.
-لا تحزني ولا تكترثِ لكلامهم، هم بداخلهم نزعة يحبون ان يتحكموا في من هم أقل منهم مكانة.
-لم أستطع ان أتمالك نفسي يا سي طلعت شعرت اني صدمت، ولأول مرة في حياتي أشعر بالإهانة، أبي وأمي لم يجرحوني بكلمة ولا أنت أيضًا.
-نصيحتي لكِ لا تبالي أبدًا، ولا كأنك سمعتي شيئًا، أنا قد اعتدت هذه المعاملة طوال عملي في بيت العمدة، أتعلمين شيئًا...! انك اذا عملتي في أي وظيفة في العالم من هو أعلى منك سوف يتحكم بكِ بكل الطرق، ويبدأ في سرد شروطه عليكِ، ويخرج الضغوط التي يواجها في الحياة عليكِ، ومن هو ذا مستوى عالٍ يوجد من هو أعلى منه، والأغلب يخرج ضغوطه في من هو أقل منه، لذا لا تكترثِ، وخذي النقد بأنه ليس بإهانة.
-حاضر يا سي طلعت سوف أتحمل من أجل أن أكون في نفس المكان معك.
*في ذات الليلة استيقظت بدر في منتصف الليل لكي تذهب الى الحمام ولكن عندما عادت سمعت صوت الكلب يزوم وينبح وصوته كان يملئها رعبًا لذا همت بالفرار من فراشها ثانيةً، ونادت بصوت يملئه الخوف:
-أمي منيرة، أريد أن أنام معك..
*قالت لها خالتها بصوت ناعس:
-بدر أنتِ كبيرة الآن، لا داعي للخوف، أنا هنا معكِ إذا حدث شيئًا.
*اقتربت بدر من سرير خالتها الناعسة وهي تنظر لخالتها ببراءة وهي تمسك دميتها بيد راجفةٌ خائفةٌ ويزداد خوفها أكثر كلما سمعت صوت الكلب وكلما خافت ازداد تمسكها بدميتها وكأنا تستمد منها الأمان والطمأنينة، تلك الدمية المحشوة التي صنعتها لها خالتها منيرة، انها بالفعل دمية قبيحة، رأسها مصنوع من قماش رمادي، وجسمها مصنوع من قماش أزرق، وفستانها من الأمام وردي ومن الظهر بنفسجي وعينيها عبارة عن اثنان من الأزرار كبيران لونهما أبيض وبالنسبة للأنف فكان عبارة عن زر صغير أخضر اللون، ولم تكن لتلك الدمية فم، ولكن أبدعت الخالة منيرة في صنع شعر تلك الدمية كانت عبارة عن قصاصات رفيعة طويلة من قماش لونه أسود وقامت بخياطة تلك القصاصات جيدًا لكي تصنع في النهاية أقبح دمية في العالم، لا أدري كيف لطفلة صغيرة بريئة مثل بدر لم تخف من تلك الدمية البشعة والمصيبة انها كانت تحبها وتطمئن أكثر عندما تعانقها، وكانت تسميها زينة على اسم اختها، لكي تشعر انها معها دائمًا.
*دعوني أترك الدمية قليلًا في حالها لكي أكمل حديثي.
*وقفت بدر أمام خالتها وقالت لها أريد أن أنام بجوارك، ودَعي أبي طلعت ينام في مكاني، فهو كبير لا يخاف.
*استمرت منيرة في التثاؤب وأردفت:
-حتى أنتِ كبيرة يا بدر.
ومن ثم قامت من فراشها وأمسكت يد بدر لكي تعيدها إلى فراشها وأردفت:
-هيا يا حبيبتي، لا داعي للخوف، وإذا احتجتِ شيئًا نادي علي.
*تصلبت بدر مكانها ولا تريد أن تترك يد خالتها، ظلت ممسكة يدها بقوة ولا تريد أن تتزحزح من مكانها وكأن أحدهم ثبت أقدامها بمسامير في الارض... واستطردت وهي تهمس لخالتها وهي تنظر لها بخوف.
-امي صدقيني سوف تنقطع الكهرباء الليلة وأنا اخاف الظلام.
*نزلت منيرة على ركبتيها لكي يكون مستوى نظرها أمام عيني بدر.
قالت لها وهي تمسح على شعرها برفق:
-هذا هو الأمر إذن يا بدر، لا داعي للقلق يا صغيرتي، هنا نحن في المدينة لا تنقطع الكهرباء، وإذا انقطعت أنا معي شمع سوف أشعله لكِ.
-لا أحب الشمع انه يصنع خيالات مخيفة على الحائط.
-أنا أرى ان هذا دلع زائد وأنتِ كبرتِ على مثل هذه الأمور..
*لم تكمل منيرة كلامها إلا وقد انقطعت الكهرباء وحل الظلام... ضمتها بدر بشدة وهي ترتعش من شدة الخوف وقالت:
-ألم أقل لكِ، هيا دعيني أنام بجواركِ.
*ذهلت منيرة بما حدث أمامها وأخذت بدر في حضنها وذهبتا للفراش ونامتا سويًا.
* في اليوم التالي حكت منيرة ما جرى لزوجها طلعت، طمئنها وهي لا يبالي بالموضوع:
-انها مجرد صدفة يا عزيزتي، هي قالت ذلك لأنها كانت تريد النوم بجوارك، صدقيني مجرد صدفة.
- ولكنها هي لم تقل ذلك من قبل.
- لا تكترثِ لذلك الموقف يا حبيبتي.
★★★
*في الصباح طلب رفعت بيك من منيرة أن تعد له فنجان قهوة وأن تحضرها له في الحديقة، بالفعل جهزته له وكانت بدر تمشي ورائها كالعادة، ولكن عندما اقتربت بدر سمعت رفعت بيك يقول لزوجته:
-اني لا أريد ان أكل حقًا، اني اشعر بتعب لا أعرف كنهه..!
*فنظرت بدر الى البيك الكبير بعينيها الجميلتين ونظرت في عينيه وهو يداعب انفها الصغير بأنامله، من ثم وضعت بدر يديها على جانبيها من الخلف، فسألها البيك بلطف:
-ماذا بكِ أيتها الطفلة الجميلة، هل ظهرك يؤلمكِ؟
-لا ليس ظهري أنا، بل أنا آشر لك على موضع ألمك؟
-ولكني بصحة جيدة جدًا، ولا أشعر بأي ألم.
*ابتسمت له وهي تؤشر على صدرها:
*فقال لها ممازحًا ايها:
-وما هذا ايضًا هل هذا موضع ألمي كذلك؟
*أومأت برأسها أن نعم، ومن ثم وضعت يدها على قلبها، فقال لها وهو متشكك قليلًا:
-هل تقصدين ان هذا موضع ألمي الثالث...؟
*قاطعتهما منيرة وهي تسحب بدر من يدها بعد أن شعرت أن بدر سوف تورطها في مشكلة:
-اسفة يا سعادة البيك، انها بنت صغيرة، لا تقصد ما تعنيه بتاتًا.
*قاطع البيك منيرة وهي تلتمس إليه الأعذار ووَجه سؤاله إلى بدر مستغربًا:
-قولي لي يا جميلة من قال لكِ هذه الأمور…؟
*اجابته بدر وهي تمط شفتها السفلى وترفع كتفيها لأعلى أي ان اجابتها.. لا أعرف.
*فداعب شعرها فابتسمت له بدر ونظرت له بعينيها الخضراء الجميلة التي تجعل كل من يراها يفتن بجمالها وقال لها:
-اه... فتاة مشاكسة.
*استغربت منيرة من معاملة البيك الكبير لبدر، قالت متمتمة في قرارة نفسها:
-كيف لهذا الرجل الطيب المتواضع أن يتزوج من تلك المتعجرفة زوجته.
لا يوجد وقت للتفكير في مثل هذه الأمور، لدي الكثير من العمل.
*كانت دولت هانم تمقت تمامًا ذلك التصرف الذي يفعله رفعت بيك مع الخدم أو العمال.
★★★
*في مساء اليوم التالي، بدأ البيك الكبير يشعر بضيق في التنفس، أخرجته زوجته إلى الحديقة مساءً كي يتنفس جيدًا، ولكن ضيق التنفس استمر معه، وعندما كانت تحاول دولت هانم أن تجعله يمدد جسمه على الفراش ولكنه كان يشعر بأن هنالك جسد يجثم فوق صدره، لا يستطيع بسببه التنفس نهائي.
قد يستطيع التنفس بعض الشيء وهو جالس، حالته لا تهدأ أبدًا، بدأت دولت هانم تلومه وتعاتبه بسبب شرب السجائر لأن هي السبب، دافع رفعت بيك عن السجائر كالعادة وأردف وهو يتنفس بصعوبة:
-كل اصدقائي مدخنين ولم يمروا بهذه الحالة نهائي، وأنا أدخن منذ ٣٥ عامًا لم أمر بمثل هذه الحالة من قبل.
-نعم تمر بها الآن لأن رئتيك لم تعد تتحمل بعد كل هذا القطران الذي تدخله لها.
*استشاط رفعت بيك غضبًا وقال لها:
-اغربي عن وجهي، أنتِ تزيدين الأمور سوءًا.
* وظل يحاول أن يسعل ولكن بصعوبة، يحاول أن يتنفس الهواء ولا يدخل منه إلا القليل، حتى النوم قد حرم منه.
*كانت منيرة وزوجها قد سمعوا الحوار الذي دار بين البيك وزوجته، واستغربوا جدًا، أن بالرغم من مكانتهما الإجتماعية المرموقة لا يستطيعون أن يتفاهمان سويًا بدون صراخ.
*قالت منيرة وهي تغمغم بصوت خفيض:
-ان كل ما يحدث للهانم لأنها ظلمتني، واهانتني بكلامها.
-لا تشغلِ بالك يا عزيزتي، و دعينا نخلد إلى النوم، فيومنا غد ملئٌ بالأعمال .

*لم يستطع رفعت بيك صعود الدرج مرة اخرى، لذا ظل في الدور الأول من الفيلا وخاصةً في غرفة الضيوف.
*اتصلت دولت هانم بأخيها الدكتور أشرف كي يطمئنها على حالة زوجها، هرع إليها أخوها مسرعًا عندما سمع بحالة رفعت.
*الساعة الثالثة فجرًا، ورفعت بيك يتألم من بعد المغرب وحالته كل ما ازداد الوقت كل ما زادت حالته سوءًا.
بالإضافة إلى الصعوبة في التنفس وعدم التمكن من الاستلقاء، بدأ رفعت بيك في التقيؤ، تقيء كثيرًا إلى ان وصل الأمر انه تقيء دمًا.
*وصل أشرف وهرعت إليه أخته وعليها ملامح القلق على زوجها، وحكت له ما حدث من جديد وما استجد أيضًا.
*قرر أشرف ان ينقل رفعت حالًا الى المستشفى.
*وصل رفعت بيك الى المستشفى، بالفعل من كان يرى رفعت بيك كان يشعر بأن هذا اخر يوم في حياته.
لم يكن يستطيع أن يلتقط حتى انفاسه وقلبه بدأ يؤلمه بشدة وتزايدت ضربات قلبه بجنون.
دخل رفعت بيك الانعاش وتم وضعه على جهاز للتنفس وجهاز القلب متصل بسبابته في يده اليسرى يرصد ضربات القلب التي كانت متزايدة جدًا، وفي اليد اليمنى كانت هنالك كانيولا متصلة بمحلول يعمل على خفض ضغط الدم الذي وصل إلى 150|300 والطبيعي يكون 80|120 ووضعوا له قسطرة.
بعدما تم وضع جهاز التنفس لرفعت بيك وهو بدأ يهدأ تدريجيًا إلى أن غط في نوم عميق، بعد معاناة استمرت طوال الليل محاولًا التنفس على الأقل.
قد ظنت زوجته انه بالفعل ينازع وسوف يموت، ولكن حالته بدأت تستقر.
*ظلت زوجته بجواره ممسكة بيده بعدما أخبرت الاطباء بكافة التفاصيل.
*شخصوا الأطباء بأنه يعاني من الضغط المرتفع و كتبوا له بعض الأدوية المخفضة للضغط في مواعيد مختلفة على مدار اليوم، وفضلوا توفر أنبوبة اكسجين في غرفته إذا أحتاج للتنفس ضروري وخاصة أثناء الليل.
*رفعت بيك أفاق من نومه في الصباح الساعة السادسة، استغرب تمامًا من المكان الذي به، وأردف:
-أين أنا...؟
*فنظر إلى زوجته التي تجلس جوار سألها مستغربًا ثانيةً:
- أين أنا...؟ كيف جئت إلى هنا...؟
*من شدة المعاناة التي مر بها ليلة أمس، جعلته ينسى لوهلة انه قد أتى إلى المستشفى فجرًا...
*بدأت زوجته تذكره بما حدث ليلة أمس، وبدأت تطمئنه على صحته.
*كان رفعت بيك يود أن يذهب إلى الحمام ولكنه تفاجئ بوجود القسطرة فطلب من زوجته أن تقول للأطباء بانه يرغب في قضاء حاجته.
*اتى إليه الطبيب وقام بقياس الضغط، فأصبح ١٢٠|٢٢٠ انه عالٍ ولكن أفضل مما كان عليه منذ ساعتين، أزال الطبيب السماعات وبدأ يسأل رفعت بيك عن ما يشعر الأن، قال له أنه بخير وإن تنفسه أفضل الآن ولكنه يرغب في الذهاب إلى الحمام.
*قال له الطبيب يوجد قسطرة تستطيع ان تفعل وأنت بمكانك، نظرًا لوضعك الصحي لا يفضل الحركة لك وخاصةً أنت متصل بعدة اجهزة، وسوف تظل معنا يومًا آخر حتى تستقر حالتك.
*غضب رفعت بيك وأردف:
-لا أريد أن أظل في المستشفى، قلت لكم اني بخير، ازيلوا عني هذه الاجهزة أريد ان أعود إلى البيت.
* حاولت دولت أن تهدئه ولكنه لم يهدأ وأصر على رأيه إلى أن سمحوا له بالخروج.
-ولكن فضلوا أن تكون له ممرضة لمرافقته في بيته وكي تتابع حالته أول بأول وتهتم بإعطائه الأدوية في الوقت المناسب، وتهتم بجهاز التنفس خاصته في حالة صعوبة التنفس أثناء الليل، وكي تهتم بوضع محلول خفض ضغط الدم له في حالة عدم استجابته للأدوية.
★★★

*في ذات الصباح كان قد استيقظا كامل وفؤاد، لم يكترث كامل لعدم وجود والديه على مائدة الافطار، ولكن عندما كانت تهم منيرة بتقديم الطعام على تلك المائدة الفخمة، سألها فؤاد في تؤدة ورقي:
- هل عندك علم أين هما ابي وأمي؟
*لم ترغب منيرة في أن تصارحه بما سمعته من أنين البيك الكبير وأن قد انتهى الأمر بالذهاب الى المستشفى، ولكنها تملصت من قول الحقيقة وأردفت وهي تنظر في الارض كي لا تفضحها عيناها:
-لا أعلم يا فؤاد بيك، قد يكون لديهما عمل مهم.
*لم يرتح فؤاد لهذه الاجابة، في الوقت ذاته كان يلتهم كامل فطوره بشراهة ونهم ولا يكترث لما يدور من حوله.
كانت بدر تقف بجوار خالتها منيرة وكانت ترمق فؤاد ولاحظت انه يفكر كثيرًا، حاولت أن تقترب من فؤاد وقالت له هامسةً له في أذنه:
-انا أعلم أين هما..
*دهش فؤاد لما قالته بدر واستطرد متسائلاً:
-أين هما...؟؟
*في نفس اللحظة قاطعهم كامل... وصرخ في بدر بطريقة أمرة:
-أذهبي من هنا يا بنت الخادمة، هيا اذهبي وراء امك، لا يصح للخدم الوقوف أمامنا إلا لسماع الأوامر.
*ظلت بدر ترمق كامل بشدة وشعرت بدر بالحنق والغيظ اتجاه ذلك المتعجرف الذي لا يفعل شيئًا سوى أن يقلد امه.
*ومن ثم سحبت منيرة يد بدر وأردفت:
-هي ليست هنا لتسمع أوامر أحد، من يرغب في شيء فليطلبه مني، بدر لا شأن لها بأحد ولا أحد له شأن بها.
*اخذت منيرة بدر الى المطبخ و طلبت منها ألا تبتعد عنها أو أن تتركها ولا تتكلم مع أحد في البيت، كي لا تتعرض لمثل هذا الموقف ثانيةً.
*اومأت بدر برأسها أي إنها موافقة على كلام خالتها منيرة.
*ومن ثم صعدت منيرة كي تقوم بتنظيف الغرف وقد بدأت بغرفة كامل، كان كامل يجلس في غرفته يلعب كعادته وقد قام بقلب غرفته رأسًا على عقب كي يتعب منيرة أكثر في التنظيف، كان فتى ذا تفكير شيطاني حقًا.
بعدما انتهت من غرفة كامل، بدأت في غرفة فؤاد التي لم تكن تتعب في ترتيبها كثيرًا، وكان فؤاد يجلس على مكتبه ويقرأ مجلة قد أهاداها له خاله الطبيب أشرف، الذي يحبه كثيرًا فهو مثله الأعلى.
يود فؤاد أن يصبح طبيب مثله في المستقبل.
عندما دخلت بدر الغرفة لم تنظر له مبتسمة كعادتها ولم تقم بتحيته، هرع إليها وقال لها في تؤدة:
-لا تكترثين لما حدث منذ قليل، هو طبعه عصبي قليلًا، ولكن أريدك أن تكملي لي ما كنتِ سوف تقولينه لي منذ قليل.
*حالًا ما نست بدر الوعد الذي وعدته لخالتها منذ بضع دقائق وبدأت في الرد على فؤاد:
-ان والديك في المستشفى، أباك مريض، انه لديه ألم(ومن ثم بدأت بعمل اشارت على جسدها حيث صدرها وجانبها من الخلف أسفل الحجاب الحاجز وأشارت على قلبها).
-ما هذا...؟ لم أفهم شيئًا...!
- هذه أماكن الألم لدى أباك.
-كيف عرفتي ذلك.
-لا أعلم... يوجد شيء بداخلي يقل لي ذلك.
*لم يفهم فؤاد كيف عرفت بدر، ولكنه كان يصدقها.
*نظرت بدر إلى المجلة المليئة بالرسوم، كانت تنظر لها في لهفة.
*نظر لها فؤاد وأبتسم لها وأردف وهي تمسك بالمجلة:
-هل تريدينها...؟ يمكنكِ أخذها... قد أكملت قراءتها لتوي.
*شعرت بدر بسعادة عارمة لحصولها على المجلة، ولكن منيرة أعادتها لفؤاد من جديد وأردفت في تؤدة:
-لا يا سعادة البيك، إن بدر ما زالت صغيرة ولا يمكنها القراءة.
-لا يوجد داعي لان تقرأ بل يمكنها النظر للرسومات فقط وسوف تفهم المغزى من القصة.
-شكرًا لك يا سعادة البيك على لطفك، هيا يا بدر اشكري البيك على هذه الهدية.
*نظرت له بدر بعينيها الجميلتين ومن ثم قبلته على خده ببراءة الأطفال وأردفت:
-شكرًا لك...
*قد أحمر وجه فؤاد خجلًا مما حدث، ولكنه أبتسم وشعر بالسعادة لسعادة بدر بالهدية...
*سحبت منيرة بدر من يدها، بينما بدر كانت تنظر لفؤاد وتؤشر له مودعةً إياه.
*عندما نزلت منيرة إلى المطبخ ثانيةً جلست القرفصاء أمام بدر كي تكون رأسها في مستوى رأس بدر واستطردت وهي تمسح بيدها على شعر بدر الناعم:
-بدر يا حبيبتي، عندما يقدم أحدهم هدية اكتفي بالشكر فقط، لا يصح أن تقبلي أي أحد.
-ولكنني أقبلك أنتِ وأبي عندما تشتران لي شيئًا...!
-لأننا والديكِ، بينما لا يصح أن تقبلي الفتيان بتاتًا، لأنه عيب.
-عيب...؟ وما معني عيب...؟
-عيب يعني ممنوع... أي لا تفعلي ذلك مجددًا... مفهوم...؟
-مفهوم يا أمي..
*ومن ثم ابتسمت بدر ثانيةً وطبقت قبلة على خد أمها.
★★★
*وصل البيك الكبير إلى البيت، أتيا اليه كامل وسلم على والديه في فتور بينما فؤاد أستغرب لوضع اباه وعندما سأل أمه مستفهمًا:
-أمي أين كنتِ أنتِ وأبي ..؟
- لا يوجد داعي للقلق يا صغيري، أباك أصاب بزكام وذهب إلى المستشفى لكي نطمئن على صحته ونعرف ما هي الأدوية المناسبة.
- ولكن يا أمي عندما أصاب بالزكام أنا وكامل يأتي الطبيب إلى البيت ويشخص حالتنا..
-لا الوضع يختلف الزكام عند الكبار أشد، لذا من الضروري الذهاب إلى المستشفى.
*بدأ فؤاد يشك فيما قالته له بدر، و صدق ما قالته له أمه، قرر أن يصدق أمه لأنه لم يفهم ما تلك الإشارات ومواضع الألم التي قالتها بدر.
*قدمت منيرة الإفطار لرفعت بيك وزوجته ولكنه لم يرغب في تناول الطعام.
بالفعل منذ فترة وقد بدأت شهيته تقل بعض الشيء، ولكن اليوم قد فقد شهيته تمامًا، حاولت زوجته أن تطعمه القليل ولكنه لم يرغب بتاتًا.
لذا أمرت دولت هانم الممرضة أن تبدأ في مباشرة عملها، كانت الأدوية التي يأخذها رفعت بيك تشعره بفقد الاتزان والهذيان والرغبة في النوم.
بسبب تلك الأدوية كان ينام طوال اليوم وهذا ما جعله يتخلف عن شركته، لذا طلب من أخوه عصام أن يتحكم في أمر الشركة.
رفعت بيك ينام أو يهذي طوال اليوم، ويظل ينازع بسبب صعوبة في التنفس طوال الليل، لا يمكنه النوم ليلًا إلا وهو واضع جهاز الأكسجين ويكون جالسًا في موضعه لا يمكنه الاستلقاء على ظهره.
لم يعد يأكل إلا ما هو خفيف، وإذا شرب شيئًا كفيل أن يجعله يتقيأ.
*عندما أستمر الوضع كذلك لمدة يومين، قرر الطبيب أشرف أن يقوم بكافة التحاليل اللازمة لتشخيص حالة رفعت، وبعد يومين من نفس المعاناة، قال طبيب متخصص:
-المريض مصاب بفشل كلوي، ويحتاج لغسيل كلى حالًا.
*أتصل أشرف برفعت ووضح له الأمر، اندهش رفعت وأستغرب وأنكر أن تكون تلك التحاليل أو ذلك التشخيص يخصه هو وأردف:
-ما هذا الهراء الذي تقوله يا أشرف، على أساس إنك لا تعرفني جيدًا، إن صحتي جيدة جدًّا، ولكن لا أعلم ما طرئ عليّ، ولكن لا يصل الأمر إلى فشل كلوي بتاتًا.
-صدقني يا رفعت هذه الحقيقة، وأنا اخبرتك بها و لم أرغب في أن أخفي عنك الأمر لأني لا أستطيع أن أُخفيه عنك ولا عن دولت، لأنك في حاجة ضرورية لكي تقوم بغسيل كلى اليوم.
-هل يوجد حل أخر.
-صدقني يا رفعت لا يوجد وقت لكي نضيعه، لأنك ان لم تذهب معي للمستشفى سوف تظل حالتك كما هي ولن تتحسن بل سوف تسوء أكثر، دعنا ننهي هذا اليوم وبعدها أعطيك حل أخر.
بعدما أغلق رفعت بيك المكالمة، استمرت دهشته وتساؤلاته هو وزوجته..
-كيف حدث ذلك...؟ إن صحتي جيده ومهتم بغذائي وجسمي وبالرياضة، كيف بدون سابق إنذار ينقلب حالي هكذا...؟
*رتب أشرف كل شيء لرفعت وقام رفعت بغسيل كليته وتنقية جسمه من تلك السموم التي تراكمت، أرتاح رفعت جدًّا بعدما أنتهى من الغسلة لدرجة انه نام أثناء العملية.
ولقد أصبح النوم أمر صعب بالنسبة له.
*لم يعد رفعت هو من يقرر متى ينام ومتى يصحو، جسده تلقائيًا ينام وفجأة يستيقظ، بالفعل فقد معنى الراحة في حياته.
*عاد رفعت وزوجته إلى ڤيلتهم وفي المساء أتى إليهم أشرف ومعه طبيب اسمه معتز لكي يشرح الحالة بالتفصيل لرفعت.
حكى من جديد ما جرى له وهو لا يظن انه يريد ان يستمر على غسيل الكلى هكذا، فأوضح له معتز:
-لن تستمر على الغسيل صدقني يا رفعت بيك، قد يكون جسمك يحتاج إلى مرة أو مرتين وسوف تعود كليتك للعمل من جديد ويكون جسدك تخلص من كل السموم التي تراكمت به ولم تخرج هذه الفترة.
ولكن أريد منك أن تأكل الطعام بدون ملح لأن نسبة الصوديوم لديك عاليةٌ جدًّا.
لا تقلق يا رفعت بيك، سوف أرى التحاليل الجديدة بعدما انتهيت من العملية اليوم، وسوف أقرر لك أتحتاج إلى أخرى أم لا...؟ ولكن لا تنسى الانتظام على الأدوية السابقة، وتشتري تلك الادوية الجديدة التي كتبتها لك في تلك الورقة، أدوية لعلاج الكلى.
*كان إحساس رفعت بيك أنه سيكون بخير، وصدق ما قاله الطبيب له وأخذ الأدوية ونام بطريقة خارجة عن إرادته.
*لم يعدا كامل وفؤاد يران والداهما فهما طيلة الوقت في الغرفة إما في المستشفى، لقد تغير الوضع تمامًا، وإذا دخل فؤاد لكي يطمئن على اباه وجده جالسًا على السرير ولكن عينيه مغمضتين هو ليس بنائم ولا مستيقظ انه في حاله ذهول وهذيان بسبب تلك الادوية.
لم يعجبه فؤاد وضع ابيه، وعندما كان يسأل أمه مستفهمًا:
-أمي... هل أبي بخير؟
-نعم هو بخير يا فؤاد... ولكن يحتاج مدة أطول لكي يتعافى تمامًا لكي يعود مثلما كان من قبل وأفضل.
*فؤاد حزين على وضع أبيه وعلى انشغالهما عنه.
بينما كامل لا يكترث بشأن أحد بتاتًا، لا يهمه سوى اللعب والخروج للنادي وأصدقائه وكفي.
ها هو كامل يمسك المسدس اللعبة الخاص به ويصوب به على حنفي، وحنفي لا يستطيع أن يقول له حتى كلمة واحدة.
يصوبه على طلعت إذا أتي موعد عمله، وعلى منيرة في المطبخ التي كانت تشعر بالذعر كلما سمعت صوت ذلك المسدس.
بينما بدر كانت ترمقه باشمئزاز على سخافته، لم تحب في مرة أن تبتسم إلى ذلك السخيف الذي كان يحب أن يمارس سخافته على من حوله ومن ثم يقهقه بطريقة شريرة، إن هذا الفتى مريض نفسي حقًا، ولديه نزعة سادية.
★★★
*في اليوم التالي عندما دخلت منيرة إلى غرفة البيك التي أصبحت مضطرة أن تقوم بتنظيفها أثناء وجوده بها، على العكس سابقًا غير مسموح لها بالدخول ما دام البيك والهانم بها.
*دخلت منيرة وقامت بفتح الستائر، كانت الستائر تغطي حائط بأكمله من اليمين إلى اليسار، وعند فتح تلك الستائر تنير الغرفة بشكل جميل وساحر حيث تتمكن أشعة الشمس من دخول كافة أرجاء الغرفة، ويبدأ نسيم الهواء يداعب وجه البيك الكبير، وأشعة الشمس تجعله يفيق من سبات نومه، ومنظر الحديقة أمامه الذي يراه من علٍ، بالفعل اللون الأخضر يجعل المرء يشعر انه في الجنة.
*بدأت منيرة مسرعة في إنهاء تنظيف الغرفة كي لا تسبب إزعاج لرفعت بيك، بينما هي تنظف، أشار رفعت بيك إلى الفتاة الصغيرة كي تأتي إليه.
ابتسمت له بدر فأنار وجهها فصارت مثل البدر تمامًا، نظر لعينيها الجميلتين وهو يمسح على شعرها الناعم برفق وأردف:
- جميلتي، قولي لي، من قال لكِ اني سوف أمرض قبل أن أمرض بالفعل...؟
*هزت بدر كتفها بأنها لا تعرف.
*قال رفعت بيك وهو يتكلم هامسًا ليس لديه طاقة ليتكلم بأعلى من ذلك:
-قولي لي احساسك فقط، كيف عرفتِ ما سوف يحدث قبل وقوعه.
*كان رفعت بيك لا يفكر بعقلانية يريد أن يعرف السبب بأي طريقة، فالذي قالته بدر ليس محض صدفة، فكل مواضع الألم هو يعاني منها الآن، لا مجال للتعقل ويريد أن يعرف السبب ضروري.
*ابتسمت له بدر وهي تنظر إليه وأشارت على عينيه.
*ارتعب رفعت بيك عندما أشارت إلى عينه وأردف مذعورًا:
-ها... ماذا؟ هل سوف أفقد بصري...؟!
*ضحكت بدر ضحكة طفولية بريئة تجعل كل من يسمعها يضطر للابتسام غصبًا عنه، من جمالها ورقتها وأردفت بدر وهي تبتسم له:
-لا هنا ليس ألم... أنا أعرف ما يحدث من هنا(أي عينيه).
* دهش رفعت بيك كيف لبنت صغيرة تعرف مثل هذه الأمور، عوضًا عن ذلك انه لا يصدق بهذه التخاريف مثل قراءة الكف والفنجان والعين، بينما هذه بنت صغيرة لن يعود عليها بالنفع في شيء، هي لم تقل له ذلك لكي تحصل على مال، هي قالت له ما رأت فقط.
* كانت منيرة قد انتهت من عملها فأخذت بدر وهمت بالخروج، ولكن رفعت بيك أوقفها وطلب منها أن تترك بدر قليلًا، ومن ثم سأل بدر:
- هل تعلمي ماذا سوف يحدث لي...؟ هل أنا سأموت، أم سأتعافى؟ أم سأظل مريض هكذا ولن يجدي العلاج نفعًا...؟
*لم تفهم بدر شيئّا مما قاله لها، فحاول من جديد وقال:
-دعكِ مما قلته الان، ماذا ترى في عيني..؟
-أرى إنك ستكون بخير، ولن يكون هناك ألم ولكنك ستأخذ شيئًا من أبي طلعت.
*فتح رفعت بيك محفظته وأعطاها ورقة نقدية، وقال لها أشتري ما تشتهين.
*سعدت بدر جدًّا بتلك الورقة، وهذا جعلها تثب فرحًا بها، ومن ثم اذن لها بالخروج.
*أستغرب رفعت بيك، انا سأكون بخير هذا خبر رائع، وهذا ما قاله لي الطبيب.
ولكن ما الذي سوف أخذه من طلعت...؟ هل تقصد أن طلعت سوف يتبرع لي بكليته...؟ آخ رأسي... ولكن الطبيب قال اني أحتاج الى غسلة واحدة أو اثنتين وسأكون بخير بعدها، وسأعود كما كنت... لا داعي للتفكير وسوف أرى ما سيحدث.
*دخلت دولت هانم عليه وهو يتمتم معه نفسه، وأردفت مستغربه من حاله ولأول مرة تراه يتكلم مع نفسه:
-مع من تتحدث يا رفعت...؟
-لا شيء ولكني أفكر كثيرًا فيما يحدث لي مؤخرًا.
-لا داعي للتفكير، أنت تحتاج إلى الراحة والطبيب طمأنك بأنك ستكون بخير قريبًا.
*سكت رفعت ولم يرد وأستمر في التفكير في صمت..
★★★
*كانت بدر تجري في الفيلا مسرعةً تود أن تنزل لكي تشتري كل ما تشتهيه، ولكن وهي تجري اصطدمت بفؤاد، اعتذرت ببراءة ومن ثم أكملت جري ولكن اوقفها فؤاد ونادى عليها:
-بدر…!
-نعم…؟!
-لمَ العجلة...؟!
-أريد أن أشتري بعض الأشياء..
-ومن أين حصلتِ على المال...؟
-أباك أعطى لي هذه الورقة.
-ورقة بربع جنية مرة واحدة..!
-لا أعلم ما قيمتها..
-لا من الأفضل أن تحتفظي بها معكِ، وتعالِ معي أشتري لكِ بعض الحلويات من المحل الذي يوجد في نهاية الشارع.
*مرت بدر أمام أبيها الذي يجلس أمام البوابة، سألها مستغربًا:
-إلى أين أنتِ ذاهبة يا بدر...؟
*رد عليه فؤاد في تؤدة:
-لا تقلق يا عم طلعت، سوف نذهب سويًا إلي أخر الشارع ونشتري بعض الحلويات.
-لا أرتاح أنت يا بيك وأنا سوف أبتاع لك ما تريد.
-لا، شكرًا أريد أن أبتاع بعض الحلويات لبدر.
*دهش طلعت لما يجري أمامه، وأستغرب في قرارة نفسه وضرب كف على كف وأردف:
-بالفعل هذا الجيل مختلف عنا تمامًا.
★★★
*بدر وفؤاد يمشون على الرصيف الموازي للفيلا، كانت بدر تنظر في دهشة للفلل المرصوصة بجوار بعضهم البعض، كانت تحب الأشجار التي تزين الطريق، كادت بدر أن تنسى القرية من كثر ما أحبت المدينة.
ومن ثم قاطع فؤاد شرودها متسائلًا:
-كيف عرفتِ ما يمر به أبي...؟ وأمك منيرة قالت انك لا تعرفين الكتابة والقراءة.
- أنا لا أعرف أقرأ ولا أكتب لأني لم أتعلم بعد.
*حك فؤاد رأسه محاولًا أن يفهم بدر:
- كيف ذلك...؟ أنتِ لديكِ قدرة أن تعرفي أي شيء لمَ لا تسخري هذه القوة لكي تتعلمي.
- لم أقل اني أعرف شيء صدقني، اني قلت أحيانًا أشعر بأن هناك أمر ما سيحدث ويحدث، وأحيانًا عندما أنظر في عين أحدهم، أشعر بأن العيون تخبرني بأمر ما.
* مط فؤاد شفتيه معلنًا عدم فهمه وأردف:
- ان أمرك غريب حقًا، هيا دعينا من ذلك، ها قد وصلنا إلى المتجر.
ماذا ترغبي في شراءه...؟
*نظرت بدر بدهشة إلى المحل وما يحتويه، وأردفت وهي تفتح فاها:
-لا أدري يبدو أن كل شيء جميل هنا، كل الأشياء لها ألوان زاهية وبراقة تجعلني أشعر بأني أرغب في الحصول عليها كلها.
*نظر لها فؤاد ضاحكًا من كثرة دهشة بدر:
-للأسف لا يمكنني شراء كل ما بالمحل، ولكن المبلغ الذي معي يشتري لي ولكِ بعض الأشياء التي أحبها كثيرًا.
-حسنًا موافقة أختر لي أنت.
*كان فؤاد مستغربًا تمامًا ويقول في قرارة نفسه:
-لمَ هذه الفتاة لا تنعته بصفة البيك مثل أبيها وأمها، الأدهى من ذلك إنها لا تقل لرفعت يا بيك ولا لكامل، ولا تنعت دولت بالهانم.
ومن ثم تمتم بصوت عالِ:
-انها غريبة حقًا.
*أردفت بدر وهي تنظر له بدهشة:
-ماذا تقول، لا اسمعك جيدًا.
★سرح فؤاد في عينيها الجميلتين الذي أضافت الدهشة جمالًا أكثر فوق جمالهما، وأردف مسرعًا:
- لا لا، لم أقل شيء، هيا سوف أختار لكِ هذا النوع من الشوكولاتة، هذا أكثر نوع أبتاعه، وسوف أشتري لكِ زجاجة مشروب غازي(كولا) هل تحبينه؟
٭كل هذا وصاحب المحل الرجل العجوز جالس على كرسيه ويتابع هذا المشهد الذي يدور بينهما بلهفة واستمتاع.
★هزت بدر كتفيها ومطت شفتها السفلي أن لا، وأردفت:
-لم أجربه من قبل.
-حسنًا، أنا أحبه أكيد سوف تحبينه مثلي.
★أعطى فؤاد المال إلى صاحب المحل العجوز الذي كان يبتسم لهما، وكأنه يرى عصفوري الحب.
★بدأ فؤاد و بدر يجترعون المشروب الغازي كي يبرد لهم حر يوليو.
ومن ثم نظر لها فؤاد وأردف:
-ما رأيك أعلمك القراءة والكتابة وأنتِ تعلميني قدرتك الخاصة.
★سحبت بدر يده ومشت به على حافة الرصيف.
استغرب فؤاد لما تسحبه، أردفت بدر:
-لأنك ان ظللت في ذاك الاتجاه كنت سوف تقع، ألا ترى الحجر...؟
-اه إذًا استخدمتِ قدرتك الخاصة في انقاذي...!
-لا ولكني بالفعل رأيت الحجر ولا أرغب في أن تتأذي.
-حسنًا انني مدين لكِ، ها ما رأيك في أن أعلمك وتعلميني...؟
-إذا كنت ترغب في أن تعلمني فهذا شيء أرغب به بشدة، بينما أنا أعلمك لا أعرف، أنا لا أعرف ما كنهه هذا الشيء صدقني، أنا لا أعرف كيف أعرف…!
-هههه.. لا أعرف كيف أعرف، كلام جميل، حسنًا سوف أعلمك بلا مقابل ولكن عليكِ أن تنجديني في كل مرة من عثرات الطريق.

* نظرت له بدر وابتسمت وأحمر وجهها.
★كل ما تنظر له بدر يشعر فؤاد بأن أحد ضغط على زر قف، يشعر بأن العالم قد توقف به حقًا ويسرح في عينيها، ومن ثم أفاق وأردف وهو يحك رأسه:
-آه... بدر قولي لي، ماذا ترى في عيني...؟
-لا أرى ألم.
-لا أقصد ذلك.
-إذًا حدد لي ماذا تريد أن تعرف...؟ وإذا عرفت الإجابة سوف أقول لك..
-ماذا سوف أكون عندما أكبر؟ هل سوف أحقق حلمي وأكون طبيبًا مثل خالي أشرف...؟
-لا، لا أرى ذلك، اني أراك ترتدي بدله أنيقة وتقف مثل والدك وجالس على مكتبه.
-ما معني هذا...؟ هل تقصدين اني لن أكون طبيبًا...؟
-لا لن تكون... ستكون مثل أبيك..
* غمغم فؤاد في قرارة نفسه، ما هذا الحمق...؟
أنا ساعدتها وقلت إني أرغب بأن اكون طبيبًا وهي تقول لي اني سأكون مثل أبي...!
★★★
★وصل كل من بدر وفؤاد الفيلا وكان كامل يقف في شرفته ورآهم، هَم بالنزول مسرعًا وأثناء نزوله كان فؤاد يصعد الدرج كي يعود إلى غرفته ويرتاح قليلًا، فأوقفه كامل وسأله وهو متعصب للغاية:
-ماذا كنت تفعل...؟
-وما شئنك أنت...؟
-أنا أخاك الكبير أجبني.
-دعني أمر... أريد أن أنام بعض الشيء.
-لماذا كنت مع هذه الخادمة الصغيرة...؟!
-هي ليست خادمة اولًا، وكنت أبتاع لها بعض الاشياء لأن أبي أعطى لها وهي لا تعرف كيف تشتري، ها لقد اجبتك، دعني أمر هيا.
-أبي أعطاها مال، وأنت أبتعت لها بعض الاشياء، كل هذا لمن...؟ لهذه الخادمة بنت الخادمة.
-تعصب فؤاد لِما قاله كامل ولكنه لم يرد عليه وقام بإزاحة كامل من طريقه كي يمر، لم يكن كامل متزن جيدًا فسقط من على الدرج وقد جرحت رأسه، فزع فؤاد عندما رأى قطرات دم تسيل من رأس أخيه وهم بنزول تلك الدرجات كي يمد يده لأخيه ويساعده كي يهم بالنهوض.

ولكن كامل قد نهر يد فؤاد وأردف وعينيه تنوي الشر:
-لا أريدك أن تساعدني، سوف أهم بالنهوض بمفردي، ولكن تلقى عقابك من أمي وسوف أحكي لها كل ما حدث.
★لم يكترث فؤاد بشأنه لأنه يعلم جيدًا انه لم يفعل شيء خطأ.
★★★

*ها هي دولت هانم تجلس بجوار زوجها الذي لم تستقر حالته حتى الآن، الضغط لا ينخفض بل يزداد ارتفاعًا في المساء، مشكلة ضيق التنفس لازالت تؤرقه طوال الليل وتمنعه من التنفس ولا يرتاح إلا على جهاز التنفس.
لا يرتاح بعد غسيل الكلى إلا في ذات اليوم ومن ثم تعود إليه الأعراض تدريجيًا.
★ها هو كامل يطرق الباب... فتمنعه أمه وتؤشر له:
- صه، ان أباك نائم الأن، أرحل.
★يصر كامل على الوقوف أمام باب الغرفة وأزاح يده عن رأسه فكشف عن الجرح، فوثبت الأم مسرعةً وأخذته من يده إلى الممر وسألته بلهفة وخوف:
-ماذا حدث لك...؟ كيف حدث لك ذلك...؟ من فعل بك هذا...؟
★تقول ذلك وهي تتفحصه بسرعةً وهي مفزوعة.
*رد كامل وهو يتصنع الألم أمام أمه:
-ان فؤاد هو من فعل ذلك بي، عندما كنت أنصحه بأنه لا يتكلم مع هذه الفتاة، فتعصب علي وقال لي ما شأنك أنت، قلت له اني أخاك الكبير وأريد مصلحتك، رد علي رد غير ملائم وسبني، قلت له اني سأخبر أمي بأنك كنت مع بدر، بنت الخادمة، وأبتعت لها بعض الأشياء من البقال، وعندما عرف اني سأقول لكِ ازاحني بكل قوته من على الدرج فسقطت وجُرحت رأسي.
★دهشت الأم من هذا الكلام، وغمغمت في قرارة نفسها:
-كيف هذا...؟! هذه التصرفات ليست من شيم فؤاد...؟ فؤاد لا يضرب ولا يسب بتاتًا…!
★ومن ثم قالت لكامل بصوت عالٍ:
-تعالى معي سوف أجعله يعتذر لك.
*دخلت الأم على فؤاد الذي كان ممدًا على سريره وكان يقرأ كتاب كالعادة.
دخلت الأم وقد استشاطت غضبًا، وقالت له:
-هيا أعتذر منه.
وهذا قبل أن تسمع منه حتى، وكان ورائها كامل ينظر لفؤاد بتشفي ساخرًا منه.
★استغرب فؤاد ووثب من سريره، وتسأل:
-ولمَ أعتذر...؟ أنا لم أفعل شيئًا؟
-لا تكذب يا فؤاد أنا لم أعتد منك على ذلك... ألا ترى رأس أخيك...!
-نعم أراها... ولكني لست السبب... هو الذي سقط.
وقبل أن تطلبي مني الاعتذار له على الأقل اسمعي مني ما جرى.
-ليس لدي وقت لكي أسمع لكما، فأن أبيكما مريض ويجب أن أظل بجواره.
-ولكنكِ سمعتِ لكامل، أريد أن تسمعيني كي تعرفي الحقيقة.
-لا أريد أن أسمع شيئًا سوى الاعتذار، يكفي جرح أخاك الكبير الذي أمامي، يكفي أنني رأيت، لا داعي للكلام.
-حسنًا يا أمي، أنا آسف.
*ما زال كامل ينظر له ساخرًا ضاحكًا، وينظر له بلئم شديد، ومن ثم أردف:
-يا أمي وموضوع بدر لا تنسي…
-اه وبنت الخادمة لا شأن لك بها، إذا كنت تحتاج أصدقاء فمعك أخاك ها هو، وعندك النادي، صادق من تحب ولكن أختر من هم بمستواك.
*لم يرد فؤاد هذه المرة واكتفى أنه طأطئ رأسه، ومن ثم خرجت الأم وكامل يمشي خلفها متبخترًا يشعر أنه انتصر عليه، هو يعرف جيدًا بأنه الأقرب إلى أمه لأنه الأكبر وأول فرحة لها، حتى انه مكتسب الكثير من صفاتها.
★★★
*أستمر مرض رفعت بيك أكثر من شهر بدون أي تطور، لا أدوية الضغط تساعد عن خفضه، أصبح معدل الضغط الطبيعي بالنسبة له ٢٢٠|١٧٠ وهذا معدل عالٍ جدًا، ووصلت عدد غسلاته عشرة خلال هذا الشهر، لم يحدث ما قاله له الطبيب معتز، بأن كليته بعد غسلتين أو ثلاث سوف تعود كما كانت من جديد.
لذا قرر الطبيب معتز أن يبدأ في حل أخر مع رفعت بيك، لأن رفعت عبر عن مقته المتكرر من طريقة العلاج تلك، فعرض الطبيب معتز ان الحل الأفضل هو زراعة كلى، اما ان يستمر رفعت بيك على عدد غسلات ثابته كل اسبوع.
فضل رفعت بيك الحل الأول ألا وهو زراعة الكلى، ولكنه كان يتمني بالفعل أن يصدق كلام الطبيب معتز وأن يرجع كما كان بدون اجراء أي عمليات.
طلب الطبيب معتز من رفعت بيك أن ينتظر فترة معينة إلى أن يجد متبرع مناسب له... في ذلك الحين التمعت فكرة في عقل رفعت بيك، وقال في قرارة نفسه:
-اولًا صَدَقْت نبوءة بدر بمواضع الألم التي سوف أشعر بها، قالت بما معناه اني لن أستمر في مرضي وهذا ليس معناه ما عناه الطبيب بأني سوف أشفى بعد كم غسلة..
وها قد صَدَقْت نبوءتها بأني سوف أحتاج الى شيء من أبيها طلعت، لن أفكر كثيرًا إلى أن يجد الطبيب متبرع مناسب، سوف أعرض الأمر على طلعت ومن ثم يقرر الطبيب ان كان مناسب أم لا، آه... وأني أظنه سيكون مناسب، فأني أصبحت على يقين تام بصدق كلام بدر الجميلة.
*عاد رفعت بيك الى الفيلا ففتح له طلعت ورحب به، عندما مر رفعت بيك وهو في سيارته في المقعد الخلفي أشار الى طلعت محيي إياه وكان وجهه بشوش ومشرق كما كان قبل مرضه أخيرًا رأى البيك مبتسمًا.
*كانت بدر تجلس على المصطبة بجواره، ومن ثم وهو يتمتم بصوت هادئ:
"يا ترى ما الذي غير البيك هكذا...؟"
★ردت عليه بدر وهي تنظر في عينيه ومن ثم اجابته:
-سوف يحتاجك في موضوع مساءً، وسوف تسمع منه خبر سوف يسعدك جدًّا أنت أيضًا.
*دهش طلعت من كلام بدر، ومن ثقتها في الكلام الذي تقوله، ومن ثم سألها مستغربًا:
-كيف علمتي يا بدر...؟!
★ هزت بدر كتفها كالعادة أي أنها لا تعلم.
*في المساء طلب رفعت بيك أن يحضر طلعت إلى مكتبه وطلب منه الجلوس، أستغرب طلعت لأن هذه أول مرة يدخل مكتب البيك وعلاوة على ذلك جلس على المكتب أمام رفعت بيك، ومن ثم فتح رفعت بيك الموضوع مباشرة بدون أي مقدمات، وكان يتكلم وهو يدخن سيجارة بالرغم صعوبة التنفس بالنسبة له، بدأ رفعت بيك في الكلام هامسًا لعدم قدرته على الكلام بصوت عالٍ واستطرد:
- أنت تعلم يا طلعت اني أعاني من فشل كلوي وأقوم بغسيل كلى مرتين أو أكثر كل أسبوع، وإن هذا الحال متعب للغاية، وقد عطلني مرضي طوال هذه الفترة عن العمل عوضًا عن ذلك لا يوجد تحسن في حالتي.
★نظر له طلعت وعلم جيدًا ما يدور في خلد البيك الكبير.
*أكمل البيك حديثه بعد عدة محاولات في السعال المكتوم ومع عدة محاولات في تنفس الصعداء ومن ثم أردف:
-الحل الأنسب في حالتي أن يتم زراعة كلى وأنا أحتاج متبرع وإن وافقت على ذلك وقبل أن تتم العملية حتى سوف يكون لك فدان كامل باسمك في المكان الذي ترغب فيه، ها ما رأيك؟
*قد هش وبش وجه طلعت بالفعل لم يستطع أن يتصنع حتي بأنه يحتاج أن يفكر، بل انفرجت أساريره أمام البيك عندما سمع ذلك العرض، ومن ثم حاول تمالك نفسه بعدما هَم واقفًا أمام البيك وأردف:
-لو على رأيي يا سعادة البيك فأنا موافق، أن لدي كليتين فلا مانع أن أعطيك احدهما، يكفي معاملتك السمحة معي، وعرضك وكرمك اخجلني، ربي يزيدك يا سعادة البيك.
*خرج طلعت وهو يشعر بأنه يطير فرحًا بعدما علم بأنه سيملك فدان باسمه... لذا بدأ يسرح ويتأمل في مستقبله المشرق، وحمد الله وشعر أن الدنيا بدأت بالفعل تضحك له، ومن ثم دخل على زوجته وقام بمعانقتها بشدة وأردف:
-أريد أن أخبرك بشيء يا وجه السعد علي.
★ابتسمت منيرة عندما رأت زوجها في هذه الحالة من السعادة العارمة التي تغمر قلبه:
-سوف يكون لنا فدانًا باسمي.
★استغربت منيرة وعوجت فمها وتسألت:
-كيف هذا؟ أظن أن المبلغ الذي قمنا بجمعه إلى الآن لا يكفي لشراء فدان نهائي.
-لا بل البيك سوف يكتبه لي باسمي.
-يكتب لك فدان بدون مقابل...؟ وهل هذا يعقل...؟ نحن نعلم أنه طيب جدًّا ولكنه ليس ساذجًا كي يوزع أملاكه.
-لا سوف يعطي لي فدان ولكن بمقابل.
-وما هو ذلك المقابل...؟
-كلية واحدة سوف اتبرع به البيك.
-وتموت أنت من أجل أن يكون لي فدان...!
لا أريد فدان وأريدك أنت بصحتك وعافيتك.
-ومن قال إن هذه العملية سوف تقلل من صحتي، أن الله أنعم علي بالصحة وحتى لو تبرعت بكلية واحدة لن تؤثر على صحتي بتاتًا، لا تقلقي يا حبيبتي، أنتِ تعلمين لا يهون علي أن أتركك بمفردك في هذه الحياة، إني أدعو الله كل يوم أن يطيل في عمري كي أظل أحميكِ في عيني.
-صدقني يا سي طلعت نحن لا نحتاج إلى هذا الفدان، أن حياتنا جميلة ولله الحمد.
-ولكن صدقيني ستكون أجمل عندما يكن لنا ملك، هذه فرصة من الله لا يجب أن نضيعها من أيدينا، ومن ثم نندم بعد ذلك.
-وما فائدة هذا المُلك إذا حدث لك شيء لا قدر الله.
-أحسني الظن بالله وأطلبي الخير ولا تنسي تفاءلي بالخير تجديه.
ولو على الفائدة التي سوف تعود علينا من الفدان ستكون عدة فوائد، يوجد العديد من الأفكار في عقلي ولكني أرجح أن أجعل أخي مسؤول عن زراعة تلك الأرض ويعود علينا كل هذا الربح بالإضافة إلى مرتب عملنا انا وانتِ هنا، وفي حين أردنا أن نرتاح وأن تستقر في القرية من جديد سوف نبني لأنفسنا بيت كبير في وسط هذه الأرض بالإضافة إلى الاستثمار فيها، ها ما رأيك...؟
-لا ادري يا سي طلعت، ولكني ادعو الله ان تظل سالمًا ومعافى دائمًا هذا أهم شيء في الوجود بالنسبة إلي، لا أريد أن أفقدك لحظة.
-لا تقلقي يا منيرة، ربي يقدم لنا ما هو خير.
★★★
★بالفعل عندما بدأ الطبيب معتز في عمل الفحوصات اللازمة لطلعت وجده مناسب جدًّا.
★وهنا قال رفعت بيك في قرارة نفسه:
-قد صَدَقْت بدر، أنها فتاة معجزة حقًا... وإني سعيد لأن هذه المعجزة في بيتي.
بعدما تمت العملية بنجاح أحتاج كل منهما أن يرتاح لمدة شهر، لذا طلب البيك الكبير من السائق أن يأخذ طلعت ومنيرة وبدر إلى القرية كي يأخذون هذا الشهر إجازة ولكن بدون خصم من مرتبهما.
وكان مع طلعت شيك بمبلغ كبير يؤمن له شراء الفدان وأكثر قليلًا وقد حصل على هذا الشيك من البيك الكبير قبل يوم من العملية، وكان هذا الشيك مع منيرة زوجته ليلتها، أي أن البيك بالفعل أوفى بوعده حقًا.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.