hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

كان البارونُ القويُّ كالبسبراتن يسكنُ قلعةَ واينستاين العتيقةَ الواقعةَ في وادي الراين
الأعلى في خريف عام ١٣٥٢ ، كما يعرفُ الجميع، واشتُهر في تلك النواحي بلقبِ شيخ
العشرين قِنِّينَة، وهو لقبٌ استمدَّه مما ذاعَ عنه من قُدْرته على احتِساء تلك الكميَّةِ من
الخمر يوميٍّا. كان للبارون كثيرٌ من المَيزات الرائعة الأخرى؛ فقد كان رجُلًا نبيلًا ودُودًا
مُخلِصًا حريصًا على المصلحة العامَّة وخدمة الآخرين، كما أنه سرقَ وأحرقَ ونهبَ، وساقَ
مواشي جيرانه وزوجاتهم وأخواتهم إلى أعلى جوانبِ قلعة واينستاين الشاهقة. وقد فعل
ذلك برقَّةٍ نابِعةٍ من القلب أكسبتْه احترامًا صادقًا بين مُعاصريه.
ذات ليلةٍ كان البارون الصالِح يَجلسُ مُنفردًا في القاعةِ الكبرى بقلعة واينستاين،
وكان في حالةٍ من السعادة الغامرة؛ فقد تعشَّىجيِّدًا كعادته. واصطفَّ فوق الِمنْضدة أمامه
عِشرون زجاجةً فارغةً في طابور، وكأنَّها قِطارٌ من ذِكريات الماضي القريب المُحبَّبةِ إلى
النَّفس. لكنَّ البارون كان لديه سببٌ آخَر للرِّضا عن نفسه وعن العالم؛ إذ أضاءَ الإحساسُ
بأنه قد صار أبًا في ذلك اليوم ملامحَه بتورُّدٍ لطيفٍ لا تستطيع الخمرُ بِمُفردها أن تضفيَه
على وجهه.
وصاح البارون ساعتَها، في نَبرةٍ جعلتِ العشرين زجاجةً الفارغةَ تَرِنُّ وكأنها كئوسٌ
موسيقيَّة، بينما أطلق عشرون طقْمًا من أطقُم الدُّروع الخاصة بأجداده والمعلَّقة حول
ماذا؟! يا ويلتاه! بالخارج! أهلًا أيها » : الجُدران جهيرًا معدِنيٍّا عميقًا مُتمِّمًا نغمةَ الكئوس
فأسرع القهرمانُ للمُثول بين يديه. «! القهرمان
«؟ أيها القهرمان، أتقول إن البارونة في حالةٍ جيدة » : قال شيخ العشرين قِنِّينة
«. لقد بلغَني أن صاحبةَ العِصمةِ على خيرِ ما يُرام » : فأجاب القهرمان
فاستغرق البارونُ في تفكيرٍصامتٍ بُرهةً، متأملًا الزجاجات الفارغةَ بعينَيْن شارِدتَيْن،
«… وتقول أيضًا إنهم كانوا » : وأردف
«. أربعة، لقد أبُلغت خبرًا أكيدًا أنهم أربعة، وكلُّهم ذكور » : فقال القهرمان بحزم
أهوى البارون على الِمنْضدةِ بقبضةٍ قويَّةٍ، وصاح عاليًا بحماسةٍ تَدُلُّ على شعورٍصادقٍ
إن ذلك، إن ذلك—في هذه الأيام التي حظِيَتْ فيها مبادئُ مالثوساللعينةُ بالقَبول » : بالفخْر
بين الطبقات العُليا —هو ما أسُمِّيه جَديرًا بالإكبار … أقُسم بالقديسكريستوفر إنه لَجديرٌ
ثم راحت عيناه تتأمَّلان الزجاجات الفارغة ثانيةً، وأضاف، بعد لحظةِ «! بالإكبار، ولا فخر
«… أظن، أيها القهرمان، أنه يُمكِننا في ظلِّ هذه الظروف أن نُغامِر ب » : صمتٍ قصيرة
لن يكون هناك أنسبُ من هذا. سأحُضر قِنِّينةً أخرى في » : فبادَر القهرمان مُجيبًا
الحال، ومن أفضل الأنواع. ما رأي سُموِّك في زجاجةِ خمرٍ مُعتَّقةٍ من سنة ١٣٠٤ ، سنة
«؟ المُذَنَّب
ولكن … لقد فهمتُ من كلامك أنهم كانوا » : فقال البارون مُتردِّدًا، وهو يُداعِب شارِبَه
«؟ أربعة … أربعة ذكور. أليس كذلك
هذاصحيحٌ » : فأجاب القهرمانُ، وقد التقطَ الفكرةَ بحضورِ ذهنِ خادمٍ حسَنِ التَّدريب
«. يا مولاي. سوف أحضِرأربعَ قِنانٍ أخرى
عندما وضع الخادمُ المُتميِّزُ أربعَ زجاجاتٍ جديدة على الِمنْضدة في مُتناوَل يدِ البارون،
ثَمَّة شيخٌ صالحٌ عابرُ سبيلٍ في ساحة القلعة يا مولاي، يبحثُ عن مأوًى » : قال بعفويَّةٍ
«. وعشاء. إنه من بلادِ ما وراء جبال الألب، وهو مُسافرٌ باتِّجاه مدينة كولون
«. أظنُّكم فتَّشتُموه جيدًا من أجلِ الغنائم » : قال البارون، في غيرِ اكتراث
لقد مرَّ الرجُلُ هذا الصباحَ عبْرَ منطقةِ نفوذِ ابن عمِّكم الكريمِ الأصل، » : فأجابه الخادم
الكونت كونراد، كونت شيوينكينفيلس. وأظنُّ أنَّ من اليسيرِ على فخامتِك أن تُدرِكَ أنه لمْ
«. يَعُد لديه الآن أيُّشيءٍ إلا نزْر يَسيرٌ مِن القِطَع النقدية النُّحاسيَّة الزهيدة
ابنُ عمِّي النَّبيل كونراد! إنها لأعظم بَلِيَّةٍ في حياتي أنَّني » : صاح البارون، بمَحبَّة
أعيش بجانب شيوينكينفيلس. لكنكم أرحتُم الرجُلَ الصالحَ من عبء قِطَعِه النُّحاسية.
«؟ أليس كذلك
«. لمْ تكُن تَستحقُّ أن نستوليَ عليها يا سيدي » : قال القهرمان مُبتسِمًا ابتسامةَ اعتذار
يا للعجب! إنك الآن تُثير غضبي. قِطَعٌ معدِنية، ولا تستحق » : فزمْجرَ البارون قائلًا
أن تستولوا عليها! ربما لم يكن الأمر من أجل قِيمتها الفعليَّة، وإنما كان يَجدرُ بكم أن
«. تُجرِّدوه منها إعمالًا للمبدأ أيها الأحمق
نكَّس القهرمانُ رأسه، وأخذ يُتمتمُ بما يُعلِّل موقفَه، وراح في الوقت نفسه يفتحُ
الزجاجةَ الحادية والعشرين.
إياكَ، إن كنتَ تُقدِّر » : أردفَ البارون بنبرةٍ أقلَّ عُنفًا، وإن كانت لا تزال صارمة
مكانتي وحياتَك التافهة، أن تسمحَ لنفسك بالانحرافِ قيْدَ شَعرةٍ عن المبدأ بسبب ما هو
ظاهر من تفاهةِ الغنيمة. إنَّ العِنايةَ بالتفاصيلِ النابِعةَ من يَقَظةِ الضميرِ لَهي أحد العناصرِ
«. الجوهريَّةِ لازدهارِ أيِّ عمل … في الحقيقة، إنها تُشكِّل الأساسَ للاقتصاد السياسيكلِّه
صدر صوت نَزْع السِّدادة عن الزجاجة الثانية والعشرين، كأنما يؤكِّد هذا التصريح.
مع ذلك، فليس هذا باليوم الذي » : مضى البارون في حديثه، وقد هدأ بعضَ الشيء
أستطيع أن أثُيرَ فيه ضجَّةً كبيرةً على أمرٍ تافه. أربعة، وكلهم ذكور! إنه لأحدُ أيام مَجد
واينستاين. افتحِ القِنِّينتَيْن المُتبقِّيتَيْن أيها القهرمان، وأدخلْ عليَّ الغريبَ الصالح؛ فأنا أتوقُ
«. لتسليةِ نفسي
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.