تسلق جبل"حسبان" ببطءٍ متعثرًا في حجارة الأرض وحصاها، مستندًا على عصاه العتيقة، تساقط دمع عينيه الغائرتين على لحيته المشعسة، جففه بطرف كُمّ جلبابه المتسخ، تبع كل خطوة ب آهة ألم؛ لعن زوجته وعشيرتها وأكمل صعوده.
تمتم بحروفٍ غير واضحة، منذ سقوط لسانه على صدره وحروفه مائعة غير واضحة، يلهث بصوت عالٍ ككلبٍ يسقط اللعاب من طرفي فمه المفتوح: "لولا خوفي من عذاب الله للعنت يوم مولدي ويوم تزوجت تلك المرأة، كفاني ما أنا فيه من العذاب، ارفع عني غضبك يا إلهي، صعدت ذلك الجبل اللعين مرارًا دون مشقة، ما له أصبح عسيرًا؟! أم تثقلني الذنوب؟ أتلقى الأمر يوميًّا بالحضور إلى أحلام تلك المرأة على قمة جبل الخطيئة هذا، حيث الحزن ينتظرني؛ للقبض على قلبي، أختنق؛ أفتح فمي لأتنفس -ككل مرة- يسرع لساني إلى الخارج لأعضه ندمًا، آلام غير محتملة، اعفُ عني يا ربي، لا أعلم من أي خطيئة أحذرها؟! تُرى ما خطيئتها التي ستقع فيها لا محالة، سبق علمك يا إلهي، فلمَ الجهد والألم، لماذا أنا وأنا أكره النساء جميعهن، أيكون نوعًا من العذاب لتطهيري من ذنوبي؟!!
تابع صعوده متضجرًا متأوِّها، حتى وصل إلى صخرة عالية بباب كهف، استظل بها من حر الجبل؛ جلس بجوارها، واصلت دموع الألم والندم تقاطرها من عينيه، تذكر...
تمدد أسد جبلي هادئًا مستكينًا بجوار صغيره؛ يستمعان وينصتان لصلوات بلعام بن باعوراء التي طالت كالعادة لوقت طويل، لم يلتفتا إلى طائر صغير حط على صخرة بجوارهما.
استغرق بلعام في تسبيحه، لم ينتبه إلى نداء زوجته؛ الذي تحول إلى صراخ عندما رأت أسدًا جبليًّا نائمًا على بعد خطوات من زوجها.
هب واقفًا بالتزامن مع مشاركة الطير للزوجة في الصراخ وهو يطير مضطربًا من الفزع، وهرب الجدي الجبلي وصغيره محدثين جَلَبة خشية الأسد.
نظر بلعام بهدوء إلى الأسد؛ انصرف بخطوات هادئة وكأنه فهم نظرة الحبر التقي.
نظر إلى زوجته بهدوء اليائس المستسلم لقدره، مجهدة من صعود الجبل، جففت عرقها وسائل أنفها بطرف كم ثوب أصابه القِدم فاستحالت أطرافه إلى خيوط؛ بلا لون معلوم.
قابل أنفاسها المتقطعة ووجهها المحتقن خوفًا بشماتة كتمها في نفسه لئلا يصيبه وابل من شتائمها وبذاءتها المعتادة ولسبب ضمره في نفسه اقترب منها متوددا:
- لا تفزعي، الأسد لن يأكلني ما دمت أتعبد وأصلي.
أجابته بصلافة وحقد: من أخبرك أني خائفة عليك، أيها الناسك الكسول، خفت أن يأكلني أنا؛ أعلم جيدًا أنه لن يأكلك.
- أخيرا تذكرتِني، ألا تأتِني بطعام وماء ولو لمرة.
- ولماذا لا تأتي أنت، كفاك عبادة وصلاة، لو كنت مكانك؛ وأتاني الرب اسمه الأعظم ما صعدت الجبل وعشت هذا الفقر، ألا تدعوه ليهبط عليك المال؟ أو تكون ملكا للجبارين؟! أين كان عقلي حين تزوجتك؟!
استغفر ربه ولم يرد، وإن كان لسان حاله يعتذر له عن دفعه للزواج منها وهي دميمة الشكل والروح، زادت هجومها:
- رد، ألا تخجل من فقرنا، كل نساء القبيلة يمتلكن الثياب والذهب والحلي، يخدمهن الخدم؛ وينعمن بالترف.
رفعت ذراعيها للأعلى وصرخت:
- لتدع إلهك أن يرحمنا من العمل الشاق أو لتأخذ مقابل دعائك ممن يطلبه، يا رجل بيدك كنز لماذا لا تغترف منه؟ لمَ لا نأكل الطيب من الطعام، لمَ؟! هه رد وإلا أوغرت صدور أبنائك الجوعى ضدك؛ سيكرهونك أكثر وأكثر، لن أتحمل الفقر بعد ما رأيت من استجابة الرب لدعائك.
لم يرد وسبقها الخطى في الهبوط عن الجبل.