Darebhar

شارك على مواقع التواصل

النداء الأخير لركاب الرحلة رقم 826 رحلة مصر للطيران المتجهة بمشيئة الله تعالى إلى مطار القاهرة الدولى. الرجاء من المسافرين على رحلة رقم 826 رحلة مصر للطيران سرعة التوجه إلى بوابة رقم 4.
أخذ مؤمن يتحسس رأسه المثقل بالهموم والخوف والأحزان، وضع يده فوق رأسه ليتأكد أنها لا زالت فوق جسده وأنه لا زال حيًا يرزق. ربط حزام الأمان حتى قبل أن يعطي طاقم الطائرة الأوامر بذلك. كان متعجلًا خائفًا يريد أن تقلع الطائرة بأسرع وقت ممكن. يا الله! كم هي طويلة اللحظات، تمر وكأنها سنوات. أخذ ينظر إلى الركاب من حوله، يكاد الذعر يتملكهم ويسيطر على قلوبهم. يتبادلون نظرات ترقب وخوف واستطلاع وتساؤل، هل يمكن أن تكون هذه الطائرة هى المطية التى تنتزعهم من وسط أتون الحرب المشتعلة؟ هل سينجون حقًا؟ نظر إلى الطفل الصغير الجالس بجانبه نظرة إغتباط، نظر إلى إبتسامته الطفولية البريئة وسعادته بالقطار اللعبة التى أعطته إياه أمه لكي تضمن لنفسها بضع لحظات من شرود الذهن كي تفكر فيما يحدث وما قد يحدث لهم إذا لم تقلع الطائرة خلال دقائق، نعم قد تقع الكارثة إذا لم تنتشلهم الطائرة من أرض المعركة خلال دقائق. نظر إلى الطفل متمنيًا أن يعود بالزمن إلى الوراء حتى يصبح طفلًا مثله كي لا يكون مضطرًا أن يواجه أثقال وأعباء الحياة. في يعض الأحيان يكون الجهل هو المصدر الحقيقي للسعادة. يا ليت له مثل هذه السكينة والسعادة باللعبة الصغيرة. الطفل منغمس فى عالمه الخاص، لا يأبه لأي شيء آخر غير تحريك القطار ثم إيقافه في المحطة كي يركب المسافرون. كان قلق الطفل يتمثل فقط فى تأخر القطار عن المحطة التالية أو في تأخرأحد المسافرين وعدم قدرتهم على اللحاق بالقطار. كان يقول لنفسه أن جميع المسافرين يجب أن يلحقوا بالقطار. لا بدّ أن لديهم إلتزامات مهمة، لا بدّ أن أحد أصدقائهم في إنتظارهم كي يبدأوا اللعب سويًا. وماذا يمكن أن يفكر الملاك الصغير بغير هذه الأشياء التي تشكل عالمه وكونه. أما أصوات المدافع والطائرات والصيحات ورائحة الموت التي تحيط بالمطار والمنطقة الشرقية والمملكة بالكامل، كل ذلك لم يكن يقلقه. ليس لأنه شجاع ولكن لأنه غير مدرك لما يحدث ولأنه يثق في أمه التى طمأنته وقالت له أنهم يمثلون فيلمًا سينمائيًا، وعندما شك فى الأمر وبدأ يطرح بعض الأسئلة الفضولية الطفولية قالت له أن كل شيء سيكون على ما يرام. يا الله! كم تمنى أن يكون عمره في مثل عمر هذا الطفل حتى يأمن المخاوف التي تطبق على أنفاسه وتنشب مخالبها في قلبه فتمزقه تمزيقًا. نظر إلى إعلانات مصر للطيران الموجودة فى كل مقاعد الطائرة، كان لأثر كلمة "مصر" رنينًا خاصًا ورونقًا رائعًا داخل نفسه، ترى هل ستطأ قدمه أرض مصر حقًا؟ هل سيصل إليها سالمًا من رحى المعارك التى لا تبقي ولا تذر؟ لن يصدق أحد أنه عاد بعد كل ما نشر في الصحف من قتل وحرق وتعذيب وتنكيل. تنهد طويلًا وهو يقرأ اللافتة "مصر للطيران تتمنى لكم طيب الإقامة" كانت مصر دائمًا الملاذ الأخير له، لم يكرهها يومًا ولا أهلها الطيبين، وإنما كان يكره الخونة والقوادين والنخاسين الذين خربوا البلاد والعباد، كان يتمنى لو أنه لديه القدرة فيحرقهم جميعًا أحياء.. كانوا يتحدثون عن دعم الفقير ونصرة المظلوم وهم يقتاتون على قلوب وأجساد العباد. كانوا يتحدثون عن العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات وهم يمصون دماء الشعب.. الشعب؟ أي شعب؟! إنهم لا يعترفون أصلًا بوجود الشعب إلا عند الحاجة إليه، عند الانتخابات، عند قرارات تقليص ورفع الدعم. ما عدا ذلك لم يكن هناك شعب.. بل على الشعب أن يشكر لهم تعاطفهم الشديد وموافقتهم على أن يتواجد الشعب على أرض مصر.
كل ذلك جال برأس مؤمن وهو يعد اللحظات حتى تمر وتقلع الطائرة بهم من الجحيم قبل أن تقع الكارثة.. آه لو تأخرت الطائرة حتى يعلم الإرهابيون بأمرها، آخر ما وصل أسماعه من أخبار هو أنهم فى طريقهم للسيطرة على المطار ومنع الجميع من الخروج خارج البلاد بعد أن هزموا آخر كتيبة للجيش هزيمة ساحقة. أسند رأسه على المقعد وهو يتمنى أن يقوم فيأخذ بيد قائد الطائرة ويدفعه إلى مقصورة القيادة ويصرخ به "أسرع، أخرجنا من هنا، طِر، حلق فى السماء، اهرب من الأتون، أخرجنا من جهنم التي تشوي الوجوه وتحرق البشر أحياء، أسرع قبل أن تقع الكارثة، تحرك قبل أن تحدث المأساة ونصبح أحد صفحات التاريخ". تُرى ماذا سيقول عنهم التاريخ؟ تذكر في هذه اللحظة كلمات الشاعر فاروق جويدة: ما بين عمر فر مني هاربًا وحكاية يزهو بها أولادي عن عاشقٍ هجر البلاد وأهلها سعيًا وراء المال والأمجاد" ثم عاد يتساءل "ماذا أصابك يا وطن؟" وسمع صوت داخلي آخر الآن تساءل: الوطن؟ ماذا أصابك أنت؟ لمَ هاجرت؟ لمَ سافرت؟ لمَ تركت وطنك ليلًا؟ فرد قائلًا: "كل الحكاية أنها ضاقت بنا واستسلمت للص والقواد". إنطلق بالطائرة قبل أن نصاب بالجنون.. أخذ يتذكر السجناء الذين لا يعذبون تعذيبا جسديًا، إنما يقطنون زنزانة بها حوض ماء يقطر كل دقيقة قطرة، فيظل السجين يتابع هذه القطرات حتى يصاب بالجنون. ما أقبح الانتظار! كثيرًا ما كان يكره الإنتظار، الإنتظار هو الانتحار البطئ، هو التحلل التدريجي للروح والجسد.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.