darbovar

شارك على مواقع التواصل

استيقظت القاهرة من منامها بعد أن تركها شبح النوم، وسطعت الشمس مشرقة بنورها؛ لتضيء أرجاء القاهرة، ومعها دبت الحياة في الشوارع بالسيارات المتنقلة التي تسود الطرق، والمارة الهائمون في الشوارع .
كان مصطفى يقود سيارته بسرعة معتدلة بينما كان طارق يجلس في الخلف يراقب خلف الزجاج كل شيء حوله، ويتفحصه.
كانت تلك عادته المفضلة فدائمًا اعتاد على الجلوس بالمقعد الخلفي، ويحدق الى كل شيء من حوله من خلال الزجاج سواء كان بركوبه السيارة أو عند جلوسه في أتوبيس المدرسة .
بدأ يتفحص بعينيه كل شيء بدقة وإمعان، فأخذه بصره إلى ذلك الرجل الأسمر الذي ارتدى جلبابًا مهترئ، وأخذ يمسح السيارات، ومن حوله العديد من الأشخاص الذين كانوا يمارسون نفس عمله وقد استنسخوا هيئته بعد أن حرقت الشمس وجوههم، واهترأت ملابسهم ،ثم وقع بصره على ثلاثة شباب من طلاب الجامعة جميعهم يحملون الكتب والمذكرات، ويتهامسون فيما بينهم، ولاحظ على ملامح وجوههم توترًا وقلقًا بدا عليهم، وكأنهم خرجوا للتو من اختبار انعكست صعوبة أسئلته عليهم؛ فزادتهم بالتوتر والقلق .
ولفت انتباهه هؤلاء الأطفال الصغار الذين اتعبتهم الحياة، وجعلتهم يترددون على اصحاب السيارات؛ ليبيعوا لهم أي شيء بحوزتهم سواء كان مناديل أو مصاحف قرآنية أو أي شيء آخر كان دائمًا ما يشعر بالشفقة على هؤلاء الاطفال وكان يتمنى لو يستطيع تقديم المساعدة بأي شكل؛ حتى ينالوا الحياة الكريمة التي يستحقونها، ويحصلوا على تعليم أفضل، ويجدوا السكن والملبس والمأكل .
حاول أن يشغل نفسه في أي شيء، ولكن تفكيره كله كان يدور حول ماذا ستفعل الشرطة؟ هل سوف تنجح بالقبض على قاتل والديه أم أن الأمور سوف تكون خارجة عن قدرتهم ويختفي هذا القاتل الغامض كالشبح؟ بينما كان شاردًا بأفكاره فجاءة توقفت السيارة فأدرك أنهم وصلا الى فيلا جده وعندما خرج من السيارة، كان أول شيء رأته عينيه مدخل الڤيلا الذي كان عبارة عن بوابة حديدية ضخمة.
ثم انتبه إلى مصطفى الذي مد يده إليه قائلًا: هيا تعال معي إلى الداخل.
شعر طارق بمدى العذوبة والدفيء الكامن في صوت مصطفى، وهو يخاطبه فأمسك بيده، وشعر بلمسة الحنان والعطف منه، أخرج مصطفى المفاتيح من جيب سترته ثم فتح البوابة، ودلفا إلى فناء الڤيلا الذي كان أشبه بالبستان، فاحتوى على كل ما تحبه الأعين، وما تشتهيه الأنفس من نباتات وأشجار، وتغطت الأرض بالحشائش التي كانت تكسوها من كل اتجاه، وكأنها سجاد تتزين به، وفي نهاية الفناء كانت هناك الغرفة الخاصة بمصطفى الذي اعتاد دائمًا على المكوث فيها، وخصوصًا إذا أثار انتباهه شيء غريب أو التفكير في اختراع من اختراعاته، أو أحد الأبحاث العلمية، أو قراءة إحدى الكتب.
فهذه الغرفة بالنسبة لمصطفى جزء لا يتجزأ من منزله، اقترب مصطفى ومعه طارق نحو الباب الداخلي للفيلا، وعندما فتحه مصطفى دلفا سريعًا إلى الداخل، للوهلة الأولى عندما تدخل إلى صالة الڤيلا قد تظن أنك انتقلت إلى أحد أفلام هاري بوتر، أو دلفت إلى مدرسة هوجورتس بالخطأ، فقد تزينت جدران الصالة بالعديد من الصور المتحركة، كانت معظمها صور لمصطفى وهو يتسلم الجوائز، والتكريمات عن ابتكاراته، فمن خلال اختراعه الكاميرا التي تلتقط الصور المتحركة أحدث تطور كبير في عالم التصوير، ويذكر أنه قد تسابقت العديد من شركات التكنولوجيا؛ لشراء هذه الكاميرا المطورة منه، وفي النهاية باع اختراعه للشركة التي عرضت عليه المقابل الأكبر، ومن بعدها صارت الكاميرا الحية كما أطلق عليها مصطفى بديلًا متطور عن الكاميرا التقليدية، فالآن يستخدمها الصحفيون؛ لتوثيق الأحداث كما حدثت في الواقع، وهناك صورة له، وهو يحمل قفاز الجذب خاصته، ولهذا القفاز قصة مثيرة، فقد كان مصطفى شديد الشغف بتحريك الأشياء عن بعد، والتحكم في حركة الأجسام؛ لذا جاءته الفكرة بصناعة قفاز يطلق موجات مغناطيسية يجذب الأشياء ويحركها، كما أن هذا القفاز يستطيع تنشيط الطاقة الداخلية ليده فبإمكانه تحريك الأشياء، وهو يقف على مسافات بعيدة منها، وكانت أول تجربة استخدام لهذا القفاز عندما ذهب إلى مطبخه؛ لكي يعد القهوة التي اعتاد على شربها، نعم فهو لم يكن يستطيع الانقطاع يومًا واحدًا عن الكافيين، فملأ البراد بالمياه ووضعه على البوتاجاز، وأخذ يجرب القفاز في تحريك الأكواب، وكان شديد الاندهاش لما يحدث أمامه، كانت الأكواب تتحرك، وتتطاير في الهواء.
وكأن هناك شخصًا خفي أو عفريت يمسك بها؛ فيجعلها تتحرك وترتفع إلى أعلى، نظر إلى صنبور المياه ووجه القفاز نحوه ففتح الصنبور على الفور، وعندما سمع صوت غليان المياه في البراد، وبدأ بخار الماء يتصاعد إلى أنفه حاملًا معه رائحته المعروفة، فحرك البراد في الهواء ليصب المياه في كوبه، وبعدها انتزع إحدى الملاعق الموجودة في صفاية الأطباق، وراح يحركها نحو كيس السكر، والقهوة فأخذ ملعقة من القهوة، وأخرى من السكر ثم بدأ بالتقليب، وعندما انتهى شرب ألذ كوب قهوة تذوقه في حياته على حسب وصفه .
ووسط تلك الصور التي يظهر فيها مصطفى، كانت هناك صورة مختلفة تبرز وسط الصور، كانت الصورة تتمايل بها أمواج البحر، وتتراقص، وعند الاقتراب من الصورة يمكنك سماع صوت خرير الأمواج، فتشعر أن المياه سوف تخرج من الصورة؛ لتنقض على صالة الڤيلا، وتغرقها بالكامل، وعندما تنظر إلى أثاث الڤيلا سوف تجد معرض من التحف، والأنتيكات القديمة، فكان مصطفى دائمًا ما يتردد على أصحاب المحلات الذين يبيعون هذه الأشياء، ويشترى ما يعجبه في بضاعتهم من أغراض فيقتنيها، ويضمها إلى فيلته، صعدا الاثنان إلى أعلى الدرج، وعند وصولهم لغرفة حسين استوقف طارق جده، وما زالت تلك النظرة الحزينة تملا عينيه حين يرى أي شيء يذكره بوالده وغلب الحزن على صوته، وهو يحدث مصطفى: جدي سوف أجلس في غرفة أبي، أنا أشعر بأنه ما زال موجودا هنا بيننا، أشعر أن روحه تطوف بيننا ساكنة في هذا المكان، أدلى جملته الأخيرة، وسقطت معها دموعه.
لم يستطع مصطفى أن يتمالك حزنه، ووصلت العاطفة عنده إلى أقصى مراحلها، عندما انحنى نحو طارق، واحتضنه، وأخذ يقبله من خديه، وهمس له في أذنه قائلًا: لا تقلق أنا معك، سوف أكون مرشدك، وقائدك، وكل شيء، سوف أحاول تعويضك عن الذي فقدته .
فتح له مصطفى الغرفة، وتركه بمفرده ثم انصرف، وفي الغرفة كانت هناك صورة كبيرة معلقة لحسين، وهو في مثل عمر طارق، وبدا الابن مثل الوالد تمامًا امتلكا نفس الوجه الوسيم، والشعر المموج الأسود والعينين البندقيتين اللتين ذابت لمعتهما قلوب العديد من الفتيات، اقترب طارق من الصورة، ثم همس متخيلًا، وكأنه يحدث والده أحبك يا أحسن أب .
بغتة ساد حرًا شديد في المكان، وتدفقت الحرارة في جدران الغرفة حتى أصبحت شديدة السخونة، فدفع هذا طارق إلى فتح شرفته، وشعر بالراحة عندما وقف في الشرفة، يستنشق نسمات الهواء البارد، وجذبه ذلك المشهد الجميل الذي ذكّره بوالديه حيث رأى أب وأم خلف أسوار الڤيلا، تتسم ملامحهم بالبساطة والهدوء، يقبلان ابنهم ويحتضناه، ظهر على الطفل أنه في مثل سن طارق، وبمجرد رؤيته لذلك المشهد بدا يستعيد الذكريات، وتذكر كيف كانت أمه تقبله على جبينه قبل أن يخلد إلى النوم، وكيف كان أبيه يروي له الحكايات الخيالية؛ حتى ينام.
تمنى طارق أن يكون مكان هذا الطفل، وأن يظلا والديه على قيد الحياة أو يقابلهم لمرة أخيرة تطفئ نيران الشوق التي تشتعل داخله تجاههما، استمر طارق بالتحديق إلى الطفل ووالديه، وتجمدوا ثلاثتهم في مكانهم، وكأنهم كانوا بانتظار أحد ما، ولم تمر سوى لحظات قليلة حتى ظهر أتوبيس المدرسة من بعيد قادمًا نحوهم، وعندما أوقف السائق الأتوبيس، قام الطفل بتوديع والديه، وعندما ركب الأتوبيس أخذ يلوح لهم بيديه خلف زجاج الأتوبيس في حب وامتنان، وارتسمت على ملامح الوالدين السعادة والفرح .
وكان هذا هو نفس شعور طارق في تلك اللحظة، إنه الحب المتجسد في علاقة الطفل بوالديه، وارتباطه بهم أبد الدهر، إنه نفس الحب الذي يظهر في اهتمامهم به، وسعادتهم لسعادته، والحزن لحزنه، إن من لديه أب وأم؛ فهو في نعمة كبيرة .
ارتمى طارق على سريره، ووضع رأسه على الوسادة، وبات مستغرقًا في التفكير، وظلت نفس الأسئلة التي تطارده في خلوته، وتتأجج في عقله منذ وقوع الحادث المشؤوم من ذلك الرجل الغامض الذي قتل والديه، وما مصلحته في قتلهما؟ ترى ما السر وراء ما حدث؟
ولم يكن يشعر بالأمل في جهود الشرطة للعثور على القاتل؛ فهو يعتقد أنه مهما بذل ذلك الضابط المدعو توفيق من جهود، فلن يستطيع القبض على هذا الجاني، حاول طارق أن يشغل نفسه عن تلك التساؤلات، ويقحم تفكيره في أمور أخرى، فأثار انتباهه مجموعة من الكتب الصغيرة الموجودة على المنضدة .
فنهض من سريره وأطبق بيده على إحداها، كانت رواية لأجاثا كريستي بعنوان جريمة في قطار الشرق السريع، تركها طارق، ثم أخذ يتفحص الكتب الأخرى، فوجد أنها مجموعة من الروايات لنفس الكاتبة قرر طارق أن يقرأ رواية منهم؛ رغبة منه في التسلية .
فاختار رواية جريمة في قطار الشرق السريع، وعندما بدأ بالقراءة فيها جذبته الصفحة الأولى بها التي كتب بها إهداء من هدى لحسين، عندما قرأها طارق ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة، ومعها قادته الذكريات حول والده الذي كان يحكى له عن مدى عشقه لروايات أجاثا، وغرامه بها الأمر الذي أثار انتباه والدته هدى أثناء دراستهم في الجامعة معًا .
فقررت أن تهاديه بروايات أجاثا؛ حتى يزيد تقربها منه، وتنمو العلاقة بينهم أكثر، وأكثر. أعادت تلك الروايات إلى ذهن طارق ذكرى سعيدة عن والديه، تمنى لو استطاع أن يعيشها معهم، وأن يرى قصة حبهم عندما كانوا طلابًا في الجامعة، ويستمتع بلقائه بهم في هذه المرحلة، ولمعت في عينيه نظرة فرح وسعادة، وأيقن أن ربما والداه قد رحلا عن هذه الحياة، ولكنهم سيظلان ساكنان في قلبه، عائشًا على ذكرياتهم الجميلة، وصورتهم الحسنة التي لن تفارق خياله مرة أخرى. توجه طارق نحو الشرفة، وأخذ يستمتع بنسمات الهواء البارد، وراح يحدق بأوراق الأشجار الذي كان يهزها الهواء؛ فترقص وتتمايل حينها، تحلت السماء بمنظرها البديع .
وامتلأت بالسحب المتراصة التي تزينها مما زاد من جمال المشهد، وما رآه طارق بعدئذ جعله في قمة دهشته، ولا يستطيع أن يفهم الشيء الذي يحدث أمامه في هذا الوقت، كان يمكن وصفه بتلك العبارة صدق أو لا تصدق، لفت انتباهه هذا المشهد فدقق بعينيه إلى أب وأم يقبلان طفلهم ويحتضناه، اتسعت عيني طارق حيرة وتعجبًا، وقال، وهولا يستطيع أن يصدق: لحظة، لحظة إنهما نفس الشخصين اللذين رأيتهما منذ لحظات قليلة، كما أنه نفس الطفل، وظل طارق مصوبًا عينيه نحوهم حتى أتوبيس المدرسة باتجاههم، ومرة أخرى ركب الطفل الأتوبيس، ولوح لأبيه وأمه من خلف الزجاج .
بدأ الأمر، وكأنه يرى فيلمًا على الحاسوب، واستوقفته إحدى المشاهد المهمة، فأعاد مشاهدتها مرة أخرى، لقد تكرر الموقف أمامه مجددًا بنفس تفاصيله، هناك شيء غريب يحدث له، سريعًا أغلق النافذة، وجلس على سريره وأمال بظهره على الوسادة، وأخذ يفكر في ما رآه للتو.
وظل يسأل نفسه، هل هذا تأثير الغيبوبة؟ هل هو يعانى من حالة ما غير طبيعية تجعله يرى الأحداث التي مر بها من قبل؟ هل ما حدث له بسبب ضربة ذلك الشخص الغريب للأطوار؟ هل بمقدوره الآن العودة بالزمن؟
ولم يقتنع بتفسيره الأخير أنه بإمكانه العودة بالزمن، وأخذ يطرد تلك الفكرة من رأسه واصفًا إياها بالوهم الذي لا يمكن لأى شخص من بنى آدم فعله، وظن أن هذه الغيبوبة خلقت لديه حالة نفسية، جعلته يتوهم تكرار الأحداث وتخيلها كأنها تحدث أمامه مرة أخرى؛ فهو يرى أنه لم يعد قادر على التمييز بين الواقع والخيال، وكان شديد الاقتناع بهذه الفكرة .
في صباح اليوم التالي استيقظ طارق من منامه بعد سبات عميق وراح يفرك عينيه في بطئ، وكعادته الدائمة عند استيقاظه من النوم التقط هاتفه الذي كان دائمًا ما يضعه بجواره عند النوم، ونظر إلى الساعة فيه فوجدها الثامنة ونصف، ثم انتبه إلى مصطفى الذي دلف إلى غرفته فجاءة قائلًا: صباح الخير يا طارق، أتمنى لك يومًا سعيدًا.
أجابه طارق والفرحة تدب في وجهه: أتمنى لك يومًا سعيدًا أيضًا يا جدي.
ونظر اليه طارق نظرة طويلة من الأعلى إلى الأسفل مدققًا في بدلته الزرقاء، وبنطاله الأسود، و الحقيبة الجلدية التي يحملها في يده، فأدرك طارق الأمر سريعًا، وقال له في ثقة: أنت ذاهب الى الجامعة.
في هدوء قال له: نعم أنت تعلم أنني لا أستطيع أن أؤجل عملي، ثم إن جدول محاضراتي مزدحمًا اليوم.
أحس طارق بالضيق من كلامه؛ فقال له في تذمر: كنت أعتقد أنك سوف تقضي اليوم معي، أو سوف تأخذ إجازة مؤقتة من الجامعة.
أدرك مصطفى مدى استياء طارق، فابتسم ابتسامته المعهودة التي جعلت وجهه يزداد بشاشة، وقال له في ود: أنا آسف، ولكنني مضطر لذلك؛ فأنا أحب عملي، ثم أنني لن أتأخر كثيرًا، سوف أقضي معك النصف الآخر من اليوم، نجلس معًا، نلعب، ونتحدث، ونمرح سويًا .
ثم تقدم نحوه، وجلس على سريره مقتربًا منه، ثم ضم يده إلى يد طارق، واحتضنها في عطف، وهو يقول: لقد أعددت لك إفطارًا سوف تجد في المطبخ ثلاثة من رقائق الجبن، وثلاثة أخرى من البيض .
تبسم طارق في هدوء قائلًا: شكرًا لك يا جدى أنا أقدر مدى اهتمامك بي.
التمعت عيني مصطفى حبًا، وهو ينظر إليه ثم احتضنه، وقبله على جبينه ثم انصرف ذاهبًا إلى عمله .
ولم تمر سوى دقائق بسيطة حتى نهض طارق من مجلسه، وتحرك متجها نحو الحمام، وبدأ يشعر بالحيوية والنشاط، تدب في كامل جسده عندما تصببت قطرات المياه الباردة على وجهه، ثم أخذ منشفته وراح يجفف وجهه المبلل في رفق وراحة تامة، لم يذهب إلى المطبخ؛ ليأكل الطعام الذي أعده له جده، فلم تكن لديه رغبة ملحة في تناول الطعام الآن، ولم يشعر بأي شهية فعاد مجددًا إلى غرفته .
أراد أن يشغل وقته بأي شيء يسليه، ويرفه عنه وبدلا من أن يلتقط هاتفه، ويقوم بتصفح الانترنت، راودته فكرة قراءة رواية من روايات أجاثا كريستي فاختار رواية جريمة في قطار الشرق، ولفت انتباهه ذلك العنوان المثير .
أدرك من عنوانها أنها رواية شيقة، فتح الرواية من نهاية صفحاتها؛ ليرى كم عددها، فوجدها 155 صفحة ليست رواية كبيرة، حتى أنه يمكنه قراءتها في جلسة واحدة لو أراد، ثم جلس على سريره، وبدأ في قراءتها، وكانت الرواية تجذبه بأحداثها المثيرة ومفاجآتها.
فيقلب الصفحة تلو الأخرى في سرعة شديدة، ويتخيل أحداث الرواية أمامه، كأنه يشاهد فيلمًا سينمائي، أو مسلسل في التلفاز، وتابع قراءة الرواية بشغف وحماس؛ حتى وصل إلى صفحتها المائة، وشعر فجاءة بالملل من القراءة، وفقد الشغف في تكملة الجزء المتبقي من الرواية فهذه اللحظة .
فقرر أن يكملها في جلستين بدلًا من جلسة واحدة، وسريعًا أغلق الرواية، ووضعها خلف الوسادة التي اسند اليها ظهره، ثم نهض من مجلسه، وتقدم نحو نافذة الغرفة، و فتحها، وأخذ يتمتع بالهواء البارد الذي أمتع به أنفاسه، والرائحة الطيبة التي تصاعدت من النباتات في حديقة جده .
عاد مرة أخرى، وارتمى على سريره واضعًا رأسه على الوسادة، ثم أغمض عينيه ثوان بسيطة، وإذا به يفتحهما مرة أخرى، ويفركهما ببطيء، ونظر إلى الساعة في الهاتف فوجدها الثامنة ونصف، فأصابته الدهشة هل ما زالت الساعة ثابتة؟
لقد مرت ساعة على الأرجح منذ مغادرة جده للمنزل، وذهابه للجامعة، ورفع حاجبيه في دهشة عندما سمع صوت مصطفى، وهو يقول له: صباح الخير يا طارق أتمنى لك يومًا سعيدًا.
قال في حيرة: لماذا أتيت باكرًا؟ لقد قلت أن جدول محاضراتك مزدحمًا اليوم.
أطلق مصطفى ضحكة عالية دوت صوتها في أرجاء الغرفة، ثم أجابه في سخرية: أنا لم أذهب إلى العمل بعد، ساد الصمت عليه لحظة، ثم استطرد بقوله: كيف عرفت أن يوم الثلاثاء هو أكثر يوم مشغول بالمحاضرات عندي.
لم ينبس طارق بكلمة، وظل صامتًا في حيرة، وتعجب من كلام جده.
لاحظ مصطفى ما ظهر عليه من تعجب، فارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة، وقال له: لما كل هذه الدهشة؟
لم ينتظر أي رد من طارق على حديثه، وتقدم ناحيته، وجلس على السرير، وطارق يرمقه في حيرة واستغراب، وهو لا يستطيع أن يصدق ما تراه عينيه، ثم سمع نفس الكلام من جده يقوله مرة أخرى: لقد أعددت لك إفطارًا ستجد في المطبخ ثلاثة من رقائق الجبن وثلاثة من رقائق البيض، ثم قبله على جبينه، وانصرف .
وبعد مغادرته ظل طارق في أعلى مراحل دهشته، وكأنه شاهد حلقة من برنامجه المفضل صدق أو لا تصدق؟
بعدها أخذته قدميه الى المرآة، فنظر إلى وجهه فلاحظ العماص الموجود في عينيه، وكأنه لم يغسلهما منذ قليل، وأنه استيقظ من نومه الآن، وراح يبحث عن الرواية التي وضعها خلف الوسادة، فوجدها اختفت، والأغرب من ذلك أنه انتبه لوجودها على المنضدة، وتذكر ما حدث أمس أثناء وقوفه في الشرفة تكرار مشهد ذلك الطفل الذي يودع والديه قبل ذهابه إلى المدرسة، وربط بين ذلك المشهد وبين ما رآه اليوم، تكرار الأحداث هذا يشبه ظاهرة الديجافو، إنه يعود بالزمن وينتقل إلى ذكرياته السابقة، لم يكن يتخيل أن رقدته في هذه الغيبوبة سوف تصنع منه هذا الشخص القادر على الذهاب إلى ذكرياته متوغلًا في الماضي، ربما يمتلك هذه القوة منذ فترة بعيدة، ولكن حادثة والديه جعلته يدركها، ربما رغبته الكامنة في محاولة تغيير الماضي، وإنقاذ والديه، فقد تلقى عقله هذه الرسالة، فلا حدود لقوى العقل البشري، وصار يستخدم قدراته الدماغية في السفر إلى الماضي، ورؤية الذكريات التي مر بها .
هكذا أدرك ٦انه يستطيع السفر إلى الماضي، بطريقة ما ظلت التساؤلات تملأه عن سبب امتلاكه لهذه الهبة .
ولم يكن لديه معرفة تامة بمدى حدود هذه القوة، هل يمكنه السفر إلى المستقبل أيضًا؟ هل يستطيع العودة إلى الماضي، وتغييره محاولًا إصلاح الأحداث التي حدثت في السابق؟
وتضخمت فكرة تغيير الماضي في عقله، وسيطرت عليه تمامًا، فأخذ يفكر في ذلك الحادث المشؤوم الذي وقع لوالديه، وحجم الكارثة التي ترتبت على ذلك، فظل يسأل نفسه في حيرة: هل أستطيع منع هذه الجريمة قبل أن تحدث؟ هل يمكنني إنقاذ والداي من الموت؟
وقرر أنه يجب أن يتعلم كيفية التحكم في هذه القوة، والسيطرة عليها، وعندما يشعر بأنه يستطيع فعل ذلك، فسيعود إلى يوم حادثة والديه، وينقذهما. استمرت تساؤلاته بشأن أخبار جده عن غرابة ما حدث معه، وأخذت الأسئلة تدور في رأسه مجددًا حتى أن عقله كان سينفجر من كثرة التفكير بشأن إخباره لجده عن هذه القوة التي امتلكها يوم الحادث .
ولكنه تراجع عن هذه الفكرة وقرر أنه لا يمكنه أن يخبر أي شخص عن امتلاكه لهذه القوة، وقرر في النهاية أن يخفي قوته عن أنظار الجميع كما لو أن شيئًا لم يحدث.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.