hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

كان يومًا حارٍّا ثقيل الوَطْأة مُقارنةً بالحالة المُعتادة للطقس الإنجليزي في شهر
سبتمبر، وكان السُّكُونُ وتَكثُّف الأمطار المُوشِكة على الهُطول يُخيِّمان. بين الحين والآخر
كانت هبَّاتُ الرياح المُفاجِئة تأتي من جِهة الجنوب الغربي؛ كانت إحداها شديدةَ العَصْف
وغيرَ مُتوقَّعة بالمرة بحيث فاجأتني وأنا غافٍ وقَلَبتْني رأسًا على عَقِب للحظةٍ مِن الزمن.
إنني أذكرُ حينما كانت الأعاصيرُ والدوَّامات والمَطبَّات الهوائية تُعدُّ مَبعثَ خطورة؛ وذلك
قبل أن نتعلم إدخال قوَّةٍ في مُحرِّكاتنا تكسرشوكتها. ما إن وصلتُ إلى رُكُم السحاب، وكان
جهاز قياسالارتفاع يُشير إلى ثلاثة آلافقدَم، حتى هطل المطر. يا للعَجَب، كم كان ينهَمِر!
كان يَدقُّ على جناحَي طائرتي كقرْعِ الطبول ويضرب وجهي بعنفٍ، يَغْشى نظارتي حتى
كدتُ لا أستطيع أن أرى. ضغطتُ على المَكابِح وصولًا إلى سرعةٍ منخفضة، لأن الطيران
مُواجهًا للمطر كان مُوجعًا. وعندما ارتفعتُ أكثرَ صار المطرُ بَرَدًا، وكان لزامًا عليَّ أن
أدُِير له ظهري. توقفَتْ إحدى أسطوانات المُحرِّك عن العمل؛ أتصوَّر أن شمعة إشعالٍ قد
اتَّسختْ، لكنني كنتُ لا أزال أرتفعُ بثباتٍ وبقدرٍ وافرٍ من القوة. وبعد قليلٍ انقضتِ العلَّة،
أيٍّا كانت طبيعتُها، وسمِعتُ الصوت الكامل الرَّخيم لأزيز المُحرِّك؛ كانت الأسطوانات العَشْر
تترنَّم وكأنها صوت واحد. وهنا يأتي جمالُ كاتِماتِ الصوت الحديثة في طائراتنا. أخيرًا
يُمكننا التحكُّم في مُحركاتنا بالسمع. فكم ذا تَصِرُّوتُطقطِق وتَنْشِج عندما تُواجه متاعب!
كانت كلصرخات الاستغاثة تلك تضيع سُدًى في سالِف الأيام، عندما كان ضجيج الطائرة
الهائل يطغى على كلِّ الأصوات. لَيتَه كان في مقدور الطيَّارين الأوائل أن يعودوا ليرَوا جمال
وإتقان التِّقْنِيات التي تحقَّقتْ على حِساب أرواحهم!
في حوالي التاسعة والنصف كنتُ قريبًا من السُّحب. وكان سهل سالزبوري ذو الرقعة
الشاسعة يمتدُّ تَحتي وقد غشَّاه المطر وظلَّلَ كلَّ شِبرٍ منه. وعند مستوى الألف قدَمٍ كانت
نِصف دَستةٍ من الطائرات تُحلِّق تحليقًا رتيبًا، وقد بدَتْ مثل طيور السنونو السوداء
الصغيرة في مُقابِل الخلفية الخضراء. أعتقد أنهم كانوا يتساءلون عمَّا كنتُ أفعله بالأعلى في
أرضالسحاب. وفجأةً تقدَّم بثباتٍ ستارٌ رَماديٌّ مُغَطِّيًا ما تحتي، وراحتْ تَجمُّعات البخار
المُبلِّلة تدور كالدَّوَّامة حول وجهي. كان الجوُّ قارِسًا دَبِقًا يبعَثُ على التعاسة. بَيْد أنني
كنتُ أحُلِّق فوق عاصفة البَرَد، وكان ذلك مَغنمًا. كان السحاب مُعتِمًا وكثيفًا مثل ضباب
لندن. وفي غَمْرة تلهُّفي على تحرير نفسيرفعتُ مُقدَّم الطائرة لأعلى إلى أن دقَّ جرسُالإنذار
الأوتوماتيكي، وبدأتُ فِعليٍّا أنزلِقُ إلى الوراء. لقد جَعلتْني أجنِحةُ الطائرة المُشبَّعة بالماء الذي
كان يتقاطَر منها، أثقلَ ممَّا كنتُ أعتقد، ولكني كنتُ في ذلك الحين داخل سحابةٍ أخَف،
وسُرعان ما اجتزتُ الطبقة الأولى. كان ثَمَّةَ طبقة ثانية — بِلونِ العقيق ومظهر الصُّوف —
على ارتفاعٍ شاهِقٍ فوق رأسي، كان يُوجَد سقفٌ أبيضُمُمتدٌّ بلا انقطاعٍ بالأعلى، وقَعرٌ قاتِم
مُمتدٌّ بلا انقطاعٍ بالأسفل، والطائرة أحُادِيَّةُ السطح آخذةٌ في الارتفاع بجُهدٍ بينهما إلى أعلى
في دوَّامةٍ شاسعة. تَسود وَحْشةٌ رهيبة في هذه المساحات المليئة بالسحب. ذاتَ مرَّةٍ عبَرَ من
أمامي سِربٌ هائلٌ من أحدِ أنواع الطيور المائية الصغيرة، كان يطيرُ بسرعةٍ كبيرةٍ باتِّجاه
الغرب. كان صوت طنينِ أجنِحتها وصِياحها الموسيقي يبعثان البهجةَ في أذُني. يُخَيَّل لي
أنه كان بَطٍّا بَرِّيٍّا مِن نوع الشرشير، ولكني عالِم حيوانٍ مُثيرٌ للشفَقة. أما الآن وقد أصبحنا
نحن بني البشر طيورًا فلا بُدَّ لنا حقًا من أن نتعلم تمييز إخوتنا بِمجرَّد النظر.
أدارتِ الريح تحتي سهل السُّحُبِ الفسيح بسرعةٍ حولَ مِحوَره وجعلَتْه يَتمايَل. في
إحدى المرَّات تشكَّلَ فيه تيارٌ عكسيٌّ هائل؛ عبارة عن دوَّامةٌ من البخار، ولمَحتْ عيناي
خلالها العالم البعيد، كأنَّني كنتُ أنظر إلى أسفلَ عبر قُمع. كانت طائرةٌ كبيرةٌ بيضاء
ثنائيةُ السطح تمرُّ على عُمقٍ سحيقٍ تحتي. يخيَّل لي أنها كانت طائرة مصلحة البريد
الصباحيَّة بين مدينتَي ببريستول ولندن. ثم دار التيار إلى الداخل مُجدَّدًا واستمرتِ العُزلَةُ
الكبيرة دون انقطاع.
لمستُ الحافَةَ السُّفلى من طَبَقةِ السَّحاب العُلْيَا بعد العاشرة مباشرةً. كانت تتكوَّن
من بُخارٍ شفَّافٍ صافٍ ينجَرِف بسرعةٍ من ناحية الغرب. كانت الريح قد أخذت تَهبُّ
بثباتٍ طوالَ هذا الوقت ثمَّ أخذتِ الآنَ تنفخُ نسيمًا باردًا؛ بسرعة ثمانيةٍ وعشرين مِيلًا في
الساعة حسب مؤشِّري. كان الجوُّ بالأصل باردًا جدٍّا، ورغم هذا كان مِقياس الارتفاع لديَّ
يُشير إلى تسعةِ آلاف قدَمٍ فقط. كانت المُحرِّكات تعمَل على نحوٍ رائع، وأخذنا في الارتقاء
بثباتٍ وبطريقةٍ رتيبة. كانت رُكامة السُّحب أكثر كثافةً مما كنتُ قد توقعت، لكنها صارت
أقلَّ كثافةً في النهاية وتحولتْ إلى سَديمٍ ذهبيٍّ في مُواجَهتي، ثم في لحظةٍ كنتُ قد انطلقتُ
خارجًا منه، هُنالِكَ أبصرتُ فوق رأسي سماءً بلا غيوم وشمسًا مُتلألئة؛ كل شيء بالأعلى
كان باللونَين الأزرق والذهبي، وكل شيءٍ في الأسفل بلونٍ فضيٍّ لامع، كنتُ أرى على مدِّ
بصري سهلًا شاسعًا مُتلألئًا. كانت الساعة العاشرة والربع، وكانت إبرة الباروجراف تُشير
إلى اثنَي عشر ألفًا وثمانمائة ملِّي بار. أخذتُ أصعدُ وأصعد، وكانت أذُُناي مُركِّزَتَين على
الصوتِ الخافت لأزيز الموتور، وكانت عيناي دائمتَي الانشغال بالساعة، وعداد الدوران،
وذراع البنزين، ومِضخَّة الزيت. لا عجبَ في القول بأن الطيَّارين جنسٌ لا يعرِف الخوف.
فلِكثرَةِ ما يَشغَل المرء من الأمور لا يجِدُ الوقت ليَقلَقَ بشأن نفسه. نحوَ هذا الوقتِ انتبهتُ
إلى مدى عدم إمكانية التعويلِ على البُوصلة عندما تكون على ارتفاعٍ معيَّن فوق سطح
الأرض. على ارتفاع خمسة عشر ألف قدمٍ كانت بُوصلتي تشيرُ إلى اتجاه الشرق ودرجة
ناحية الجنوب. لكن الشمس والريح أرْشَدتاني إلى اتجاهاتي الصحيحة.
لقد كنتُ آملُ أن أبلغَ هدوءًاسرمدِيٍّا في هذه الارتفاعات الشاهقة، لكنْ مع كل ألفِ قدمٍ
من الارتقاء كانت العاصِفة تزدادُ قوَّة. كانت طائرتي تُصدِرصريرًا وتَرتجُّ من كلِّ مِفصلةٍ
ومسمار برشام فيها وهي تُواجِه العاصفة، وانجرفتْ بعيدًا كورقةٍ عندما أمَلْتُها على جانِبها
في المُنعطَف، آخذةً في الانزِلاق مع اتِّجاه الريح بِتَسارُعٍ أكبر، رُبَّما كان أكبرَ من أيَّةِ سرعةٍ
تَحرَّك بها إنسان من قَبْل. رغم هذا فقد كان عليَّ دومًا أن أنعَطِفثانيةً وأغُيِّر وِجهةَ التَّحليق
إلى أعلى في قلبِ الريح، إذ لمْ أكن أسعى إلى مُجرَّد تحقيق ارتفاعٍ قياسي فقط؛ فوفقًا لكلِّ
حساباتي، كانت أدغال الجوِّ التي أبحثُ عنها تقعُ فوق مقاطعة ويلتشير الصغيرة، وكان
من الممكن أن يَضيع جُهدي كلُّه سدًى لو كنتُ اخترقتُ الطبقات الخارجية مِن نقطةٍ أبعَد.
عندما وصلتُ إلى مستوى التِّسعة عشرألف قدم، وكان هذا في مُنتصف النهار تقريبًا،
كانت الريح عاتيةً جدٍّا ممَّا جعلني أنظر بشيءٍ من القلق إلى شدَّادات جناحَي طائرتي،
مُتوقعًا أن أراها تَنقصِم أو ترتخي في أيَّةِ لحظة. حتى إنَّني حلَلْتُ مِظلَّة الهبوط ووضعتُها
خلفي، وثبَّتُّ خُطَّافها في حلقةِ حِزامي الجلدي، لكي أكون مُستعدٍّا للأسوأ. كان هذا هو
الوقت الذي يدفع فيه الملَّاح الجويُّ حياتَه ثمنًا لعدَم إتقان الميكانيكي نوعًا ما لعمَلِه.
ولكنَّها تماسكتْ بجسارة. كان كلُّ رِبَاطٍ ودعامةٍ تَطِنُّ وتَهتزُّ وكأنها أوتار قيثارة، ولكنه
كان منظرًا مَهيبًا أن يرى المرءُ مَقدرةَ هذه الطائرة، مع كلِّ تلك الضربات واللطمات، على
أن تَظلَّ قاهرةَ الطبيعةِ وسيِّدةَ السماء. لا رَيبَ في أن ثمَّةَ شَيْئًا إلهيٍّا في الإنسان يدفَعُه
إلى أن يَرقى إلى مقامٍ أسمى بكثيرٍ من الحدود التي يبدو أنَّ الكون قد فرَضَها عليه؛ أن
يرقى، كذلك، بمثلِ هذا الإخلاص المُتفاني والبُطوليِّ الذي أظهرَه غزوُه للسماء. يتحدَّثون
عن الانحطاط البشري! فمتى كُتِبتْ هكذا قِصَّةٌ في سِجلَّات تاريخ جِنسنا البشري؟
كانت تلك هي الأفكار التي دارت برأسيوأنا أرتقي بالطائرة ذلك المُسطَّح المائل الهائل
والريحُ تلطِم وجهي حينًا وتصفِر خلف أذُنَيَّ حينًا آخر، بينما هَوَتْ تحتي أرضُالسحاب
مُبتِعدةً بُعدًا استوتْ فيه الطيَّات والرَّبوات الفضية جميعُها وأصبحتْ سهلًا مُنبسطًا
مُتَلَأْلِئًا. ولكني خضتُ فجأةً تجربةً رهيبةً وغير مسبوقة. لقد عاينتُ من قبلُ ذلك الشعورَ
Tourbillon الذي يعتري المرءَ عندما يكون داخل ذلك الشيء الذي كان جيراننا يُسمُّونه
ولكنه لمْ يكن بمثل هذه الحجم قط. احتوى ذلك التيَّارُ الضخم الجارِف من ،« الزَّوْبَعَة » أي
الرياح الذي كنتُ أتحدَّثُ عنه، فيما يبدو، على دوَّاماتٍ لا تقلُّ ضخامةً عنه. ودونما سابِق
إنذار، سُحِبْتُ إلى قلبِ إحداها. دُرتُ في حركاتٍ دائريةٍ مُدَّةَ دقيقةٍ أو دَقيقتَين بسرعةٍ هائلةٍ
كِدتُ معها أفقدُ وعْيي، ثمَّ سقطتُ فجأةً — بجناح الطائرة الأيسرأوَّلًا — هابِطًا عبر القُمع
الفراغي الكائن في المركز. هويتُ مِثل صخرةٍ، وخسرتُ ما يُقارِب الألف قدم. لمْ يُبقِني
في مِقعدي سوى حِزامي، وذهبتْ عنِّي الصَّدمة وعُسر التنفُّس وأنا مُعلَّقٌ فوق جانِب بدَن
الطائرة شِبهَ فاقدٍ للوعي. ولكنني دائمًا ما أكون قادِرًا على بذلِ مجهودٍ فائق؛ وهذه أكبر
مَيزة لديَّبوصفيطيارًا. كنتُ مُدرِكًا لأن الهبوطكان أبطأ. كانتِ الدوَّامة على هيئة المخروط
وليس القُمع، وكنتُ قد وصلتُ إلى قِمَّته. بالْتِواءةٍ هائلة، مُلقِيًا وَزْني كلَّه إلى جانبٍ واحدٍ،
وازنْتُ أسطح توجيهٍ للطائرة وأبعدتُ مُقدِّمتها عن الريح. وعلى الفور كنتُ قد انطلقتُ
خارج التيَّارات الدوَّامية ورُحتُ أنزلقُ بخِفَّةٍ عبرَ السماء. ثم — وبإحساسٍ بالظَّفَر رَغمَ
صدْمتي — حوَّلتُ مُقدَّمَها لأعلى وبدأتُ مرةً أخرى في الطيران اللولَبيِّ المُرهِق نحوَ الأعلى.
واتخذتُ مسارًا مُقوَّسًا شاسعًا لكي أتجنَّب بُؤرةَ الخطر في الدوَّامة، وسُرعان ما أصبحتُ
فوقهاسالِمًا. وكانت الساعة قد جاوزَتِالواحدة للتوِّ عندما وصلتُ إلى ارتفاع واحدٍ وعشرين
ألف قدم فوق مستوى سطح البحر. شعرتُ بفرحٍ غامر عندما ارتفعتُ مُتخطِّيًا العاصفة،
ومع كلِّ مائة قدمٍ من الارتفاع كان الهواء يسكُن أكثرَ فأكثر. من ناحيةٍ أخرى، كان الجوُّ
بارِدًا جدٍّا، وشعرتُ بذلك الغَثَيان الغريب الذي يُصاحِب تَخلخُل الهواء. وفككتُ للمرَّة الأولى
فوَّهةَ حقيبة الأكسجين التي معي وأخذتُ نَفَسًا من الغاز الرائع، إذ كُنتُ في احتياجٍ إليه.
كان بِوِسعي أن أشعُر به يَسري كشرابٍ مُنعِشٍ في عروقي، ثم شعرتُ بنشوَةٍ كادتْ تصِل
إلى حدِّ السُّكْر. وأخذتُ أصيح وأغُنِّي وأنا أحُلِّق لأعلى باتِّجاه العالم الخارجي البارِد الساكن.
مِن الواضح جدٍّا لي أنَّ فُقدان الوعي الذي أصاب جلايشر، وكوكسويل بدرجةٍ أقل،
عندما صعَدا في مِنطادٍ، سنةَ ١٨٦٢ ، إلى ارتفاع ثلاثين ألف قدمٍ، كان بسببِ السرعة
المُفرِطة التي يجري بها الارتقاء العمودي؛ إذ عندما يُنفِّذه المرء بتدَرُّجٍ مُتمهِّل ويُكيِّف
نفسه بدرَجاتٍ مُتأنِّية مع الضغط الجوي المُتناقِص؛ فليس ثَمَّةَ وجودٌ لِمِثل هذه الأعراض
المُريعة. لقد اكتشفتُ وأنا عند هذا الارتفاع الشاهِق ذاته، وحتى من دون جهاز استنشاق
الأكسجين الخاصِّ بي، أنَّني أستطيعُ التنفُّس دون عُسرٍ مُفْرِط. بيْد أن الجوَّ كان قارِسَ
البرودة، وكان مِقياس الحرارة خاصَّتي يُشير إلى درجة صفر بمقياس فهرنهايت. وفي
الواحدة والنِّصف كنتُ على ارتفاع سبعة أميالٍ تقريبًا فوق سطح الأرض، وكنتُ لا أزال
أرتفع بثبات. بيْد أني وجدتُ أنَّه كان من الواضح أن الهواء المُخلخَل يُقدِّم دعمًا أقلَّ لأسطح
توجيه طائرتي، وتَبَعًا لذلك ينبغي خفضُ زاوية الصعود إلى حدٍّ كبير. وبات واضِحًا أنه
حتى مع خِفَّةِ وزني وعِظَمِ طاقة المُحرِّك كان أمامي نقطة سوف أكُْبَح عندها. وممَّا زاد
الطين بِلَّةً أن خَللًا ألمَّ مُجدَّدًا بإحدى شمْعات الإشعال لديَّ وكان ثمَّةَ تفويتٌ مُتقطِّع في
شرارة إشعال المحرك. كان قلبي مُثقلًا بالخوف مِن الفشَل.
في ذلك الوقت تعرَّضتُ لتجربةٍ بالغة الغَرابة. حيث مرَّ شيءٌ بجواري مُحدِثًا طنينًا
ومُخلِّفًا وراءه أثرًا من الدُّخان وانفجر مُحدِثًا دَوِيٍّا عاليًا له أزيز، وباعِثًا سحابةً من
البُخار. ساعَتَها لمْ أستطع تَخيُّل ما حدَث. ثُمَّ تذكَّرتُ أن الأرض تتعرَّضُ على الدَّوام
للقصفِ بِحجارة النيازك، وأنها ما كانت ستَصلُح للعيش عليها لو لمْ تكن تلك النيازك
تتحوَّل، في كلِّ حالةٍ تقريبًا، إلى بُخارٍ في الطبقات الخارجية للغلاف الجوي. ها هو ذا
خطرٌ جديد يُواجِه رجلَ الارتفاعات العالية؛ إذ تخطيتُ اثنين آخَرَين عندما كنتُ أقتربُ من
حدِّ الأربعين ألف قدم. لا يَسعُني الشكُّ في أنَّ المُخاطرة عند حافَةِ الغلاف الجويِّ للأرض
ستكون حقيقيَّةً للغاية.
كانت إبرةُ الباروجراف تُشير إلى واحدٍ وأربعين ألفًا وثلاثمائة ملِّي بار عندماصرتُ
أدُرِك أنني لا أستطيع التقدُّمَ أبعدَ من هذا. على مستوى حالتي البدنية، لم يكن الجُهد
بَعدُ أكثرَ ممَّا بِوسعي تَحمُّله، ولكنَّ طائرتي كانت قدْ وصلتْ إلى أقصىحدٍّ لها. لمْ يُوفِّر
الهواءُ المُنخفِضالكثافةِ دعمًا قويٍّا للأجنحة، فكان أدنى مَيلٍ يتحوَّل إلى انزلاقٍ جانبي، في
حين كانت الطائرة تبدو بطيئةَ الاستجابة لأجهزة توجيهها. وربما كانتْ ألف قدمٍ أخرى
ستُصبِح ضِمن حدود استطاعتنا لو كان المُحرِّك في أحسن حالاته، لكنَّه كان لا يزال يُفَوِّت
شرارة إشعاله، وكان يبدو أن اثنتين من أسطواناته العشرقد تعطَّلتا. لو لمْ أكن قد وصلتُ
بالفِعل إلى المنطقة التي كنتُ أبحثُ عنها فلن أتمكَّن إذن أبدًا من رؤيتها في هذه الرحلة.
لكن ألمْ يكن من الجائز أن أكون قد بلغتُها؟ رحتُ أحُلِّق في دوائرَ مثلَ صقرٍ عِملاقٍ فوق
مستوى الأربعين ألفقدمٍ تاركًا الطائرة الأحُاديَّة السطح تُوجِّه نفسها، وأخذتُ أدُقِّقُ النظر
فيما حولي بمنظاري ماركة مانهايم. كانت السماء صافيةً تمامًا؛ ولم يكن ثمَّةَ ما يدلُّ على
تلك الأخطار التي كنتُ قد تخيَّلتها.
ذكرتُ أنني كنتُ أحُلِّق في دوائر. فخطر لي فجأةً أنني سوف أحُسِن صُنعًا إذا اتَّخذتُ
مسارًا مُقوَّسًا أكثرَ اتِّساعًا وأمَطتُ اللِّثام عن رُقعةٍ جويَّةٍ جديدة. فلو دخل الصياد غابةً
من غابات الأرض، لكان من شأنه أن يَتوغَّل فيها إن أراد العُثور على طريدته. كان تفكيري
قد هداني إلى الاعتقاد بأنَّ أدغال الجوِّ التي كنتُ قد تخيَّلتُها تقعُ في مكانٍ ما فوق مُقاطَعة
ويلتشير. ومن شأن هذا المَوضِع أن يكون جِهةَ الجنوب والغرب مِن مَوقِعي. حدَّدتُ
اتِّجاهاتي عن طريق الشمس، لأنَّ البُوصلة كانت بلا جدوى وما كان للأرضمن أثَرٍ يُرى؛
لاشيء سوى سهلِ السُّحب الفِضيَّة البعيدة. على أيَّةِ حال، حدَّدتُ اتِّجاهي بأدقِّ ما أمكنني
وأبقيتُ مُقدَّم الطائرة مُتَّجِهًا صوْبَ الهدف مُباشرةً. وقدَّرتُ أنَّ مَخْزُوني من الوقود لم
يكُن ليدُوم لأكثرَ مِن ساعةٍ أخرى أو نحوَ ذلك، ولكن بِوسعي استغلاله حتى آخر قطرة،
لأنه يمكن لطيَرانٍشِراعيٍّ مَهيبٍ واحدٍ بالطائرة أن يُوصلني إلى الأرضفي أيِّ وقت.
انتبهتُ فجأةً إلى شيءٍ جديد؛ لقد فقَدَ الهواء أمامي صفاءه البلُّوري. وامتلأ بخيوطٍ
رفيعة طويلة مُخَلْخَلة من شيءٍ ما لا أستطيع تَشبيهَه إلَّا بخيوطٍ دقيقةٍ جدٍّا من دُخان
السجائر. وظلَّ مُعلَّقًا في الجِوار على هيئة ضفائرَ ولفائفَ، تدور وتنجدِلُ ببطءٍ تحت
ضوء الشمس. وعندما انطلقتِ الطائرة الأحُاديَّةُ السطح عَبْرَه، شعرتُ بنكهة زيتٍ خفيفة
على شفتيَّ، وكان يُوجَد وسَخٌ دُهنيٌّ يَعلو الأجزاء الخشبية من الطائرة. بدا وكأن ثَمَّةَ
مادةً عُضويةً مُتناهية الدِّقَّة مُعلَّقة في الغلاف الجوي. لم يكن بها أثرٌ للحياة. كانتْ أوَّلِيَّةً
ومُنتشرة؛ إذ كانت مُمتدَّةً على العديدٍ من الهِكتارات المُربعة ثم مُشكِّلة حدٍّا بعيدًا في الفراغ.
لا، لم تكن كائنًا حيٍّا. ولكن، ألا يُمكِن أن تكون بقايا كائنٍ حي؟ ولكن الأكثر أهمية، ألا
يُمكن أن تكون طعامَ كائنٍ حي، كائنٍ حيٍّ هائل، تمامًا مِثلما أنَّ المواد الزَّيتيَّة البسيطة في
المُحيط هي طعام الحوت العظيم؟ كانتِ الفكرةُ تدور في ذِهني عندما نظرَتْ عيناي لأعلى
ورأيتُ أروعَ مَشهدٍ رآه إنسانٌ على الإطلاق. تُرى، هل لي أن آمُلَ في نقْلِه إليكم تمامًا مِثلَما
رأيتُه بنفسي يومَ الخميس الماضي؟
فلْتَتَخيَّلوا قنديل بحرٍ مثل الذي يَجوب بِحارنا في الصَّيْف، له شكلُ الجرسِ، وحجمه
هائل؛ أضخم بكثير، في تقديري، من قُبَّة كاتدرائية القديس بولس. كان لونه وردِيٍّا فاتحًا
مُعرَّقًا بلونٍ أخضر باهت، لكن البِنية الضخمة كانت في مُجملها هشَّةً للغاية لدرجَةِ أنَّها
كانت تبدو كمُجرَّد رسمٍ كفافيٍّ شفَّافٍ في مُقابِل السماء الداكنة الزُّرقة. كان يَخفِقُ بإيقاعٍ
مُرهَفٍ ومُنتظم. وكان يتدَلَّى منه مِجَسَّان طويلان مُتهدِّلان أخضرا اللون، يتمايلان ببطءٍ
للخلفِ والأمام. مرَّ هذا الطَّيف البهيُّ فوق رأسي رُوَيدًا في وقارٍ ساكن، وبِخفَّة وهشاشة
فُقَّاعة صابون، وسرى مع تيَّار الهواء في طريقه المَهيب.
استدرتُ بطائرتي الأحُاديَّةِ السطح نِصفاستدارة، لَعلِّي أستطيع أن أتُبِعَ هذا المخلوق
الجميل نظراتي. عندها وجدتُ نفسي في لحظةٍ في وسط أسطولٍ كامل من تلك المخلوقات،
من كلِّ الأحجام، لكن لم يكن أيُّهم في مِثل ضخامة الأول. كان بعضهم صغيرًا جدٍّا، لكنَّ
الأغلبية كانوا في حجم مِنطاد متوسط الحجم، وكان لهم نفس دَرَجة الانحناء إلى حدٍّ كبير
عند القِمَّة. كانت تلك المخلوقات تتمتَّع برقَّةٍ في بِنيَتِها وألوانها ذكَّرتني بأجود أنواع الزجاج
الفينيسي. كانت الدَّرَجات الفاتحة من اللونَين الورديِّ والأخضرهي الألوان السائدة فيها،
لكنها كانت تتمتَّع كلها بتقزُّحٍ لَونيٍّ مُحبَّبٍ حيث كانت الشمستتلألأ عبر أشكالها اللطيفة.
انجرَف بضع مئات منها مع الريح مارِّين بي، سِربٌ خياليٌّ عجيبٌ من أساطيل السماء
المجهولة الغريبة؛ مخلوقاتٌ تناغمتْ أشكالُها ومادَّتها تناغمًا كبيرًا مع هذه المُرتفعات
الصافية حتى إن المرء ما كان لِيَستطيع تخيُّل وجودِ أيِّ شيءٍ بهذه الرِّقَّة ضِمن النطاق
الواقعي للبصرأو السمع على الأرض.
لكن سُرعان ما تحوَّل انتباهي إلى ظاهرةٍ غريبةٍ جديدة؛ حيَّاتُ الهواء الخارجي.
كانت عبارةً عن لَفائفَ طويلةٍ ناحِلَةٍ مُدهِشة من مادَّةٍ شِبهِ بُخارية، وكانت تَلتفُّ وتنجَدِلُ
بسرعةٍ هائلة، مُحلِّقةً في مسارٍ دائري مرةً تِلْوَ أخرى بسرعةٍ هائلةٍ حتى إنَّ الأعيُنَ لا تتمكَّن
من مُتابعتها إلا بشقِّ النفس. كان طول بعض هذه المخلوقات الشبيهة بالأشباح يصِل
إلى عِشرين أو ثلاثين قدمًا، لكن كان من الصعب إدراكُ قياس مُحيط جِسمها، لأنَّ حدود
أجسامها كانت ضبابيةً جِدٍّا لدرجةٍ أنها كانت تبدو وكأنها تتلاشى في الهواء المُحيط بها.
كانت ثعابين الهواء هذه ذات لونٍ رَماديٍّ فاتحٍ جدٍّا أو بلون الدُّخان، مع بعضالخطوط
الأكثر دُكنةً داخِلًا، ممَّا أعطى انطباعًا بتركيبٍ عضويٍّ له أبعاد مُحدَّدة. تحرَّك أحدُها بخفَّةٍ
مارٍّا بِمُحاذاة وجهي تمامًا، فشعرتُ بتلامُسٍ باردٍ ورطب، لكنَّ بِنيَتها كانت غير واضحة
جدٍّا لذا لم أستطع ربطَها بأيِّ تصوُّرٍ عن خطرٍ مادي، وكذلك كان حالي مع المخلوقات
الجميلة الشبيهة بالأجراس التي كانت قد سبَقتْها. لم يكن التماسُك في أجسامها يزيد على
التماسُك في الزَّبَد الذي يطفو ناتِجًا عن تكسُّر مَوجة.
ولكنَّ تجربةً أكثرَ رُعبًا كانت في انتظاري؛ إذ راحتْ كتلةُ بُخارٍ أرُجوانيةُ اللون تتهادى
هابِطةً من ارتفاعٍ شاهِقٍ، وبَدَتْ لِعَيني صغيرةً عندما رأيتُها في البداية، ولكنها أخذتْ تكبُر
بسرعةٍ مع دنُوِّها منِّي، حتى بدتْ وكأن مساحتها مئاتُ الأقدام المُربَّعة. ومع أنها كانت
مُكوَّنةً من مادَّةٍ شفَّافةٍ شِبهِ هُلاميَّة، إلا أنها كانت ذات حدودٍ خارجيَّةٍ واضحة وتماسُكٍ
صلبٍ أكثر كثيرًا من أيِّ شيءٍ رأيتُه قبلها. كان يُوجَد كذلك علاماتٌ دالَّةٌ أكثرَ على وجود
بِنيَةٍ مادِّيَّة، وبخاصَّةٍ قُرصان مُستديران واسِعان باهِتا اللَّونِ على كلا جانبيها، رُبما كانا
عَينَيها، ونتوءٌ تامُّ الصَّلابة أبيضُاللَّون بينهما يُشبِه مِنقار النَّسر في انحنائه وصلابته.
كانت هيئة هذا المسخ في مُجملها مُرعبةً ومُنذرة بالسوء، وظلَّ يُغير لونه من بنفسجي
فاتحٍ جدٍّا إلى أرجواني داكن غاضب، كثيف جدٍّا إلى حدِّ أنه ألقى بظلٍّ وهو ينساق مع
الريح بين طائرتي الأحُاديَّة السطح والشمس. فوق التقوُّسِ العلويِّ لجسمه الضخم كان
يُوجَد ثلاثةُ نُتوءاتٍ كبيرة لا أستطيع وصفها إلا بأنها فقاعات هائلة، وكنتُ مُوقنًا عندما
نظرتُ إليها من أنها كانت مُعَبَّأةً بغازٍ خفيف للغاية وظيفتُه هي إبقاء الجِرم الشَّائِهِ وشِبهِ
الصلب طافيًا في الهواء المُخلخَل. مضىالمخلوق قُدُمًا بسرعة، مواكِبًا بسهولةٍسُرعة الطائرة،
ولمسافة عشرين مِيلًا أو يزيد كان بِمثابة مُرافِقي المُرعب، مُحلِّقًا فَوقي مثل طائرٍ جارح
ينتظر الانقضاض على فريسته. كانت طريقته في التقدُّم — والتي كانت تجري بصورةٍ
سريعة جدٍّا بحيث لمْ يكن من السهل مُلاحقته — هي أن يَنفثَ أمامه دَفقةً طويلة دَبِقَة،
والتي بدا أنها بِدورِها تسحبُ بقيَّة الجسم المُتَمَعِّج إلى الأمام. كان ليِّنًا وهُلاميٍّا جدٍّا لدرجة
أنه لم يبقَ على شكلٍ واحد مُدة دقيقتين مُتتالِيتين مُطلقًا، ومع هذا كان كلُّ تغيير يَجعلُه
أكثر تهديدًا وإثارةً للاشمئزاز من سابِقه.
عرفتُ أنه كان يَنوي الأذى. كان كلُّ تورُّدٍ أرُجواني لجسمه البغيض يُنبئني بهذا.
وكانت العينان الضبابيَّتان المُحملِقتان، اللتان كانتا مصوبتين طوال الوقت تجاهي،
مُجرَّدتَين من الشعور والرحمة بما يَحمِلان من كراهيةٍ لزِجة. انحدَرتُ بمُقدَّم طائرتي
للأسفل كي أفُلتَ منه. وعندما فعلتُ ذلك، انطلق مِجسٌّ طويلٌ بسرعة الوَميض من كُتلةِ
الهُلام العائمة تلك، وسقط بِخفَّةِ وتموُّج جِلازِ السَّوط نحوَ مُقدِّمة طائرتي. وهنا دوَّى
صوتُ أزيزٍ عالٍ عندما تمدَّدَ للحظةٍ فوق المُحرِّك الساخن، ولكنه ابتعدَ بحركةٍ خاطفة إلى
الهواء مرة أخرى، بينما انكمَش الجِسم المُسطَّح الضخم على نفسه وكأنَّما يُعاني من ألمٍ
مُباغِت. انحدَرتُ بطائرتي الأحُادِيَّة السطح لأهبِط بها هُبوطًا عموديٍّا، ولكن سقط عليها
مِجسٌّ مرةً أخرى فجزَّتْهُ مروحتُها الدَّافِعة بسهولةٍ وكأنها كانت تشُقُّ حلقةً من الدُّخان.
جاءت تنزلِقُ مِن الخلفِ لفيفةٌ طويلة لَزِجةٌ تُشبِهُ الحيَّةَ وطوَّقتْ خَصري، وأخذَتْ تَسحبُني
خارِجَ بدَنِ الطائرة. مَزَّقتُها، وراحتْ أصابعي تغوصفي سطحها الخارجي الأملس الشَّبيه
بالغِراء، وحرَّرتُ نفسيمنها للحظة، ولكن ما إن فعلتُ حتى طوَّقتْ حذائي الطويلَ الرَّقبةِ
لفيفةٌ أخرى، فتسبَّبت لي في رَجَّةٍ أمالَتْني للخلْفِ وكِدتُ أسقط على ظهري.
عندما سقطتُ أطلقتُ النار من فُوَّهتَيْ بُندقِيَّتي كِلتَيهما، مع أنَّ تَخَيُّل قُدرَةِ أيِّ سلاحٍ
بشريٍّ على شَلِّ حركة تِلك الكُتلة الهائلة كان في الواقع أشبَهَ بِمُهاجمة فيلٍ بِقاذِفَةِ بازلَّاء.
رغم هذا فقد صوَّبتُ عليها أفضلَ ممَّا كنتُ أدُرِك؛ لأن إحدى الفقاعات الضخمة على ظهر
ذلك المخلوق انفجرتْ مُحدِثةً صوتًا عاليًا نتيجةً للثقْبِ الذي أحدَثَه فيها رصاصالخُردُق.
كان من الواضح جدٍّا أن حَدْسي كان صائبًا، وأن هذه الأكياس الهوائية الشفَّافة الضخمة
كانت مُنتفِخةً بغازٍ رافع، لأنه في لحظةٍ واحدة انقلب الجسم الضخم الشبيهُ بالغَيمة على
جنبه، وأخذ يتلوَّى باستِماتةٍ لاستعادة تَوازُنه، بينما كان الِمنقار الأبيضينطبِق وينفرِج في
هياج رهيب. ولكنَّني كنتُ بالفعل قد انطلقتُ مُبتعدًا بواسطة أشدِّ انزلاقٍ جَرُؤتُ على إتيانه
انحدارًا، ومع استمرار مُحرِّك طائرتي في العمل بكامل قوته، كانت المروحة الدافعة المنطلقة
بأقصىسرعةٍ وقوَّةُ الجاذبية آخِذَتين في قذفي نحوَ الأسفل مثل نَيزكٍ جوي. ورأيتُ على البُعد
ورائي بقعةً ذات لونٍ يميل إلى الأرُجواني الباهِت آخذةً في التضاؤل سريعًا والذَّوَبان في
زُرقة السماء الكائنة وراءها. وخرجتُ سالِمًا من أدغال طبقة الهواء الخارجية المُهلِكة.
ما إنصرتُ في مَأمنٍ مِن الخطر حتى كبحتُ المُحرِّك، فلاشيء يُمزِّق أيَّةَ طائرةٍ قِطعًا
أسرع من الانحدار من مُرتَفَعٍ بكامل طاقتها. كان هبوطًا رأسيٍّا حلزونيٍّا عظيمًا من ارتفاعٍ
يُقارب الثمانية أميال؛ أولًا، إلى مستوى رُكامة السحب الفضية، ثم إلى مستوى السحابة
المُنبِئة بالعواصف الكائنة تحتها، وأخيرًا، وسط المطر المُنهمر، إلى سطح الأرض. وعندما
انفصلتُ عن السحاب أبصرتُ قناة بريستول أسفل منِّي، ولكني ظفِرتُ بمسافة عِشرين
مِيلًا من التَّحليق نحوَ الداخل؛ إذ كنتُ لا أزال أملك بعضالوقود في خزَّان وقود طائرتي،
قبل أن أجِدَ نفسي مَعزولًا في حقلٍ على بُعد نصف ميلٍ من قرية أشكومب. وهناك حصلتُ
على ثلاثِ صفائحَ من الوقود من إحدى السيارات المارَّة، وبعد السادسة بستِّ دقائق من
تلك الليلة هبطتُ بالطائرة هبوطًا ناعمًا في مرجة بيتي بمدينة ديفايزيس، بعد رحلةٍ ما
خاضمثلها إنسانٌ على وجه الأرضحتى الآن قطُّ وظلَّ على قيد الحياة ليروي قصته. لقد
عاينتُ جمال المُرتفعات وعاينتُ رُعبها؛ وما أحاطتْ معرفةُ البشر بجمالٍ أعظمَ ولا رُعبٍ
أشدَّ من ذلك.
وما عزمتُ عليه الآنَ هوَ أن أذهبَ إلى هناك مرةً أخرى قبلَ أن أهُدي العالم ثِمار
تجربتي. والسببُ الذي يدعوني إلى هذا أنه لا بُدَّ حَتْمًا أن يكون معي شيءٌ أظُهِره على
سبيل البُرهان قبل أن أضع قصةً كهذه بين أيدي بني جلدتي مِن البَشَر. صحيحٌ أنَّ آخرين
عمَّا قريبٍ سوف يَسلكون مَسلكي وسوف يؤكدون ما قلتُه، بيْدَ أني أتمنَّى أن أقُنِعَهم من
البداية. لن يكون من الصعب أسْرُتلك الفقاعات المُتقزِّحة الجميلة التي تَسبح في الهواء. إنها
تنساق ببطءٍ في سبيلها، وتستطيع الطائرة الأحُاديَّة السطح السريعة أن تعترضمسارها
المُتأني. من المُرجَّح أن تتبدَّد في طبقات الغلاف الجوي الأثقل، وربما يكون كل ما سأجلُبُه
معي إلى الأرضهو كومة هُلام صغيرة غير مُحدَّدة المعالم. ومع ذلك فلا ريب في أنه يُوجدُ
هناك شيء ما يُمكنني بواسطته أن أقُيم الدليلَ على قصتي. نعم، سوف أذهب، حتى ولو
كنتُ سأتعرَّضلخطرٍ إذا ما فعلتُ ذلك. ويبدو أن الأشياء المُرعبة الأرجوانية هذه لن تكون
كثيرة. ومن المُحتمَل ألَّا أرى واحدة. وإن فعلتُ فسأهبط رأسيٍّا بالطائرة على الفور. وفي
«… أسوأ الأحوال فإن بُندقية الشوزن موجودة دائمًا وكذلك معرفتي ب
لسوء الحظِّ ثمَّةَ صفحة مفقودة من المخطوطة في هذا الموضع. وفي الصفحة التالية،
بخطٍّ كبير غير مُنتظم، مكتوبٌ:
ثلاثة وأربعون ألف قدم. لن أرى الأرضثانيةً أبدًا. إنهم تحتي، ثلاثة منهم. يا إلهي »
«! أعِنِّي؛ يا لها من ميتةٍ شنيعةٍ يموتها المرء
تلك بحذافيرها هي رواية جويس أرمسترونج للأحداث. لم يُشاهَد الرجل منذ ذلك
الحين. وقد انتُشلتْ أجزاءٌ من طائرته المُحطَّمة فيضَيعة السيد باد لاشينجتون عند التُّخوم
بين مقاطعتَي كِنت وساسكس، على بُعد بضعة أميالٍ من الموضع الذي عُثِر فيه على دفتر
الملاحظات. لو صحَّتْ نظرية الطيَّار التعِس بأن أدغال الجوِّ هذه، كما أسماها، لا تُوجَد إلا
فوق جنوب غربي إنجلترا، فظاهِر الأمر إذن أنه قد هرَب منها بالسُّرعة القصوى لطائرته
الأحُاديَّة السطح، ولكن هذه المخلوقات المُرعِبة عاجَلَتْهُ والتَهمَتْه في بُقعةٍ ما من الغلاف
الجوي الخارجي فوق المكان الذي عُثر فيه على البقايا المُروِّعة. إن أمر الصورة الذهنية
لتلك الطائرة، وهي تمرُّ بسرعةٍ عبر السماء، وتلك الأشياء المُرعبة المُستعصِية على الوصف
مُحلِّقة تحتها بنفس السرعة وقاطعة عليها الطريق دومًا من جِهة الأرض بينما أخذتْ
تُطْبِق تدريجيٍّا على ضحاياها؛ لهُوَ أمرٌ من شأن رجلٍ يُثمِّن قيمة صحَّته العقلية أنْ يُفضِّل
عدم الخَوضفيه. ثَمَّةَ كثيرون، حسبَ عِلمي، لا يزالون يَسخرون من الحقائق التي سجَّلتُها
هنا، ولكن حتى هُم يَجِب أن يُقِرُّوا بأن جويس أرمسترونج قد اختفى، وإنني لأزَُكِّي لهم
لعلَّ دفتر المُلاحظات هذا يُبيِّن ما أحاول فِعله، وكيف فقدتُ » : كلماتٍ قالها هو بنفسه
حياتي وأنا أفعله. ولكن، من فضلكم، لا تتفوَّهوا بِهُراءٍ حول حوادثَ عارِضةٍ أو أمورٍ
«. غامضة
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.