Darebhar

شارك على مواقع التواصل

لم يعد يُسمع سوى صوت طقطقة أحجار المعسل فوق الفحم، والوجوم يهبط على رؤوس الجالسين في "خُص" عوض، فجأةً تعلقت نظرات الجميع بذلك المار إلى جوارهم دون أن يلتفت إليهم بالمرة؛ قبل أن يرتفع سعال بعضهم- ممن لم يعد يحتمل كتم أنفاس الدخان في صدره أكثر من ذلك- وبدأت تسري همهمات البعض الآخر وعوض يتنفس أخيرًا بصوتٍ مسموعٍ وهو يهتف مراقبًا ابتعاده عن مجلسهم:
- أرأيتم بأعينكم؟!
سأله أحدهم في حيرةٍ:
- ماذا تقصد؟!
وعلق آخر بصوتٍ متشككٍ:
- يبدو.. يبدو طبيعيًا تمامًا يا عوض!
وبينما عاد الصخب يسري بين المقاعد الخشبية والجدران الخوص؛ عاد عوض يهتف من جديدٍ ضاربًا كفًا بكفٍ:
- لا أدري كيف ترونه طبيعيًا؟! إنه.. إنه..
وارتجف صوته دون أنه يتم حديثه واعيًا للرهبة المرتسمة على الوجوه في انتظار تصريحه القادم، فانحنى ليرص حجرًا جديدًا لواحد من الزبائن وهو يقول في خفوتٍ:
- ذلك الفتى.. إنه.. مخاوٍ..
شهقوا جميعًا ككل مرةٍ يصرح فيها عوض بذلك، وأمطروه بالتعليقات نفسها ككل مرة يرون فيها إبراهيم- صبي الغجرية- أو يدور حديثهم عنه وعن تلك الليلة المشئومة؛ فقال الريس بدر "النوتيّ" وهو يرتشف قطراتٍ من شايه الثقيل:
- كان مريبًا دائمًا منذ كان يرافقني على المركب.
وشرد المعلم فرج صاحب لعبة الطارة يؤكد:
- قوته لم تكن لفتى في عمره أبدًا!
بينما أسرع عم حسنين صاحب عربة السمين يقول:
- ذلك القط الذي يرافقه؛ إنه بسم الله الرحمن الرحيم.. كنت أراه يجلس بجواره ويتحدث إليه كبني الإنس!
شهقوا بصورةٍ مفتعلةٍ هذه المرة وكلٌ منهم يدرك في داخله أن بعضهم اعتاد مخاطبة حيواناته الأليفة، وأحيانًا ماشيته وطيوره هكذا دون أي غضاضة؛ فضحك منصور المنشد وهو ينهي كوب الينسون ويتناول الربابة قائلًا:
- ألم تملوا هذا الحديث؟! إنه فتى طيب المعشر ولم نرَ منه شيئًا ليثير فزعكم هكذا.
توقف عوض أمامه مستنكرًا وهتف سائلًا:
- ألا يثير فزعك أنت يا ريس منصور؟!
ضحك منصور دون ردٍ وهو يهز رأسه يُمنةً ويُسرةً وهو يكاد يملي على عوض جملته الآتية، وهو يكمل:
- ألا يكفي ما حدث لجواهر الغجرية؟!
- وما علاقة الفتى بالأمر؟ إنه حتى لم يكن موجودًا وقت أن سُرقت جواهر ثم قُتلت!
علت الهمهات من جديدٍ وعوض يدور بين طاولاتهم دون توقف؛ حتى اضطر منصور للهتاف هذه المرة ليسكتهم وهو يقول:
- أرحل أنا إذن ولا داعي لسماع شيءٍ من سيرة بني هلال هذه الليلة!
ساد الصمت فجأةً وأسرع عوض يقول:
- لا.. لا.. كيف ذلك يا ريس منصور! الجميع هنا يأتون لسماعك.
قالها في غيظٍ مكتومٍ وهو يفسح له الطريق مشيرًا نحو المصطبة الخشبية التي تتوسط المقهى؛ بينما تمتم المعلم فرج:
- نعم، الجميع أصبحوا يقصدون مقهاك الحقير يا عوض، بعد أن تحول شادر الغجر إلى خيامٍ مهجورة.
رمقه عوض بنظرةٍ حادةٍ؛ وكأنه سمع كل ما قال لكنه لم يرد وهو يعيد ترتيب بعض المقاعد هاتفًا:
- الجلسة بالمشاريب.
وانقضت بعض الساعة ومنصور يشدو على مسامعهم مقتطفاتٍ من سيرة أبي زيد الهلالي، وأمه خضرا الشريفة، والجازية ابنة عمه وحبيبته؛ ليضج بعضهم مهللًا في استحسانٍ بين لحظةٍ وأخرى، وعوض يتمايل في سعادةٍ وهو يحصي مكسبه من البارات ويدسها في كيس نقوده المخبأ في حزامه.
"يا ريس منصور.. يا ريس منصور.. يا ريس منصور."
اندفع صبي صغير وسط المقهى متجهًا نحو منصور مباشرةً وهو يهتف باسمه مرارًا؛ حتى صمت منصور ونهض في فزعٍ مخاطبًا الفتى:
- ماذا هناك يا حسان؟!
أجابه حسان وهو يلتقط أنفاسه بصعوبةٍ:
- تعالَ معي الآن.. خالتي ليل تلد.
أسرع منصور يتناول الربابة وهو يلحق بحسان الذي انطلق عائدًا من حيث أتى؛ بينما هتف عوض في بمنصور في استياءٍ:
- يا ريس منصور.. البكرية بالها طويل!
نهض فرج وهو يضحك في سخريةٍ قائلًا له وهو يدس في يده بعض البارات:
- كفاك طمعًا يا عوض.
- إلى أين أنت أيضًا يا معلم فرج؟
أشار له فرج بالتحية وهو ينصرف دون ردٍ ومن ورائه باقي الجالسين الواحد تلو الآخر؛ راقبهم في غيظٍ وهو يحصي باراته مرةً أخرى ويدسها في الكيس متمتمًا:
- أقطع ذراعي إن لم يكن ذلك كله من أفعال صبي الغجرية المخاوي هذا!
وبينما كان عوض يلملم المقاعد إلى داخل الخُص ويجهز مكان مبيته؛ كان منصور قد وصل إلى داره الذي سبقه إليه حسان ابن قابلة البلدة، هاله صوت صراخ ليل الذي استقبله حتى قبل دخوله الدار؛ فاندفع نحو الغرفة لكن أمه خرجت إليه قبل أن يدخل وهي تقول مهدئةً:
- انتظر هنا يا بني؛ ما زال الوقت مبكرًا.. ستكون بخير إن شاء الله.
والتفتت نحو حسان الذي قفز ليجلس فوق الفرن، وأخذ يهز قدميه لاهيًا وهي تكمل:
- أفزعته دون داعٍ أيها الشقي.
وتركتهما لتعود إلى الغرفة وتغلق الباب وراءها؛ بينما هز حسان رأسها في حيرةٍ هاتفًا:
- وما ذنبي أنا؟! أمي هي التي أرسلتني إليك!
داعب منصور رأسه في حنانٍ دون ردٍ، وبدأت رحلته ذهابًا وإيابًا بين جنبات داره الصغيرة التي كان يشعر في تلك الليلة أنها لا تسعه ولا تسع خطواته القلقة.
تأمل باب الغرفة المغلق والذي كانت تتسلل من ورائه صرخات ليل المكتومة حينًا والصاخبة أحيانًا أخرى، وحين لم تعد قدماه قادرة على حمله اتجه للجلوس أمام الفرن؛ وأخذ يدير حجر الرحى في شرودٍ، كلمات أمه لم تهدئه بل على العكس شعر أن قلبه يؤلمه أكثر؛ لأن آلام ليل ستستمر أكثر، أغمض عينيه وهمس لنفسه:
- يااااا رب.
مرت ساعات المساء بطيئةً تحمل الخوف والترقب لمن في الدار، أم منصور التي كانت تحاول طوال سنواتٍ عشر مضت أن تزوج ابنها بأخرى لتنجب له ولدًا؛ كانت جالسةً بجوار ليل لتمسح عن جبينها العرق وتتلو فوق رأسها ما تحفظ من الآيات الكريمة كلما فاجأها الطلق الكاذب، وأم حسان القابلة كانت تتفقد حرارة جسدها كل فترةٍ وتمرر كفوفها فوق بطنها في حذرٍ قبل أن تنظر نحو أم منصور، وتهز رأسها نفيًا ثم تعود لجلستها بجوار الفراش. أما منصور فكان الخوف ينهش قلبه في بطءٍ مؤلم؛ ولا يرى أمامه سوى صورة ليل حين لمحتها عيناه لأول مرة.
فبعد أن مات أبوه انتقل منصور مع أمه ليعيشا في واحدةٍ من الدور القريبة من سراي الشيخ همام بناءً على أمره، ولأنه ابن صديق عمره ورفيقه الوحيد وظفه في نظارة زراعته- خلفًا لأبيه- عوضًا عن عمله في فلاحتها كأجير، وأمره أيضًا بأن يلزم مجلسه باستمرارٍ كأبنائه الذين من صلبه. أما هي فكانت مجلوبة حديثًا مع بعض الجواري الشركسيات إلى السراي؛ فتربت وسط حريم الدار منذ كانت بعمر العاشرة، وتعلمت القراءة والكتابة وحفظت ما تيسر لها من القرآن الكريم بعد أن أشهرت إسلامها كالباقيات، لم تعلم حينها أنه كان لسنواتٍ يتحين الفرص لتأملها عن قربٍ مجذوبًا إلى عينيها الواسعتين كسماء الليل؛ ولذلك كان فرحًا بتسميتهم لها بليل ربما أكثر منها!
في كل صباحٍ، كان يسرع بالاختفاء وسط الشجيرات المتناثرة في فناء السراي ليرقبها وهي تلهو مع باقي الفتيات بعد الشروق بقليل؛ حتى يخرج إليه الشيخ همام ويذهب لمرافقته في مروره على أراضيه، وبعدها يحضر معه المجلس ليبت الشيخ في مطالب ومظالم أهل البلدة، لكنه بالطبع لم يكن يستطيع رؤيتها في مثل ذلك الوقت من النهار؛ وكان يضطر للانتظار متسكعًا في الفناء لما بعد الغروب فربما تخرج لإعداد طاولة الطعام في الحديقة وربما لا.
لكن فجأةً، لاحظ اختفاءها تمامًا؛ فلم تعد تلهو وسط الفتيات، أو تخرج معهن إلى السوق، أو لإعداد طاولة الطعام، ولم يعد يلمحها بالمرة! خشي كثيرًا أن يكون الشيخ همام قد باعها، أو أهداها لأحد الأكابر، أو حتى اتخذها ملكًا ليمينه؛ فحاول أن يتقصى الأمر لكن دون جدوى!
مرت شهورٌ عديدة منذ ذلك الحين وحتى تلك الليلة التي ودع فيه الشيخ همام عند باب الحديقة، واستدار عائدًا إلى داره حين سمع صوتًا رقيقًا يناديه في همسٍ، تلفت حوله باحثًا عن صاحبة الصوت وقلبه يخفق بشدةٍ متمنيًا لو يتحقق ذلك الخاطر الذي أتاه في تلك اللحظة.
"هنا يا منصور، هنا."
التفت في حدةٍ نحو الصوت الآتي من جهة غرفة "الكرار" وتسمر في مكانه مشدوهًا، لقد تحقق ما خطر بباله ووجد ليل أمامه؛ تزيح لثامها الحريري عن وجهها ليراها وليتها لم تفعل، ابتسمت فانتفض مندفعًا نحوها وجذبها من يدها ليخفيها خلف الأشجار هاتفًا في همسٍ:
- ماذا تفعلين هنا أيتها المجنونة؟
صُدمت الفتاة من ردة فعله، وقد ظنت أنه سيسعد برؤيتها بعد تلك الفترة من غيابها عنه، لقد عرف فيما بعد أنها كانت تراقبه كما كان يفعل وأنها افتقدته مثلما افتقدها وأكثر؛ لكنه في تلك اللحظة كان يشعر بمنتهى الرعب لأنه يقف مع واحدةٍ من حرملك الشيخ همام! فتابع وهو يتلفت من حوله في حذرٍ:
- ماذا تريدين يا ليل؟ أخبريني سريعًا قبل أن يرانا أحدهم.
تمالكت ليل نفسها بعض الشيء وهي تقترب منه هامسةً في فزعٍ نجح في نقله إليها:
- لا شيء.
ضاقت عيناه وهو يتطلع إليها في غير فهمٍ؛ فقالت متمتمةً:
- ألم تكن ترقبني من هناك دائمًا؟!
وأشارت نحو فناء السراي وهي ترتجف متأملةً عينيه لتجده يبادلها النظرات غير مستوعبٍ ما يسمع، أكانت تشعر بنظراته طوال تلك الفترة دون أن يدري؟! كاد أن يهلل فرحًا وقبض على كفيها في سعادةٍ؛ لكنه تراجع فجأةً وهو يسألها في قلقٍ:
- لكن لماذا اختفيتِ؟!
هزت كتفيها في استسلامٍ وقالت بأسى:
- الست صالحة قالت أنني لم أعد طفلةً لألهو مع الفتيات وانكشف على الأغراب.
هدأ بعض الشيء حين فهم أن لا أساس لكل مخاوفه؛ لكنه انتبه إلى أنه لا زال ممسكًا بكفيها فتركها بسرعةٍ وهو يقول في حرجٍ:
- ولذلك لا يجوز ما نفعله الآن.
- لكن..
أخذها من يدها- دون أن يترك لها مجالًا للاعتراض- وعاد بها نحو باب "الحرملك" الخلفي هامسًا:
- يجب أن تعودي إلى "الحرملك" فورًا.
وقفت أمامه في حيرةٍ والدموع تلتمع في عينيها لا تدري ماذا تقول، علم منها فيما بعد أنها تصورته في تلك اللحظة فتى عابث؛ يتسلى فقط بمراقبة الجواري ومشاغلتهن، لذلك لم تمضِ ثوانٍ إلا وقد انصرفت بغضبٍ حزين دون أن تلتفت وراءها.
مرت ليلتان دون أن يغفل لمنصور جفن، فنهاره يقضيه في صحبة الشيخ همام متهربًا طوال الوقت من نظراته؛ وليله يمضيه جالسًا بجوار نافذته المطلة على فناء السراي في شرودٍ موجهًا لنفسه ألف لومٍ ولومٍ؛ فمرات يلوم نفسه لأنه ترك ليل ترحل حزينة حتى ولو كان ذلك خوفًا عليها؛ ومرات أخرى يلوم نفسه لأنه تجرأ وتحدث إليها من الأساس رغم أنه تمنى ذلك لليالٍ عديدة.
في صباح اليوم الثالث، كان يقف أمام باب السراي منكسًا رأسه في شرودٍ حين فاجئه صوت الشيخ همام وهو يهتف به:
- فيم شرودك هذه الأيام يا ولد؟!
تلعثم كثيرًا قبل أن يجيبه بصوتٍ مبحوحٍ:
- لا.. شيء يا شيخنا.. لا شيء.
اقترب منه الشيخ همام وتأمله طويلًا وهو يدق بعصاه دقاتٍ كثيرة متتابعة، قبل أن يشير له قائلًا في حزمٍ:
- تعالَ.
وعاد إلى داخل السراي مرةً أخرى ومن خلفه منصور الذي تحول إلى كتلةٍ من العظام المتصلبة، لحظات ووجد نفسه بداخل المجلس الشتوي الذي لم تطأه قدماه من قبل، والشيخ همام يجلس أمامه على الأريكة التي تتوسط المجلس وهو يسأله:
- ماذا تخفي عني يا منصور؟
تلعثم منصور مرةً أخرى وهو يتمتم في خفوتٍ:
- أنا لا....
دق الشيخ همام بعصاه في قوةٍ وقاطعه هاتفًا به:
- منصور!
انهار منصور على ركبتيه وانحنى يقبل عباءة الشيخ همام قائلًا:
- سامحني يا شيخنا.. أرجوك.
تطلع إليه همام للحظاتٍ دون ردٍ ثم أشار إليه بأن يتابع حديثه، نهض منصور واقفًا وأخذ يقص عليه كل ما دار بينه وبين ليل دون أن يقوى على النظر في عينيه؛ ودون أيضًا أن يلاحظ صالحة الواقفة خلف الستار تتبادل النظرات مع الشيخ همام حتى أنهى منصور حديثه قائلًا:
- وأقسم لك يا شيخنا، أنني لم أحدثها منذ تلك الليلة.
وحين لم يجبه الشيخ همام لعدة ثوانٍ تالية تجرأ ورفع رأسه ينظر إليه على استحياء؛ ليجده ينظر في عينيه مباشرةً في صمتٍ، مرت ثوانٍ أخرى صامتةً تبادل فيها الشيخ همام وصالحة النظرات من جديدٍ قبل أن يدق بعصاه مرةً أخرى وهو يقول:
- وكنت ستخفي عني الأمر لولا أني سألتك؛ أليس كذلك؟!
لم يدرِ منصور بماذا يجيب، لم يشغله كثيرًا العقاب الذي قد ينزله الشيخ همام به؛ كل خوفه كان على ليل، صحيح أنها هي من أتت إليه ووضعته ووضعت نفسها في ذلك الموقف، لكنه هو من شغلها بمراقبته لها، لقد خشي كثيرًا في تلك اللحظة أن يقرر الشيخ همام بيعها مثلًا فيُحرم منها إلى الأبد أو...
انتفض منصور والشيخ همام يهتف به مرةً أخرى:
- أجبني يا ولد!
وجد منصور نفسه مجبرًا على التماسك؛ لينقذ ليل مهما كلفه الأمر فأخذ نفسًا عميقًا وقال:
- أعترف بخطئي يا شيخنا، لكن ليل ليس لها ذنب، هي فتاة صغيرة ويبدو أنها لاحظت تتبعي لها باستمرارٍ؛ ففعلت ما فعلت بسلامة نية ليس إلا.
- ها.. وأنت لم فعلت ذلك؟ هل كبرت يا ولد، وأصبحت تشاغل الجواري وتلاحقهن؟!
- حاشا لله يا شيخنا، يشهد الله على نوايايّ.
وهنا نهض الشيخ همام ليقف في مواجهة منصور وسأله:
- وما هي نواياك؟
فوجئ منصور بسؤاله الذي لم يكن يحمل له جوابًا في تلك اللحظة؛ لكنه مع ذلك أجاب مسرعًا:
- شرع الله يا شيخنا لو.. لو.
- لو ماذا؟
- لو قبلت بي.
قالها وصمت منكسًا رأسه مرةً أخرى؛ فلم يلحظ الابتسامة التي علت وجه الشيخ همام وهو يتبادل النظرات مع صالحة التي أومأت له برأسها في رضا وانصرفت بهدوءٍ كما أتت.
تأمله الشيخ همام للحظةٍ قبل أن يدق بعصاه عدة دقاتٍ متتالية وهو يسأله في جديةٍ مصطنعة:
- هذا إذن بخصوص ليل، فماذا بخصوص تجاوزك الآخر؟
صُدم منصور وهتف فزعًا:
- أي تجاوز يا شيخنا! أقسم أنني...
قاطعه الشيخ همام وهو يلوح بعصاه في وجهه:
- كم مرة نبهتك ألا تناديني بشيخنا هذه؟! هه! أنا عمك يا ولد.
ابتسم منصور أخيرًا وقبّل يد الشيخ همام في ارتياحٍ وهو يقول:
- أدامك الله لنا يا عمي.
ربّت الشيخ همام على رأسه في حنانٍ وهو يبتسم قائلًا:
- هيا الآن إلى أشغالنا، ولا تنسَ أن تخبر أم منصور أن الست صالحة تنتظر زيارتها في المساء.
وأشار إليه ليسبقه إلى خرج السراي؛ ففعل وقد عاد لشروده مرة أخرى!
ماذا ستقول أمه لو أخبرها أنه تقدم لخطبة ليل دون مراجعتها؛ وأن عليها أيضًا زيارة الست صالحة في المساء لمباركة طلبه؟! صحيح أنها منذ فترةٍ ليست بقريبة ومن قبل وفاة أبيه وهي تحاول إقناعه بأن تخطب له إحدى فتيات البلدة؛ لتفرح بعوضه كما كانت تقول دائمًا؛ لكنه لا يدري ماذا ستفعل إذا ما علمت أن من اختارها واحدة من جواري الشيخ همام؟! من ناحية ستغضب عليه لتطلعه إلى واحدةٍ من حريم الشيخ؛ ومن ناحيةٍ أخرى قد لا تقبل بكونها جارية بلا أصلٍ أو نسبٍ. ظل منصور على تلك الحال طوال النهار وحتى انفض المجلس بعد الظهيرة بقليلٍ، فاستأذن الشيخ همام ليعود إلى داره وهو لا زال حائرًا؛ كيف سيخبر أمه بخصوص ليل ويقنعها بالموافقة!
حين دخل إلى الدار، وجد أمه تهم بحمل "الطبلية" لتضع عليها طعام الغداء؛ فأسرع يحملها عنها في صمتٍ دون أن يجيب حتى على دعواتها له بالزوجة الصالحة والهناء كعادتها، وفي آلية أخذ يرص الطعام فيما بينهما وجلس قبالتها يتطلع إليها وهي تأكل بنفس الصمت، بعد لحظاتٍ انتبهت أمه لحالته فتوقفت عن الأكل وسألته في دهشةٍ:
- ماذا بك؟
ربّت على كفها وقال في حزمٍ:
- سأخبرك يا أمي.
وبدأ يقص عليها كل ما دار بينه وبين الشيخ همام متأملًا ملامحها التي تحولت من الاستنكار إلى الوجوم والتفكير؛ وقد أشاحت بوجهها عنه في صمتٍ حتى اختتم حديثه يسألها:
- ما قولك يا أمي؟
هاله نظراتها الغاضبة التي واجهته بها وهي تسأله في استنكارٍ:
- ولدي أنا يلاحق الفتيات ويراقبهن في الخفاء يا منصور!
اقترب منها ليقبل يدها معتذرًا وهو يقول:
- حاشا لله يا أمي، أقسم لكِ لم أفعلها في حياتي من قبل.
هزت رأسها وهي ترمقه بنظرات حسرتها قائلةً:
- وتفعلها الآن مع كبيرنا الذي اعتبرك ابنًا له؟! أهذا هو رد الجميل؟!
أجابها في خفوتٍ:
- كان الأمر رغمًا عني صدقيني.
صمتت أمه قليلًا فعاد يقول:
- ستذهبين إلى الست صالحة في المساء يا أمي، أليس كذلك؟
علا صوتها في غضبٍ هذه المرة وسألته مستنكرةً:
- وهل استشرتني قبل التقدم لخطبتها؟!
أطرق منصور للحظةٍ وقال:
- لم تحن لي فرصة يا أمي.
انفعلت أمه وهتفت:
- لأنك لم تفكر في كل هذا قبل تجرؤك على ملاحقة تلك الجارية.
رد عليها هاتفًا بدوره:
- ولو فكرت يا أمي؛ لا رغبة لي في فتاةٍ سواها وأحمد الله أن الشيخ همام وافق أن أتقدم لخطبتها.
تضرب أمه كفًا بكفٍ وهي تنهض دون أن تمس الطعام قائلةً:
- جارية يا منصور! من أين لنا بمعرفة أصلها ونسبها؟!
لحق بها منصور مهدئًا، وقال في خفوتٍ وهو يقبل يدها مرةً أخرى:
- ليل تربت هنا وسط حريم الشيخ همام يا أمي، وعلى يديّ الست صالحة، وما فعله بي عمي اليوم يخبرني كيف أنهم يعتبرونها واحدةً من بناتهم وليس إحدى جواريهم.
وحين نظرت له دون ردٍ والدموع تملأ عينيها علم أنها وافقت أخيرًا.
بعد عدة أسابيع، كان زفافه على ليل وكانت حينها ابنة الرابعة عشر تقريبًا، وكانت- رغم سعادتها- شاردةً يبدو الارتباك على قسماتها البريئة؛ فجلس قبالتها يتأملها مبتسمًا في حنانٍ وهو يفكر فيما سيفعل، بعد لحظاتٍ اقترب منها ليربّت على رأسها كما لو كانت طفلة صغيرة، ثم استدار خارجًا إلى المدعويين الذين ينتظرون خارج الدار وأقنعهم بالذهاب دون انتظار منديل الشرف؛ بما فيهم الست صالحة وأمه التي ذهبت غير راضيةٍ عما يفعل، وحين عاد إلى الدار مرةً أخرى جلس خارج غرفة ليل وهو يتلهى بإدارة حجر الرحى؛ لكنه تفاجئ بها تندفع إليه لتلقي بنفسها على صدره دون أن تنطق بحرفٍ!
بقيت ليل في تلك الليلة مستكينةً على صدره حتى بزوغ الفجر وهي تقص عليه كل شيءٍ عنها، لم تكن تذكر الكثير عن بلدها الأصلي أو أهلها؛ كل ما كان عالقًا في ذاكرتها صورة مهتزة لأمها وهي تعد الطعام وتغني شيئًا بلغةٍ لم تعد تدري ما هي، فحين اختطفها تجار الرقيق لم تكن قد أتمت التسعة أعوامٍ.
بعدها تلقفتها يد النخاسين وأخذت تتنقل من واحدٍ لآخر حتى وجدت نفسها تركب البحر وتبتعد كثيرًا عما ألفته في طفولتها، ويبدو أن البحر كان الأحن عليها وقتذاك؛ فمحى من ذاكرتها الكثير والكثير من ذلك المألوف كي لا تشقى به إلى جانب شقاء الوحدة الذي أصبح رفيقًا لها، وصحيح أنها حين وصلت إلى المحروسة لم تكن تفهم شيئًا من لغة أهلها؛ لكن شيئًا ما فيها جعلها تعرف أن قلبها قد بدأ يتعلق بحبها دون الحاجة إلى "الترجمان" ليشرح لها ذلك.
شعرت بمنصور وهو يربّت على شعرها ويسألها في همسٍ:
- ألا تشعرين بالجوع؟
نهضت عن صدره في سرعةٍ وهي تضحك هاتفةً:
- لقد نسيت.
حملت بعض الحطب واتجهت نحو الفرن وهو يلحق بها سائلًا في دهشةٍ:
- ما الذي نسيتيه؟!
أخرجت بعض الطواجن التي أعدتها رفيقاتها وحفظنها بداخل الفرن، وانتقت بعضها لتسخينه ورفعت الباقي فوق الفرن لوقتٍ آخر، ثم التفتت نحوه مجيبةً:
- حديثي إليك أنساني تحضير الطعام، وأنساني أنك بالتأكيد جائع جدًا.
اقترب منها مبتسمًا وهو يمسك بكفيها ويسألها هامسًا:
- وأنتِ؛ ألست جائعة؟!
هزت رأسها في خجلٍ وهي تهرب من بين يديه؛ فتنهد وهو يعبث في شعره قبل أن يذهب لوضع "الطبلية" بقرب الفرن ويجلس في انتظارها.
علم منها أيضًا كيف كانت تظن به الظنون منذ تلك الليلة التي خرجت فيها لمقابلته عند غرفة "الكرار"؛ فمد لها يده بشيءٍ من الطعام وسألها باسمًا:
- أظننتِ حقًا أنني عابثٌ إلى الدرجة التي تجعلني أتجرأ على التطلع إلى حريم عمي الشيخ؟!
أجابته في خجلٍ:
- فما الذي جعلك تراقبني طيلة ذلك الوقت؟
هز رأسه ونظر في عينيها مباشرةً وهمس:
- لأنكِ سرقتِ قلبي.
توردت وجنتاها حتى اقترب لونها من لون جلبابها الحريري الأحمر، لكنها لم تهرب منه هذه المرة وبقيت لصيقة به كما هي، بعد لحظةٍ ضحكت وهي تقول:
- أتعرف أن الست صالحة ضبطتني في تلك الليلة وأنا عائدة إلى "الحرملك"؟!
تراجع مصدومًا للحظةٍ ثم ضحك بدوره وهو ينهض لإحضار بعض الماء البارد من "الزير" وسألها:
- وماذا فعلت بكِ؟
نهضت بدورها ترتب المكان وترفع "الطبلية" بعد أن انتهيا من الأكل وقالت:
- قامت بحبسي في غرفة "الكرار" ليومين بليلتيهما، وبقيت أسبوعًا بأكمله بعدها حبيسة "الحرملك" دون أن تسمح لي بالحديث معها، أو حتى بتناول الطعام برفقة الفتيات؛ إلى أن أمرت في يوم بحضوري إلى قاعتها.
تناول يدها وهو يجلس على طرف الفراش وسألها في فضولٍ:
- وماذا قالت لكِ؟
بدت الفرحة على ملامحها وهي تجيبه قائلةً:
- قالت لي أن ابنة الشيخ همام لا يجب أن يظهر طرف ثوبها للغريب.
ضمها إلى صدره وقال بحنانٍ:
- أرأيتِ؟! لست وحيدة بعد اليوم يا ليل، لقد أصبح لديك أهل يهتمون لأمرك.
ورفع رأسها نحوه وهو يضمها أكثر هامسًا بالقرب شفتيها:
- وأصبحتِ أنتِ لي.
"ولد يا منصور.. لقد رُزقت بالولد يا بني."
انتبه منصور من شروده على صوت أمه وهي تدور في الدار، مطلقةً الزغاريد التي أيقظت حسان من غفوته فوق الفرن وهو يفرك عينيه سائلًا:
- ماذا هناك يا خالتي؟!
أخرجت أم منصور من كيس النقود المعلق في رقبتها نصف بارة، ودسته في كف حسان هاتفةً:
- حلاوة المولود يا حسان.
والتفتت نحو منصور الذي انسالت دموعه دون أن يشعر ودون أن يقوى على النطق بحرفٍ واحد، ربّتت أمه على كتفه في سعادةٍ وهي تقول:
- حمدًا لله الذي عوضك أخيرًا يا بني.
انتبه منصور على لمسة أمه؛ فأمسك بكفيها يقبلهما في فرحةٍ صارخًا:
- الولد يا أمي.. الولد.
واندفع نحو غرفة ليل ليقف مشدوهًا وهو يراقبها هي والمولود الذي تحمله فوق صدرها في وهنٍ، تقدمت منه أم حسان وهي تجفف كفيها قائلةً:
- مبارك لك يا ولدي.
اتجه نحو الفراش وهو يجيبها في خفوتٍ:
- بارك الله لنا في عمرك يا خالتي.
وسمع أمه تجذبها من يدها لتخرجها من الغرفة قائلةً:
- تعالي يا أم حسان؛ حلاوتكِ عندي.
وأغلقت باب الغرفة بينما منصور يضم ليل والمولود إلى صدره وهو يتنفس بعمقٍ ويهتف باكيًا:
- الحمد لله.. الحمد لله.
لم يتصور منصور أنه سيعيش فرحةً أخرى في حياته بعد رحيل الشيخ همام، لقد بدا الأمر حينها وكأن البلدة قد نضب خيرها وقلّت بركتها حتى وصل الأمر لأرحام الأمهات، فلم تعد صالحة لحمل الأجنة!
فبعد زواجه من ليل بعدة شهورٍ علم الشيخ همام بخبر اقتراب تجريدة المماليك من فرشوط ؛ والتي أمر بتسيرها جِن علِيَّ أو علِيَّ بك الكبير كما أصبح لقبه بعد توليه مشيخة البلد، هتف يومها منصور غير مصدقٍ:
- أهذا جزاء إحسانك إليه وقت شدته يا عمي؟!
حينها ابتسم الشيخ همام دون ردٍ وهو يدق بعصاه مفكرًا في صمتٍ، هذا ما توقعه منذ بداية خلافه مع علِيَّ بك، وما ظل يحضر له شباب هوارة جميعًا ويرسل في شراء الأسلحة؛ لكي يتدربوا على حملها كما يحمل كل منهم فأسه وسط زراعته، لكن منصور لم يستوعب كيف يقدم علِيَّ بك على فعلٍ كهذا رغم ما سبق، وقدمه له الشيخ همام من مؤازرة حين لجأ إليه هو وحريمه؛ هربًا من رفقائه من أمراء المماليك الذين كانوا يطلبون رأسه وقتها، ومع ذلك ها هو يرسل رجاله لمهاجمة أمير الجنوب ورجاله في قلب ديارهم؛ لذا لم تمض عدة أيامٍ حتى كان منصور يتجهز للخروج بصحبة الشيخ همام والشيخ إسماعيل- ابن عمه وشقيق زوجته الست صالحة- تاركًا أمه وليل برفقة حريم دار الشيخ همام في فرشوط؛ وتحت حراسة بعض من رجال هوارة الذين تخلفوا عن مصاحبتهم لحماية النساء والأطفال.
وكما صدق توقع الشيخ همام بما سيقدم عليه المماليك؛ صدق ظنه في أبناء هوارة وقدرتهم على صد هجوم التجريدة ومنعها من التوغل إلى الصعيد، وكادوا بالفعل أن يردوهم خائبين إلى كبيرهم في المحروسة؛ لكن الغدر كان أسبق وخيانة الرفيق أمضى وأشد، فقد استطاع مرسال علِيَّ بك أن يوغر صدر الشيخ إسماعيل من ناحية الشيخ همام مصورًا له أنه الأحق بإمارة الصعيد منه، وساومه لمعرفة مكانه هو ورجاله في مقابل أن ينصبه علِيَّ بك ملكًا على الصعيد تحت حمايته، ولما استساغ الشيخ إسماعيل الفكرة أقر له بمكان معسكر الشيخ همام. وفي وقتٍ واحدٍ تقريبًا فوجئ رجال الشيخ همام بهجوم غير متوقع من بعض المماليك؛ بينما هاجم بعضهم الآخر فرشوط ليسبوا نساءها وشيوخها وصغارها! وصحيح أن الرجال استطاعوا الهرب منهم دون أن يسمحوا لهم بالنيل من الشيخ همام؛ لكنهم فقدوا العديد من الرجال والسلاح وتفرق بعضهم في القرى والنجوع هربًا من هؤلاء الأبالسة.
في تلك الفترة، لم يكن منصور أو أي من رجال الشيخ همام قد علموا بما حدث في فرشوط؛ وإن كانوا قد عزموا على لم شتاتهم والعودة لملاقاة المماليك من جديد، لكن الأجل لم يمهل الشيخ همام ليرى ذلك ومات طريدًا بين أيادي رجاله!
"أتبكي يا منصور بعد أن منَّ الله علينا؟!"
سألته ليل في همسٍ وهي تربّت على وجنته بضعفٍ؛ فأمسك بكفها وقبّلها متمتمًا:
- الحمد لله أن رزقنا الولد بعد كل تلك السنوات.
التصقت به أكثر وهمست باكيةً:
- لقد صبرت عليَّ كثيرًا.
ضمها أكثر وهو يداعب الرضيع قائلًا في شرودٍ:
- جميعنا صبر يا أم أحمد.. جميعنا صبر.
رفعت رأسها وهي تبتسم من بين دموعها وتسأله:
- هل ستسميه أحمد؟
هز رأسه موافقًا وهو يعتدل في جلسته ويمسح عينيه قبل أن يقول:
- لنتذكر كلما ناديناه أن نحمد المولى على فضله حتى ولو ألهتنا الدنيا وألفنا نعمته علينا.
قالها منصور والتفت يتناول منها الرضيع في رفقٍ وأخذ يتأمل ملامحه مفكرًا، أكثر من عشرة أعوامٍ مضت وكلما تذكر صمود الشيخ همام لآخر لحظات حياته أمام تجريدة المماليك؛ يشتد عزمه فيما يلم به من خطوبٍ قاسية، بدأ الأمر فور عودته مع باقي الرجال لتشييع جثمان شيخ العرب وسط صدمةٍ ألمَّت بالعدو قبل الصديق، بعدها تولى درويش- الابن الأكبر للشيخ همام- زمام الأمور، لكنه بدأ خلافته بالقبض على خدمه وسلبهم أموالهم، وكذلك وكلاء الغلال وشركاء الزراعة، وحين وصلت أخباره تلك إلى علِيَّ بك أرسل له أحمد "كتخدا" ليسترد منه تلك الأموال؛ حتى أنه أمر بنبش دوره ومجالسه لاستخراج ما كان يخفيه والذي لم يكن بالقليل أبدًا! وفي النهاية، رحل درويش إلى المحروسة وبقي بها حتى مماته؛ دون أن يشعر أحدهما بأهل البلد وما يعانونه من فقرٍ وعوزٍ!
صحيح أن علِيَّ بك كان قد مد نفوذه على الصعيد بالكامل؛ لكن منصور لم يستطع أن يرى ذلك يحدث في فرشوط بلدة شيخ العرب، فأتى بأمه وزوجته إلى قرية مزاتة واعتزل حتى فلاحة الأرض كأنما اكتفى من الدنيا بأهل بيته وربابته، التي لم تفارقه منذ ذلك اليوم وحتى مماته!
كان منصور يسمع الكثير عن قوة علِيَّ بك التي كادت تمكنه من الانفراد بحكم القطر المصري ككل- حتى عن دولة العثمانيين- وربما هذا ما جعله يرى أن لديه الحق في محاولة السيطرة على إمارة الصعيد أيضًا؛ وتمنى لو أنه طلب معونة الشيخ همام في ذلك بالسلم والتراضي؛ وأغلب ظنه أن شيخ العرب لم يكن ليرده في ذلك لكن علِيَّ بك اختار أن يفعلها بالقوة!
شعر بليل تجذبه من ذراعه وتهزه بأصابع مرتجفة وهي تتمتم بصوتٍ شديد الخفوت:
- منصور.
التفت إليها ليسألها عما ألَّمَ بها؛ وقبل أن يفعل لمح قطًا أسود يقف على حافة النافذة يتطلع نحو الرضيع في ثباتٍ غريبٍ؛ جعل ليل تمد كلتا ذراعيها لتجذبه من منصور وتتحامل على نفسها هاتفةً:
- أدركيني يا خالتي.
وبينما اندفعت أمه إلى الغرفة في فزعٍ كانت ليل قد وصلت إلى بابها، واستندت على كتف حماتها وهي تقول مرةً أخرى:
- بالله عليكِ أخرجيني من هنا.
تمدد القط على حافة النافذة وأخذ يلعق جسده دون أن يكترث لحالة الفزع التي تسبب بها؛ بينما أخذ منصور يضحك وهو يخرج خلفه ليل وأمه قائلًا:
- هل جننتِ يا ليل؟! أقطٌ كهذا يجعلكِ تغادرين فراشك وأنتِ على هذه الحال؟!
هزت رأسها في خوفٍ حقيقي وقالت:
- إنه ليس قطًا عاديًا!
قال في جديةٍ:
- ولو سلمت بأنه ليس قطًا عاديًا؛ هل خروجك من غرفتكِ بهذه الحالة ستمنع أذاه؟!
كادت أن تبكي وهي تقول:
- كفى يا منصور بالله عليك.
تنهد بفروغ صبرٍ وقال:
- بل كفاكِ أنت ما تنطقين به من تخاريف.
لم تحتمل ليل وأخذت تبكي:
- تخاريف! ألم تره كيف كان ينظر إلى الولد؟!
اقترب منها وربّت على كتفها مهدئًا وهو يعاونها في الجلوس، بينما سحبت أمه المكنسة القش وتوجهت نحو الغرفة هاتفةً:
- ابقيا هنا.
حاولت ليل أن تهتف بها فخرج صوتها واهنًا جدًا وهي تقول:
- لا تحاولي إيذاءه يا خالتي أرجوكِ، دعيه يمضي في سلام.
ضرب منصور كفًا بكفٍ وهو يلحق بأمه ليقول شيئًا، لكنها خرجت من الغر فة تهز كتفيها في حيرةٍ وهي تقول:
- إنه ليس بالداخل!
ومع ساعات الشروق الأولى، لحق ذلك القط الأسود ذو العينين الزمردية بإبراهيم الذي كان يحمل "خُرجه" القماشي فوق ظهره متجهًا نحو شاطئ النيل، اقترب من إحدى المراكب- وهو يقرأ اسم الريس"سليم"- المنقوش على جانبها؛ فالتفت نحو القط محذرًا:
- زمرد؛ أرجو ألا تأتي لي بالمتاعب.
لم يندهش حين نظر خلفه فلم يجده؛ فعادته أن يظهر فجأة ويختفي فجأة، تناسى أمره وهو يلقي السلام على أول من قابله من صبيان المركب وسأله:
- أين الريس سليم؟
أشار له الفتى دون ردٍ نحو الرجل الجالس في الطرف القصي من المركب؛ فاتجه نحوه بحماسٍ كبيرٍ هاتفًا:
- السلام عليكم يا ريس، لقد جئت حسب اتفاقنا.
رد الريس سليم عليه بإشارةٍ من يده وهو يستعد ليذكره - ربما للمرة العاشرة- أنه قبل بسفره معهم إلى المحروسة؛ نظير عمله مثله مثل صبيانه على سطح المركب، لولا أن لمح زمرد واقفًا خلف إبراهيم في تحفز، فسأله في خفوتٍ:
- هل سيرافقك هذا على مركبي؟!
تصنع إبراهيم الدهشة وهو يرمق زمرد بنظرةٍ جانبيةٍ مجيبًا:
- من هذا يا ريس؟!
نظر الريس سليم نحوه في غير فهمٍ وكاد يهتف وهو يشير نحو زمرد: "هذا!" لكنه كان اختفى تمامًا؛ ولم يندهش إبراهيم إطلاقًا!
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.