وقف المهندس معتز الشهير بجوهرة أمام مدير الشركة، الذي كان يجلس على كرسيه وراء مكتبه في منتصف الغرفة، وعيناه تنظر لمعتز من الأسفل إلى الأعلى؛ يتفحصه وتظهر على وجهه علامات عدم الرضا مما يرى.
كان معتز شابًا في بداية الأربعينات، يرتدي سروالًا أسود لا يخلو من غبارٍ بالأبيض والرمادي وبه بعض البقع التي لا يظهر لونها من اللون الأسود، ولكنها تعلن عن نفسها بانطفاء اللون الأسود وشحوبه في بعض المناطق، وكان السروال يبدو أقصر من مقاس من يرتديه، ولكن الحقيقة أن تجمع القماش الموجود خلف الركبة سحب جزءًا ليس بالبسيط من طول الساق؛ فظهرت وكأنها أقصر من المطلوب، وما كان هذا التجمع إلا علامة واضحة أنه ينام به ويرتديه منذ فترة ليست بالقصيرة، عدم انسيابية النسيج تؤكد أن المكواة لم تعرف طريقها إليه منذ فترة طويلة؛ لتعيد إليه طوله الحقيقي.
وكان القميص الأصفر لا يقل إهمالًا عن السروال، لدرجة أنك قد تشك أنه كان له لون آخر، واكتسب صفاره اتسخًا وإهمالًا، وكانت أكمام القميص مفتوحة والياقة المتعرجة تصرخ من عدم تعامل مكواة الثياب معها.
بدأ إيهاب تأمله من الحذاء الرمادي اللون الذي يذكرك بأنه كان أسود اللون قبل رحلته مع الإهمال، وانتهى التأمل بوجه معتز بعينين منفوختين من عدم النوم بانتظامٍ، وشعر ذقنه غير مهذب من الإهمال، وشعر الرأس مشعث وغير منتظم لم يضعه الحلاق بين مقصه منذ شهور، ولكن ذلك لم يستطع أن يخفي ملامح جميلة بأنف مدبب، وفم صغير، وعينين واسعتين محددتين بسواد يكحل رموشه الطويلة.
استمر إيهاب في تأمله للحظاتٍ، ثم توقف في مكانه وبدأ يتكلم ومع كلامه كان يتحرك ببطءٍ حتى يصل إلى معتز في وقفته أمام المكتب، ووضع يده على كتفه، كان المدير إيهاب رجلًا أنيقًا، عمره يتخطى الستين وكله نشاط وحب للحياة، بدأ حديثه وقال:_ يا مهندس معتز، أنت تعرف إنك مثل ابني، وإنني أحبك وأعتز بك في شركتي؛ فأنت عقليه موهوبة، وغير عادية في عالم التصميم المعماري، ولكنك بالتأكيد تعلم لماذا أنا غاضب منك، لقد نبهتك لأكثر من مرة على مظهرك في الشركة، وكذلك على اكتئابك وغيابك عن العمل، أنت في المشروع الأخير كنت السبب في فوز الشركة بمسابقة التميز، وهذا كان بمجهودك وحدك دون أدنى مساعدة من أيٍّ من الزملاء وقد قدرت لك ذلك جيدًا، وغفرت لك غيابك وانتكاساتك المتكررة. بصراحة أنا أرغب في مساعدتك؛ حتى تساعد الشركة، وقد سمحت لنفسي أن أعرف معلومات عنك من أقرب الزملاء إليك؛ مهندس عماد، لقد عرفت ظروفك الاجتماعية ووحدتك بعد وفاة والدتك، أنت تعيش ظروفًا اجتماعية صعبة، لكن لا تيأس، أنت يا بني، قطعة من الألماس تحتاج أن تتخلص مما يحيط بك من الخردة، زملاؤك يسمونك جوهرة وأنت جوهرة فعلًا. حاول أن تغير الوضع السيء من حولك، أنا تشاورت مع عماد ووجدنا أنك لو غيرت سكنك وانتقلت من غرفة السطح ستصبح حياتك أفضل، وتهتم بأكلك ومظهرك ونومك. ولعل المكافأة الكبيرة التي أخذتها في مشروعك الفائز بمسابقة التميز تكون بداية لمكافآت كثيرة ولنجاحات أكثر، ويصبح دخلك أفضل بكثيرٍ من الآن، وتتزوج وتعيش حياة مستقرة أنت لو استقررت ستبدع في العمل والتصاميم وستنقل الشركة نقلة عظيمة، نجاح آخر يؤكد اسم الشركة ويربطها بالنجاح وسنجد عملاء مميزين وسنأخذ وضعًا مميزًا في السوق. عماد نصحني بشقة جديدة لك وأنا وافقت، وحتى لا ترفض الفكرة سأدفع الإيجار عن طريق الشركة ويخصم منك ربع المبلغ فقط. الشقة مفروشة، الشركة تقدمت لمسابقة عالمية بمشروع المركز التجاري الجديد الذي تعمل فيه أنت وعماد، هو يريد أن يصل بك لحالة نفسية جيدة؛ حتى تحققا معًا أفضل النتائج، عماد من اقترح فكرة الشقة وهو من طلب أن ينضم معك في التصاميم الجديدة؛ ليساعدك فيها وأنا وافقت؛ فهو أقرب زملائك إليك، أنتما تعملان في غرفة واحدة منذ سنوات ولم يحدث بينكما أي خلافٍ، بعكس بقية الزملاء الذين لم ينجوا من تصرف قاسٍ أو لفظ مهاجم من سيادتك عندما تكون متعبًا أو متضايقًا.
عمومًا، أريد أن أرى تغيير الشقة على هندامك، ونومك، وتركيزك في العمل، وعدم غيابك، عش يا جوهرة، وتخلص من الخردة من حولك.
بعد انتهاء الدوام، خرج معتز من عمله ذاهبًا إلى شقته الجديدة، كانت الشقة مكونة من صالة كبيرة تفتح فيها ثلاث غرف، وممر صغير به حمام ومطبخ، كان الأثاث قديمًا ولكنه يفي بالغرض لحياة عازب، يرغب في شقة تكون قريبة من مقر عمله الذي يعاني يوميًا للوصول إليه بركوب مواصلات لا تقل عن ساعتين.
معتز عمره في الأربعينات، تقدم به العمر ولم يتزوج بسبب قصة حبٍ فاشلة عاشها بكل مصداقية مع زميلته الجميلة زينب؛ عندما كانا معًا.
كانت تساعده على قسوة الحياة بوجودها فيها، وكانت الدافع الوحيد الذي يدعوه للتوقع لمستقبل أفضل من ماضيه القاسي الذي عاشه في هذه الحياة.
هو شابٌ ريفي من أصل فقير، أبوه توفي وهو صغير، وتزوجت أمه بعمه حتى يربي ولدها، هذا ما حكم به الجد والجدة ونفذت الأم الأوامر وازدادت العائلة فقرًا بأبٍ فقير لديه أسرة مكونة من ثلاث فتيات وأمهن، وأُضيف إلى أعبائه زوجة جديدة وابن أخيه المتوفى.
ومرت سنوات الطفولة حرمانًا وفقرًا وقسوةً؛ فالعم قليل الحيلة والأم منكسرة لوفاة رفيق عمرها وزواجها بآخر، يحتاج من يساعده على المعيشة، كان العم ظاهريًا هو المسئول عن البيت، ولكن الأم هي التي كانت تعمل في كل شيءٍ لتوفر احتياجاتها واحتياجات ولدها والسجائر للأب الجديد؛ حتى يسمح لها بالعمل في بيوت الأسر ميسورة الحال في القرية.
دخل معتز الكُتَّاب، وكان أهل القرية يراعون حالة الأم فلا يطلب منها المدرسون أي مصروفاتٍ، بل يساعدون معتز بالأدوات والكراسات والكتب، وكانت الدراسة هي الأمل له أن يعيش حرًا بعيدًا عن هذه البيئة التي سلبته الحرية، وتسلبه كل شيء بحجة الحماية ووفاءً لأبيه المتوفى كما يدعون.
كان نجاح معتز وتميزه في الدراسة يشجع المدرسين على إعانته؛ فكان رمزًا للطفل المكافح من أجل التعلم، وأتم المدرسة الإعدادية بتفوق، ودخل الثانوية وكان من أوائل الطلبة وكانت بعض الأسر الميسورة الحال تتكفل بمصاريف تعليمه؛ فقد كانت الأم المسكينة تعمل لديهم وكانوا يحبونها لأمانتها ونظافتها.
عندما نجح معتز في الثانوية العامة وتحصل على مجموع يمكنه من الدخول إلى كلية الهندسة، في نفس اليوم توفي عمه بعد أن ظل فترة طويلة مريضًا وقعيد الفراش، وعندها انتقلت الأم مع ولدها للإقامة في القاهرة، واخذت تعمل في البيوت، وهو يعمل في إحدى المقاهي ليساعد في مصاريفه، وتعرف على زينب التي كانت تعمل معه في نفس المقهى، واستمرت علاقتهما لسنواتٍ، وتوفيت الأم بعد سنين من الكفاح والتضحية، وتخرج معتز من الهندسة وعندما فكر في الارتباط بزينب لطمه الواقع حتى يفيق؛ ورفضه ابوها، الأب خاف عليها أن تعيش الفقر يوميًا، وتدخل في رحلة كفاحٍ قد تكون هي الضحية الثانية بعد أم معتز المسكينة التي كافحت معه حتى نهاية حياتها.
aaa
كانت الشقة نظيفة وجديدة مقارنةً بغرفة فوق السطح، ولكنها كانت كبيرة جدًا عليه وشعر بالضياع بداخلها، ولكنه عزى نفسه بأنه سيتعود عليها ويتغير هذا الإحساس بالتدريج بعد إقامته فيها لعدة أيامٍ.
كانت حياة معتز كلها عمل، حتى شقته الجديدة كان أول ما أضافه على الأثاث القديم لغرفة النوم طاولة الرسم، ومسطرة المرسم، ولفات الورق الشفاف، وأقلام التحبير والأحبار، والكتر، وأقلام الرصاص والفحم بأنواعها المختلفة.
ظل يرسم وهو جالسٌ على طاولة المرسم خاصته، وعندما مل من العمل أخذ يرسم صورة بأقلام الرصاص والفحم، ظل ساعتين وهو يرسمها، كانت صورة تكاد تنطق لوجه زينب حبيبته السابقة التي خذلته وآلمت نفسه ألمًا أفقده اتزانه، وهو من عاند الحياة عمره ولم يستسلم لظروفه يومًا، ولكن صدمته في زينب كانت غير متوقعة، وعاد به شريط ذكرياته التعيسة وعندما انتهى أخذ يتأمل الصورة جيدًا، ووضعها من يده على الطاولة وأمسك بالكتر ومزقها قطعًا صغيرة، حتى لم يتبقَ منها جزء يعطي معنى واضحًا لما كانت تحمله الصورة قبل تمزيقها! وعندما شعر بالتعب بعد هذه المعركة مع الماضي قرر أن يأخذ قسطًا من الراحة؛ حتى يذهب للعمل أفضل حالًا كما طلب منه مديره إيهاب.
في هدوء الليل، استيقظ معتز لسببٍ لا يعرفه؛ شرب قليلًا من الماء من الزجاجة الموجودة على المكتب بجوار السرير، سمع صوتًا خافتًا ينادي ويطلب النجدة، وعندما أنصت أكثر ازداد الصوت ارتفاعًا وأصبح أكثر وضوحًا، إنه يشبه صوت زينب حبيبته السابقة كانت تصيح وتقول: "أخرج الكتر من رقبتي!"، وأصيب بفزعٍ شديدٍ تسارعت أنفاسه، وتصبب العرق من كل مكانٍ في جسمه المرتعش، وكاد قلبه أن يتوقف رعبًا؛ لأنه كان متأكدًا أنه ليس حُلمًا، وأن الصوت حقيقة ويخرج من أركان هذا البيت الملعون.
وقع نظره على الكتر فوق طاولة المرسم ووجده في مكانه كما تركه قبل أن ينام، وأخذ يهدأ تدريجيًا حتى عاد للنوم مرة أخرى.
في صباح اليوم التالي، قضى نهاره وهو مرهق، ولكنه أنجز الكثير من العمل وبدأ في رسومات المشروع الجديد؛ فقد تعود منذ طفولته على الحياة الصعبة، ولم تكن ظروفه النفسية أو الصحية تؤثر على أدائه في العمل تأثيرًا كبيرًا، وكان ما ينجزه وهو ليس بكامل طاقته يعادل ما ينجزه مجموعة من المهندسين في أفضل حالاتهم الصحية والنفسية، ورغم مقاومته للشرود كان يشرد أحيانًا وهو يعمل ويتذكر الحُلم المرعب الذي حلم به بالأمس.
بعد انتهاء الدوام، عاد للبيت وهو يحمل معه طعامًا جاهزًا، دخل إلى الممر الصغير ومنه إلى المطبخ، وأحضر أطباقًا بسيطة ليفرغ بها طعامه على طاولة الطعام الموجودة بصالة المعيشة، تناول طعامه في كآبةٍ يعتاد عليها، ثم جمع الأطباق وبواقي الطعام وأعادها للمطبخ ووضعها في الحوض، دون أن يفكر في غسلها، وخرج بهدوءٍ وبعد أن تجاوز نصف الممر شعر بشيءٍ ما يدعوه للعودة، عاد للوراء بضع خطواتٍ إلى حيث باب المطبخ وبجانبه بابا الحمام، والذي جذبه إليه كانت السقيفة الموجودة على ارتفاع مترين تقريبًا في الجهة من الممر المقابل لباب المطبخ؛ وقف يتأمل المكان، ووقف بالتحديد مقابل السقيفة وكأنه يقف أمام شيءٍ يستحق التأمل، وبعد دقائق استدرك الوضع الغريب الذي هو فيه؛ فذهب إلى غرفة النوم ركضًا ونام على السرير وغطى نفسه جيدًا، رغم عدم برودة الجو ولكنه شعر بأنه يتحصن من شيءٍ ما بهذا الغطاء الذي غطى جسمه به تمامًا حتى وجهه؛ فأصبح كمن كفن جثة وخاصةً عندما غلبه النعاس من شدة التعب في العمل، فتوقفت جثته عن الحركة تمامًا، وما هي إلا ساعات قليلة من النوم، وبدأ جسمه يتحرك بقوة ويهتز وكأنه يختنق، كان ما يخنقه في نومه صوت السيدة التي تصيح وتطلب منه أن ينزع الكتر من رقبتها، ورفع الغطاء عن وجهه واستيقظ بسرعة قبل أن تتوقف أنفاسه وهو نائم!
استيقظ يبحث عن مصدر الصوت، من أين يأتي في هذه الشقة؟! وأخذه إحساسه إلى الممر المؤدي إلى المطبخ ووقف يتأمل السقيفة، دخل إلى المطبخ وأحضر كرسيًا ووضعه أمام السقيفة ووقف عليه، ووضع يديه على أرضية السقيفة وقفز قفزة واحدة وسحب جسمه إلى داخل السقيفة.
كان ارتفاع سقف السقيفة منخفض بحيث لا يمكنه من أن يقف معتدلًا؛ فكان يقف منخفض الرأس حتى لا يلمس السقف، ولكنه لم يرَ شيئًا؛ لأن الظلمة كانت شديدة، وبنظرة إلى سقف السقيفة وجد فيها مكانًا للإضاءة نزع منه المصباح، وعندها تيقن بأنه لن يصل لأي نتيجة لأنه لن يرى شيئًا، أخذ طريقه إلى النزول وعاد إلى سريره وهو كله إحباط وضيق.
في اليوم التالي، ذهب معتز لعمله، وطلب منه زميله عماد مساعدته في إنجاز بعض الخرائط التي من المفترض أن يقوم بتسليمها اليوم لإيهاب وهو لم يكملها بعد، وكعادته قبل معتز طلب المساعدة رغم ما هو به من حالة نفسية سيئة، دائمًا يطلب منه زملاءه المساعدة عندما يكونون غير قادرين على تسليم عملهم للإدارة في الوقت المحدد لها، كان معتز لا يحب المساعدة، بل إنه يحب العمل نفسه ويجد نفسه وأهميته وتميزه فيه، فلا يرفض أي فرصة تمكنه من إظهار ذلك.
أخذ يرسم بحماسٍ وأنجز جميع الرسومات المطلوبة، وأعطاها لعماد ليقوم بتسليمها للمدير بنفسه، ولكن لسوء حظ عماد سأله المدير عن بعض التفاصيل التي نتج عنها التصميم بهذا الشكل، ولم يستطع عماد أن يجيب عن هذه التفاصيل؛ فاضطر أن يعلمه بمساعدة معتز له، وطلب المدير معتز واستفسر منه عن أسباب اختياره التصميم بهذا الشكل. وأجاب معتز بالرد الذي أقنع المدير بالتصميم ووافق عليه، ولكنه انزعج كثيرًا لاتكال عماد على معتز من بداية العمل معًا في مشروع واحد، وتضايق من تقصيره في عمله، وطلب منه تسليم المشروع بأكمله لمعتز وأصدر تعليمات بخصم مبلغ من مستحقات عماد لدى الشركة وصرفه لمعتز، شعر عماد بالخجل والضيق بعد الاجتماع الذي شمل ثلاثتهم في مكتب المدير، وغادر الشركة غاضبًا.
عماد هو أقدم مهندس بالشركة وقريب جدًا من المدير العام؛ لأنه مميز في شغله وأفضل مهندس بالشركة قبل وصول معتز إليها، والذي جعل عماد المهندس رقم اثنين، ولكن رغم ذلك هو الأقرب للمدير لوجود علاقة قرابة بينهما ولعملهما معًا لمدة طويلة؛ فهو كان العون للمدير في تأسيس هذه الشركة منذ البداية قبل أن تكبر وتتعدد أعمالها، ويزداد عمالها ومهندسوها وموظفوها كذلك؛ ولذا تضايق عماد كثيرًا من تصرف المدير الذي لم يراعِ ما بينهما من صلة قرابة وزمالة قديمة، وأغضبه إهانته له عندما علم بأن معتز من صمم المشروع.
لم يكن لدى معتز أي قدرة لبداية مشكلة جديدة في الشركة المتنفس الوحيد له، ويكفيه مشاكله وأحزانه القديمة وبيته الجديد المسكون؛ ولذلك عمل بسرعة على إنهاء المشكلة قبل أن تكبر، وبعد مغادرة عماد طلب من المدير أن يجد لعماد العذر فربما انشغل بأمرٍ ما، أو كان مجهدًا أو مريضًا مما لم يمكنه من إتمام عمله، وتعهد بأن يبدع في هذا المشروع ويعمل هو وعماد معًا؛ حتى لا يتحسس منه أو يشعر بالحرج، ولأن المدير سيكون أكثر استفادة في هذه الحالة وتوقعه بنجاح باهر لعملهما معًا على تصميمٍ واحد وافق على اقتراح معتز، ووكله بإتمام اللازم.
عاد معتز لبيته يحمل لفات الورق الشفاف وحقيبته ممتلئة بالأوراق والمستندات الخاصة بالمشروع، ودخل البوابة الخاصة بعمارته وبعدما تجاوز غرفة الحارس وقبل أن يصعد الدَّرج، رجع خطواتٍ إلى الوراء إلى حيث غرفة الحارس وناداه قائلًا:
_يا عم عبد الله؟
فرد الآخر وكأنه كان ينتظر النداء، وقال:_ نعم، يا سيد معتز، هل تريد شيئًا؟
فأجابه:_ اريد ان أتحدث اليك.
فخرج إليه مرحبًا، وأدخله غرفته في حفاوة كبيرة، وأحضر له كوبًا من الشاي الثقيل، وبدأ الحوار بينهما بمقدمة بسيطة عن عم عبد الله ومنذ متى يعمل هنا، وعرف معتز أنه يعمل منذ سبع سنوات، ثم أدار معتز الحديث ليبحث عن إجاباتٍ لما في رأسه من أسئلة، وبادره بالسؤال عن السكان الذين كانوا قبله في البيت، فقال له أنهم أسرة مكونة من رجل وامرأته وطفل بعمر الثلاث سنوات تقريبًا. وعندما سأل عن سبب رحيلهم، قال له أنهم كانوا في العمارة لأكثر من خمس سنوات، وكانت مغادرتهم لسكنهم فجأة غريبة؛ أنهم حتى لم يأخذوا العفش وطلبوا من صاحب البيت احتسابه بأي سعر وباعوه له بالقليل جدًا من المال؛ لأنهم لا يحتاجونه لسفرهم وانتقالهم للعيش خارج مصر لعدة سنوات. فسأله معتز عن عمل صاحب الشقة السابق، فأجابه أنه كان مهندسًا ودائًما ما يحمل معه ورق وخرائط، أما السيدة الطيبة فكانت ربة منزل وكانت هادئة ولطيفة لا تقارن بزوجها المتغطرس الذي كان لا يحب التعامل مع أحد من الجيران، وما كان للحديث مجال آخر لمعرفة أي معلومات أخرى عن السكان السابقين لشقته.
صعد معتز الدَّرج محبطًا مما قد يلاقيه في هذه الشقة التعسة، ومجرد دخوله إلى البيت دلف إلى غرفته ووضع حقيبته وورقه على طاولة المرسم، وأخرج من حقيبته مصباحًا وتوجه إلى السقيفة، وصعد إليها ووضع المصباح في مكانه لتظهر له السقيفة بمنتهى الوضوح؛ كانت متوسطة المساحة وليست بالصغيرة، ولكن سقفها المنخفض لا يمكن من يدخلها بالبقاء لمدة طويلة، كان ما لفت انتباهه في المكان صندوق كبير ومستطيل ارتفاعه لا يتجاوز النصف متر، وكان من الخشب وبدون غطاء، وعندما اقترب منه لاحظ صبة الخرسانة بداخله، وكانت هي الداعم الأكبر لظنونه بأنه في هذا المكان جثة ما، وقال في نفسه: "يا لها من فكرة مستهلكة وليست بالجديدة! يا لغباء القاتل هل هنا أخفى جثته؟"
دار حول الصندوق بعد أن سحبه بصعوبةٍ شديدة بضع سنتمترات وأخذ يفكر، ولكنه لم يحتر كثيرًا؛ فقد لاحظ أن الخرسانة لا تلتصق بجدار الصندوق الخشبي، وشكل حوافها غير المنتظم أكد له أن الفاعل صب الخرسانة على الجثة في مكانٍ آخر قبل أن يضعها في الصندوق، وهذا أعطاه أملًا في الوصول لشيءٍ ما لو أزال صندوق الخشب فهو أسهل بكثير من تكسير الخرسانة، وبحث حوله وكانت السقيفة مزدحمة بالمعدات وأمسك بإحداها وأخذ ينزع الخشب بالتكسير في بعض الأماكن، وبانتزاع المسامير في أماكن أخرى، وعندما فُتحت جوانب الصندوق وجد بعض الأوراق التي بدت متسخة وغير واضحة، ولاحظ بينها صورة مقلوبة، أمسك بالصورة المقلوبة وأدارها ليرى ما فيها؛ فدارت به الدنيا وأصيب بالفزع الذي دفعه للركض والقفز من السقيفة وسقط على أرض الممر ونهض رغم ما به من ألم، وأخذ يركض وينظر خلفه وكأن أحدهم يركض وراءه، واطمئن قليلًا عندما لم يجدها وراءه؛ لقد شاهد زينب حبيبته في الصورة وكانت الصورة قديمة للفترة التي كانا يعملان معًا في المقهى، وكان هو بجانبها في الصورة، وشعر معتز بأن الزمن يركض وراءه ولن يتركه يعيش بأمان. من أين جاءت زينب؟! ومن أين جاءت صورتها وصورته في هذا التابوت؟! هو قد تخلص من كل صورها بعد معاناته نفسيًا لسنواتٍ في نسيانها، بالتأكيد هذه الصورة كانت عند زينب، إنها هي صاحبة الجثة، عاد وهو يتعثر في مشيته إلى المطبخ وأخذ مطرقة ومسمارًا كبيرًا وصعد العلية بصعوبة كبيرة هذه المرة، وأخذ يطرق علي الخرسانة ويحاول أن يفتتها بالمسمار ولكنها كانت صلبة جدًا ولم يحدث فيها المسمار والمطرقة إلا ندبة صغيرة، ليخرج المسمار يحمل فتات شيءٍ ما لم يستطع تحديده هل هي ملابس؟ أو نسيج بشري؟ فآلمه قلبه ولم يستطع أن يخدش جثة حبيبته خدشة أخرى وأخذ يحرك الخرسانة من مكانها دون جدوى، وبكى عمره الماضي، وحبه الضائع، وحاضره المقزز، ومستقبله القلق، ولم يتوقف عن البكاء إلا بعدما ظهر له من تحت الخرسانة التي تحركت شيءٌ ما؛ سحبه برفقٍ ليجده كتر مما يستخدم في المرسم لقص أوراق الشفاف ولأغراضٍ أخرى، وأمسك بالكتر ليفيق من صدمته بأن جميع الأدلة متوفرة لأن يعدم متهمًا بقتل حبيبته السابقة.
نزل من السقيفة وذهب إلى غرفته ولم يشعر بالخوف هذه المرة؛ لأنه كان ينتظر سماع صوتها ليسألها عمن فعل بها هذا؟ ويعدها بالانتقام من الفاعل ومعاقبته على فعلته، ولكن زينب يبدو أنها اطمأنت لما عرفه وتركته هذه الليلة يرتاح؛ فنام دون أن يتواصل معها حتى الصباح، ولم يستطع أن يذهب للعمل فظل بعد استيقاظه لساعاتٍ وكأنه نائم ينتظر أي رسالة من زينب، ولكن دون جدوى!
اتصل عماد بمعتز ليطمئن عليه، وعندما سأله عن سبب تغيبه عن العمل، قال له أنه سقط في الحمام والتوى ساقه ويؤلمه قليلًا، ولم يمر إلا ساعة واحدة حتى دق الباب، قام معتز متثاقلًا يفتح الباب، تفاجأ بقدوم عماد ليطمئن عليه ومعه الطبيب، فحصه الطبيب وطمأنه أن الإصابة بسيطة، وطلب من عماد إحضار دواءٍ في الوصفة التي كتبها، أوصل عماد الطبيب للباب ونزل لشراء الدواء وعاد بسرعة، لا حظ عماد كثيرًا من الأدوية على المكتب في غرفة معتز، وتفحص بعضها وسأله إن كان بخير، فطمأنه معتز أنه بخير ولا يعاني من شيءٍ إلا التواء ساقه، وأمسك بالأدوية وأدخلها الدرج.
قال معتز:_ لماذا أحضرت الطبيب؟ الأمر بسيط.
فقال عماد:_ لا بد أن أطمئن عليك، أنت صديقي وشكلك بالأمس في الشركة أقلقني، أأنت متأكد أنك بخير؟
شعر معتز بالخجل للموقف الذي حدث بالأمس في مكتب المدير، وتمنى أن يتحصل على فرصة لإزالة أي إزعاجٍ تعرض له عماد من تأثير الموضوع، خصوصًا بعد اهتمام عماد به وحضوره ليطمئن عليه.
تبادلا المجاملات البسيطة، ورحل عماد بعد أن أوصاه بأخذ الدواء وعدم التقصير باستعمال المساج حتى يتحرك بسهولة وبدون ألمٍ كالسابق، وقال مازحًا:_ المدير لن ينتظر طويلًا التصميم الذي علينا إنجازه معًا، وأنا لن أستطيع أن أنجز أي شيءٍ فيه إلا بعد انتهاء التصميم المبدئي واتفاقنا على الفكرة للمشروع وتوزيع الموقع العام.
ضحك معتز وقال:_ لا تقلق، لن ينتظر كثيرًا، بمجرد تحسن قدمي سآتي إلى منزلك ونتفق على كل شيء.
ضحك عماد واعتبرها مجاملة، ولكن صباح اليوم التالي، أفاق معتز متأخرًا عن موعد العمل وقدمه قد تحسنت كثيرًا؛ فقد نام في هدوءٍ لان زينب توقفت عن ندائها السابق، أعد فطوره وتناوله وفكر في الصعود إلى السقيفة ولكنه خشي أن تسوء حالة قدمه، وهذا لا يمكنه من الوفاء بوعده لعماد في إتمام المشروع المشترك بينهما، وبدون اتصال مسبق قرر أن يفاجئ صديقه ويرد له الزيارة، أخذ العنوان من استعلامات الشركة وأخذ معدات الرسم وذهب إليه بعد انتظاره حتى موعد انصراف عماد من الشركة، والوقت الكافي لوصوله لسكنه.
وصل إلى البناية وصعد إلى الشقة حيث يقيم معتز ودق الباب، حضر طفل صغير وراء الباب، وقال:_ من؟
سأله معتز: _أبوك موجود؟
قال بسرعة:_ لا، والدي ليس هنا.
وعندها سمع صوت عماد وراء الباب يقول له:_ من بالباب يا هادي؟
وفتح عماد النافذة بالباب لينظر ويعرف من الذي يدق الجرس، وبمجرد أن وقع نظره على معتز شعر بالخجل من تصرفه وفتح الباب بسرعة، وكان مرتبكًا ويكرر أكثر من مرة كيف عرفت عنواني؟
ضحك معتز وقال:_ أدخلني أولًا.
لمح معتز طفلًا صغيرًا يركض بسرعة ليختفي في إحدى الغرف.
سال عنه قائلًا:_ هل هذا ابنك؟
أجابه عماد:_ نعم، إنه هادي.
فقال معتز:_ ناده حتى أسلم عليه.
نادى عماد:_ هادي، تعالى سلم على عمك معتز.
فرد الولد من داخل الغرفة بصوتٍ خائف:_ لا.. لا، أريد.
ضحك معتز، ودون أن يفكر في تصرفه تأثر من صوت الطفل الخائف ورغبة من في طمأنته؛ اقترب من الغرفة وأخرج من جيبه علكة ليعطيها للطفل؛ ليطمئنه بعدما شعر بأنه خائف منه، تبعه عماد بسرعة فأوقفه بيده وقال:_ سأدخل وأطمئنه لا أريده أن يخاف من الغرباء، اذهب أنت للمطبخ وأعد لنا الشاي لنبدأ بالعمل.
لا بد أن يطمئن لوجودي بالمنزل فهو صغير، ويبدو أنه يخاف من الغرباء.
دخل إليه معتز وقال:_ تعال يا بني، خذ هذه العلكة، ولو أعجبتك سأحضر لك غيرها.
وبمجرد أن شعر الطفل بدخول معتز، دخل بسرعة تحت السرير، اقترب معتز من السرير وانبطح على الأرض بجوار السرير ونظر إليه وهو يضحك، ولكن بمجرد وقوع نظره على الطفل وملامحه من رعبٍ في وجهه الصغير، وارتعاش في أطرافه أحزنه ذلك كثيرًا، وشعر أنه ما كان عليه أن يفرض نفسه على الطفل بهذه الطريقة؛ فهو لم يكن يتوقع كل هذا الخوف. أمسك العلكة بأطراف أصابعه ودفعها إليه تحت السرير، لتقترب من يد هادي وتلمسها العلكة، وقبل أن ينصرف عماد رأى صورة ورقية بيد الطفل، فالتقطها بأطراف أصابعه وقبل أن يخرجها من تحت السرير، نظر فيها محاولًا خلق حوارٍ بينه وبين هادي عن الصورة التي لم يكن يعرف لمن هي؛ ولكن الصورة لم تكن تحتاج للخروج من تحت السرير لتؤكد أنها صورة زينب وكانت صورة حديثة، يظهر فيها اختلاف بسيط لملامحها بعد الفراق وتبدو أكبر سنًا عن الفترة التي كانت علاقتهما مستمرة!!
ارتعب معتز ودفع الصورة بإصبعه إلى أبعد نقطة تمكن من الدفع إليها، وقبل أن يرفع رأسه، كانت أقدام عماد بجواره وقبل أن يرى ما رآه هو وقف معتز وأخذ عماد من كتفه قائلًا:_ اترك لهادي وقته حتى يتعرف عليَّ تدريجيًا؛ يبدو أنني شخصية غير مريحة للأطفال.
وبدأ يخرج من الغرفة جاذبًا في يده عماد راجيًا من الله ألا يسمع دقات الطبول المنبعثة من قلبة الذي يكاد أن يتمزق.
حاول معتز إخفاء ارتباكه وانشغل بالعمل قليلًا، ثم طلب دخول الحمام فوجهه عماد للحمام ليدخل إلى الحمام الذي كان مكانه بجوار غرفة الطفل، دخل وأغلق الباب خلفه وفتح صنبور المياه ووضع أذنه على الباب؛ يحاول أن يسمع أي حوارٍ بين الطفل الخائف وأبيه. وبعد فترة من الصمت، وصل إليه صوت حوارٍ بينهما، ولكن كلماته كانت من الصعب أن تفهم، وما شك في سماعه قول الطفل يقول لأبيه أنت قتلت أمي، ثم ينهار باكيًا ولا يسمع أي أصوات بعد ذلك، يبقى في الحمام بعدها بلحظاتٍ يغلق صنبور المياه، ويخرج وفي طريقه للاستقبال يمر من أمام باب غرفة الطفل الذي كان يتوقع أن يراه يبكي ومنهارًا كما وصل إليه صوته المتوقع أنه يبكي، ولكنه عندما اقترب من باب غرفته وجه نظره داخل الغرفة ووجد الطفل يلهو ويلعب بدمية بهلوان يحتضنه ويضحك، وقبل أن يستغرب معتز تصرفات الطفل فسر له عقله أن الطفل يبحث عن حنان أمه داخل هذه اللعبة الصماء، وتمتم بشفتيه لك الله يا بني. وذهب إلى عماد بالصالة وبدأ بجمع كل الخرائط والأوراق، ووعد عماد بأنه يومان وكل الشغل يكون منتهيًا، سعد عماد بهذا الوعد الذي أعفاه من مجهود كبير في العمل.
وعاد معتز لبيته وهو يشعر بجوار جثة حبيبته التي من المؤكد أنها أم الطفل هادي الخائف والحزين على فراقها، متى أنجبت زينب هذا الطفل؟ وكيف يكون أبوه عماد؟!
أسئلة كثيرة تدور في رأسه وهو نائم في سريره على أمل أن تتواصل معه زينب؛ ليتخلص من جزء من هذه الألغاز التي تدور في رأسه، وعندما لم تتواصل معه حبيبته بدأ بعقله العبقري يفسر ما حدث:
المعلومة الأولى أنه هو الحلقة المشتركة بين زينب وعماد؛ إذًا لا بد أن عماد تعلق بها من حديثه له عنها يوميًا في المكتب، وغضب من خيانتها وقبحها، واستنتج أنه عندما علم برفض أبيها القاطع له، وفشل أي محاولة لتغيير هذا الرفض وعندها كانت فرصته للتقدم لها، ووجد والدها فرصة لإنهاء تعلقها بمعتز فقبله وأتم الزواج بسرعة، ولكن لماذا قتل عماد زينب؟ ولم يستطع أن يصل لسبب قتل عماد لزينب قبل أن يغلبه النعاس.
أفاق اليوم التالي وكانت رغبته في الثأر لحبيبته مصدرًا لقوته؛ فكان ألمه على فراق زينب له وحياتها بعيد عنه، هدأ وانطفأ؛ فهي لن تكون لغيره ولن تعيش بدونه، وهذا سبب كافٍ أن يأخذ لها حقها ممن قتلها، عندما دخل الحمام ونظر في المرآة وجد العذر للطفل هادي، وشعر أنه عنده كل الحق في خوفه من هذا الوجه وقام بحلاقة ذقنه وتهذيب شعره قليلًا وتسريحه جيدًا، ثم دخل إلى غرفته وفتح الدولاب وأخرج ملابس جديدة كانت موجودة منذ فترة طويلة ولم يفكر في ارتدائها، ولكنه ارتداها اليوم وخرج بعد تناول فطوره وكأنه محارب ذاهب إلى معركة.
في الطريق، اتصل بتليفونه المحمول بالشركة وتأكد من وجود عماد بالشركة، وتوجه إلى بيت عماد، وقف أمام باب شقته وقرع الجرس، وعندما نادى الطفل من وراء الباب قائلًا:_ من بالباب؟
رد عليه:_ أنا عمك معتز ووالدك، جئنا حتى نكمل عملنا الذي بدأناه بالأمس.
وعندها فتح الولد الباب بسرعة ليجده أمامه ولا يلمح والده، وقبل أن يقفل الباب دفع معتز الباب ليفتحه، دخل هادي للشقة راكضًا وترك الباب مفتوحًا ووجهه ينطق بالفزع والرعب الذي لم ينطق بهما فمه؛ كان الطفل بعمر الخمسة أعوام تقريبًا ولكنه كان يبدو عليه الذكاء والثقة بالنفس، غالب بكاءه وقال بصوتٍ مرتعش:_ ماذا تريد؟ أبي عندما يعلم أنك جئت لبيتنا بهذه الطريقة سيغضب كثيرًا، وسيعاقبك، أبي قوي جدًا وعندما يغضب يصبح مخيفًا.
فقال له معتز:_ ولماذا غضب أبوك من أمك؟
قال الطفل:_ وما شأنك أنت؟
قال معتز:_ يجب أن تذهب معي إلى الشرطة وتخبرهم بكل شيء.
رجع الطفل خطوتين إلى الوراء من تأثير ما سمع، وقال:_ خالي سيحل الموضوع، وسيأتي بها ويعيدها إلى البيت.
ونسي معتز أنه يخاطب طفلًا وقال:_ أمك ماتت وأبوك قتلها، لا بد أن تذهب معي إلى المركز وتخبرهم بذلك.
الكلمات القاسية أفقدت الطفل اتزانه وانهار تماسكه الظاهري، وخرج يركض من باب البيت ويصيح أمي، ومعتز يركض وراءه محاولًا الإمساك به؛ فهو يعتبره دليل براءته ودليل إدانة عماد، وخرج الجيران على صوت صراخ الطفل وتدخلوا وأخذ معتز يقول كلمات غير مفهومة، لم يستطع أحد من الجيران استيعابها، وتبرع أربعة من الجيران للذهاب إلى مركز الشرطة، واتصل آخرون بوالد الطفل ليلحق بهم؛ وذلك بعدما زادت ثورة معتز لعدم تفهم الناس له ولإلحاحه على اصطحاب الطفل للمركز لأخذ أقواله.
بالمركز تم سماع أقوال معتز كاملة، وأقوال عماد الذي أفاد بأن زوجته عند أهلها بعد حدوث خلافٍ بسيط بينهما، وبعد ساعات كانت الزوجة وأخوها بالمركز، واحتضنت هادي الذي لم يشعر بالأمان إلا بعد وصولها. وذهبت قوة من الشرطة لمنزل معتز، وتحفظت على صندوق خشبي قديم وجد بالسقيفة به أوراق، وملابس قديمة، وكتر، وبعض الحاجيات التي لا فائدة منها، وكذلك تحفظوا على كمية كبيرة من الأدوية تستخدم في حالات علاج الأمراض النفسية والفصام، وتقارير طبية، وأخذ أقوال البواب والجيران الذين يسمعون معتز يحدث نفسه وهو خارج أو داخل إلى شقته، ويسمعه البعض يصيح ليلًا بأصواتٍ غريبة، وفي الصباح يجدونه إنسانًا هادئًا وكأن شيئًا ما لم يحدث.
أصدرت النيابة تقريرها وأودع معتز المستشفى حتى تعطي اللجنة الطبية رأيها النهائي في حالته.
وفي المستشفى، زاره إيهاب وأحضر له بعض الأوراق والأقلام بناءً على طلبه، أعطاها له ولاحظ أن حالته ليست بالجيدة، وخرج من المستشفى وهو يتمتم: يا خسارة.. يا جوهرة.. بدل أن تبعد الخردة القادمة من ماضيك.. اتبعتك وقضت على حاضرك ومستقبلك!
وركب سيارته وكله قلق على ما سيحدث في مشروع المول التجاري، ومن المهندس البديل الذي سيعد تصاميم المسابقة.