Darebhar

شارك على مواقع التواصل

"لَججتُ وكنتُ في الذكرَى لَجوجا
لِهمٍّ طالما بَعثَ النشيجَا
ووَصفٍ من خديجةَ بعد وصفٍ
فقد طالَ انتظَاري يا خَديجَا"

ورقة بن نوفل الأسدي 610 ميلادية



قبل أن تشرع
قبل أن تشرع في قراءة مخطوطي هذا أجد أنه لزام عليَّ أن أعرفك مَن أكون؛ أنا عبد المسيح بن اليُحمد الغساني الأزدي المولود سنة خمسمائة وأربعة وتسعون من ميلاد يشوع، أنا ابن النبي بالتمني، وابن أخت النبي بالتمني، وسليل نسل النبي بالزعم.
عشت مع شخوص قصتي هذه، واستمعت إليهم في جلسات متفرقة غير منتظمة، ودونتها ثم أعدت ترتيبها واقتصاص أجزاء منها حتى تصبح بناءً واحد متتابعًا في تسلسل لا يفسد منطقها، بعض أحداث هذه القصة يحمل من الغرائبية ما يفزع له القلب، ويذهل منه العقل، خاصة تلك الأحداث التي حدثت لأبي؛ اليُحمد بن عبد المسيح سيد قوافل المدينة وشيخ تجارها.
فيما يلي نقلتُ إليكم ما سمعتهُ منهم لسانًا بلسانٍ، فقط ترتيب الجلسات هو ما تلاعبتُ فيه، سجلتُها ولم أزد ولم أنقص عنها في المعنى، فيها قدمت سيرة كاهن الأولين والآخرين، وسيد العارفين والسالكين؛ الربيع بن ربيعة بن مسعود بن ذئب الغساني الأزدي، والمعروف عند الأعراب وأهل بيزنطة( ) وأهل ساسان( ) باسم سطيح الكاهن، غالب قولي اللاحق لهو تدوينٌ عن لسان ليث بن ربيعة بن مسعود بن ذئب الغساني الأزدي، ولسان أبيه وأمه اللذين لم يمكثا كثيرًا معي، واقتطفهما الموت من شجرة الحياة قبل أن أشبع منهما، دونت عن حليمة - التي هي أمي - القليل قبل أن تَلزم عدم الحديث عن الأمر حزنًا عما أصابها في أبي من فاجعة.
عبد المسيح بن اليُحمد بن عبد المسيح الغساني الأزدي
سنة 621 ميلادية



حليمة بنت ربيعة بن مسعود بن ذئب الغساني الأزدي
"البطونُ قلاّبة، كما الأقدارُ غلاّبة، مَن يوقف تتابع الليل! مَن يوقف النهارات! مَن يستطيع وقفها.. مَن يستطيع؟"
ما باله الوليد كأنه خِرقة من كتان!
بعد نهار شامسٍ، أدارت الشمس للأرض ظهرها وهبط ظلام ليس بالدامس.
في تلك الليلة القمراء، صرخ أخي أول صرخة له، عندما خرج من رحم أمي المظلم إلى رحم الحياة الذي تصادف أن يكون مظلمًا هو الآخر، كنت منتظرة بالخارج أتوسل إلى جدتي أن تسمح لي بالدخول، بعد إلحاحات مستميتة أمام الباب صاحت جدتي فيّ بضجر:
"تعالي يا حليمة."
وفور أن تعاليت انطفأ السراج، فسكن الوليد وكف عن الصراخ، ظنًا منه بأنه قد عاد إلى رحم أمه، هكذا اعتقدت، إلا أنه فور أن أشعلت جدتي السراج عاد وصرخ.
أصوات هامسة بودلت، وحركات يائسة أوتيت، وخلسات بائسة تناظرت، ثم سكون طويل أُتبع، حاولت السيدتان؛ القابلة ومساعدتها، ألا تثيرا القلاقل نحو الطفل الوليد، إلا أن ثمة مَن لاحظ تقلقلهما البين، قصدت جدتي القابلة التي كانت تتفحص الوليد منفزعة ومنزعجة، أرادت أن تسألها عن حال الوليد التي تقتضي منها حالها الظاهر المريب، إلا أنها لما اقتربت؛ توقف السؤال عند شفتيها، وتثبتت كوتد يُضرب رأسه في الأرض، حدقت في وجه حفيدها وقتًا ثم أخذت تنتزع نظراتها التي أسكنتها وجهه نظرة تلو أخرى، ثم وجهتها صوب وجه ابنتها النائمة من رهق تبعات المخاض، نادت عليها نداء مَن تريد استكشاف حالتها، أمتنبهة هي أم لا:
"يا شموس!"
لم تُجِب، فعادت وأرسلت نظراتها نحو الوليد ولكنها لم تُسكنها وجههُ هذه المرة، مدت يديها إلى القابلة تريد تناوله من بين يديها المطوقتين لجسده الصغير الملفوف بحرص بقماشة من الكتان الأبيض، ناولته لها بحذر زائد كأنه قارورة من هشيش الزجاج، فأثار حذرها هذا في صدر جدتي يعاسيب أُنَنَة، حينئذ تنحت القابلة يملؤها الترقب، تطلعت جدتي في وجه الوليد قاضبة الجبين متسعة العينين، فاضطربَتْ، أحسستُ بقشعريرة مرتعبة قد سرت في أوصالها وانتقلت إلى أوصالي وما تركتها إلا وقد ضاق صدرها وصدري، ورفَ جفنها وجفني، فمالت بالوليد ببطء تسترقده في الفراش إلى جوار أمي ثم مشت بخطوات غير متزنة نحو القابلة المتطلعة إليها في أسف وترقب، ثم قالت مرتاعة:
"ما بال خلقة الوليد!!"
ثم تحيرتْ بين وصل الحديث أو قطعه، فتلجلجتْ مضطربة، ثم عادتْ فحسمتْ أمرها عندما وجدتْ نظرة القابلة ومساعدتها تطالبانها بصمتهما المتطلع أن تواصل حديثها، فتابعت قولها زائغة العينين:
"وجسده طري لا يفرق عن مشروطة الكتانة التي تحويه! كأنه كيس حشوة صوف غنم، لا عِرق ولا عظم يُصلبهُ"
فلم تجِبها القابلة، واكتفت بتحريك شفتيها تستحضر الكلام فلم يحضر، فأطبقتهما حائرة، كما أن جدتي لم تنتظر منها إجابة فانصرفت بعينيها إلى ابنتها ووليدها ترمقهما بأسى.
كنت جالسة منزوية في زاوية الحجرة، ركبتاي إلى وجهي أراقب بعينين متسعين حمسهما الفضول، أتابع خيالات الكدر تتسحب إلى الحجرة من نظرات السيدات الجالسات في صمت كصمت الموتى، يتابعن أمي التي شرعت في فتح عينيها المغلقتين يحوطهما سواد التعب، أمالت رأسها تتطلع في وجه وليدها الصغير الراقد في صمت مسدول الأوصال جنبها، وما أن وقعت عليه حتى انقلبت سحنتها في الحال، وركب الفزع على كتفيها، فقامت تعتدل متحاملة على نفسها وألم أسفل بطنها، هرعت إليها جدتي فأسندتها وعاونتها القابلة، أرادت أن تتفحص وليدها، فكت طيات اللفائف من حوله فانفطر باكيًا، عينتْ عيناها بذعر على وجهه الذي كان يشهق ويزفر من ثقبين فوق فمه، ربتت جدتي على ظهرها مواسية، بينما القابلة قالت معزية:
"هي مشيئة الرب."
وأردفت مساعدتها ناصحة:
"عليكِ أن تلقميه صدرك حتى يتعرف عليكِ."
شجعتها جدتي بنظرة حزينة، حاولت رفعه إلى صدرها، إلا أنه كان طريًا ينثني، أسرعت جدتي فوضعت كفيها: واحد تحت رأسه والآخر تحت فخذيه، بينما كانت كفا أمي متجمدين من تحته كأنهما من حجارة، نظرت أمي إلى جدتي مرتابة، فلم تقل جدتي سوى:
"هذه خَلق الرب!"
فلم تعقب، ووضعته في حجرها وألقمته صدرها، وبينما كان يمتص من صدرها بنهم كانت هي تتفحصه بعناية، كلما عاينته ارتعشت واجهشت بالبكاء، بكت جدتي وبكيت أنا على بكائهما، ودفنت عيناي بين ركبتي ولم أنبس.
لا أذكر ما الذي حدث بعد ذلك، إذ وجدتني بفراشي في الصباح، فعرفت أن النوم قد اختطفني فجائيًا بالأمس كعادته معي فحملني أبي إلى فراشي بعدما عاد مع وفد من سادة المدينة لتهنئة ملك غسان الجديد كبير أولاد جفنة( )، لم أرَ وقع رؤيته لحالة أخي الوليد، لكنني توقعته.
قمت أفرك عيناي متثائبة، ثم خرجت من حجرتي التي كان لا باب لها، دنوت من حجرة أمي فوجدت بابها مفتوحًا فدخلت، كانت جالسة بفراشها على الأرض كما كانت عندما أخذني النوم بالأمس، وأبي كان مضجعًا على أريكة خشبية مفروشة بصوف الغنم، عليها وسادة حشوها من فضلات القباطي( ) التي كان قد تحصل عليها في رحلته الأخيرة، جلستُ إلى جواره فنظرا إلى بعضهما وبدا أنني قطعت عليهما شيئًا ما، نبهني أبي إلى أن أذهب فأغتسل ثم أعود لأفطر معه، فقمت ودهنت وجهي بالماء وعدت إليه، كانت بيني وبين الماء مشاكل لم أستطع حلها ولم تستطع هي، ولما عدت شعرت أن حضوري قد قطع حديثًا خاصًا بينهما كانت قد تراصت كلماته على شفتيهما فتوقفت بمجيئي.

شموس بنت سعد بن الحارث الغساني الأزدي
وشيطاني يغمغم بفحيح "رديه إلى جوفك أقرب، أم إن جــوف الأرض له أنسب!"

تغيرت الحياة منذ جلبت إليها ولدي الأخير، بدأت بكدر وأسى ثم تسللت إليها الطمأنينة رويدًا رويدًا، ثم ما لبثت أن تبدلت إلى عزة ومنعة، آلت إلى بحبوبة ورغد وسلطة، لكنني لم أشهد منها غير القليل.
أذكر يوم أفقت من المخاض مدهوشة، أرتني أمي وليدي، فدهستني الدهشة، ولازمتني شهورًا تتمازج والخوف حينًا وحينًا تتمازج بها تنبيهات أبواق الفقد.
طالعته، كان بحال تعف العين عن مطالعته، أنت تعرف ذلك، كان له وجه مستدير بصدغين منتفخين، وجبهة عريضة يحدها من الأسفل حاجبان كثيفان متصلان يبرزان كأنهما مظلتان تظللان العينين الواسعتين السوداوين، وفمه صغير كحبة العنب تحدده ذقن له ثغرة غائرة، فوق رأسه شعيرات قصيرات خشنة متفرقة، وعلى جنبي وجهه قفتان صغيرتان إن لم يكن يسمع بهما فهذه مصيبة عظيمة، كان المولود غريبًا، أنفه كان من أغرب ما رأيت، هذا إذا ما أطلقنا على الثقبين الصغيرين اللذين بين صدغيه وفوق فمه أنفًا، كان صدغيه متصلين لا يفصلهما عظمة الأنف ولا نتوءه البارز المعهود في جميع وجوه البشر، ثقبين صغيرين يشهقان ويزفران، كما أنه لم يكن يمتلك عظامًا في جسده، لا عظام بالكتفين، ولا بالذراعين ولا الصدر ولا قفص عظمي بصدره يحمي ما يحويه، كنت أكاد رؤية جلده الرقيق يشف من تحته زرقة أعضاءه الداخلية، خلقه الرب على غير خلقة ولد آدم جميعًا، لم يكن له عظم سوى في وجهه ورأسه، ولا يتحرك منه عضو سوى رأسه وعيناه وفمه، ساكن سكون الجماد، مبسوط بسطة الثوب بلا مرتدٍ، مسطوح انسطاح فراش بلا مُفترش، كانت قد انهالت على رأسي ضربات الهم تقرعني، ولم تجد محاولات أمي والقابلة تخفيفها عليّ، إلا أن رأسي كان يصرخ فيّ " أنجبت ولدًا من أهل الأعذار! " وشيطاني يغمغم بفحيح " رديه إلى جوفك أقرب، أم أن جوف الأرض أحن وأنسب!"
****
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.