Darebhar

شارك على مواقع التواصل

"لا تحدّق في الرسمة"


على بُعْد رُبع ميل من سور المدينة الرئيسي ذي البوابة الضخمة التي تتناسب مع بالغة الأسوار ناطحة السحاب، كانت الأمطار تنهمر وكأن السماء لن تفتح أبوابها إلّا بعد ألفين عام، وعليه قررت أن تدفع بما عندها من مخزونٍ، رُميت الرعود واختفى صياح الديوك، في مثل هذه الأوقات تُطفأ أنوار المدينة، بسبب تسرُب المياه إلى ثغرات المصابيح النارية بالأزقة، تهتز الشُرف بل تظُن للوهلة بأنَّها ستنخلع من مكانها، لم يكُن نفرًا في المدينة خارج بيته.
السّاعة تدُّق الثانية بعد مُنتصف العتمة، جسر "الصبار" الذي عادةً ما يكُن مُزدحمًا، كان فارغًا والمطر وحده مؤنسه، كان الأزواج لا يزالون مستيقظين على فراشهم، أكل الحزن كل شيءٍ يمتلكونه، حتى القلوب نهشها كالكلب.
يُحاوط مدينتهم متوسطة الطول والعرض من خارج حصونها جبلان من الصخر، يطلقون عليهما: "جبلا الياقوت"، وهذا لأن هيئة الجبلين وكأنهما ياقوتٌ أحمر شديد التوّهج، ولأن صخورَهما تُباع من أجل صناعة التُحف.
كان "إلياس" يجلس برفقة زوجته "قمرة"، في منزلهما ذو الطابق الواحد، والمطر المُتساقط فوق سقفهم المُعرش بالخشب والحصى، كأنه قذائف. السقف الذي يسمح للمياه وضوء الشمس أن يدخلان من فتحاته الضيقة، نور الشمع المُشتعل ينعكس على وجوههما المُكفهرة، كانت "قمرة" تحتضن لحافها القطني، بينما هو كان جالسًا على كرسيهِ الخشبي الواقع أمام المدفأة.
فسألته بصوتٍ متماشيًا مع حالتها النفسية:
- إنَّها ليالٍ عصيبة يا "إلياس" ولكنها لن تدُم، أليس كذلك؟
خطف برهة من الصمت لصالحه ثم أجابها:
- لا تقلقي يا "قمرة"، لا يدوم أيّ حال مهما كان.
ظلا صامتين حتى غلبهما النعاس، احتضنت وسادتها بعد أن ضمّت ركبتيها إلى صدرها، ولأنَّها نحيفة فكان ذلك أمرًا سهلًا.
كان قبل أن يرقد بجانبها قد وضع لثمته على خديها، وربت على كتفها برفق، وجهها الأبيض لم يعُد كذلك بعد أن احتله الأسى والكرب، فالإنسان صلبته مرهونة بقلبه، رغم ضيق اتساع سريرهما إلّا إنه أصرَّ أن يضمّها من ظهرها إلى صدرهِ إبان نومهما.
*****

(ظهور الرسومات)
وسط دار أكبر قليلًا من مأوى "إلياس" و"قمرة"، مُزود بالقليل من الأثاث زيادةً عنه فقط، أيقظته زوجته في عجلةٍ في أمرها، وبجسدٍ يرتجف، فتحَ عينيه بصعوبةٍ ليجدها واقفةً أمامه وفي يديها ورقتان كبيرتان، سُمكهما متينٌ ومحتوى الورقتان، رسمتان!
- "ما هذا"؟
سألها بتعجب وقلة صبر نتيجة ما يحمله في حيزوميهِ من حسرة.
لم تجد هي جوابًا منطقيًا أو مُريحًا لتُجيبه، فقالت مستنكرةً:
- لو كنت أعرف ما هذا، فلماذا أيقظتك؟ لأتأمل جمالك؟
سكت ثم فهم متأخرًا أن الضغوطات التي مرا بها أثرت عليها، ولأن الطرفان مشحونان بالغضب، فقرر هو أن يتنازل في النهاية ويصمُت ليمضي الموقف.
ثم أخذ منها الورقتين ينظر فيهما، كانت أول ورقةٍ بها صندوق وبهِ ثلاث خانات، والخانة التي على ميسرة الورقة بها شخص ملامحه مجهولة ولا يبدو مألوفًا لأيٍّ منهما، والخانة التي بجانبها في وسط الورقة ملامحه دارجة جدًّا.
- ما هذا؟ يبدو أن هذه الرسمة رُسمت ليَّ، هذا أنا.
كان عقله يُجيب ما يعجز هو عن تفسيره، بالفعل ملامح المرسوم تشير إلى "حيان"، وفي المربع الأخير توجد خانة فارغةٌ بلون الورقة الباهت، جذب منها الورقة الثانية، ليجدها نفس المربعات وهذه المرة كانت الملامح منسوبة إلى سيدةٍ مصيرها كمصير المرسوم في ورقة "حيان"، والخانة التالية مُقتبسة بدقة من وجه "لويزة" زوجته.
كان الصباح قد وفد، وبعد وقتٍ من التساؤلات بينهما، سألها "حيان" قصير القامة:
- تأكدتِ أن الباب كان موصدًا بإحكام؟
نفخت مُجيبة:
- أقسم لِك لم يُفتح الباب منذ أن أغلقته أنا البارحة، حتى القفل أنا واثقة تمام اليقين أنني أغلقته بهذا الشكل.

- إذًا من أين أتت هذه الرسومات؟ ومَن رسمنا؟ ولمَن تنتمي هذه الملامح؟
هزت رأسها لا تدري شيئًا، ثم نهضت متحملةً أوجاع الولادة المُهدرة هباءً لتحضر الفطور، كانت تسعى إلى تجاهل أي سؤالٍ مُخيف يكمن بداخلها، فهي لم تعد تطيق أي صدمة جديدة. بنايتهما رغم أنها مكونة من طابقين، لكن الطابق العلوي كان مهجورًا ولا يوجد فيه إلّا أثاثٌ محترق، لا يعرفان من أين جاء ومِلك مَن، وكلما حاولا فتح هذا الطابق، شعرا بأن ثمَّة ثُقلٍ وكأنه قطعةٌ من جبل "الياقوت" قد وضعها أحدهم فوق جسديهما، وبعد يأسهما منه قد نسيا أنه موجودٌ أصلًا.
لكن "حيان" من الواضح أنه أعاد التفكير فيه ثانيةً بعد ظهور الورقتين، كانت قد أحضرت الفطور الذي عادةً لا تخلو الطاولة فيه من كوبيْ اللبن، والخبز المملح مع الكثير من الجبن، لم يمدا أيديهما إلى الصحون بعد، جاءت "لويزة" لتحتسي اللبن، فأنزلت القدح فجأة حتى أن محتواه تدفق خارجه، بعد أن تحسس "حيان" نقشًا أسفل رسمةِ المجهولين، واتضح له أنه رقم، قال بعد تمعن النظر فيه:
- إنه رقم (ثمانية وأربعون).
- وماذا يعني ذلك؟ عنوان منزله؟!
نسيَ الأمر، ونظر لها يريد أن يلكم وجهه عشرات اللكمات من غبائها أو غبائهما معًا، فقال بعد تأني:
- لا أفهم أيّ شيء تمامًا، ولكنني أخشى أشياء كثيرة!
*****

وقف أمام دياره يطقطق أصابعه بحيرةٍ وتوجُّس، والورقتان في جيب سرواله مُحتفظًا بهما لخوفه أن يكونان سحرًا أو مكيدة أو حتى أحدًا يمزح معهما بسخافة، كانت المدينة خالية، والوحل المُتشكل إثر الأمس يملأ الأرجاء، والسماء مُكتظة بالغيوم ولا وجود للشَّمس. لمح واحدًا من سُكان المدينة قادمًا يقفز فوق الطين، لاحظ أن بحوزته نفس الورقتين! فهرول إليه قبل مجيئه، فقال الرَّجُل:
- "إلياس"، طاب صباحك.
كان "إلياس" يَطّلع إلى الورق بصمتٍ إلى حين قال الرَّجل:
- هذه الأوراق وجدتُها مُعلقةً على الجدران، ولا أعرف ما هي أو بما توحي، لكن هذه ملامحي وملامح زوجتي!
مدّ "إلياس" يده وأخذ الورقتين وفي نيته يتضرع ألَّا تكُن شبيهةً للتي معه، ولكن صدمته أنهما لا يختلفان ولو حتى في لون الحبر، جعلته يتيقن أن اللغز ليس دُعابة مُضحكة.
تركه ورجع فورًا إلى مقرهما يمشي سريعًا في الطين حتى اتسخ سرواله وقدماه، والرجل بقيَ مكانه يصيح فيه أن يعود ليفهم منه ما يحدث، وكان آخر نداءٍ مسموعٍ للشاب هو عندما أغلق "إلياس" بابه مختبئًا من أن تظهر الكثير من هذه الرسومات، وتتفاقم الكارثة بعد الشّك الذي عشش وليجته كعش الغربان، وهو أن يكُن العجوز الأصم وكلبه يريدان الانتقام من المدينة ومَن فيها، بسبب الأسطورة التي حُكيت عنه وعن رفيقه "ديجور" منذ شهرٍ تقريبًا.
*****
نهض من فراشه وزوجته تترقب مَن الطارق، فتح بابه ليجده جاره الحميم "زهير" وحليلته "ونّاسة"، قبل أن يجلسا عرف "حيان" من وجوههما أنهما في مصيبةٍ مثلهما. كانا صامتين وكأن "ديجور" أكل لسانهما قبل قدومهما، فاتبعَ "حيان" و"لويزة" سُنة جيرانهما المُقربين في السكون.
بعد ذلك أخرج "زهير" من أسفل عباءته المُستهلكة التي قد ضعفت خيوطها، نفس الورقتين وأعطاهما إلى "حيان" الذي ابتلع ريقه قبل تناولهما منه، الرسومات هي نفسها مع اختلاف لمَن تُنسب، أمَّا الورق فلا يميزه شيءٌ عن أوراقهما!
*****
بحلول الغسق كان كل شيءٍ قد تعقد أكثر بعد معرفة أن المائة نفْسٍ التي تسكن المدينة، قد وصلت إليهم الرسومات نفسها باختلاف تفاصيل الوجوه، وكل الرسومات لا تتخلى عن الأرقام، التي كانت تتراوح بين (الثلاثين، والخمس وثلاثين، والأربعين) وزيادةً على الأربعين ثلاثة، ويزيدون خمس كحدٍ أقصى، وثمَّة أرقامٌ أبى أصحاب الرسمة البوح بها خوفًا أن تكون تعويذةً تلعنهم أو شيئًا لا يجب الإفصاح عنه، كُلٌ منهم انزوى بين الأربعة جدران، ولم ترَ المدينة منذ الأمس - ليلة انهمار الأمطار- العمل في أيّ مجال.
على ضوء شمعتهما التي قد أوشكت على النفاد، كانا يجلسان على أرضية مسكنهما وجهًا مقابل وجهٍ، وضع يديه ومررها على وجهها يُطمئنها، ثم قال باسمًا:
- عندما رأيتُكِ أول مرة، كنتِ تقفين عند الجسر وحدكِ، تتأملين "الصبار" رغم أن جميع المتواجدين وقتها كانوا ينظرون إلى "الورد" على الناحية الأخرى، وعندما سألتك لِمَ الصبار دون الورد، هل تتذكرين ماذا قلتِ؟
تنهدت ثم أجابته متبادلةً نفس ابتسامته:
- "الوردُ" يعني العُمر، والعُمر من الجمال، ولا يوجد شيءٌ جميلٌ يستمر.
عانقته بعد أن ذرفت عيناه الدمع، لم يكُن خائفًا على نفسِهِ بقدر قلقه عليها. وجود الرسومات سبب له هاجسًا لا محيص منه، دائمًا يشعر أن جسده لا يحمل شخصًا واحدًا بداخله، بل أشخاصًا كثيرين.
نهضت بتوجعٍ قوي ثم ارتمت على الفراش، تبعثر شعرها على وسادتها، ملامحها رقيقة كالبنت التي رافقت شقيقها الذكر منذ أربعة أيامٍ ورحلا، كأنَّها نحت، وصانعه أتقن كل ما فيه لتظهر لنا "قمرة".
صاحبة الملامح الصغيرة أنفًا وفمًا، وعينان واسعتان خضراوان، لا تعرف لهما سنًّا، كحال جميع سكان المدينة، لا يعرفون أعمارهم الحقيقية، ولكنهم متأكدون أنهم لم يتجاوزوا الخمسين أو الستين بعد.
أمَّا عنه فهذا هو النّجار العبقري، مهنته لا يعملها أحدٌ في المدينة سواه، شعره المُسدل على كتفيه، وقامته كالشجر، عيناه السوداوان كقطعةٍ مأخوذةٍ من كهفٍ مظلم، ولونه الذي لا يفرق عن بشرة بعلته كثيرًا، ذو ملامحٍ طيبة، أحيانًا تنجذب أعيُن نساء المدن الأخرى تجاهه، عندما يذهب لصناعة أيّ عملٍ له بهِ صلة.
نهض هو الآخر ونفخ في شمعتهما اليتيمة مثلهما، ورقد بجانبها مُمسكًا بيديها وهي تعطي ظهرها له، قالت هامسة:
- أحبّك أكثر من عمري يا "إلياس".
وضع لثمته على شعرها من قذالِها وبادلها الشعور:
- رغم أنني من ساكني منازل "الفقراء"، لكن الآن فهمت حكمة السماء، فأنتِ الإيوان والمكانة التي لم أكُن يومًا سأصل إليهما مهما بلغت نقودي، أحبّك أنا أيضًا.
فالتفتت له لتُقبل شفتيه الصغيرتين، ليُبادلها هو بأقوى منها، ويترك ذراعيه يلتفان في حُضنها كغرقِ مَن يئس من الحياة.
*****

(مرور أول يومٍ بسلام من بعد ظهور الرسومات)
(يوم جديد، الواحدة ودقيقتان بعد منتصف اللّيل)
في صباح اليوم الذي سبق هذا قد بدأ عملهما من جديد، المدينة كانت ترحب بالجميع لعقد المصالح المشتركة مع المدن المجاورة وللشراء والبيع، وصار اليوم عاديًا. العربات التي تسحبها الخيول قد عطلها الطين الذي أبى أن يجف إلى هذا الوقت، ولكن بشتى الطرائق كان السُكان يُجاهدون لسير عجلة الرزق بانتظام، البعض من المدن قدموا التعازي في حادثة موت الأطفال والذين أطلقوا عليها: "لعنة التوأم"، بسبب الصدفة التي لم تحدث ولم يسمع عنها أحدٌ قطّ، حتى أن شابًا من سكان المدينة قد سمع تاجرين من مدينةٍ قريبةٍ من مقر معيشتهم كانوا يتناقشان في ذلك الأمر، عندما كان ذاهبًا إلى دُكانه لشراء بعض المستلزمات، سمع واحدًا يحكي مع الآخر:
- كيف لمائة فردٍ أن يُرزق كلٌ منهما بتوأمٍ؟ ومن الذُرية التي تجعل الحياة مستمرة! وفي الوقت عينه يموت أكثر من مائة مولودٍ في خطفة عين؟
اقترب من السائل وأجابه:
- أبي أخبرني أن تلك المدينة تُعد أغرب بقعةٍ موجودة على الأرض، قال ليّ إنَّها مدينة ملعونة.
فلم يُعقب المُتصنت على أيٍّ من الأكاذيب التي قيلت عن مدينتهم وعنهم، بالعكس تركهما يتحاكيان ويقولان ما يشاءان من الأساطير، ولأنه يعلم أن كل كذبةٍ حجر أساسها هو الصدق، فأنكر وجود الحجر.
*****

(قبل غروب اليوم الذي سبق هذا)
ولأن أرضية المدينة من بداية بوابتها وحتى نهاية أسوارها التي تُحاوطها من الحجارة شديدة الصلابة، فهذا يجعل شكل المدينة وقت غروب الشَّمس عنها كاللوحة، برغم ارتفاع حصونها، لكن منازلها لا تتخطى الثلاثة طوابق، وواحدٌ فقط مَن يمتلك هذا المنزل، مالك مخزن (تصنيع البارود)، الذي يورد لمَن يريدون الاستيلاء على حقوق غيرهم تحت تهديد النيران، أتذكر أنني سمعت ذات مرةٍ صاحب هذا المخزن يقول:
- "لو خيروني بين الموت جوعًا وبين أخذ قطعة بارودٍ مجانيةٍ من مصنعيّ، سأختار أن أموتُ جوعًا أفضل ليّ".
وهناك أقاويل عديدة تشير إلى أن "زهير" هو المساعد الأول لسيد هذا المصنع، ولكنه يماطل وينكر دومًا، والعداوة التي يحملها "زهير" لـ "إلياس" كافيةٌ لأن يدفنه حيًّا، وتلك الكراهية نشأت منذ وقتٍ ليس بكبير، بالتأكيد سأروي سببها قريبًا.
كان الجسر في هذا التوقيت ممتلئًا بمَن أهلكتهم أشغال سّاعات اليوم الطويلة، وتضرعوا للإله لأخذ راحةٍ قصيرة فوق الجسر، توجد على يسار هذا الجسر مساحة شاسعة من الصبار لا حصر لها، وعلى اليمين القليل من الورد، وتفصل بينهما أعمدة الجسر التي هي أساسه من أسفل، ولتصعد على ممشى الجسر عليك أن تتخطى خمس درجات صخرية كانت في الأصل منهوبةً من صخور الجبلين المجاورين لمدينتهم، وفي نهاية الجسر الذي قد يبلغ طوله حوالي تسعين خطوةً لتصل إلى البوابة الضخمة، التقطت عيني وأنا أتجول على القنطرة "حيان" وزوجته "لويزة" يتشاجران بصوتٍ لا يسمعه سواهما والقريبون من وقفتهما، جميع الأرواح التي تعيش هنا قد تعودوا على مُشاجراته هو والمجنونة "لويزة"، ففي بداية خلافاتهما كان المُصلحون بينهما يلقون الملامة على "حيان"، أمَّا الآن فأصبح بعضنا يصلي للإله أن يرحمه منها ويصبره عليها.
ولأن "حيان" أقصر طولًا منها، ووزنه سمين ونصف رأسه فارغٌ من الشعر تمامًا والنصف الآخر يعتريه الغيرة ويريد أن يصبح كشقيقه، فهي تعتبره مسخوط جاء الدنيا ليُسليها، رغم حبّها الشديد له. فهي تعد من النساء الجميلات عندنا، حيث أنَّها تستحوذ على مفاتن ذهبية – في أعيُن الكثير من الرَّجال، عيناها الساحرة وطولها الفارع كنخلة تطرح صيفًا وشتاءً.
لكنهما -والحق يُقال- العلاقة التي وإن كنتُ مهمومًا أرغب في مجالستهما لأضحك من مُشاجراتهما الدائمة.

(اليوم الجديد، الواحدة ودقيقتان بعد منتصف اللّيل)
هدأت الرياح، النيران في الفوانيس المُعلقة فوق الأعمدة الحديدية في الطرقات الضيقة، بين المنازل والساحة العامة، كانت متلألئةً رغم وجود القمر كامل التمام.
هناك مَن وضع أحلامه أسفل وسادته عساه يُحققها مع الشروق، ومنهم مَن رمى بها في المرحاض لعدم قيمتها أو ضجره من بلوغها.
والقليل كان جسد قرينته الأغنى والأجود في ليلةٍ عبوسةٍ، والباقون بالكامل نيام هروبًا من قسوة الحياة معهم، غريب هو اللّيل يُجرد أُناسًا من ملابسهم بإرادتهم، وآخرون يُمزق لهُم ذكراهم ويُبعثرها، التي لطالما سعوا إلى ترتيبها ونفيها إلى اللا مآب.

كان "إلياس" عائدًا من مدينة "ميناء البرتقال" التي يجلب منها تموين مسكنهما بالكامل.
مدينةٌ تبتعد عنهم كثيرًا صحيح، ولكنها أرخص ثمنًا من الشراء هنا، ربما لا ندرج "ميناء البرتقال" على أنَّها مدينة، فهي سوقٌ كبير للخضروات ولكل شيء خُصص للبطن بشكلٍ عام.
ينتظر "إلياس" نهاية الشهر وبداية آخر ليذهب إلى هناك. وكأنه لصًا مُتسللًا، حتى لا يبغضوه البائعون في أرضه لعدم الشرى منهم، وأيضًا لأن مَن يُتاجرون في الطعام في مدينة "الياقوت" قلائل جدًّا ولا يأتوا ببضائع جديدة إلّا في اليوم الخامس أو السادس من كل شهر، لأن أغلبية الدكاكين في مدينة "الياقوت" للأقمشة والخياطة والحدادة وغيرها من التجارة.
دخل حاملًا على منكبيه حقيبةً جلديةً كبيرةً تصل إلى ما فوق كعوب القدمين بالقليل، كانت مُخصصةً لذاك الأمر فقط، كان يحمل بين يديه بعض الخشب كتمويه أنه كان في الأصل قد ذهب للعمل في الخارج.
ولأن بوابة هذه المدينة لا تُغلق نهائيًا لا نهارًا ولا أخاه الأسود، درفتان ثقيلتان جدًّا يحتاجان إلى خمسون ألف رَّجلٍ ليتمكنوا من إغلاقهما، بالتأكيد هذه مُبالغة ولكن المصراعين نسا أنهما أشقاء بسبب الغياب الطويل وانقطاع اللقاء بينهما.
دخل "إلياس" أرضهم، فشغلته الرائحة التي تحتل أنفه - طبخ شهي مُختلط بشواء اللحم، كان بالقرب من المنزل ذي الثلاثة طوابق.
فتذكر أنه جلب تموينه تقريبًا خاليًا من اللحم الذي لا يعرف عنه إلّا استنشاق رائحته الفواحة عند مبنى أغنى جنسهم، وكان بين أنه عليه الإسراع حتى لا يراه أحدهم ويضطر إلى الوقوف معه، والحقيبة التي على وشك أن تنزلق من فوق منكبيه لثقلها، وبين أن يقف ليأخذ كفايته من الرائحة، فبعض سكان هذه المدينة يشبعون من رائحة اللحم لا من تذوقه، و"إلياس" واحدٌ منهم، إن لم يكُن هو نفسه.
وصل إلى بيته ورائحة حساء الجزر والبصل المطبوخة بأرُجل الدجاج تفوح من داخله، ضحكَ قليلًا مُتعجبًا على الحال، ثم دلف بعد أن وضع الخشب أمام وجهة منزله، ثم بجّل الإله على أن كل شيءٍ صار على ما ينبغي.
تناولا عشاءهما في البدء، ومن ثم قاما ليفرغا الحقيبة من حمولتها، وهنا كانت الأشياء قد بدأت تأخذ سبيل الغرابة ركضًا، بعد التفتيش في الحقيبة وجدا أن من كل نوع طعامٍ جلبه رجل البيت، أصبح أضعاف أضعافه ومتكرر بوفرة، مثلًا تعوَّد على جلب أقماع السكّر، ولا يتخطى عددهم الثمانية، وعندما عدّهم وجدهم خمسة عشر، وهكذا الزبد والملح، وأهم ما في سوق "ميناء البرتقال" بالطبع من الخضروات الطازجة: الباذنجان والبازلاء والبرتقال شديد اللذع اللذيذ، كخمرٍ ظلَّ منقوعًا لسنوات، وغيرهم من مدخراتٍ شهرية، وعند العوز تتوفر المدخرات قليلًا، وعند الشك أنَّها ستفسد وإن حتى عفنت، ففي الحالتان المعدة تخضع.
وبعد عراكٍ نشب بين "إلياس" وذاكرته، كان هو على حق بأنه لم يأتِ بكل هذه الكميات، ومن ثم حسب نقوده ليجدها كما أخذها وما هو متفق عليه بينه وبين "قمرة".
فقالت هي مُخمنة:
- جائز أن البائع دمج بين طلبك وطلب غيرك!
- لم أذهب لبائعٍ واحدٍ، بل لتسعٍ تقريبًا، هُم مَن أتردد عليهم باستمرار، هل جميعهم أخطأوا؟
- ليس منطقيًا فعلًا وقولًا.
ولكن بعد وقتٍ من التذكر بالحرف والرقم، تأكد أنه لم يُخطئ أبدًا وأن كل شيءٍ أتى به المفترض أن يكون صحيحًا، فاتفق معها أنه قبل الشروق سيتبع طريق الرجوع لتصحيح كل شيءٍ مع البائعين.
وأثناء حديثهما عن يومه الطويل قبل أن تهوّن عليه هي مرارة الشقاء برقصةٍ ساخنة تخلع فيها ثيابها قطعةً بصحبة قطعة، وعندما تصل شهوته إلى الكمال ينقض عليها كثعبان خرج من جحره نحو وجبته السريعة، ولكن بغتةً انتفضت أجسادهما على حدوث صوتٍ ضخم وكأن مخزن "البارود" قد اشتعل.
هرول ورفض أن تتبع خُطاه للخارج، وفي أثناء ما كان هرعًا للخارج رأى جميع رجال المدينة النائمون منهم والمُستيقظون، يُسارعون لمعرفة سبب الصوت المُرعب.
لو رآهم صقرٌ من أعلى وهم ينتشرون في المدينة لَتوهّم أن هذه الجماعات تنطلق نحو الشجار، لم يجدوا آثارًا لحريقٍ، بل اتضح أن بوابتهم الضخمة قد أُغلقت وهذا هو سبب الضجيج! ينظرون لبعضهم وهم يلهثون متحيرون مما حدث، وكيف أُغلقت؟ ومَن استطاع أن يفعل ما عجزنا عنه مرارًا؟
أسئلة قد نطقت بها الأفواه، والمُجيب عليها هو فاعلها، وأين فاعلها؟
اقترح عليهم فردٌ وانضم لصوته آخرون أن يبقوا منتبهين لعل سارقين بالقربِ ويريدون نهب بضائعهم، وبالفعل وافق الجميع أن يحموا منازلهم ويراقبون كل خطوة.
*****
(مرت ساعتان)
كان الوضع آمنًا وبعض الرَّجال قد نسوا أنهم في العراء وفرشوا على الأرض الأقمشة وناموا، حتى اللحظة التي بدأ فيها قص شريطة الافتتاح لكابوسٍ لا منتهى منه. سقطت من أعلى شرفتها كالمُشكل من الجص على أرضية المدينة الجامدة، لتنفلق رأسها إلى أعضاءٍ صغيرة حجمها كحجم العنب الناضج، والدماء وحدها مَن تتراقص في الأعيُن. حاولنا أن نقترب من الجثة بحذرٍ، وبالفعل انحنت الظُهور إليها ليتبين أنَّها سيدة، عارية تمامًا كالمُصلبون في بلادٍ تنبذهم. وعلى جسدها كلماتٌ غريبة وغير مفهومة، ولكن من ضمنها والذي استطاع البعض قراءته:
- "حان وقت الاحتفال والعودة".
كان مكتوبًا على صدرها المُمتلئ كلمتان: "أريد الروح"، وأشك أننا لو ظللنا وقتًا إضافيًا سنستخرج العديد من هذه الألغاز والكلمات.
جرى إلينا زوجها الذي قال:
- "كنتُ بالمرحاض ولم أعِ أي شيءٍ حدث لها".
ومن ثم انتحب كالنساء وهو يحتضن جسدها الفارغ من الحركة، بعد أن كسيناها بورق القمامة.
بعد أن رفعوا الجثة من مكانها ومُسحت الدماء، وجد رجلٌ بين قطع دماغها المُنتشرة على الأرض ورقةً، هي نفسها الورقة التي استيقظنا على وجودها منذ أيامٍ قليلةٍ مضت، إنَّها صحيفة الرسومات!
*****

كانت مقابرنا في أقصى المدينة، مُبتعدة عن الأنوف بمدىً معقول حتى لا نشمّ نتانة الجُثث، رغم أنَّها أول جثةٍ لشخصٍ بالغٍ ندفنها بعد دفننا لأبنائنا، والذين هُم أول مَن زاروا الفتحات الأرضية الضيقة في عصرنا الحالي.
كانت المدافن حولها الكثير من الأشجار العالية ولا نعرف مَن زرعها مثلما لا نعرف مَن لقح رِحم أُمهاتنا وأين الآباء أصحاب هذا الإنجاز المُلوث كضمائرنا؟ هل تظن يا أبي أو أيًّا كان مَن تعاركت حيواناته بداخل أحشاء أمي أن الحياة كانت مُناسبةً لمجيئنا؟ كمْ أنت غبيٌ مثلي وككل المتواجدين في ذلك الخراب القائم أسفل مسمى: "مدينة الياقوت".
سترنا السيدة بالتراب مع بداية شروق شمسٍ جديدة، ورغم أن النعاس قد داهم عقولنا وغمّر أجسادنا بالكسل، لكن كان أمر البوابة وإغلاقها يقلقنا زيادةً عن اللازم، القلق عدوٌ خبيثٌ.
التففنا حول المقبرة التي لا تتخطى مساحتها المترين عرضًا والثلاثة طولًا، يصل عدد مقابرنا إلى مائة مقبرة، لكن مقبرة أثرى من بينا فهي الأجمل، حيث أن لوح تعريفها قد نُقش بالذَّهب، أحيانًا أرى بعض الفقراء الذين في المدن الأخرى أو حتى جيراننا يحسدون الميت الذي ستتوارى جثته فيها، فأضحك حد الثمالة.
عُدنا لحل أمر البوابة التي أغلقها الجان، هكذا قال بعضنا، وكنت لا أرغب في تنقُل هذه الجملة المزعومة على الجان، عفريت مَن الغبي هذا الذي سيغلق بوابة لم تُغلق منذ أن فتحنا أعيُننا على الدُنيا؟ وإن كان كلامهم ثقة، فأقسم أنني سأهبه ما يشتهي وإن كنت سأقترض من الشّحاذين مقابل أن يغلقها كل ليلةٍ ويفتحها لنا في الصباح.
حتى أن "حيان" قد تدخل في هذه الأضحوكة وقال ساخرًا مُحدثًا الهواء بصوتٍ مُرتفع:
- كرمٌ زائد حقًّا أيُّها العفريت القوي، ألديك خلطة جيّدة للجنس؟
*****
(غرُبت الشمس)
جميع الرَّجال الذين واجهوا هذه المأساة ليلة أمس وصباح هذا اليوم ارتموا على الأسرة كطوبٍ مُتساقطٍ من جبلٍ يتصدع، ولم يبالوا شيئًا، ولو حتى أيقظتهم لتوزع عليهم مالًا، فلن ينهضوا.
فقد كانت ليلةً مُهلِكة على الكل بلا استثناء، لم تُغلق الجفون فيها، وحتى الحلوق لم تبتل بالمياه واللبن إلّا بعد وقتٍ طويل من العطش.
ولكنني لا أظن أن الليلة الفائتة لا يلتصق بذيلها ليالٍ أشدُّ سوادًا منها وأكثر رُّعبًا. يا إلهي اجعله تخمينًا خائبَا من عبدٍ أبله لا يفقه في التنجيم شيئًا.
أصبحت النساء تتولى أمر الحراسة! وأصحاب الشوارب والأعضاء المُنتصبة يختبئون أسفل الأغطية، ولا يدركون إذا كانوا على الأرض أو ما بين النجوم والكواكب.
ولكن النساء وحدهُن لا يفلحن في تأمين أو مراقبة مدينة أو حتى منضدة مرصوصة بالمساخيط الخشبية كأقارب "حيان".
ولكن بعد أن دقت العاشرة وخمس دقائق من مساء هذه الليلة، لم يصبر أحدٌ أكثر من ذلك على الفراش، وأصبحوا يوقظون بعضهم البعض ليروا ماذا هُم بفاعلين بشأن فتح البوابة، لكي يباشروا الأشغال من جديد، لأن اليوم الواحد العاطل، يُعرضهم للخسارة كَلَيْلَةِ الأمطار الغزيرة. فتجمعوا أمام البوابة يتطلعون إليها بملل، ينفخون وهم ينظرون إلى تلك العملاقة المُلونة بالأبيض المتقشر والتي قد مسحت الأيام من لونها ما يكفي لتجعلها بهذه الحالة المُزرية.
قال أحدنا كعادة الفلاسفة في مدينتنا: "نأتي بالسلاسل الحديدية ونفتح البوابة شدًّا للخلف".
ولاقى الاستحسان ونال الإشادة رغم أنهم لم يفكروا في ذلك نهائيًا وقت أن كانت مشرعة والكلاب المتجولة لا تجد إقامة سعيدة إلّا لدينا. ومَن الذي يرفض مأوى بالمجانٍ في مدينةٍ لا باب لها؟ حتى سمحنا للكلاب بدخولها للنوم والعربدة، وعند المزاج الصافٍ تُخيف نساءنا وتنبح مُتحدية "ديجور"، الحيوان الذي يُطْلِق عليه "حيان": "الكلب الذي أنحف من عِظام مفصلي".
ونحنُ المُتضررون من هذا النباح في النهاية.
عقدوا السلاسل في حلقات الدرفتين وبدأنا نجذبها للخلف حتى استمرينا ساعةً كاملة في الصقيع بلا جدوى، لم ننل إلّا وجع أيدينا بسبب الحديد الغليظ رغم أننا وقفنا وراء بعضنا، ومجموعة تولت أمر درفة وأخرى غيرها ولكن لم تنجح المُحاولات لفتحها، وقلنا لو استمر الحال هكذا حتى الصباح، سيقفز واحدٌ من فوق الأسوار ويُبلِغ المدن أن يغيثونا لفتح البوابة، وكل هذا لن يتم بأناةِ بال سوى بعد التحقيق في مقتل السيدة وإيجاد قولٍ يُريحني أنا شخصيًا بشأن الرسومات ووجودها وقت الحادثة.
*****

وقف "إلياس" مع "قمرة" قبالة دارهما مثلما فعل عامة المدينة، يتحاكيان ببالغ الأسى ومضاعفه الخوف، بعين تمثال منفوث فيه سم الغيرة كان يتمعن فيهما "زهير".
قالت هي في اجتهادٍ منها لمسح غبار الاضطراب من داخلها:
- يمكن أن تكون هذه السيدة قد سقطت وهي قُرب الشرفة؟ يمكن هذا؟!
كان يعلم خوفها عن كثب، فأجاب بأكاذيبٍ خفية:
- لستِ في حاجة لأجوبة، هذا بالفعل ولا غير ذلك هو سبب موتها.
- وشأن الرسومات التي عثرتم عليها بين بقايا رأسها؟
تلعثم قائلًا:
- رسومات! يا قمرة عليكِ التفكير كالأذكياء قليلً، من الممكن أن تكون هذه الورقة قد رمت هي بها قبل أن تقع، فقط صُدفة.
تبسمت له، لكن جوع أسئلتها الجبار لم يُشبعه أجوبة زوجها الشحيحة.
*****

(منزل زهير)
تقابل "حيان" مع صديقه في مسكنه وكانت تسبق أقدامه المخبولة -هكذا يصفها زوجها - "لويزة"، بيت "زهير" مليء بالطعام والشراب وكل ما هو فاخرٌ رغم أن وظيفته التي يعرفها الناس هو أنه يمتلك عربةً لنقل الأقمشة للدكاكين ويجرها حمارٌ طويل وعريض المنكبين وأنفه صغير، وفوهه كبير الشفتين، طيلة الوقت وإن كان خارجًا للتنزه لا يرتدي إلّا الثياب التي يمضغها (ديجور) عند تضوره جوعًا ولا يستطع ابتلاعها، دخلا وجلسا قبل أن يأذن لهما أحدٌ، سمج هو "حيان" إلى حد أن الجميع يهج منه، ولم يعد يناقشه أحدٌ أو يلومه على أي أخطاء يقترفها، افتتح "حيان" الكلام بحُزنٍ لا يليق بوجهٍ كلما رأيناه ضحكنا:
- تُرى ماذا حدث لنا؟ غدوت أخاف أن أتبول فيقضم عضوي درص مموَّه.
طأطأ رأسه متأثرًا، بينما نظروا له حتى عقيلته التي خبأت وجهها خجلًا، سأله "زهير" مُهتمًا:
- درص يلتهم إيرك؟ أأنت تمتلك ظُفر رضيعٍ؟
رفع رأسه وتنحنح مُتعتعًا كالسكران:
- تشبيهًا يا زهير، مجرد تشبيه لِمَ يحدث لنا.
هزَّ "زهير" رأسه وفهم مقصده، وظلَّ صديقه من وقتٍ لآخر يراقبه بعينين تودّ رؤية "زهير" مقتنعًا أن حديث "حيان" كان مجرد مجازًا، حتى أحس أن لا فائدة، وذلة لسانه قد فضحته وكشفت حقيقته الجنسية أمامهم.
***** 
(تجاوزنا الليلة دون وقوع أية خسائر جديدة)
(يوم جديد، اليوم الرابع من ظهور الرسومات)
(السابعة وخمس عشرة دقيقة صباحًا)
____

- حاول أن تقفز يا رجل، ماذا تعني بحُجتك: "لا تستطع"؟
كان هذا التعنيف الذي يستحقه مَن كلفناه بصعود السور والقفز من خلاله، ليُبلِغ أيّ مدينة تُساعدنا في التخلُص من مأزق البوابة، لكن الرجل لم يكُن كاذبًا فيما قال وكان ذلك واضحًا من طريقة الحديث عن العِلة التي تمنعه.
فقد قال بتَّهيب:
- "اعطوني خنجرًا لسفك دمائي، وأقسم لكم عليها أن ما أتلفظ به ليس حججًا فارغة، وإن كنتم لا تصدقونني...".
ثم مشى نحو السُلم الخشبي وضرب إحدى درجاته قائلًا بمضض:
- "اصعدوا أنتم وأروني كيف يكون العبور من السلمة الخامسة".

نظرنا لبعضنا ومنَّا الذي استهزئ ولبَّى التحد مُنشدًا لثقته في نفسِهِ، وقد كان، فمَن قَبِل التحدي ووضع قدميه على أولى الدرجات، فبالفعل توقف عند الدرجة التي تسبق الخامسة كما زعم الشاب الثلاثينِي منذ دقائق، وعندما رجع إلى الصفوف كامرأةٍ كسولةٍ على فراش المضاجعة تهامس مع آخرين كانوا رفقته، واحتج أن ينطق بما يحدث تحديدًا عند هذه الدرجة من السُلم، فلم يكترث أحد لأمرهم، فقد عقدَ رَجُلٌ يكره قلة الحيلة حبلًا من الكتان، وثبت فيه خُطافًا حديديًا وكُلما حاول تشبثيه بالسور لم يرتفع الحبل كثيرًا ويرتد إليه ثانيًا.
فذهبتُ للشاب الأول في تجرِبة الصعود لأفهم منه الأمر، فأجابني إجابةً مُقلقة وغريبة:
- "كأن هنالك شخصًا يقف عند تلك الدرجة ويمنعنا من التكملة، أو بتفسيرٍ أقرب، كأن صخرة تزن وزن جبلٍ تُوضع فوق رؤوسنا ومناكبنا".

هذا الرجل لا يختلق وحتى إن كان كذلك، هل الثانِ اتفق معه أن يكرر ما قال؟ هل وكل مَن حاولوا بعدهما ولم يتغلبوا على عقبة الخامسة أيضًا يغشوننا؟ وما جعلني أدرك أن كل ما ينشأ في مدينتنا ليس مُصادفةً:
- "صخرة كالجبل نحملها على أكتافنا وأدمغتنا، والطابق الثان المهجور في مبنى (حيان)".
ألا زلتِ يا حواسي يا ضئيلة الإحساس والدهاء تصرين على أن كل هذا مُصادفة؟ أم حلمًا ولابد من النهوض.
أو ربما هلوسات وجدت نفسها حائرةً ووحيدةً ولم تلبث إلّا في عقلي! لا لا، كل شيءٍ يجري هنا ينذرنا أن نقوم بإعداد المجارف تحسبًا للملمة آثار الهلاك.
*****

كحاملين خيبة هزيمة الحرب كنّا ماكثين عند البوابة، ننتظر الغيث سواء كان سماويًا أو من العباد، لا ندري كمْ خسرنا خلال حبستنا تلك، ولا نعرف مَن سأل عن بضائعنا ومَن طلبنا بالاسم لننجز له حاجةً، كنّا وعند النظر إلى زوج السيدة الساقطة من النافذة ونرى في عينه الحسرة على فراقها وعلى أنه لم يودعها، نستشعر العار والخزي. كل شيءٍ يؤكد مقتل اِمرأةِ النافذة، وليس سقوط خطأٍ أدى إلى تهشم رأسها، هُنا في تلك المدينة بيننا قاتل، هو نفسه الذي رسمنا، وهو وحده يحفظ ملامحنا عن كثب، وكأنه يُعاشر الرجال والنساء في سريرٍ واحدٍ تباعًا.
لكن وقت إتمام الجريمة الشنيعة كان الجميع بالخارج منشغلين بأمر البوابة ولم يكُن سوى الع... العجوز، العجوز الأصم وكلبه الذي اختفى نباحه!
*****


قُمت من مكاني كالذي كان يحلم أنه يسقط من فوق برجٍ وصحا فجأةً، ركضتُ مُناديًا بهتافٍ عالٍ:
- "ابحثوا عن العجوز الأصم".
في بدء ندائي كانوا مُنهمكين في التفكير، ولكن بعد برهة وجدت جيشًا يهرول عقْبي، وصلنا إلى منزله ذي الطابقين، وبابه المُتهالك وعتبته المُلطخة بالقاذورات، والرائحة الخانقة المُنبعثة من الداخل.
- "يبدو أنه مات، ما كل هذا العفن يا عجوز؟".
تلك كانت كلمات بعض الرَّجال وهُم يسدون أنوفهم.
خرج من بيننا واحدٌ ذكائه مُفرطٌ ظلَّ يطرق الباب بعنفٍ وكأنه بهذا الأسلوب حامٍ للأرض والعرض، سحبه "حيان" بعدما قبض على ثيابه من وراء وأرجعه غاضبًا، وقال له بكمدٍ:
- لم أرَ أُناسًا قطّ في مثل خفة عقولكم، جئنا بحرصٍ في مشينا حتى لا يهرب هو، وأنت تدق على بابه وتكشف أمرنا لتمكنه من الفرار.
نظرت له كل الأعين ولم تُعقب الأفواه على ما قاله، حتى حامي الأرض قد سكت، فتعجب "حيان":
- ما بكم؟ سمعنا وهرب؟!

لقد تعبنا من هذا الإنسان أقسم بإلهي، تركناه وحده أو أبعدناه عنا بالقوة وهددناه بعدم التدخل فيما نفعل، ثم حطمنا الباب الخشبي الذي يحكم مأواه، كان الطابق الأسفل ضنين المساحة كمُعظم منازل الفقراء من فئته، كانت الموجودات مطروحة بفوضوية وأشعة الشَّمس الهاربة من الفتحات ترينا خيوط العنكبوت الساكنة في السقف، كانت هناك الكثير من القمامة وبعض حمالات النُهُود متروكة بلا صاحبات والقليل من الطعام التالف موزع على أرجاء الطابق، كان طابقه الواحد لا يتعدى عرضًا وطولًا الخمسة عشر مترًا، ويوجد سُلَّمٌ خشبيٌ دائري يربُط بين السفلي والعلوي عن طريق فتحةٍ تدخُل منها الرأس أولًا ثم الجسد يعبُرها، وعندما يرتاح الصاعد يضع على هذا الثُقب المتوسط قطعة من الحديد المُزين بالنقوش. وصلنا إلى الأعلى ولم نجده! وحتى كلبه رحل معه.
ففتشنا أسفل مضجعه ووراء المنضدة ولكنه تبخر أو هرب ليُخطط لجرائمه ويُنفذها بطلاقة.
كان الجميع إلّا قِلة مُصابين بالارتياب بشأن هذا المُسن، المحبّ للموسيقى كما يدعي، خراء سمعي يُصيبنا بالغثيان ويُفتت الأعصاب ولا يكف عن قرفه منذ أن وعينا وبدأنا نسمعه، تأكدنا أنه لا يسمع بسبب عدة مواقف قد أكددت لنا ذلك، بعدما كنّا نشك في أمر الخرس والطرش وقُلنا وقتها: "يتلاعب بنا".
فهو يمتلك آلة عزفٍ حجمها كبير، ولأننا نسير في هذه الحياة على عمى وضلال بالأشياء وكل ما يفقهه الآخرون، نحنُ المائة نجهله.
فقد وصفناها لمُتخصصٍ في هذه الآلات وفطنا باسمها أو اسمه: "البيانو". فأمَّا عن عُمر هذا الكهل، فقد تراهنت مع جارٍ ليّ ذات ليلةٍ على عاهرةٍ مؤخرتها بحجم رأسي ورأسه، وإن ربح هو سأدفع لها ثمن ليلةٍ ينعم بها معها، وإن فزت أنا يعطيني هو نفس الثمن لكن نقودًا، وكان الرهان على أن هذا الرّجُل قد تجاوز الثامنين، فأنا مُطلع بحُكم عملي في المدن بهذه الأعمار، ورأيت عجزة في هذه السن مرارًا، وبنظرةٍ لا واحدة تتبعها أحدد عدد الأعوام، وبالفعل ربحت الرهان في النهاية.
وذلك بعد أن تدخل أجنبيٌ من مدينةٍ شقيقةٍ وصَدَّق على حديثي وأحسن تكريم نظرتي، فهذا الأصم الأشيب المتكئ على عصاه مزدوجة المقابض لم يكُن يُغادر بيته المصلوب على فروع الشجر تقريبًا، فالبناية كانت تهتز بنا عند الحركة الشديدة.
وإن حتى طلق نفسه خارج منزله يكُن فقط لتجميع طعامٍ من السكان، وجميعنا كنّا نعطف عليه احترامًا للإنسانية وحتى لا يمُت جوعًا ويتعفن ويهجرنا السائحون من رائحة جسده وانتشار دوده. مثلما أبصرنا هذه القصة منذ مُدة في مدينة مات فيها رجلان تقاتلا بعد أن لعبا القمار وتشاجرا وطعنا بعضهما إلى أن ماتا. ولم يحس بهما أحدٌ من المُقيمين فيها حتى انتفخت بطونهما وانبجست وفاحت العفونة ولم يقترب أحدُ من خارج هذه المدينة إلّا بعد تلاشي الرائحة.
ومن بعد هذه الحادثة أصبحنا نخشى أن يصيبنا هذا، ولكننا كنّا نريح بالنا بشأن موته، لأننا وعينا على المقابر التي تبتعد عن المنازل بمسافة جيّدة.
أكملنا البحث بدقة، كان هو قد سكَّر نافذته من الداخل، وهذا ما فهمته! يبدو أنه أزلجها بمهارةٍ وكأنه متمرس، لكننا أضعنا مجهوده وشرخناها حتى تكسرت، وقطعٌ منها وقعت على رأس "حيان" بالأسفل، والذي ظل يُعنفنا على استهتارنا بروحه، ولا كأننا نسمع شيئًا.
توهج ضوء الشمس فأنار لنا برؤية أبرز أركان الطابق، كانت هناك جملةٌ محفورةٌ بشيءٍ حادٍ على الحائط لاحظناها جميعًا واقتربنا منها لنقرأها، فوجدنا المكتوب: "ديجور الليلة كان صامتًا، ديجور أخيرًا وصلته الرسائل، وأنا لستُ مُهتمًا بنفسي لأهتم بحال تلك المدينة، ولكن أقرأ لكم رسالته، احذروا سُكوت (ديجور)".
وأسفلها بذراعٍ قد نقشت جملة قلبت الظنون رأسًا، قرأناها في زفيرٍ واحدٍ، وكان عددنا خمسة رجال:
- "هُم يُريدون الروح وسيسلبونها، أمَّا أنا، فلا أريدها، رغم احتياجي لها".
*****
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.