Darebhar

شارك على مواقع التواصل

أرض عزيزة

كنا نقطن في أحد أحياء الدقي القديمة بجوار سوق شهير يسمى الحيتية، وهو أحد الشوارع الرئيسية التى تتفرع من ميدان الدقي، قبل بناء كوبري الدقي المعدني الحالي. وكنت وقتها في الرابعة من عمري حينما قرر والدي أن يشرع في بناء بيتنا على قطعة ارض اشتراها من "الخواجة" والذي اشتهر بهذا الاسم حيث كان أحد أحفاد الخواجة همفرس والذي أطلق اسمه على أهم شارع في منطقة بولاق الدكرور الشعبية.
كان قرار أبي مفاجئًا للجميع وبخاصة أمي التي لمعت عيناها العسليتان بنور وبهجة ممزوجين بالدهشة وبدأ أبي في توضيح الأمر - وأبي كان من الرجال الصامتين ويعمل دومًا في صمت وقلما يبدي لأحد مكنون صدره أو بواطن عمله – كان أسلوب أبي في سرد الأحداث فلسفي صعيدي ليوضح لنا أنه من الأفضل لنا أن نقطن بجوار عائلتنا وأهلنا.
وبالفعل اتنقلنا إلى بيتنا الجديد، وبدأت ملامح الحياة ترتسم بتفاصيل جديدة، وجوه غير الوجوه وناس غير الناس وشوارع ضيقة من تراب واللهجات بين صعيدي "جواني" ونوبي ومنياوي، وفيومي أيضًا، بداية لم ينل المكان استحساني على الإطلاق إنما جذبتني الأراضي الزراعية، واللون الأخضر، والنسيم الفواح بمزيج أسطوري من أطياف الورود، وزهر البرسيم، وموسيقى ساحرة من مداعبات الهواء لأوتار أعواد الذرة. وحينما اعتليت سطح بيتنا الجديد المكون من دور أرضي مسقوف بخرسانة ودور ثانٍ مبني بالطوب الأحمر إنما بسقف خشبي يغطي منتصف مساحة البيت وباقي البيت مكشوف محاط بسور والغرف مقسمة بحوائط بارتفاع متر واحد تقريبًا فكان بالنسبة لي منطقة ملاهي ومغامرات وقفز حر ولعب بالرمال وبواقي البناء.
وكان ذلك السطح بمثابة قلعتي الحصينة وأبراج الاستطلاع ومحاورات الفضول وبرج استقبال لغات السحاب ورسائل النجوم، وفي إحدى المرات بينما أنا في قلعتي فوق السطح رأيت تلك الأرض الشاسعة الخضراء التي تتوسطها شجرة ظليلة كثيفة الورق واللون الأخضر الزرعي يفترشها كأنه سجادة تبريزية سحرية مزخرفة بمزيج بديع من ألوان الزهور بين أصفر فاقع لونه يسعد قلوب الناظرين، وأحمر ناري يثير إبداع الفنانين محاطة بإطار من طيور الجنة، فتساءلت في نفسي عن هذه الجنة ويبدوأن صوتي ارتفع وقتها فسمعت صوت "عم حسن البنا" يعلو بالضحكات وهو يكمل بعض البناء للسور الفاصل بيننا وبين الجار، فقال لي "يا حُصان" – هكذا كان يهوى مناداتي محورًا اسمي إلى اسم يثير حفيظتي – فذهبت إليه متسائلًا عن هذه الأرض فقال لي إن هذه "أرض عزيزة" وأطفال المنطقة يذهبون هناك خاصةً بعد العصر ليلعبوا هناك حيث تبدأ الشمس بالانكسار.
،،،،،،،،،
عزمت أمري وقررت في ذاك اليوم أن أذهب لاستكشاف أسرار هذا المكان وتبدأ مغامرتي الخضراء في أرض عزيزة حيث لاقيت أسطورةً من أساطير الزمان الخفية
ومنذ نعومة أظافري وأنا أمتلك هذا الإحساس الغامض بالاتجاهات مثل الحمام الزاجل فأستطيع التوجه لأي مكان والعودة منه دون أن أضل طريق الذهاب والعودة.
وبالفعل صحوت مبكرًا يملؤني الحماس وذهبت لأمي وهمست في أذنها:
"أمي، انا نازل ألعب يا أمي رايح أرض عزيزة"
فقالت وهي ما بين النوم والصحو: "طيب يا وليدي روح بس ماتعوجش يا وليدي وعاود جبل الغدا، وغير ريجك يا ولدي جبل ما تنزل"
فتحت الباب الخشبي الكبير لبيتنا الجديد وبدأت السير في اتجاه "أرض عزيزة" كما رسمت خط السير لها مسبقًا فوق سطح بيتنا وتتبعت الخارطة في رأسي حتى وصلت إلى مشارف الأرض.
أمامي معبرة من الخشب تعبر ترعة زنين فكانت بداية "أرض عزيزة" زراعة كثيرة ومتنوعة وبدأت ملامح السجادة السحرة الخضراء وتفاصيلها تتكشف أمامي، ما بين أعواد الذرة والحشائش التي تحتضنها كصغارها، وأحواض الطماطم والجرجير والعديد من الخضراوت المنوعة.
أغشاني الانبهار والدهشة والذهول وكأنني أحد عناصر هذه اللوحة الإلهية التي تظهر إبداع المبدع وجمال الخالق، وعيني وكأنها عصفور حائر بين الأغصان لا يدري على أي غصن يبني عشه وقلبي ينبض بلهفة كأجنحة نحلة تتنقل ما بين الزهور تمتص الرحيق فيخرج من صدري زفرات مختلف نسيمها، ولم أزل على هذا الحال حتى استقرت عيناي على الشجرة الأم بمنتصف الأرض تبدو باسقةً وكأن فروعها تحتضن أرض عزيزة بالكامل في حنان أم رؤوم فتأملتها مليًا وحوار حميم بدأ بيننا فوجدتني أسير لها كالمجذوب المسحور أو كمن نادته نداهة الغلمان.
لم أدرِ كم من الوقت مر وأنا أسير مشدوها إلى تلكم الشجرة وكلما اقتربت كانت تزداد في البهاء والعظمة والضخامة وحجم أوراقها الكثيفة يزداد وملامحها وتفاصيلها تتكشف، حتى وجدتني أسفل ظلها مغمورًا في سحرها الآخاذ وثمار التوت تتدلى منها كنجوم لامعات في ليلة عشق صافية، وأسفل الشجرة وحول ظلها المديد مساحة استحى الزرع أن ينبت فيها فقرر الاختباء على أطرافها وبجوارها ساقية تعزف سيمفونية أسطورية من خرير الماء وحفيف الشجر ودبيب خطوات جاموسة مغماة العينين في مزيج رائع، ويتوج ذلك المشهد السحري رجل اعتلى الشيب أطراف شعره البادي أسفل عمامته البيضاء الناصعة فتحيط رأسه بهالة من الهيبة والوقار ويجلس مفترشًا حصيرة من الخوص في تواضع العارفين وجلبابه الفضفاض لا يستر نحول جسده يملأه ثقوب لسعات الحطب فيبدو من أسفله لون جلبابه الآخر الأزرق وعينيه المتقدتين بالحكمة تتابعان الحطب أمامه وكأنه في حضرة العارفين تشهد تراقص اللهب وطقطقات الحطب كأنها ذِكرٌ يعلو أحيانًا ويخفت أخرى وهو في حال غيب عن واقعي وحضور في عالمه السري .
وعلى حافة الحطب "إبريق" للشاي قد كساه السواد كعباءة ولي في مجلس علمٍ وفوق الحطب "أكواز" ذرة تستمتع بحمام الشواء وتبادله القبلات بصوت طقطقات تثير شوقهما للتلاقي، وفي كفه الأيمن عصا صغيرة يداعب بها نيران الحطب ويحثها على الابتهاج اشتعالًا، وما زلت في هذا المشهد الجميل حتى وجدتني أقترب في استحياء وأمان من ذلك الشيخ النحيل وهو يراني مقتربًا ولا يبدو عليه أية ردود أفعال إنما مستمر فيما يفعل غارقًا في حوار الحطب فما زلت أقترب حتى جلست جواره، وتناولت قطعة من الحطب الجاف وقلدت فعله في تقليب الذرة والحطب فبادرته سائلًا وكأنني أكمل حوارًا بدأ منذ الأزل:
"هي دي بقا أرض عزيزة اللي بيقولوا عليها"
فتنهد الرجل وقال بلهجة صعيدية تماثل لهجة أبي: "إيوه يا وليدي هي أرض عزيزة، بس فينها عزيزة دلوك، ما راحت وراحت أيامها"
جاوبني وهو ينقي أحد "أكواز" الذرة وينفضه من بقايا الحطب ويلفه بأوراقه الخضراء ويمد يديه به إلي وكفيه الضخمتين يكاد يختفي فيهما ورائحة الذرة المشوية تغزو أنفي بلا استئذان وأكمل قائلًا:
"خود يا وليدي كل ذرة ودير بالك لتحرق يدك يا وِلد، حامية لساتها طالعة من النار"
فتناولته من كفيه بكلتا يدي وسألته:
"ومين عزيزة دي ياعمو"
فتبسم ونظر لي متفرسًا ملامحي الحادة قائلًا:
"عمو؟!! ، جولي يا جد فتح الله أو يا جد فتحي يا وليدي"
فرددت عليه مسرعًا بلهجة أبي:
"طيب ليه سموها أرض عزيزة يا جد ومن تبجى عزيزة دي؟"
*****
1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.