artherconan

شارك على مواقع التواصل

ذات صباحِ يومٍ قارس البرودة، ينهمر فيه الصقيع في شتاء عام ١٨٩٧ ، استيقظتُ على
أحدهم يهزُّني من كتفي، وكان هولمز هو ذلك الشخص. كان يحمل شمعةً في يده أظهرت
وجهه القَلِق المنحني نحوي، وأخبرني هذا بمجرد النظر إليه أن ثمة خطبًا ما.
هيا، يا واطسون، هيا! اللعبة بدأت مرةً أخرى، لا تقُلْ أيَّ كلمة! هيا » : صاح قائلًا
«! ارتدِ ملابسك وتعالَ
بعد عشر دقائق كنا في سيارة أجرة نقطع بها الشوارع التي يسودها الصمت في
طريقنا إلى محطة تشارينج كروس. كان ضوء فجر الشتاء الضعيف يبدأ في البزوغ،
واستطعنا بالكاد رؤية الشكل العابر لعاملٍ مُبكِّر وهو يمر بجوارنا؛ إذ كان شكله غير
واضح أو مميَّز في دخان مدينة لندن الضبابي. تقوقع هولمز في صمت في معطفه الثقيل،
وسعدتُ بفعل الأمر ذاته؛ إذ كان الهواء شديد البرودة، ولم يكن أيٌّ منا قد تناول الإفطار.
لم نشعر بالدفء الكافي إلا حين احتسَيْنا بعضًا من الشاي الساخن في المحطة، وجلسنا في
مقاعدنا في قطار كِنت، وبدأ هولمز في الحديث واستمعتُ أنا إليه. أخرج هولمز رسالة من
جيبه وقرأها بصوت عالٍ:
آبي جرينج، مارشام، كِنت، ٣:٣٠ صباحًا
عزيزي السيد هولمز
يسرُّني الحصول على مساعدتك الفورية في قضية تبدو مثيرةً للاهتمام. إنه أمر
في مجال تخصُّصك، وسأترك كل شيء على حاله كما وجدتُه فيما عدا السيدة
مغامرة منزل آبي جرينج
التي سألتقي بها، لكني أرجو منك ألَّا تضيِّع الوقت؛ إذ يَصعُب أن أترك السير
يوستاس هناك.
المخلص
ستانلي هوبكنز
لقد دعاني هوبكنز للعمل معه سبع مرات، وفي كل مرة كان استدعاؤه » : قال هولمز
لي مبرَّرًا بالكامل. أعتقد أنك أدرجت كل قضاياه ضمن مجموعتك، ولا بد أن أعترف
يا واطسون أن لديك قدرةً مميَّزة على الاختيار تُعوِّضبعض ما أَستنكِره في قصصك. إن
عادتك المميتة المتمثِّلة في النظر إلى كل شيء على أنه قصة بدلًا من كونه ممارسةً علمية
دمَّرت ما كان بإمكانه أن يصبح سلسلةً تثقيفية وحتى كلاسيكية من البراهين؛ فأنت تبذل
جهدًا إضافيٍّا دءوبًا بالغ البراعة والدقة من أجل الوقوف على التفاصيل الحسِّية التي ربما
«. تُمتِع، لكن ربما لا تستطيع تعليم القارئ شيئًا
«؟ لمَ لا تكتبها أنت بنفسك » : قلتُ له، بقدر من الأسى
سأفعل يا عزيزي واطسون. سأفعل. أنا حاليٍّا مشغول للغاية، كما تعلم، لكني أعتزم »
قضاء سنواتِ هرمي في تأليف كتابٍ تعليمي سيركِّز بالكامل على فنِّ الاستنتاج في مجلدٍ
«. واحد. أما بحثنا الحالي فيبدو أنه قضية قتل
«؟ تعتقد إذن أن السير يوستاس هذا ميت »
أعتقد ذلك؛ فيظهر فيما كتبه هوبكنز انفعالٌ بالغ، وهو ليس رجلًا عاطفيٍّا بطبعه. »
وأفترض أيضًا وجود بعضٍ من العنف، وأنه ترك الجثة لنا لنفحصها. فإن كانت مجرَّد
حالة انتحار فلن تدفعه إلى أن يُرسِل إليَّ. وأما عن إخراج السيدة، فيبدو أنها كانت محتجَزة
في غرفتها في أثناء وقوع المأساة. نحن ذاهبان إلى أناس من عِلية القوم يا واطسون؛ ورق
وشعار نبالة، وعنوان خلاب. أعتقد ،« إي بي » من لحاء الأشجار، والأحرف الأولى من اسم
أن صديقنا هوبكنز سيكون على قدر سُمعته، ونحن سنحظى بصباحٍ مثيرٍ للاهتمام. لقد
«. وقعتِ الجريمة قبل الثانية عشرة من منتصف الليلة الماضية
«؟ كيف عرفتَ هذا »
عن طريق تفقُّدي للقطارات وحسابي للوقت؛ فكان من الواجب استدعاء الشرطة »
المحلية، وكان عليهم الاتصال بسكوتلانديارد، وكان على هوبكنز الذهاب، ثم كان عليه أن
يرسل إليَّ. كل هذا لا بد أنه حدث في أثناء الليل، حسنًا، لقد وصلنا إلى محطة تشيزلهورست،
«. وسرعان ما سنضع حدٍّا لشكوكنا هذه
سِرنا بالسيارة بضعة أميال في الممرات الضيقة للمدينة ووصلنا إلى بوابة حديقة،
فتحها لنا حارسٌ عجوز، يحمل وجهه المُنهَك تعبيرًا يشير إلى حدوث كارثةٍ رهيبة. كان
الممر يمتدُّ عبر حديقةٍ مَهيبة، بين صفوف من أشجار الدردار القديمة، وينتهي بمنزلٍ
فسيح تنتشر الأعمدة في واجهته، على غرار طراز تصميمات أندريا بالاديو. كان من
الواضح أن الجزء الأوسط منه أشد قِدمًا؛ إذ كان مغطٍّى بالعاج، لكن النوافذ الضخمة
أظهرت التغييرات الحديثة التي حدثت فيه، وبدا أحد أجنحة المنزل حديثًا بالكامل. وعند
مدخل المنزل المفتوح حيَّانا المفتش الشاب ستانلي هوبكنز بوجهٍ منزعج ومترقِّب.
أنا سعيد للغاية بحضورك يا سيد هولمز، وأنت أيضًا يا دكتور واطسون! لكن في »
الواقع، إن عدتُ بالزمن إلى الوراء ما كنتُ لأزعجكما؛ إذ إنه منذ عادت السيدة إلى وعيها
سَرَدتْ عليَّ بوضوحٍ ما حدث، ولم يبقَ أمامنا الكثير لنفعله. أتذْكُر عصابة لويشام من
«؟ لصوصالمنازل
«؟ ماذا؟ أتقصد أفراد عائلة راندال الثلاثة »
بالضبط، الأبَ وابنَيه الاثنين، إنهم مَن فعلوا هذا. ليس عندي أدنى شك في هذا؛ فقد »
نفَّذوا عملية في سيدنهام منذ أسبوعين، ورآهم البعضوذكروا أوصافهم. ومن العجيب أن
ينفِّذوا عملية أخرى بمثل هذه السرعة وعلى هذه المقربة الشديدة من مكان العملية الأولى،
«. لكن لا شك في أنهم هم الفاعلون. إن العقوبة هذه المرة هي الإعدام شنقًا
«؟ إذن فإن السير يوستاس قد مات »
«. أجل، فقدضُرب على رأسه بقضيب إذكاء نار المدفأة »
«. السير يوستاس براكينستال؛ فقد أخبرني السائق باسمه »
بالضبط، واحد من أغنى الرجال في كِنت. إن السيدة براكينستال في غرفة الجلوس »
الصباحية. مسكينة هذه السيدة؛ فقد تعرضت لتجربة شنيعة. لقد بدتْ شبه ميتة حين
رأيتها لأول مرة، وأعتقد أنه من الأفضل لكَ أن تقابلها وتسمع منها وقائع ما حدث. ثم
«. سنذهب معًا لفحصغرفة الطعام
لم تكن السيدة براكينستال شخصًا عاديٍّا؛ فنادرًا ما رأيت في حياتي أحدًا بمثل هذه
الأناقة والحضور الأنثوي والوجه الجميل. كانت شقراء، ذات شعر ذهبي وعينَين زرقاوَين،
ولا شك أن لون بشرتها كان يتلاءم تمامًا مع مثل هذه الألوان، لولا ما أضْفَته عليها
التجربة التي تعرَّضت لها مؤخرًا من تعب وإعياء. كانت معاناتها بدنية تمامًا مثلما كانت
ذهنية؛ فكان يوجد فوق إحدى عينَيها تورُّمٌ شنيعٌ أرجواني اللون، وكانت خادمتها، وهي
سيدةٌ طويلة وصارمة، تضع عليه الماء والخل بمثابرةٍ. جلست السيدة على أريكة، وأرجعت
ظهرها إلى الوراء في إنهاكٍ، لكن نظرتها السريعة اليَقِظة التي رمقتنا بها حيندخلنا الغرفة،
وتعبير الاستنفار البادي على ملامحها الجميلة، أظهرت جميعها أن عقلها وشجاعتها لم
يتزعزعا بفعل التجربة البشعة التي مرت بها. كانت ترتدي ثوب نوم فضفاضًا لونه أزرقُ
وفضيٌّ، لكن كان ثمة رداء سهرة مغطٍّى بالترتر معلَّقًا على الأريكة بجوارها.
لقد أخبرتُك بكل ما حدث يا سيد هوبكنز، أيمكنك ألَّا تعيد » : قالت السيدة بضجر
الأمر عليَّ مرةً أخرى؟ حسنًا، إن كنتَ تعتقد أن هذاضروري، فسأخبر هذين السيدَين بما
«؟ حدث. هل ذهبا إلى غرفة الطعام
«. لقد رأيتُ من الأفضل أن يسمعا القصة من حضرتكِ أولًا »
سأكون شاكرة إن توليتَ ترتيب الأمور؛ إذ أشعر بالرعب حين أفُكِّر في أنه ما زال »
ثم ارتجفتْ ودفنتْ وجهها داخل يديها، وحين فعلتْ هذا سقط الرداء «. مستلقيًا هناك
إن لديكِ إصابات أخرى، يا سيدتي! » : الفضفاض عن ساعديها، فصاح هولمز في تعجب
فقد ظهرت بقعتان حمراوان حديثتان على إحدى ذراعيها البيضاوين الممتلئتَيْن، «؟ ما هذا
فغطَّتهما بسرعة.
لاشيء، فلا علاقة لهذا بالحادث البشع الذي وقع ليلة أمس. إذا جلستَ أنت وصديقك »
فسأخبركما بكل ما أعرف.
أنا زوجة السير يوستاسبراكنستال، وقد تزوَّجنا منذ عام تقريبًا. وأعتقد أنه لا فائدة
من محاولة إخفاء أن زواجنا لم يكن سعيدًا؛ فأخشى أن يخبرك كل جيراننا بهذا، حتى إن
حاولتُ إنكار الأمر. ربما يقع الخطأ في هذا جزئيٍّا عليَّ؛ فقد نشأتُ في أجواء أكثر تحرُّرًا
وأقلَّ تحفُّظًا في جنوب أستراليا، وهذه الحياة الإنجليزية بكل ما فيها من آداب وتزمُّت
لا تناسبني. إلا أن السبب الرئيسي يكمن في الحقيقة التي لا تخفى على أحد، وهي أن
السير يوستاس كان سكِّيرًا. كان المكوث مع مثل هذا الرجل لساعة واحدة أمرًا بغيضًا،
فلك أن تتخيل معنى أن ترتبط سيدةٌ حساسةٌ ومفعمة بالحيوية بمثل هذا الرجل ليلَ
نهار. إن اعتبار هذا الزواج ملزمًا أمرٌ شائن، وجريمة ونذالة. وأقول إن قوانينكم البشعة
اعتدلتْ للحظة في جلستها، «. ستجلب اللعنة على هذا البلد؛ إذ لن يُكتَب لهذا الشرأن يستمر
واحمرَّت وجنتاها خجلًا، ولمعت عيناها من تحت الكدمة البشعة الموجودة على جبينها. ثم
أعادت اليدُ القوية والمهدِّئة للخادمة الصارمة رأسها إلى الوسادة مرةً أخرى، وخمد غضبها
المحتدم وتحوَّل إلى نحيبٍ انفعالي. وفي النهاية أكملت حديثها قائلة:
سأخبركما عن الليلة الماضية. ربما تعرفان أن جميع الخدم في هذا المنزل ينامون في »
الجناح الحديث. أما هذا الجزء الأوسط فيتكون من غرف المعيشة مع وجود المطبخ خلفها
وغرفنومنا فوقها، وتنام خادمتي تيريزا فوق غرفتي. لا يوجد شخصٌآخر هنا، ولا يمكن
لأي صوتٍ تنبيه الموجودين في الجناح البعيد؛ ولا بد أن اللصوصكانوا يعلمون هذا جيدًا،
وإلا ما كانوا تصرفوا كما فعلوا.
دخل السير يوستاسغرفته في الساعة العاشرة والنصفتقريبًا، وكان الخدم قد ذهبوا
بالفعل إلى مَخادعهم. لم يكن أحد مستيقظًا إلا خادمتي وقد ظلَّت في غرفتها في الطابق
العلوي من المنزل حتى أطلب خدماتها. أما أنا فقد جلستُ في هذه الغرفة حتى الساعة
الحادية عشرة منهمكة في قراءة كتاب، ثم تجوَّلتُ في الأرجاء لأتأكد من أن كل شيء على
ما يرام قبل أن أصعد إلى غرفتي. كان من عادتي أن أفعل هذا بنفسي؛ لأن السير يوستاس،
كما أوضحتُ من قبلُ، لم يكن موضع ثقة طوال الوقت. ذهبتُ إلى المطبخ، وإلى ملحق
الخدم الخاص، وغرفة الأسلحة، وغرفة البلياردو، وغرفة المعيشة، وأخيرًا إلى غرفة الطعام.
وحين اقتربتُ من النافذة التي كانت تغطيها ستائر سميكة، شعرتُ فجأة بهبوب الرياح
على وجهي وأدركتُ أن النافذة مفتوحة. نحَّيتُ الستارة جانبًا ووجدت أمامي مباشرةً رجلًا
كبير السن عريضالمنكبين دخل لتوِّه إلى الغرفة. في الواقع كانت هذه النافذة طويلة وعلى
الطراز الفرنسي، بحيث إنها تشكِّل مدخلًا على المرج. كنت أمسك بشمعة غرفتي مضاءةً في
يدي، وعلى ضوئها رأيتُ خلف هذا الرجل رجلَين آخرَين، كانا على وشك الدخول؛ تراجعتُ
إلى الخلف، لكن هذا الرجل هاجمني على الفور. في البداية أمسك بمعصمي، ثم بحلقي؛
فتحتُ فمي كي أصرخ، لكنه ضربني ضربةً وحشية بقبضته على عيني، وأسقطني على
الأرض. لا بد أني غبتُ عن الوعي لدقائق، إلا أنني حين استعدتُ وعيي وجدتُ أنهم مزقوا
حبل الجرسوربطوني بإحكام على المقعد المصنوع من البلوط والموضوع على رأسطاولة
الطعام. كنتُ مربوطة بإحكام إلى المقعد بحيث لم أكن أستطيع التحرك، ومنعني منديلٌ
وُضع على فمي من إصدار أيصوت. في هذه اللحظة تمامًا دخل زوجي المسكين إلى الغرفة.
من الواضح أنه سمع أصواتًا مريبة؛ فجاء مستعدٍّا لمثل هذا المشهد الذي رآه. كان يرتدي
قميصه وسرواله، ويحمل في يده عصاه الصغيرة ذات الرأس المستدير. تحرَّك مسرعًا نحو
واحد من اللصوص، لكن انحنى آخر — وكان الكبير في السن — والتقط قضيب إذكاء
نار المدفأة من الِمقضَب وضربه بهضربةً مروِّعة وهو يمرُّ بجواره؛ سقط على الأرضوهو
يئنُّ، ولم يُصدر أي حركة بعد هذا. غبتُ عن الوعي على الفور، لكن مرةً أخرى يبدو أن
هذا لم يستمر إلا بضع دقائق. وحين فتحتُ عينيَّ وجدتُ أنهم جمعوا القطع الفضية
كلها من البوفيه، وأخذوا زجاجة نبيذ كانت موجودة عليه، كان كل منهم يحمل كأسًا في
يده. لقد أخبرتك، أليس كذلك، أن أحدهم كان كبيرًا في السن وله لحية، بينما كان الآخران
شابَّين أصغر سنٍّا وأصلعَين؛ وربما كانوا أبًا وولدَيه. كانوا يتحدثون معًا في همس، ثم
اقتربوا مني وتأكدوا أني مربوطة بإحكام، وأخيرًا ذهبوا وأغلقوا النافذة خلفهم. مرَّ ربع
ساعة تقريبًا قبل أن أستطيع فك القيد من على فمي، وحين فعلتُ هذا تسببتصرخاتي
في مجيء الخادمة لمساعدتي، وسرعان ما تنبَّه الخدم الآخرون، وأرسلنا إلى الشرطة المحلية
التي اتصلت على الفور بلندن. هذا كل ما يمكنني إخباركما به يا سيديَّ، وآمل ألا أضُطر
«. إلىسرد هذه القصة المؤلمة مرةً أخرى
«؟ هل من أسئلة، يا سيد هولمز » : تسأل هوبكنز
أنا لن أفرض أي عبء آخر على صبر السيدة براكينستال ووقتها. لكن » : قال هولمز
ونظر إلى الخادمة. ،« قبل أن أذهب إلى غرفة الطعام، أريد أن أسمع قصتك
لقد رأيتُ الرجال قبل أن يدخلوا إلى المنزل؛ فبينما كنت جالسة بجوار نافذة » : قالت
غرفتي، رأيتُ ثلاثة رجال في ضوء القمر يقفون عند بوابة الكوخ من بعيد، لكني لم أفُكِّر
في شيء حينها، وبعد مرور أكثر من ساعة على هذا سمعتُ صراخ سيدتي، فركضتُ إلى
الأسفل ووجدتها، المسكينة، كما قالت لكم، ووجدتُه هو ملقًى على الأرض ورأسه مفتوح
ودمه يغطي الأرض. كان المشهد كفيلًا بدفع أي امرأة للجنون؛ فقد كانت مربوطة هناك،
وتناثرت على ردائها بقع من دمائه، لكنها كانت دومًا شجاعة؛ فهذا ما كانت عليه الآنسة
ماري فريزر من مدينة أديلايد، ولم تتغير حين أصبحت السيدة ماري براكينستال سيدة
منزل آبي جرينج. لقد أطلتم استجواب السيدة بما يكفي، يا سادة، والآن عليها الذهاب إلى
«. غرفتها، مع خادمتها العجوز تيريزا لتحصل على الراحة التي تحتاج إليها بشدة
وبحنان الأم وضعت السيدة الهزيلة ذراعها حول سيدتها وقادَتها إلى خارج الغرفة.
لقد رافقتْها طوال حياتها؛ فقد أرضعَتها وهي طفلة، وجاءت معها إلى » : قال هوبكنز
إنجلترا حين تركا أستراليا لأول مرة منذ ثمانية أشهر. تُدعى تيريزا رايت، وهي من نوع
«! الخادمات الذي لم نعد نراه في أيامنا هذه. من هنا يا سيد هولمز إذا سمحت
اختفى الحماس من ملامح وجه هولمز المعبِّرة، وعلمتُ أن الغموض أفقد القضية
سحرها. بقي الآن أمامنا إلقاء القبض على المجرمين، لكن مَن هؤلاء المحتالون المبتذلون
الذين يتحتَّم على هولمز أن يلوِّث يديه بالقبضعليهم؟ فحين يجد شخصمتخصصوعلى
قدرٍ واسع من المعرفة أن استدعاءه كان من أجل قضية تافهة تظهر عليه علامات الانزعاج
التي أراها في عينَي صديقي الآن. إلا أن المشهد في غرفة طعام منزل آبي جرينج كان غريبًا
بما يكفي ليجذب انتباهه ويعيد إليه اهتمامه المتضائل.
كانت الغرفة ضخمة ومرتفعة السقف، وكان سقفها من البلوط المنحوت، وجدرانها
مغطاة بلوحات من البلوط، وبها مجموعة رائعة من رءوس الغزلان والأسلحة القديمة
مُعلَّقة على جدرانها. في الجهة البعيدة المقابلة للباب وجدنا النافذة الفرنسية الطراز التي
سمعنا عنها، بينما ملأت الغرفةَ بأشعة شمس الشتاء الباردة ثلاثُ نوافذ أخرى أصغر
حجمًا على الجهة اليمنى. أما على الجهة اليسرى فقد وجدنا مدفأةً ضخمة وغائرة، معلَّقًا
فوقها رفُّ موقدٍ ضخم من البلوط. وبجوار المدفأة وجدنا مقعدًا ثقيلًا مصنوعًا من البلوط
له يدان وقُضبان عرضية متداخلة في مقعدته، تداخَلَ مع أجزائه الخشبية المفتوحة حبلٌ
قرمزيٌّ مجدول، كان مربوطًا بإحكام على كل جانب بالقطعة المتداخلة بالأسفل؛ فعند
تحرير السيدة أزُيلَ الحبل عنها، لكن العُقَد التي كان الحبل مُثبتًا بها ظلَّت كما هي. لم
ننتبه إلى هذه التفاصيل إلا فيما بعدُ؛ إذ كان تفكيرنا منصبٍّا بالكامل على الجسم البشع
الذي كان مُلقًى على السجادة المصنوعة من جلد النمر والموجودة أمام المدفأة.
كانت جثة رجلٍ طويل، قوي البنية، في الأربعين من عمره تقريبًا. كان مستلقيًا على
ظهره، ووجهه إلى أعلى، تظهر أسنانه البيضاء من بين لحيته السوداء القصيرة. كانت
يداه المتصلِّبتان مرتفعتان فوق رأسه، وتوجد عصًا صغيرةٌ ثقيلةٌ ملقاةٌ بجوارهما. كانت
ملامحه الداكنة الوسيمة التي تشبه ملامح الصقر قد تشنَّجت وبدت عليها ملامح كراهية
انتقامية؛ جعلَت وجهه بعد الوفاة يكسوه تعبيرٌ شيطاني مرعب. كان من الواضح أنه كان
في سريره حين علم بوجود خطر؛ إذ كان يرتدي رداء نوم مطرَّزًا فائق الأناقة، وظهرت
قدماه الحافيتان منسرواله. كان رأسه مصابًا إصابةً بالغة، وبدا على الغرفة بأكملها أثر
الضربة الوحشية التي أودت بحياته. فكان ملقًى بجواره قضيبُ إذكاء النار الثقيل، الذي
تقوَّسعلى إثر الضربة. فحصهولمز كلٍّا من القضيب والدمار الذي أحدثه والذي لا يمكن
وصفه.
«. لا بد أن راندال العجوز هذا رجلٌ قوي » : علَّق قائلًا
أجل. لديَّ بعض أوصاف الرجل، وهو شخصٌ قاسٍ يصعب التعامل » : قال هوبكنز
«. معه
«؟ ألن تواجه صعوبة في إلقاء القبضعليه »
لا على الإطلاق، فنحن كنا نراقبه، وظننا أنه هرب إلى أمريكا، لكن بما أننا علمنا »
أن العصابة لا تزال هنا، لا أرى سبيلًا إلى هروبهم؛ فقد أبلغْنا بالفعل كل ميناء، وعرضنا
جائزة للقبض عليهم قبل حلول المساء. ما يحيُّرني هو سبب ارتكابهم مثل هذا العمل
«. الجنوني وهم يعلمون أن السيدة ستُدلي بأوصافهم، وأننا سنتعرف عليهم على الفور
«. بالضبط، كان من المتوقَّع أن يُسكِتوا السيدة براكينستال أيضًا »
«. ربما لم يدركوا أنها استعادت وعيها » : اقترحتُ قائلًا
هذا احتمال وارد، فإن بدا عليها أنها فاقدة للوعي فلا داعي لإزهاق روحها. وماذا »
«. عن هذا المسكين، يا هوبكنز؟ لقد سمعتُ عنه قصصًا غريبة
لقد كان رجلًا طيب القلب حين يفيق من ثمالته، لكنه شيطانٌ حقيقي حين يكون »
سكران أو شبه سكران؛ إذ لم يكن أبدًا يصل إلى حد الثمالة الكاملة، يبدو كمن يتملَّكه
الشيطان في مثل هذه الأوقات، فكان بمقدوره فعل أي شيء. ومما سمعته أنه على الرغم
من ثرائه ولقبه فقد كاد يُلقى القبضعليه مرة أو مرتين؛ فكانت ثمة فضيحة حين صبَّ
البنزين على كلب ثم أضرم فيه النار — ومما زاد الأمور سوءًا أنه كان كلب السيدة —
وكان التكتُّم على هذه الواقعة بالغ الصعوبة. كما أنه ألقى إناء شراب على هذه الخادمة،
تيريزا رايت، وحدثت مشكلة بسبب هذا. إجمالًا، وفيما بيننا، سيصبح هذا المنزل أفضل
«؟ بكثير في غيابه. ما الذي تنظر إليه الآن
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.