karizmallnshroaltozi3

شارك على مواقع التواصل

ارتجت الأرض بعنف وارتفعت الأبخرة السامة حتى توغلت بين السحب ودوت الرعود وسطع البرق مع تجهم السماء، تدفقت الحمم الملتهبة لترتطم بمياه البحر الثائر فارتفع الغبار، والتهبت المياه وفارت، وقفت الفتاة وتطلعت إلى الجزيرة العظيمة، لا تزال تملك بعض اللون الأخضر، استوقفت الفتى الذي كان يرتدي ملابس بدائية بالكاد تغطي عورته، و هتفت:
"(ماني)... هل تأخروا؟"
رد عليها (ماني) باقتضاب: "سوف نموت هنا... بالطبع تأخروا... قضوا وقتًا طويلًا في البحث والتشاور... كان يجب ألَّا يتركوا العجوز (سابيو) يحفر في أعماق الجبل... كان هذا تدنيس".
وتطلع إليها وتابع: "هذا المكان لم يعد يريدنا أن نحيا على أرضه... إنه يكرهنا يا (يونا)".
قالها وواصل العدو، تطلعت لحظة إلى الغابة الكثيفة الممتدة والتي تمسكت بها النيران وارتفع الدخان، ثم لحقت به واندفعا بين الأشجار العالية، بعد قليل صاحت لاهثة: "وماذا تظن؟ إننا سنجد أرضَا أخرى خلف ذلك البحر الذي لا شاطئ له؟"
صاح: "أتمنى ذلك، وإلَّا.. هؤلاء الرجال هالكون".
وصلا إلى أرض القبيلة التي امتلأت بالأكواخ ذات السقف المقبب من القش، كانت خالية تمامًا من أي أحد، سارا بينها ببطء ثم تناهى إلى سمعهما أصوات بشرية عديدة، هتف الفتى:
"هيا بنا، إنهم عند الكوخ الكبير".
في وسط ساحة القبيلة كان هناك تجمع كبير من البشر حول كوخ أكبر حجمًا، وكان هناك جدل محتدم بين الرجال، والجميع يصيح بينما كبير القبيلة ذو الكرش الكبير والوجه الملطخ بالأصباغ يتابع ما يجري بأعين مرتاعة، قبل أن يرفع كفه ويصيح صيحة هادرة: "كفى!"
انخفضت الأصوات إلى همهمات ثم ساد الصمت..
قال الكبير وهو ينهض بصعوبة حتى أعانه اثنان من الرجال على أن يفعل: "ككبير لهذه الجزيرة... لا يمكنني الموافقة على ذلك... إنني أؤمن أن لا أرض خلف البحر... كفى ما فعله (سابيو) من تدنيس للمقدسات".
صدرت صيحات استحسان من بعض الرجال بينما يواصل: "إننا بمفردنا تمامًا.. والولوج بين تلك الأمواج أمر جنوني... سيغضب الأجداد".
تقدم أحد الرجال مفتولي العضلات وغرس بلطته الحادة في جزع شجرة كبير، وهتف: "إنني أؤمن عكس ذلك... لا بد أن هناك سبيلًا لنا للعيش.. وأن هناك أرضًا أخرى سوى أرضنا في مكان ما خلف الأمواج... أخبروني أيها السادة، ما الذي يميز أرضنا ويجعل من المستحيل أن تتكرر في أي مكان آخر؟"
دوى صوت هزيم الرعد من جهة البركان من بعيد بينما يتابع وعيناه تشردان بعيدًا: "إنني أؤمن أننا ولا بد واجديها وأنها لقريبة منَّا جدًّا تلك الأرض التي تنتظرنا... وإلَّا..."
ودارت رأسه بينهم وهو يتابع: "وإلَّا ما هو البديل الذي تقترحه أيها الكبير... أن نمكث هنا في انتظار الموت!"
من جديد صدرت همهمات من الناس حوله، صاح كبير القريبة: "انتهى الأمر يا (موباس) ، ألا تعلم متى تتوقف؟ إنه يوم القيامة الذي حذرنا منه الآباء الآلهة حينما حلوا على تلك الأرض منذ ملايين العصور... أخبرونا أن لكل شيء نهاية كما تنتهي الأمواج وتتحطم على شواطئنا".
قال الرجل وهو يشير إلى الأفق في إصرار محدثًا الناس حوله: "إذن، إلى أين يؤول الجانب الآخر... ألا نهاية له؟! أخبروني بحق أجدادنا؟!"
صاح الكبير: "بل له نهاية... إنها حيث يذهب أمواتنا، كل أمواتنا".
ورفع كفه وقَبَّله في خشوع، سرت همهمات خاشعة بين الناس حوله، أطرق الرجل برأسه في يأس، وقال في خفوت: "سوف نموت هنا".
قال الكبير: "إنه قدرنا، هذه هي أرضنا ووطننا... إنها تموت... إذن سنموت معها".
قال (موباس): "وحوش البحر المقدسة أطول حياة منا".
- "إنها كذلك بما لها من قدسية... إن أجدادنا يتحسسون أخبارنا من خلالها، إنهم يعرفون وينتظرون... وسوف تكون النهاية أن نلحق بهم... فنعم هي النهاية".
كرر الكلمة الأخيرة عدة مرات وهو يرفع يديه، فصاح الرجال وصرخت النساء في خشوع، ودوى هزيم الرعد المخيف من بعيد، وامتلأ السديم بالغبار الذي ظل لأيام عديدة يتدفق من قلب البركان الوحيد في وسط الجزيرة حتى غطى كل شيء، قال (موباس) فجأة: "سوف أذهب".
قالها في البداية في خفوت فلم يسمعه أحد وسط الضجيج ثم ارتفع صوته وصاح بالكلمة: "سوف أذهب".
تصلب الكبير وزحف الضجيج تدريجيًّا صوب الصمت، والتفت إليه في فزع والتقت أعينهما، فرفع (موباس) رأسه متبعًا:
"سوف أذهب... بمفردي" ثم رفع صوته متبعًا: "من يرد أن يتبعني فليلحق بي... سأكون عند الشاطئ أصنع وسيلتي للخوض في الأمواج... أبلغوا الأموات تحياتي".
قالها ونزع بلطته من جزع الشجرة القريب ورفعها على كتفه وغادر مبتعدًا وسط الأعين التي تلاحقه، تمتم أحد الرجال وهو يقترب من الكبير: "لقد جن الحطّاب تمامًا".
رفع الكبير كفه ليسكته متبعًا: "لقد اختار طريقته للموت... فليغفر له الأجداد".
***
كنجار وحطّاب القبيلة الوحيد كان يملك قدرة جمع الأخشاب ودمجها ببعضها بطريقة فريدة وماهرة لتشكيلها، وصنع أشياء عديدة للقبيلة موجودة في كل مكان حولهم، لذا وبما امتلكه من مهارة أصبح له دورًا هامًا في عالمه، كان من الصعب على أحد أن يعارضه أو يوصمه بالجنون، وهم يجلسون وينامون بل ويأكلون بأشياء صنعها لهم.
على الشاطئ وعلى صفحة المياه طفى ذلك الشيء الذي صنعه دون أن يتسرب إليه الماء، شيء لم يروا مثيلًا له من قبل، طوف إذا جاز لنا التعبير، لكنهم في هذا الزمن وهذا المكان لم يجدوا اسمًا له بعد، وقف هناك وجسده الأسمر القوي يلمع في لهيب الشموس العشر الصغيرة التي زينت الأفق ببهاء.
في هذا الركن القصيّ من الجزيرة كان الغبار البركاني بعيدًا، لذا بعد يومين آخرين بدأ سكان الجزيرة يتوافدون على المكان الوحيد الذي بات صالحًا وآمنا فيها، بحلول هذا اليوم كان (موباس) قد انتهى مما يصنعه ووقف يتأمله، كان الأطفال يقفون على بعد منه ينظرون إلى ما يصنع بينما الأهالي ينصبون أعشاشهم على الساحل، بات لهم أمر مسلم به أن يروه يحمل المؤن ليضعها في الطوف دون أن يبادلوه الحديث، وهذا لم يمنعه في أثناء مروره أن يضرب بمطرقته ليثبت عشة على وشك الانهيار، ومنهم كانت عشة الشقيقين (ماني) و(يونا).
كان الرجال يأتون من رحلاتهم إلى الأرض القديمة وقد تصببوا عرقًا، ولم تكن ملامحهم المتجهمة تحمل أي خير، فضلًا عن قلة ما كانوا يحملونه من الأشياء التي أنقذوها من الحمم التي باغتتهم في أرضهم، بالإضافة إلى أن أعداد الرجال أنفسهم قد بدأت تتناقص، يذهب خمسة ويعود ثلاثة وفي بعض الأيام واحد فقط يعود، فضلًا عن العجائز ومنهم سيد القبيلة ذاته الذي أبى أن يغادر كما تخبره معتقداته، فالتهمته الحمم هو وتلك المعتقدات.
وقف (ماني) و(يونا) يرمقان النجار يسير مبتعدًا وهو يحمل الكثير من الأشياء على ظهره القوي، ثم يضعها في الطوف.
بدأت الشموس تختفي تدريجيًّا خلف الأفق حتى لم يتبق غير ست شموس والظلام يقترب وإن كان الأفق متوهجًا بفعل الغبار البركاني، من بعيد لاحت الأبخرة البيضاء في الأفق حتى صعدت إلى عنان السماء وتخللتها البروق، في الآونة الأخيرة بدأت في الازدياد وتقدمت أكثر نحو البحر.
ثارت ريح باردة عبر المياه وتحركت الأمواج بعنف لتتكسر على سطح الشاطئ، اهتز الطوف وتأرجح مع الموج وبرد الطقس، بعد قليل بدأت الشموس تختفي حتى لم يعد إلَّا واحدة فقط تحتضر عند خط الأفق، على هذا الضوء المحتضر اقترب (ماني) من الرجل الذي كان يجلس مستندًا بظهره إلى الطوف، وقف على بعد أمتار منه.
رفع (ماني) صوته قائلًا: "متى الرحيل؟"
كان أهل القبيلة قد بدأوا في النوم، وهناك جو كئيب يسيطر عليهم بعدما فقدوا معظم الرجال في خلال عدة أيام، ومن حين إلى آخر ترتفع في جوف الليل أصوات بكاء الثكالى، (يونا) أحصت خمسة رجال فقط باقين في العشش ومزيدًا من الأطفال والنساء وهي وأخيها ولا شيء سوى ذلك، ساد الصمت إلا من صوت تحطم الأمواج ودوي مهيب قادم من بعيد من عند الحمم، قال (موباس):
"هناك أيام يتزايد فيها منسوب المياه حتى تبتلع معظم هذا الشاطئ... حينها..."
وصمت ولم يعقب، راقب (ماني) المياه وهي تعبث في القارب، بدا له خفيفًا جدًّا وهشًّا، لكنه يمكنه بلا شك الاستقرار على سطح ذلك الموج العاتي.
اقترب منه وأخذ يدور حوله على الضوء الباهت لنيران العشش، قال في تردد: "كيف ..كيف يمكنك توجيهه في قلب الأمواج؟"
نهض الرجل قائلًا: "سوف أستخدم ثلاث قطع من الخشب العريض والمفلطح... اثنان على الجانبين سوف أحركهما بكلتا يدي على الجانبين حتى يمكنه السير داخل المياه بتوازن... والقطعة الثالثة القصيرة تلك ستكون في المؤخرة وستوجهه إلى حيث أريد".
فكر (ماني) قليلًا، ثم قال: "إنه أمر شاق".
- "إنه كذلك... ظني أنه يحتاج إلى أكثر من واحد ليقوم به".
التفت إليه (ماني) فرآه ينظر إليه بعينين براقتين ففزع قائلًا وهو يشرع في الابتعاد: "يجب أن أذهب ...إن يونا ..."
ولم يكمل بل ابتعد إلى عشته الرقيقة التي أخذت الريح ترجها رجًّا.
(يونا) و(ماني) يتيمان منذ أمد طويل، اعتاد أن يعتني بأخته واعتادت هي أن تعتني به، فقدا أمهما في أثناء ولادتها لطفل آخر، فقدوا الطفل والأم، أبوهما مات حينما كان في رحلة صيد، قريبًا عندما جنت الوحوش فقط قبل أسابيع من ثوران البركان، كان (ماني) يرعى الغنم ويصطاد، وكان سريع التعلم لذا تعلم حرف كثيرة، حتى من النجار ذاته، لكنه لم يستقر بعد على أن يمتهن حرفة معينة، بيد أنه لن يلحق على أي حال، لأن حياتهم على وشك الأُفُول، قريبًا سيلحق بأبيه وأمه على الجانب الآخر من البحر كما أخبره الكبير.
(يونا) كانت فتاة ذكية، لكنها لا تحب المخاطر، تجيد الرعي وخياطة الأثواب، كانت أصغر منه سنًّا.
اليوم جفا النوم عيني (ماني) حين استقر بجانب رأس أخته، كان يفكر في ما سوف يخسره إن غادر تلك الديار مع طوف (موباس) العجيب، هل الموت على الشاطئ محترقًا والمياه على بعد خطوات أفضل من الموت بين الأمواج؟ ما الأفضل الموت غرقًا في المياه الباردة أم حرقًا بين الحمم!
ألا يحتسب له نصر أن يحيا لعدة أيام بين الأمواج عقب فناء الأرض، على أي حال سيقفز الجميع في المياه حينما تصل الحمم إلى هنا.
***
في الصباح استيقظ على بكاء وعويل قادم من الخارج، وامتلأ أنفه برائحة الرماد، لم يجد (يونا) في مكانها، خرج بسرعة يفرك عينيه ويرى ما يحدث، وجد الجميع مجتمعين لكن لا رجال، كانت النساء تبكين والأطفال يبكون، الجميع يبكي بطريقة رهيبة، عبر الأشجار رأى النيران تتأجج وقد تمسكت بإحدى العشش، إن الأمر يحدث، لقد اقتربت الحمم.
رأى (يونا) واقفة هناك، التفتت محدقة في وجهه فاقترب منها، قالت: "لقد ذهب الرجال... (سيبو) الصغير فر إلى هناك".
الصغير (سيبو) طفل أحمق...
كانت أمه في وسط الدائرة تولول بلا انقطاع، فجأة تذكر (ماني) شيئًا فالتفت إلى البحر، فوجده خاويًا، تقدم منه منفلتا عن الجمع، لسبب ما أصيب بالفزع، فزع لم يصبه في الأيام السابقة كلها، تقدم من البحر بسرعة ولم يسمع نداء (يونا ) إليه.
وقف حتى غارت قدميه في المياه الباردة، كان بالسماء أربع شموس وجزء من الشمس الخامسة، كانت الأمواج ثائرة، على هذا الضوء أمكنه أن يرى الظل وسط الأمواج العاتية، وجد نفسه يصيح وهو يلوح له: "(موباس)... (موباااااااااااس)".
رأى ظله يتحرك باستمرار وبصورة رتيبة كان يجدف بذراعيه في قوة: "لقد نجح الأمر" هكذا ردد (ماني) بخفوت، ثم صاح وهو يقفز ضاحكًا: "لقد نجح الأمر ...نجح الأمر".
ثم صمت وهو يضع كفيه على فمه في انفعال والتفت ليحدثهم، فوجد الجميع وعلى رأسهم أخته يرمقونه في مقت وشفتيها ترسمان بوضوح الكلمات:
"(ماني)... أيها الأحمق!"
لقد نسي تمامًا ما هم فيه، وشعر بشيء ما ليس على يرام، دارت عيناه إلى الساحل، هناك صمت ثقيل هبط على العالم، حتى صوت الأمواج انقطع، في اللحظة التالية دوى انفجار مهيب ارتجت له الأرض بعنف وصرخ النساء والأطفال، وضرب الشاطئ كتل كبيرة من النيران، كان البركان يقصف أرض الجزيرة بكتل ثخينة من الحمم، ارتفعت النيران في الأشجار حتى نافست ضوء الشموس، زحف الغبار على السماء وغطى شموسه.
سقط (ماني) وغرق وجهه في الرمال، رفع رأسه وسعل ورمق الطوف البعيد وهو يعلو ويهبط فوق الأمواج، كان (موباس) كالظل يقف أعلاه، انتبه فجأة وهتف: "يونا!"
نهض بسرعة واندفع يعدو وسط النساء، سقط عدة مرات ونادى عليها بكل ما يعتمل فيه من قوة، رآها هناك تساعد النساء والأطفال على الخروج من عششهم، لكن إلى أين أيتها العزيزة، لا سبيل للفرار، أمسكها من ذراعها بقوة فهتفت به وهي تقاومه: "دعني".
صاح بها حتى يعلو على صوت الضجيج: "لا جدوى ...لا تحاولين".
بكت في يأس وهي ترى النساء وأطفالهم يتفرقون بين الأشجار المحترقة، ارتخى ذراعها، فجذبها صوب الشاطئ.
الرماد.. الرماد في كل مكان... النيران تلتهم كل شيء.
رفع (ماني) رأسه إلى السماء، الشموس العشر تنتصب بلا اهتمام في رحلتها الأبدية، هل يعقل أن هذه هي نهاية كل شيء وتلك الشموس لم تسقط بينهم بعد، أو حتى تنكدر لرحيلهم!
سقطت الأشجار محترقة لتحول بينهما وبين الشاطئ، جذبها صوب الجانب الآخر، واندفعا يعدوان على غير هدى، الأوراق المشتعلة تتطاير في كل مكان، الطيور تحلق مبتعدة وقد مستها النيران، سعل بقوة، أفلت كف (يونا) من كفه....
التفت فلم يجدها، سمع صراخها لكنه لم يرها بل رأى الدخان والنيران، هتف باسمها عشرات المرات، لكن صراخها انقطع، رأى الحمم تقترب وتزحف ببطء وتبتلع الأشجار وتصهر الصخور، وتحيل كل شيء إلى سائل ملتهب.
الآن يبكي بألم... يبكي بحرقة...
يبكي على أبيه... وعلى أمه...
يبكي على كل الأشياء الحزينة التي لم يبكِ عليها...
يبكي وقد ظن أنه لم يكن يملك تلك القدرة على البكاء...
فجأة رآه بين النيران!
يقف هناك على رمال الشاطئ وسط الأشجار المشتعلة الساقطة...
(موباس)... لقد عاد، وكان يحمل جسدًا ضئيلًا مميزًا بين ذراعيه... (يونا)
صرخ في سعادة، واندفع يعدو صوبه، لا يعرف كيف فعلها لكنه اكتسب قدرة خارقة في تجاوز الفروع المحترقة وأمطار الحمم، وقفز بين اللهيب ليلحق بأخته و(موباس).
كان الطوف هناك بانتظارهما، ألقى (موباس) جسد (يونا) داخله وقفز (ماني)، دفع (موباس) الطوف بقوة على الرمال وقدميه الحافيتين تلجان في الرمال المبتلة الناعمة، دفع ..دفع... اندفع الطوف في المياه الثائرة قفز (موباس) إلى داخله، تأرجح على نحو مخيف إلَّا أنه اتزن، التقط المجاديف وأخذ يضرب المياه بقوة.
أخذ (ماني) يحاول إيقاظ (يونا) التي غابت عن الوعي، وهو يتحرك في كل ركن في الطوف، شيعتهم أصوات انفجارات رهيبة، توقف (موباس) عن التجديف ووقف في الطوف فتأرجح، وقف بجواره (ماني) وأخذا يرمقان وطنهما، زحفت الحمم على الشاطئ واندمجت بالمياه محدثة فوران هائل فارتفعت الأبخرة.
ربت (موباس) على كتف الفتى، كان يرمق ما يحدث مرتجفًا باكيًا، تركه وعاد ليجلس ويواصل التجديف، دار الطوف دورة كاملة ثم أعطى ظهره للجزيرة التي بدأت في التهاوي السريع، وشرع بالابتعاد وسط الأبخرة.
ومع شروق الشمس العاشرة كان الأمر قد انتهى...
***
اكفهر العالم وارتفع الموج كالجبال، شيء لم يره (ماني) من قبل، تمسك بقطعة الخشب الخلفية بجسده الصغير حتى كاد ينقلب من فوق الطوف، جاهد أمام صراخ (موباس) الذي ظل يجدف بما أوتي من قوة، ابتلوا تمامًا وأخذت المياه تتجمع في قاع الطوف، أخته الصغيرة مكومة في الأسفل لا زالت في إغماءة طويلة منذ سبع شموس ونصف.
لا يود (ماني) أن يفكر في الظلام الذي يقترب، لا أرض في أي مكان حولهم، فقط المياه من كل ركن، الطريق إلى حافة العالم، إلى مدينة الموتى، لا يبدو أنه سينتهي قريبًا، لا أرض في أي مكان، فقط الماء والسماء.
إنهم ذاهبون إلى حيث تذهب الشموس العشرة، قدّر (موباس) أنها ستنتهي بأرض صلبة، صاح (ماني) وهو يجاهد حتى يحتفظ بتوازنه على القارب: "ربما لا تنتهي إلى أرض صلبة... ربما تنتهي بأتون من لهب".
صاح (موباس): "سيكون هذا على الجانب الآخر... حيث تولد الشموس في كل يوم داخله وتصعد ثم تنطفئ على الجانب الآخر لا أكثر... إذا افترضنا صحة قولك... فإننا في الاتجاه الصحيح... تماسك".
صاح (ماني): "هل تود أن أجدف قليلًا؟"
- "لن تستطيع... إنك ضعيف الذراعين... أتمنى أن تستيقظ (يونا) لتساعدك".
نظر (ماني) إلى القاع الغارق في الظلال وصاح: "ستموت غرقًا إن لم تفعل".
- "لا بد أن أصلح الشقوق وإلَّا غرقنا... أتمنى لو تهدأ العاصفة قريبًا".
بالفعل كانت الأخشاب تئن، وملابسهم قد ابتلت تمامًا والبرد جمّد أطرافهم، فراح (ماني) يرتجف وقد تسمّرت ذراعاه على الدفة وتخدرتا.
لكن (موباس) لم يتوقف عن التجديف، تطلع إليه (ماني) في وهن، ثم صاح: "(موباس)... سنموت هنا".
- "لا تتوقف يا (ماني)... لا تستلم".
- "أنا لا أرى جدوى من الاستمرار... وأشعر بالوهن والدوار والجوع".
- "سوف نستريح يا (ماني)... سوف نستريح... حينما نجتاز العاصفة... إذا حل الظلام لن نعرف وجهتنا أبدًا... حينها سنتوقف".
سطع برق هائل في الأفق، تكاثفت سحب رمادية غريبة حجبت شمسين من الشموس فأظلم العالم وبدا اليوم كما لو أنه في نهايته.
بعد قليل توقف (موباس) عن التجديف وتصلب، ارتفع صوت واهن من قاع الطوف، ثم سعال حاد، ترك (ماني) الدفة واندفع أسفل أقدام (موباس) حيث كانت (يونا) راقدة، كانت تتطلع إلى ما يحدث في فزع وقد ابتلت تمامًا، احتواها (ماني) بين ذراعيه وهتف بها مهدئًا في إنهاك: "لقد انتهى الأمر... اهدئي... كل شيء سيكون على ما يرام".
قالت في وهن: "هل انتقلنا إلى أرض الأجداد؟"
"ليس بعد... إننا.."
لم يكمل عبارته لأنها فتحت عينيها في ذهول ودارت رأسها ترمق الأمواج العاتية في ذهول... هتفت في رعب: "أين نحن... (ماني)... ما هذا! إنه البحر... البحر يا (ماني)!"
أمسكها بقوة هاتفًا: "اهدئي".
رفع رأسه فوجد (موباس) متصلبًا، كاد يصيح لكنه أشار إليهما إشارة حادة ليصمتا، فزع (ماني) من اتساع عينيه وإرهافه للسمع، كان هناك صوت ما غير صوت الريح وصوت الأمواج والرعد، شيء ما حي ويتدفق أسفل القارب.
شيء ما ضرب القارب بعنف من الأسفل فاهتز، صرخت (يونا)، نهض (موباس) واندفع ساقطًا على وجهه عند الحافة، لحق به (ماني) و(يونا) وهو يطبق على فم أخته ويحيطها بذراعه، وراقبا المياه السوداء، اتسعت أعينهما الصغيرة وهم يرون ما يحدث.
في الأعماق، أسفل الطوف، كان شيء ما عظيم يمر ببطء...
***
أطبق (ماني) بكفه على فم أخته وأحاطها بذراعه كي لا تصرخ، فبدت وكأن الصرخة خرجت من عينيها عوضًا عن فمها المكمم.
كان لهذا الشيء ضوء أزرق باهت، كتموا أنفاسهم وهم يرونه يبتعد ويتوغل في الأمواج العاتية، هطلت الأمطار بعنف على الطوف المفتوح كما لو كانت السماء قد فتحت أبوابها فجأة، وشيعها البرق والرعد.
فجأة رأوا الشيء الوامض يدور في دائرة واسعة ثم يعود صوبهم بسرعة، وقف (موباس) وتحرك بسرعة صوب المجاديف وعيناه متعلقتان بالضوء الأزرق القادم عبر الأمواج، راح يجدف بسرعة وصاح بهما: "تماسكا ..."
ارتفعت المياه وتدفقت في قوة وحدث الارتطام سريعًا، دار الطوف حول نفسه وكادوا يسقطون في المياه الباردة.
عبر الشيء أسفل الطوف من جديد رأوه يبتعد على الجانب الآخر، بصعوبة تمكن (ماني) من الوصول إلى الدفة بينما نزلت (يونا) في قاع الطوف الغارق في المياه من جديد أخذت تعب الماء بيديها الصغيرتين وتلقيه إلى البحر، وأخيرًا رأت وعاء خشبيًّا طافيًّا وسط متاع (موباس) فاستخدمته، صاح (موباس) في (ماني): "إلى اليمين ..إلى اليمين".
تصلب (ماني) حين رأى الشيء يدور مخترقًا الأمواج ليعود إليهم من جديد، واصل (موباس) الصياح به، لكنه بعد قليل انتبه إلى ما يراه، حين دار القارب حول نفسه في دوامات، أخذت الشمس الوحيدة الباقية تظهر وتختفي باستمرار خلف الأمواج، بعد قليل سيكون الوضع مزريًا ومعرفة وجهتهم ستكون مستحيلة.
تبدد الضوء الأزرق وبدأ في الخفوت تدريجيًّا، قفز (موباس) صوب (ماني) وأمسك الدفة بقوة فاهتز الطوف بسرعة، تطلع إليه (ماني) بأعين متسعة وكأنه أفاق توًّا من نوم عميق، ارتجفت شفتاه وهتف: "ما ...ما هذا الشيء؟!"
لهث (موباس) وقد انهالت خصلات شعره المبتلة على وجهه، كانت عيناه متسعتين في فزع، هتف: "أين ...أين ذهب؟!"
رمقه (ماني) ثم تحرك صوب حافة الطوف ورمق المياه المظلمة أسفل الطوف، واصلت أخته في القاع رمي المياه المتجمعة فيه بسرعة وفي عينيها نظرة ذاهلة، وإن كان المطر يهطل بغزارة فبدا فعلها دون جدوى.
هتف (ماني): "إنني لا أراه".
أشار له (موباس) أن يتمسك بالدفة ثم تحرك بحذر عائدًا إلى المجدافين، هتف (ماني) في أخته:
"واصلي نضح المياه".
فجأة سطع الضوء الأزرق الباهر في عيني (ماني)، وانعقدت الكلمات في فمه وهو يرى ذلك الشيء الرهيب يمر أمام عينيه، وسقط (موباس) في المياه بينما ضرب الشيء السطح بقوة وغاص من جديد إلى الأعماق، تصلب (ماني) وبات كل شيء بعيدًا.
دار الطوف بقوة، سمع صرخات أخته الهستيرية والتي مرق الشيء العظيم من أعلاها مباشرة، بات صوتها بعيدًا وهي تنادي عليه مرددة اسمه، وكأنه قادم من أزمان وأماكن بعيدة.
نزع نفسه من ذهوله ورمق المياه على يمينه، سمع الصراخ باسمه قادمًا من المياه، رأى ذراعا (موباس) تلوحان له في الظلام، مال بقوة صوب الجانب الآخر فدار الطوف وضربت مقدمته المثلثة الأمواج العاتية، سقطت (يونا) على الجانب الآخر من الطوف، سطع الضوء في قلب المياه المظلمة واقترب الشيء بسرعة، رآه (ماني)، التفت صائحًا في (يونا): "(يونا)... اتركي نضح المياه".
صاحت: "أخبرتني ألَّا أفعل!"
صاح صيحة هادرة: "يونا!"
رفعت رأسها فهتف بها وقد غرق وجهه في الضوء المتقطع للسماء: "تقدمي..."
تحركت بطريقة خرقاء مقتربة منه وسقطت جواره، صاح بها ومياه الأمطار تضربهما بلا رحمة: "يجب عليك أن تتمسكي بقوة بقطعة الخشب تلك، وأن تحافظي عليها مستقرة وثابتة في وسط الطوف... هكذا... هل تفهمين؟ (موباس) في المياه.."
التفتت إلى المياه المظلمة ورأت الظل بعيدًا وذلك الشيء المضيء يقترب بسرعة، أمسك يديها بقوة ووضعها على الدفة ثم قفز صوب المجاديف تمسّك بها بكلتا ذراعيه بكل ما يمتلكه من قوة، تعلقت (يونا) بالدفة بكامل جسدها وهي تصرخ باكية لتختلط دموعها بمياه المطر:
"ماااااااااااااااني".
لم يجب، كانت ملامحه مكفهرة وهو يرفع جسده كله ثم ينزل من جديد ليحرك المجاديف، بات أمرًا مستحيلًا أن يواصل على هذا النحو، ورغم ذلك واصل باستماتة، صاحت (يونا) بما يفكر فيه:
"مااااااااااااااني... سوف نموت بدونه".
أخذ يفكر، ربما كان عليهما أن يموتا هناك في الجزيرة، ربما كان كل هذا الأمر خطأ (موباس) منذ البداية، ربما يجب عليه أن يتركه، ليس هنا وسط المياه الثائرة.
كانت مشكلته دومًا هي أنه في المواقف الصعبة يتجمد تفكيره أو يشرع في التفكير في أمور أخرى هامشية، لكن أي موقف صعب تعرض له من قبل لم تكن حياة شخص أو موته على المحك، هنا كان يأتي دور (يونا): "ماااااااااااااااااااااااااانيييييييييييي"
انتفض والتفت إليها، بالكاد كان يراها في وسط الأمطار الغزيرة، في يدها كان حبل طويل مجدول من الأشياء التي أحضرها معه (موباس)، ترك المجاديف واندفع صوبها، التقط الحبل وحاول أن يلقيه صوب (موباس)، لكن كان عليه أن يقترب منه أكثر أولًا، كان الشيء يدور بعيدًا بين الأمواج، كان المشهد وكأنه قادم من أعمق أماكن الكوابيس ظلامًا.
عاود التجديف بكل ما أوتي من قوة، فجأة اتخذ الضوء الأزرق في أعماق المياه مسارًا مختلفًا، توجه صوب الطوف مباشرة عوضًا عن (موباس)....
***
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.