ALMULTAQA2020

شارك على مواقع التواصل

" بالومبيلا "

صباحُ يومِ جديدٌ، أو ربما مكرر..
استيقظْتُ كالعادة قبل أن تشيرَ عقاربُ هاتفي إلى السادسة والنصف صباحاً، اعتدت من تكرارِ استيقاظي في نفس الموعد أن أسبق أجراس الاستيقاظ ، هذا ما يطلقون عليه الساعة البيولوجية لجسم الإنسان، فأنا على هذا الحال منذ أن بدأت عملي.
توجهت إلى المرحاض مباشرةً كي أحاول إفاقتي، لم أنل القسط الكافي هذه الليلة من النوم بسبب بعض الأرق والتفكير، لازال هناك بعض التقارير التي يجب أن انتهي منها سريعاً ولكنني لم أنتهِ بعد.
عادةً أتمهل في كل شئ، لا أحب العجلة فلازال الوقت مبكراً لذلك، أعددت قهوتي وجلست أحتسيها على أنغام الأخوان رحباني والصوت الرخيم الذي يُضفي لألحانهما الجمال والقوة ... فيروز.
وما أن بدأت تشدو حتى شرد ذهني معها، ذلك الوجه الملائكي الذي جاءنا منذ أشهر قليلة، أراها دوماً من خلف زجاج مكتبي ولكنّي لم أستطع التحدث إليها حتى الآن، ربما اليوم أو غداً أو يوم ما، لن أتعجل لقاءنا لأنه حتماً سيكون.
أتسلل أثناء مغادرتي للمنزل، وأقوم بإغلاق الباب ببطء شديد،على الرغم من كوني وحيداً في المنزل ولكنه الاعتياد ، هكذا كان أبي و كذلك صرتُ، توقفتُ أمام بوابةِ المنزلِ أستقبلُ أولى نسمات الصباح النقية أفتح لها ذراعي فأتركها تخترق رئتيّ، استنشقها بعنف وكأنها آخر النسمات التي ستمرعلى هذا الكون وأنا أرغب في الاستئثار بها لنفسي فقط ، لا أحب استقلال سيارات الأجرة، فمنزلي قريب من ميدان عبد المنعم رياض، لذا أتوجه سيراً حتى محطة الأتوبيس، انتظر تلك الحافلة التي ستأخذني لوجهتي اليومية ، شارع صلاح سالم.
أتلذذ بالنظر في وجوه البشر، خاصة هؤلاء المبكرون في الصباح، جنودُ المعركةِ الحقيقيون، معركة الحياة اليومية، وجوه أنهكها التعب، وبَخَلَ عليها الزمنُ بأقساطٍ كثيرةِ من الراحة ولكنهم بالرغم من ذلك لازالوا يحتفظون بابتساماتهم .
لم يعدْ هناك طائل من قراءة الصحف ؛ فكل عناوينها منقوشة فوق جِبَاههم، وسطورها يمكنك أن تقرأها بمجرد النظر إلى أعينهم، ثلاثون دقيقة فقط كافية كل صباح لقراءة الحاضر والمستقبل أيضاً.
تتوقفُ الحافلةُ أمام مقـرعملي، فأترجل منها سريعاً، وكالعادة لا أحتاج لإبراز هَويَّتي لأفراد الأمن ، فأنا أعمل هنا منذ سنوات عدة، أتلقى التحايا اليومية وأردها، مقرونة بابتسامات تدعو لاستقبال يوم عمل جديد دون مشاكل. عادةً لا أحب الألقاب لذا يناديني الجميع هنا باسمي، "حسام " كبيرهم وصغيرهم، أعلاهم منزلة وأقلهم، ولا أكره ذلك أبداً.
توجهت إلى مكتبي لأجد زميليّ أحمد ورامي على شفا مشاحنةٍ وعِراك آتيين، بسبب مباراة الأمس، فكل منهما يحاول الانتصار لفريقه، أما أنا فلا أرى فائدة من هذا، فلا أحد في العالم يستحق أن أقوم بتشجيعه سواي، لا طائل من هذا التعصب البغيض. ولهذا لا أحاول التدخل أبداً بينهم إلا قبل احتدام الأمر.
أطالع أوراقي الكثيرة التي لم أنتهِ منها بعد، أعيد ترتيبها طبقاً لأهميتها دون جدوى، فكلها ذات أهمية، أحاول الغوص مجدداً حتى أسمع اسمي يُنادى :
- حسام! حسام! يلا عشان فيروز مستنياك .
حان اللقاء، وأذِنَ الزمان لي أن أستمع للشدو عن قرب، لم أشأ أن يكون لقاؤنا الأول بزي العمل الرسمي ، أمقت الرسميات جداً، لذا حملت أوراقي وتوجهت للغرفة، بطرقات استئذان خفيفة فتحت مقبض الباب، وجدتها تجلس كما أراها دوماً من خلف الزجاج، ولكن ازداد اليوم بريقها بعد أن أُزِيل هذا الحاجز، سحبت الكرسي ووضعته أمامها ثم جلست، بدأت أتفحصها بدقة، وجهٌ ملائكي لا ينُمْ عن شئ سوى براءة الأطفال، ولكنه بغتةً يُصبَغ بملامح الخوف والرهبة ، وسُرعان ما تعود السكينة إليه، وكأنها تُتابع حرباً ضارية بين أحد الملائكة وأحد أعوان إبليس، اقتربت منها قليلاً مُمسكاً بيدي ملف يحتوي على بعض الأوراق، وما أن وقعت عيناها على صورتها حتى ابتسمت وأشارت بإصبعها قائلة:
- ڤولا
فأجبتها:
- قصدك فيروز؟
فردّت بامتعاض وغضب شديدين:
- لأ ... ڤولا.
فما كان مني سوى الامتثال لها، ثم نظرت في ما تحمله يداي " اضطراب ما بعد الصدمة PTSD "، تم عمل 3 جلسات وبدأت الاستجابة للعلاج.
كان هذا فقط ما كُتب دون توضيح، كنت على وشك توجيه سؤالي الأول لها حين وجدتها تشير بيدها ناحية الزجاج، فنظرت لأجد رجلاً يقف في الخارج يلوّح لها بيده مشيراً لها بالاطمئنان.
- ها يا ستي ، مين ڤولا بقى ؟ .
- ڤولا!! ڤولا بنتي، أنت ماشوفتهاش؟ .
- لأ ماشوفتهاش. هي مع باباها؟ ولا فين؟ .
- لأ ڤولا فوق، طايرة زي العصفورة، فووووووق....
ثم بدأت تُشير بإصبعها لأعلى موجهةً نظرها لنافذة الغرفة المطلة على الحديقة، وكأنها تنتظر أن ترى شيئًا يمر عبر السماء. لم يتضحْ لي الأمر، ولم أحاول أن أترك لفضولي مساحة أكبر من ذلك حتى لا أهدم ما سبقني زملائي في بناءه.
وعلى الرغم من تحيّني لهذا اللقاء منذ أشهر إلا أني آثرت ألا يستمر أكثر من ذلك، تسللت للخارج متوجهاً لهذا الشخص المنتظر بالخارج، وجهت له التحية وقدمت نفسي له :
- أهلاً بيك، أنا حسام ، دكتور هنا في المستشفي، بس دي أول مرة أقعد فيها مع ڤولا قصدي فيروز.
- أهلاً دكتور حسام .
- لأ ، حسام ... حسام بس ، أنا مبحبش الألقاب يا أستاذ....
- عادل، اسمي عادل من غير أستاذ، بلا ألقاب بقى يا دكتور .
- تمام يا عادل، أنت زوج فيروز ولا أخوها؟ .
- أنا جوزها، طمني أخبار حالتها إيه دلوقتي؟ .
- الحقيقة دي أول مرة أقعد معاها، أنا مكنتش متابع حالتها، بس استغربت جداً لموضوع ڤولا دا، إيه حكايته؟
طأطأ عادل رأسه وفرّت دمعة من عينيه حاول منعها ولكنها أبت ذلك، لكنه سرعان ما تماسك وبدأ يحكي:
- أنا وفيروز متجوزين بقالنا 6 سنين، وربنا مارزقناش بالأولاد في أول الجواز، تعبنا ولفينا على دكاترة كتير ومفيش أي مانع، حاولنا نعمل حقن مجهري وبرضو محصلش نصيب، سلمنا أمرنا لله، كانت بتتعذب قدامي من اشتياقها للأطفال، ولكن مفيش في إيدي حاجه غير إني أدعي ربنا، لحد ما في يوم تعبت ونزلنا جري على الدكتور واكتشفنا إنها حامل.
كانت الفرحة مش سايعانا، وكأن الرب قرر أخيراً يطبطب على قلوبنا، مكناش عارفين إنه امتحان لصبرنا، وأي امتحان في الدنيا لازم ليه وقت وبيخلص فيه، وبتتاخد منك ورقة الإجابة.
عدت شهور الحمل وشرّفت " ڤيوليت "، كانت ملاك من السما، كبرت شهر ورا التاني وسنة ورا التانية، وفيروز قاعدة معاها في البيت باستمرار، نسيت أقولك إن فيروز خريجة آداب قسم إيطالي، كانت بتحب أغنية " ڤولا ڤولا بالومبيلا " وكان نفسها لما ربنا يبعتلها طفل ماتغنيلوش غيرها، وبدأت ڤيوليت تحب الأغنية وتسأل يعني إيه الكلام دا، وبحسن نية قالتلها فيروز معناها.
في يوم كانوا مشغلين الأغنية بصوت عالي وفيروز شايلة ڤيوليت وواقفة في البلكونة بتفرجها على العصافير في السما، فتَحت الباب وماحسوش بيا وأنا بقفل الباب فيروز التفتت لوجودي وفي لحظة اتحركت ڤيوليت من ايديها و......... "
وهنا أجهش عادل بالبكاء، لم يستطع حبس دموعه أكثر من ذلك، وبطبيعة الحال ذهب عقلي لاستنتاج التالي في الأحداث، كانت هي الصدمة التي أدت لما آلت إليه حال فيروز الآن، ووجدتني أمسح دمعي الذي خانني، هرب من مقلتيّ دون سابق إنذار. وجدتني أربّت على كتفيه في محاولة مني لتهدئته، فقْد الابن من أقسى الاختبارات التي يتعرض لها الأب والأم في مُقتبل حياتهم، ولكنه عنوان آخر من عنواين الصحف التي لم ولن تقرأها في حافلة الصباح، أو على جباه المارة والمشاة.
عُدت للغرفة مرة أخرى لاستكمال جلستي مع ڤولا، مُستمعاً لها في اهتمام بالغ، مُدوناً بقلمي بعض الملاحظات و أسماء لبعض علاجات الاكتئاب، وقد قررت في هذه الأثناء ألا يتكرر اللقاء مرة أخرى.
مليئة هي الحياة بالعناوين، كلٌ يحمل ما يطيقه، وتظل دائماً صفحات العيون ملأى بما لا نُدركه.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.