hossamhasan

شارك على مواقع التواصل

مقدمة

لا بد أن هذا هو المكان، لكن لا تزال الإحداثيات غير دقيقة بالمرة، إذ كانت الإحداثيات تشير إلى بحيرة كبيرة فحسب، ولم أرَ في تلك البحيرة سوى مركبًا شراعيًا واحدًا يبدو صغيرًا من تلك المسافة.
وعلى نفس الشاطئ الذي أقف عليه كان منزلًا من ثلاثة طوابق يقف داخل الماء على عدة أعمدة خشبية أساسها في المياه الضحلة، ويتصل باليابسة بممر خشبي طويل، بدا السبيل الوحيد إلى المنزل، ويخرج من المنزل إلى داخل البحر؛ ممشى آخر يبدو كمرفأ صغير.
شعرت بالضجر فاتصلت بالرجل الذي أخبرني بالمجيء إلى ذلك المكان النائي، لكن لم يكن هناك أي إشارة، فقررت التوجه إلى المنزل لربما يكون منزله، سِرتُ على الممر الخشبي بحذر وطرقت الباب عدة مرات فلم ينفتح، تفقدت داخل المكان من النوافذ فبدا خاليًا، ودُرت حوله لأجد بابًا آخرًا يواجه البحر والمرفأ، فطرقته من دون إجابة، فعدت وجلست على المرفأ الصغير أدلي ساقي في الماء.
وبدافع المزيد من الملل أخرجت هاتفي وعدت أتصفح محادثتي القصيرة معه، كان اسمه دكرور، فقط دكرور، أغرب اسم سمعته في حياتي، لا يبدو اسمًا مكسيكيًّا أو أمريكيًّا، ممكن أن يكون اسمًا للهنود الحمر من سكان أمريكا الأصليين، بحثت عن ذلك الاسم فلم أجد عنه سوى أنه اسم جبل في مصر، فلم أزدَد سوى حيرة.
صورته الشخصية كانت وهو يقف على مركب ويرفع يدًا تشير إلى حوت معلق في الهواء يبدو كما لو كان طار من الماء فقط لأخذ الصورة معه، ورغم أنها تبدو واقعية في ظاهرها، إلا أنه من المؤكد أنها معدلة بطريقة ما، إذ يصعب تصديق أنه انتظر حوت يطير من الماء بجانب المركب لالتقاط صورة كهذه، فرصة كتلك لأخذ صورة تبدو مستحيلة، وذلك مما جعلني أزداد يقينًا بأنه محتال آخر.
لكن المحتال هذه المرة مهووسًا بالحيتان بشكل خاص، فقد أخبرني أنه قد عاش في بطن حوت لبضعة سنوات في منتصف القرن التاسع عشر، كما أني قمت ببحث بسيط عن ذلك المكان قبل أن أصل إليه، "بحيرة سان إجناسيو"، لم أجد في ذلك المكان ما يثير اهتمامي، فقط أنه مكان توالد ومرتعًا لنوع من الحيتان تسمى الحيتان الرماديّة، يأتي السياح إليه لمشاهدتها فحسب، وذلك الرجل دكرور يعمل كمرشد لمشاهدة السياح لتلك الحيتان.
كنتُ قد سألت في أحد مواقع التواصل: لم قد يعيش المرء مائة وثلاثين عامًا دون أن يشيخ؟، جاءني الرّد من ذاك الرجل أنه يعرف الإجابة دون أن يخبرني بها، وحين سألته: كيف ذلك؟، لم يرُد، وحين سألته: كيف تعرف ذلك؟، أخبرني أن عمره مئتان عام ولا يزال يبدو في عقده الرابع، بل إنه يبدو أصغر في الصورة، كما أنني رغم أن عمري أكثر من مائة وثلاثين عامًا؛ إلا أني أبدو كأني خرجت من مرحلة المراهقة لتوّي.
أخبرني الأطباء أني لدي معدل نمو بطيء جدًا يتراوح بين خمس إلى عشر سنوات كل سنة، وتعجبوا من أني لست قزمًا بل كنت أنمو لأصبح رجلًا طبيعيًا مكتملًا، فقط سيستغرق الأمر أكثر من الطبيعي، جعلني ذلك أقدر أن عمري يتراوح بين مائة وخمسين ومائة وثلاثين عامًا، من دون أم أو أب ليخبرني بيوم ميلادي، مؤكد أنهما قد ماتا قبل أن أعيهم، فقد كنت في هيئة تسمح بدخول المدرسة وقد تخطيت الخمسين، وطوال النصف الأول من القرن العشرين كنت أبدو في بداية مرحلة المراهقة، كما أخبرني الأطباء أيضًا أن لدي طفرة تجعلني لا ينمو لي شعرًا أبدًا، فكنت دائمًا ما أضع شعرًا وحواجب مستعارين.
ومنذ أن بلغتُ أشدّي وأنا أبحث عن سبب مقنع لكيفية العيش لهذه المدة، فقط بعض المحتالين كانوا يضعون نظرياتهم الخاصة، أحدهم أخبرني أن أمي ولدتني في بحيرة ماء الحياة، وآخر يقول أنه لا شك أن أحد والدي كان ملاكًا، وآخر يدعي أني نفسي ملاك، وآخر قال أني شيطان، وآخر قال أن هناك روحًا شيطانية قد انتقلت إلى ذلك الجسد، وها أنا بصدد محتال آخر لديه كذبة أخرى.
عدت أقرأ رسالته التي قرأتها عشرات المرات دون أن أستوعبها أو أفهم معناها: "تقول المصادر الموثوقة التي لا شك في صحتها؛ أنه في زمنٍ بعيد كان هناك نبي اسمه يونس قد مكث بداخل بطن حوت لأيام، لكن لا يوجد شيء يقول أنه كان آخر من فعل ذلك، أو أن ذلك الحوت كان الوحيد الذي بإمكانه فعلها. فإذا تجرأت وارتكبت المعصية، فلا تتجرأ وتركب البحر، لا تظن بذلك أن تنجو وتهرب من القصاص، ربما إن هربت إلى أرض أخرى ستفلت، لكن في البحر ينتظركَ الجلاد...
توقفت عن القراءة حين سمعت صوتًا آتيًا من الماء، لم أتبينه ولم أفكر في ماهيته، حتى عاد يتكرر ورأيت مصدره، كان حوتًا ينفث عمودًا من البخار الأبيض كنافورة، أعجبت بشدة لرؤيته رغم أني قد رأيت الكثير من الأشياء العجيبة على مدار أكثر من قرن، إلا أنني لم أرَ حوتًا بعيني من قبل، وأثناء ما كنت أتتبعه بإعجاب سمعت من ورائي صوتًا آخر آلفه، صوت خطوات إنسان.
كان رجلًا قد خرج من المنزل حاملًا حقيبة على ظهره ويجر أخرى وراءه كأنه مسافر، ويبدو أنه لم يلحظني أجلس على الممر، فنهضت إليه واستوقفته:
- مهلًا!.. يا سيد!
التفت الرجل وعقد حاجبيه يحدجني باستغراب شديد وقال:
- ماذا تفعل هنا؟ من أخبرك أن تأتي هنا؟
كان رجلًا آسيويًا ليس فيه ما يميزه سوى أنه كذلك، ثم أشار إلى المركب الذي في البحر وأردف:
- لقد فوّتَّ الموعد، الرحلة خرجت بالفعل!
- ‏أي رحلة؟! لقد جئتُ لأرى السيد دكرور
- ‏دكرور؟؟!!
قالها بتعجب شديد حتى أنني ظننت أني قد أخطأت في هجاء ذلك الاسم الغريب، لكن قلت بثقة:
- ‏نعم دكرور! هل تعرفه؟ هل يعيش هنا؟
- ‏دكرور!... دكرور هو من أخبرك أن تأتي إلى هنا؟
قالها يتساءل مع نفسه، ثم قال كأنه تذكر شيء:
- معذرةً! ماذا قلت اسمك؟
فكرت "لم أقل"، وقلت:
- إدوارد براون.. نادني إدي!
فصافحته، ثم قال بعد تفكير وتردّد:
- يوزي!.. لحظة من فضلك!
وابتعد يتكلم في هاتفه وهو ينقل بصره بيني وبين المركب في الماء، ثم عاد وقال وقد بدت عليه السعادة:
- معذرةً يا سيد إدي! سيأتي أحدهم ليقلّك، يجب أن أذهب الآن...
- مهلًا! هل هذا فندق أو ما شابه؟
- ‏لا، ليس تمامًا، وداعًا يا إدي!
"يبدو رجلًا طيبًا" فكرت في ذلك وعدت أجلس على المرفأ أشاهد البحر بحثًا عن حيتان أخرى، إلى أن لاحظت قاربًا صغيرًا بمجدافين يقترب من ناحية المركب الشراعي الكبير.
جاء سريعًا رغم أن رجلًا واحدًا هو من كان يجدف، ورسا به إلى المرفأ وصعد منه الرجل، وهذا أيضًا لم يكن دكرور، إذ كان رجلًا من أصول إفريقية رفيع وطويل، كان وسيمًا ويعتمر طاقية لم أرَ شعرًا تحتها، جاءني يبتسم وقال وهو يمد يده للمصافحة:
- مرحبًا أنا سام!، وأنت يجب أن تكون إد...
- ‏إدوارد براون.. نادني إدي!
- ‏إدي؟!! حسنًا! فليكن إدي إذًا.. من بعدك يا سيد إدي!
نزلنا إلى القارب، وبدأ سام يجدف وحده بعد أن عرضت عليه المساعدة ورفضها باحترام، فجلست أمامه وقلت:
- إذًا أنت تعرف دكرور؟
- ‏نعم، نحن أصدقاء
- ‏إذًا أي نوع من الأسماء هذا الدكرور؟! أليس له اسم أخير حتى؟
ردّ سام باقتضاب لكن لا تزال الابتسامة على وجهه:
- إنه ليس لديه اسم ثانٍ حتى يكون لديه اسم أخير
تعجبت من الإجابة كثيرًا فسكتُّ بعدها، ثم سرعان ما رأيت نفثة حوت أخرى، فأشرت إليها بانفعال فقال سام:
- سترى الكثير منها في الأيام القادمة!
وصلنا إلى المركب بسرعة ولاحظت أن عليه اسم "أطلس"، فصعد سام أولًا ثم ساعدني، وربط القارب بمؤخرة المركب، وقاد الطريق إلى المقدمة، ولم يكن المركب أفضل حالًا من القارب الصغير، فقد كان متهالكًا وكل خشبة فيه تصدر صريرًا.
كان هناك ما بدا كمنصة لها سور صغير تخرج من ميسرة المركب، يقف عليها حوالي عشرة أشخاص منهم بعض الأطفال، وجميعهم يرتدون سترات النجاة إلا واحد، وبعضهم يخرج نصف جسده خارج القارب وبعضهم الآخر يلتقط الصور، فعلمت أنه السياح.
‏كل ذلك لم يلفت انتباهي بقدر الحيتان التي حول المركب، أربعة أو خمسة ربما أكثر، كانوا يسبحون حول تلك المنصة ويُخرجون رؤوسهم الضخمة بجانبه، ويعانقهم الأطفال والكبار ويربّتون على رؤوسها، وأثناء ما كنت أشاهد بدهشة وإعجاب قال سام:
- هل تريد أن تراهم عن قرب؟
وافقت بعد تردّد، فنزل أولًا وتبعته فزلّت قدمي لأستقر على المنصة محدثًا صوتًا لم يلفت انتباه السياح إلا ذلك الذي لا يرتدي سترة نجاة، التفت إليّ ورفع نظارته الشمسية على جبهته يرمقني في ثبات، وكان هو دكرور.
أول ما لاحظته فيه هو أنه يضع عدسات لاصقة على عينيه، ثم لاحظت أنه يبدو فعلًا في عقده الرابع، إلا عينيه يبدوان في عمر المئتين، كانتا عميقتان جاحظتان بعض الشيء ما حولهما أغمق بقليل من لون بشرته الخمري الفاتح، يوجد القليل من الرمادي على جانبي شعره، لكن لحيته الخفيفة فيها من الرمادي أكثر من الأسود.
ظل يحدجني في ثبات دون أي تعبير على وجهه، حتى أصبح الأمر غير مريح، وأصبحت متردّدًا من أن أقدم له نفسي، حتى قال وهو لا يزال يثبت عينه عليّ:
- حسنًا أيها الرفاق! لقد انتهينا.. أرجو أن...
قاطعَته غمغمات الامتعاض وصيحات الاعتراض من الأطفال، وأنا نفسي شعرت بالخيبة بدون سبب، ثم قال جميعهم بصخب:
- مرة أخيرة فقط! لن نعود إلا بعد أن نراها مرة أخيرة!
هدأهم دكرور وقال بابتسامة:
- حسنًا! ولكن ستساعدوننا تلك المرة
علت هتافات الفرح من الجميع، ووقف دكرور عند حافة المنصة وسط البقية عن يمينه ويساره، ووقفتُ بجانب سام عند طرفها، ثم قال دكرور:
- حسنًا مثل المرة السابقة
وحنى جسده من سور المنصة ووضع كفه في الماء كأنه يغترف منه وفعل الجميع المثل، وفعلتُ مثلهم في استغراب وإعجاب، ثم قال دكرور:
- مستعدون! مستعد يا سام!
رفع إليه سام إبهامه، فأردف:
- عند العد ثلاثة! واحد.. اثنان...
قال لي سام:
- شاهد هذا!
- ‏ثلاثة!
قالها دكرور ورفع كفه عن الماء إلى السماء وفعل الجميع المثل، وفي نفس اللحظة خرجت ثلاثة حيتان عملاقة تطير من الماء، ليبدو الأمر كأننا رفعناها بأيدينا المجردة، ثم عادت تهوي في المياه بعنف محدثة اضطرابًا هائلًا فيها حوّلت سطحها إلى زبد أبيض.
ووسط ذهولي وخوفي الذي يثير الأدرينالين في عروقي؛ كان باقي السياح يصفقون بأيديهم ويصيحون بسعادة، ودكرور ينحني إليهم بحركات مسرحية كأنه انتهي من فقرته في عرضًا سحريًا.
لا أنكر إعجابي الشديد بالأمر، وأن ذلك الدكرور الغريب قد أثار اهتمامي وفضولي، كما لا انكر بعد ما رأيت؛ أن صورته الشخصية من الممكن أن تكون حقيقية وليست معدلة.
وعاد الجميع إلى متن المركب على مضض، ثم أبحر به دكرور وسام لكن لم يعودا إلى المنزل، بل أبحرا حتى خرجا إلى مياه المحيط، ومنه إلى بحيرة أخرى، حتى وصلا إلى مرفأ آخر أكبر عنده مخيم صغير وسيارات، فنزل السياح وهم يودّعون دكرور وسام بحماس، ثم لم يبقَ على المركب سوى نحن الثلاثة.
كانا يتكلمان بعيدًا عني ويبدو عليهما العصبية وهما ينظران إليّ من حين لآخر، ثم جاءني دكرور وهو يمد إليّ يده ويقول:
- معذرةً يا سيد...
صافحته فسكت فجأة، وظل ينظر إلي ويتفرّس فيّ كأنها أول مرة يرى إنسان، فقلت قبل أن يصبح الموقف أكثر غرابة:
- أنا سعيد لأننا تقابلنا أخيرًا يا سيد دكرور!
- ‏أه! وأنا أيضًا... دعني أدعوك إلى العشاء اليوم يا سيد إد، وسنتكلم حينها
- ‏حسنًا.. لا بأس!
بدا دكرور مشتتًا وحائرًا بعض الشيء، وعاد إلى سام يتكلمان، ثم أبحرا عائدين إلى المنزل.
المنزل واسع من الداخل وهادئ ومريح ذو أثاث بسيط وجميل، والنوافذ تطل على المياه كأنك في مركب في عرض البحر.
قال سام:
- يبدو أنك متعب يا إدي، دعني أدلك إلى غرفتك
- هل هذا فندق؟
- لا، ليس تمامًا..
وتبعته إلى أعلى فقال دكرور بابتسامة غير واثقة:
- أراكَ على العشاء!
قادني سام إلى غرفة من أربعٍ في الطابق الثاني، وقال:
- إذا احتجت أي شيء سأكون في الغرفة المقابلة
كانت غرفة صغيرة جدًا تبدو ملكًا لأحد من قبل، وأكثر ما أثار انتباهي كانت شعورًا وشوارب ورموش وحواجب مستعارة بشتى الأشكال والألوان، وإذ كنت مرهقًا جدًا فلم ألقِ لذلك بالًا، ونلت قسطًا من النوم واستيقظت بعد أن أتى الليل، فنزلت إلى أسفل ولم أجد سوى دكرور جالسًا في هدوء تام وفي ظلام شبه تام فبدا كأنه يتأمل، فتعمدت أن أقطع عليه تأمله وسعلت فالتفت إلي وحيّاني بإماءة وابتسامة، بادلته التحية وجلست بالقرب منه، وسألته بعد مدة:
- من أين أنت يا دكرور؟
- مصر
قالها باقتضاب كأنه يتعمد إسكاتي ولم ينبس أحدنا بكلمة بعدها، ورغم تعجبي إلا أني فكرت "حسنًا هذا يفسر الاسم".
ثم قال دكرور بعد مدة طويلة من الصمت كأنه انتهى من تأمله:
- أرجو أن تكون استمتعت اليوم يا إدي
- أه! أنا لم أرَ في حياتي شيئًا كهذا
- ‏حقًا؟! أعتقد أن هذا ممتع بالنسبة لأحدٍ قد عاش...
- ‏مائة وأربعين سنة، أكثر أو أقل عشر سنوات
- ‏أه! كدتُ أنسى...
قام دكرور وجلب شيئًا من على الطاولة وقدمه إلي وقال:
- العشاء!
كان العشاء عبارة عن بيتزا باردة، ورغم أنني لم أكن جائعًا جدًا إلا أني كنت ممتنًا جدًا، فشكرته وأكلت في صمت، حتى عاد يقول:
- ومن أين أنتَ يا إدي؟
- الولايات المتحدة
زفر ضحكة ساخرة وقال:
- أه! لم أكن واثقًا من أنك سوف تأتي
- ولا أنا.. أرجو ألا يكون ذلك مضيعة لوقتي
- أنا أعلم لمَ جئتَ يا إدي، لكن لا أعلم بما أخبرك
- حسنًا.. أرجو أن تعرف لأني قطعت مسافة طويلة لكي أعرف أنا أيضًا
- هناك أشياء أصعب من أن تقال، وحكايات أقسى من أن تحكى
تعجبت من الكلام الذي يبدو في غير موضعه، وقلت:
- ‏ماذا؟!.. لكنك تعرف لماذا عشتَ مئتان عام
- مئتان وثمانية تحديدًا
- لكنك تبدو...
- في السادسة والعشرين، أو ربما أبدو في عقدي الرابع، لكن الأمر بدأ وأنا في السادسة والعشرين
- ما الذي بدأ؟
سكتَ دكرور يقلب الكلام في رأسه ثم قال:
- حياتي في بطن الحوت!
فكرت "لقد بدأ الهراء سريعًا"، فقلت مدعيًا الاهتمام:
- وهل هذا ما أعطاك تلك الحياة الطويلة؟
قال دكرور بتردد وحيرة:
- من الصعب القول.. لكن...
قاطعته:
- على حد علمي.. فأنا لم أدخل بطن حوت من قبل، ومع ذلك...
قاطعني:
- هل تحب القراءة يا إدي؟
تعجبت من تغيير الكلام المفاجئ فقلت:
- القراءة!! بالطبع!.. لماذا؟!!
قام دكرور من دون أن يرد، وصعد السلم إلى العلية، وسرعان ما سمعت جلبة آتية من أعلى، ثم عاد حاملًا صندوقًا بين يديه ووضعه على المنضدة، ثم أخرج ما به ووضعه أمامي فكانت أوراق صفراء قديمة تبدو بالية، يحتويها غلاف جلدي من دون أن يمسك الورق معًا.
قرأت المكتوب على أول صفحة "سكان أطلس"، ولاحظت أنها مكتوبة بآلةٍ كاتبة وليست مطبوعة، ثم قلت:
- ما هذا؟
- ‏هذا ما يصعب قوله
قلبتُ أول صفحة وقرأت العنوان على الصفحة التي تليها "الأبكم"، ودون أن أقرأ ما تحته عدت أسأل:
- ما هذا يا سيد دكرور؟
قال دكرور بحماس:
- إنها مذكرات، أو يمكنك القول أنها سيرة ذاتية، أو هي قصة جزء صغير من حياتي مكتوب كرواية
- رواية!!! اللعنة! لا تقل أنها عن مغامرتك في بطن الحوت
- بالضبط!
فكرت "كان يجب أن أعلم أنك محتال آخر"، ثم قلت بيأس وضيق:
- لمَ لا تخبرني بالأمر سريعًا لكي أرحل سريعًا
- وأين المتعة في ذلك؟! كما أني لا أريد أن أحكي عن الأمر، فأنا أجيد الكتابة أكثر من الحكي
تنفست بهدوء لكي لا أنفعل وقررت أن أجاريه، فأشرت إلى الأوراق وقلت:
- إذًا سيخبرني ذلك لماذا نعيش كل هذا العمر من دون أن نشيخ؟
- سيخبرك بأكثر من ذلك بكثير
- مهلًا! لكنها قصة حياتكَ.. ما علاقتي أنا بقصة حياتكَ أنتَ؟
- لستُ متأكدًا حقًا، لكنني أعدك أنك ستجد فيها الإجابة عن أسئلتك
فكرت لمدة وأنا أبتلع قضمة أخرى من البيتزا، ثم قلت:
- إذًا هل آخذه معي أم لديك نسخة أم ماذا؟
- هل تريد أن ترحل؟ أنا أرحب بشدة أن تكون ضيفي للمدة التي تلزمك، كما أنه لا يوجد نسخة أخرى ولا أريد أن يخرج هذا الكتاب من هذا المنزل
تابعت أكلي في استغراق، أفكر في ذلك العرض بإمعان أكثر، فوافقت أخيرًا إذ لم يكن هناك ضير من المكوث لبضعة أيام أخرى وإعطاءه فرصة، فبدَت على دكرور السعادة الشديدة حين فتحت الكتاب وعدت أقرأ اسمه وسألته:
- ماذا يكون أطلس؟
تلاشى البريق من عينيه وأجاب:
- إنه الاسم الذي أطلقوه على الحوت
نجحت بصعوبة في عدم إبداء ابتسامتي الساخرة، وإن بدا التهكم في صوتي حين عدت أسأله:
- وأين أطلس الآن؟
ازدرد دكرور ريقه بصعوبة وأشار بسبّابته إلى قلبه وقال في أسف:
- إنه هنا!
لا أعلم لماذا شعرت بالأسف أنا أيضًا، فقد شعرت بالاستياء من نفسي وبالشفقة على الرجل بالرغم من أني لا أصدقه، إلا أني تعجبت من أنه يشعر بالأسف على ذلك الحوت الذي من المفترض أنه أكله واحتفظ به في بطنه، ثم قلت وقد اختفى التهكم من صوتي هذه المرة:
- ظننته أحد تلك الحيتان الذين رأيتهم اليوم على المركب
- بالطبع لا، لقد كان أطلس عظيمًا ومهيبًا، وبالطبع كان أضخم بكثير، لقد كنا اثني عشر رجلًا في جوفه
- ماذا! ألم تكن وحدك؟!
ابتسم دكرور ابتسامة طيبة وقال:
- أعتقد أنه يجب أن تشرع في القراءة الآن، وأرجو ألا تفسد متعتها بالأسئلة
ثم نهض وهو يقول:
- سأحضر القهوة!
فأخذ الصندوق وانصرف، فعدت أقرأ وبدأت بالعنوان على ثاني صفحة...
1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.