إن الأب براون دائمًا ما كان يقول إنه توصل لحل هذه القضية أثناء نومه. وكان هذا
صحيحًا، وإن كان قد تم على نحو غريب نوعًا ما؛ إذ حدث في وقت جرى فيه إزعاجه
وإيقاظه من نومه. حدث الإزعاج في وقت مبكر جدٍّا من الصباح بسبب أصوات الدق
والطرق في المبنى — أو بالأحرى المبنى غير المكتمل — الضخم الذي يتم إنشاؤه أمام
بيته؛ وهو مجمع ضخم من الشقق لا يزال مغطٍّى بالسقالات وكذلك لوحات عليها أسماء
صاحبيه والقائمين على بنائه؛ وهما السيدان سويندون وساند. كانت أصوات الدق والطرق
تتجدَّد على فترات منتظمة وكان يمكن تمييزها بسهولة؛ لأن السيدين سويندون وساند
متخصصان في نظام أمريكي جديد للأرضيات الأسمنتية التي، على الرغم مما تتصف
به من النعومة والصلابة وعدم القابلية للاختراق والراحة الدائمة (كما هو موضح في
الإعلانات)، يجب أن تُضغط في نقاط معينة بمعدات ثقيلة. وقد حاول الأب براون، مع ذلك،
أن يستخلصمن الموقف ولو قدرًا ضئيلًا من الراحة؛ قائلًا إن الأصوات كانت توقظه دائمًا
في الوقت المناسب من أجل حضور قداس مبكر للغاية؛ ومن ثم فهي تقريبًا أشبه ما تكون
بمجموعة أجراسمعلقة ببرج. كان يقول إنه لأمر شاعري، في النهاية، أن يُوقَظ المسيحيون
بالمطارق كما بالأجراس. لكن في الحقيقة كانت عمليات البناء تضغط على أعصابه قليلًا
لسبب آخر؛ فقد كانت إمكانية حدوث أزمة عمالية أمرًا يلوح في الأفق مثل سحابة فوق
ناطحة السحاب التي بُنِي نصفها؛ تلك الأزمة التي أصرَّت الصحف بشدة على وصفها بأنها
إضراب. وفي واقع الأمر، إذا حدث ذلك بالفعل، فهو إغلاق، لكنه كان قلقًا كثيرًا بشأن ما
إذا كان سيحدث. وقد يكون ثمة تساؤلٌ عما إذا كان الطرق يشكِّل ضغطًا على الانتباه لأنه
قد يستمر إلى الأبد، أو لأنه قد يتوقَّف في أي لحظة.
كمسألة » : قال الأب براون، وهو يحدِّق في المبنى بنظارته ذات العدستين المستديرتين
ذوق وخيال، أتمنى أن يتوقَّف البناء. أتمنى أن يتوقَّف في جميع المنازل بينما لا تزال
السقالات موضوعة عليها. يبدو تشطيب المنازل مؤسفًا. إنها تبدو نضرة ومليئة بالأمل
مع كل تلك الزخرفة الخيالية من الخشب الأبيض، وهي تبدو لامعة ومتلألئة تحت ضوء
«. الشمس؛ والمرء غالبًا ما يشطب المنزل محولًا إياه إلى مقبرة
عندما ابتعد عن الهدف الذي كان يفحصه، كاد يصطدم برجلٍ اندفع عبر الطريق
باتجاهه. لم تكن معرفتُه به كبيرة، ولكنها كانت كافيةً ليعتبره (في هذه الظروف) نذير
شؤم. كان السيدُ ماستك رجلًا قصيرًا وسمينًا ذا رأس مربع يبدو بالكاد أوروبيٍّا، وكان
يرتدي ثيابًا شديدة الأناقة منحتْه مظهرًا أوروبيٍّا بطريقةٍ واضحةٍ للغاية، لكن براون كان
مؤخرًا يتحدَّث إلى السيد ساند الصغير من شركة البناء؛ ولم يعجبْه الأمر. كان ماستك
رئيسًا لمنظمةٍ جديدة نوعًا ما في السياسة الصناعية الإنجليزية، نشأت على يد متطرفين
في كلا الطرفين، وتكوَّنت من جيش محدد من العمال غير النقابيين بينما كانت غالبية
العمال من الأجانب الذين تم توظيفهم توظيفًا جماعيٍّا في شركات مختلفة، ومن الواضح
أنه كان يحوم على أمل التعاقد مع هذا الشخص. باختصار، قد يتفاوض بطريقةٍ ما
للتغلُّب على النقابة العمالية وإغراق أماكن العمل بمن يُفسد الإضرابات. وقد استُقطِب الأب
براون للاشتراك في بعض المناظرات، حيث جرى استدعاؤه بشكلٍ ما من كلا الجانبين.
وقد أفاد الرأسماليُّون جميعهم، حسب معرفتهم الوضعية، أنه كان بلشفيٍّا، كما شهد
البلاشفة جميعهم أنه كان رجعيٍّا ملتزمًا التزامًا صارمًا بالأيديولوجيات البرجوازية؛ لذا
يمكن الاستدلال على أنه تحدث بقدر معين من المنطق دون أن يكون له أي تأثيرٍ ملموس
على أي شخص. ومع ذلك، فقد كان من شأن الأخبار التي أوردها السيد ماستك أن تُخرِج
أي أحد عن المسار العادي للنزاع.
إنهم يريدونك أن تذهب إلى هناك في الحال. » : قال السيد ماستك بلكنةٍ إنجليزية ركيكة
«. ثمة تهديد بالقتل
تبع الأب براون مُرشدَه في صمتٍ عبر عدة سلالم إلى منصةٍ في المبنى غير المكتمل،
حيث تجمَّعت شخصيات مألوفة، بشكلٍ أو بآخر، من رؤساءشركة البناء. وقد ضم الجمعُ
حتى مَن كان على رأسالشركة من قبل؛ الذي كان لبعضالوقت بعيدًا عما كان يحدث على
أرضالواقع. كان على الأقل رأسًا تحت تاج، أخفاه عن الأنظار مثل سحابة. بعبارة أخرى،
لم يتقاعد اللورد ستانز عن العمل في الشركة فحسب، لكنه ألُحق بمجلساللوردات وانهمك
فيه واختفى، وكانت مرات ظهوره النادرة باهتةً وكئيبة إلى حد ما، لكن هذه المرة، بالتزامن
مع ظهور ماستك، بدت تُشكِّل تهديدًا. كان اللورد ستانز رجلًا نحيلًا وطويل الرأسوغائر
العينين وله شعر أشقر خفيف للغاية في طريقه إلى الصلع، وكان أكثر الأشخاص الذين
التقاهم القَسُّمراوغةً. لم يكن أحدٌ يضاهيه في استغلال المَلَكَة الأكسفوردية المتمثلة في قول:
أو مجرد «. لا شك أنك تظن أنك على حق » : بحيث تبدو وكأنها تعني «. لا شك أنك على حق »
لكن «. ستظن ذلك » : بحيث تشيرضمنيٍّا إلى الإضافة اللاذعة «؟ أتظن ذلك » : التعليق بعبارة
الأب براون ظن أن الرجل لم يكن يشعر بالملل فحسب، بل بقدرٍ ضئيلٍ من المرارة أيضًا،
لكن كان من الصعب تخمين ما إذا كان ذلك بسبب استدعائه من جبل الأوليمب للسيطرة
على مثل هذه النزاعات العمالية، أو فقط لأنه لم يعد في الواقع قادرًا على السيطرة عليها.
بشكل عام، فضَّل الأب براون مجموعة الشركاء الأكثر برجوازية؛ السير هوبرت ساند
وابن أخيه هنري؛ على الرغم مما اعتمل بداخله من شكوكٍ فيما إذا كان لديهما بالفعل
العديد من الأيديولوجيات. في الواقع، حصل السير هوبرت ساند على قدرٍ كبير من الشهرة
في الصحف؛ كراعٍ للرياضة وكرجلٍ وطني في العديد من الأزمات خلال الحرب العالمية
الأولى وما بعدها. وحظي بمكانةٍ كبيرة في فرنسا، بالنسبة إلى رجل في عمره، وبرز بعد
ذلك كقائد منتصر لأرباب الأعمال يتغلَّب على الصعوبات بين عمال الذخيرة. وقد أطُلق
عليه لقب الرجل القوي، لكن ذلك لم يكن خطأه. لقد كان في الحقيقة رجلًا إنجليزيٍّا قويٍّا
بشوشًا، وسباحًا عظيمًا، وإقطاعيٍّا جيدًا، وعقيدًا متواضع الخبرة مثيرًا للإعجاب. في الواقع،
كان ثمةشيء، لا يمكن وصفه سوى أنه تكوينٌ عسكري، يسود مظهره. لقد كان يميل إلى
البدانة، لكن كتفيه كانتا لا تزالان مفرودتين؛ وكذلك شعره المجعد وشاربه كانا محتفظين
بلونهما البني، بينما كانت ألوان وجهه قد ذبلت وتلاشت إلى حدٍّ ما. أما ابن أخيه فكان
شابٍّا قوي البنية، له رأس صغير نسبيٍّا فوق عنق ممتلئ، كما لو أنه يُنجز أموره ورأسه
لأسفل؛ وله إيماءة تبدو غريبةً وصبيانية بعض الشيء بفعل نظارته الأنفية المتوازنة على
أنفه الأفطس الذي يُشبه أنف ملاكم مشاكس.
لقد نظر الأب براون إلى كلِّ هذه الأشياء من قبل، وفي تلك اللحظة كان الجميع
ينظرون إلى شيءٍ جديد تمامًا. في وسط الأعمال الخشبية، كان ثمة قطعةٌ كبيرة فضفاضة
خفاقة من الورق مثبتة، كُتبَ عليهاشيء بأحرفٍ إنجليزيةٍ كبيرةٍ غير منمقة تخلَّلها الكثير
من الأخطاء، كما لو كان الكاتب إما جاهلًا تمامًا وإما يدعي الجهل وإما يسخر منه. كان
يحذر مجلس العمال هوبرت ساند من أنه إذا خفضالأجور وأوقف العمل » : نصالكلمات
في الموقع، فإن عليه أن يتحمَّلَ العواقب. وإذا خرجت الإخطارات بذلك غدًا، فسوف يموت
«. بحكم عدالة الشعب
لم يكن من اللورد ستانز بعد أن تفحَّص الورقة سوى أن تراجع للخلف، ونظر إلى
حسنًا، إنهم يُريدون قتلك أنت. من الواضح أنني لا » : شريكه، ثم قال بنبرةٍ غريبة نوعًا ما
«. أعُتَبر مستحقٍّا للقتل
سرَتْ واحدةٌ منصدمات التخيُّل الكهربائية الساكنة، التي تثير في بعضالأحيان عقل
الأب براون بطريقةٍ لا معنى لها تقريبًا، عبر جسده في تلك اللحظة بالذات. وطرأَتْ عليه
فكرةٌ غريبة مفادها أن الرجل الذي كان يتحدَّث لا يمكن قتلُه الآن؛ لأنه كان ميتًا بالفعل.
واعترف بمرحٍ أنها كانت فكرة لا معنى لها تمامًا، ولكن كان ثمة شيءٌ يثير لديه الشكوك
دائمًا بشأن العزلة الباردة المحبطة للشريك النبيل الهَرِم، وكذلك لونه الشاحب وعيناه
إن هذا الشخصله » : القاسيتان. قال في نفسه وهو في تلك الحالة المزاجية الغريبة نفسها
«. عينان خضراوان ويبدو وكأنه ذو دمٍ أخضر
على أي حال، من المؤكد أن السير هوبرت ساند لم يكن ذا دمٍ أخضر؛ فدمه، الذي كان
أحمر بما فيه الكفاية من جميع النواحي، يسري ببطءٍ لوجنتيه الذابلتين أو المسفوعتين
بكل تشبع الحياة الدافئ الذي ينتمي إلى السخط الطبيعي والبريء للأشخاصذوي الخلق
الطيب الدمث.
طوال حياتي، لم يسبق لي أن قيل شيئًا من هذا القبيل » : قال بصوتٍ قوي لكنه مهزوز
«… عني أو حدث بشأني. ربما أكون قد اختلفت
لا يمكن لأيٍّ منا الاختلاف حول هذا. لقد حاولت أن » : قاطعه ابن أخيه باندفاع قائلًا
«. أتفق معهم، لكن هذا أمرٌ فظ للغاية
«… أنت لا تعتقد حقٍّا أن عمالك » : قال الأب براون
أقول إننا ربما اختلفنا، لكن يعلم لله » : قال ساند العجوز وهو لا يزال يرتجف قليلًا
«… أنني لا أحب فكرة تهديد العمال الإنجليز بجلب عِمَالةٍ أرخص
لا أحد منا يحب ذلك، ولكن إذا كنت أعرفك، يا عماه، فإن هذا قد أنهى » : قال الشاب
«. الأمر تقريبًا
أعتقد، كما تقول أنت، أننا اختلفنا حول التفاصيل؛ ولكن » : ثم أضاف بعد توقُّف
«… فيما يتعلَّق بالسياسة الحقيقية
وهذا ما «. يا عزيزي، كنت آمل ألَّا يكون ثمة خلافٌ حقيقي » : قال عمه بارتياح
يستطيع أي شخص يفهم الأمة الإنجليزية أن يستنتج منه عن حق أن ثمة خلافًا كبيرًا
للغاية. في الواقع، لقد اختلف العم وابن الأخ تقريبًا مثل رجل إنجليزي ورجل أمريكي.
كان لدى العم المفهومُ الإنجليزي المتعلق بالابتعاد عن مجال البناء، والتذرُّع برغبته في أن
يصبح سيدًا ريفيٍّا. أما ابن أخيه فلديه المفهوم الأمريكي الخاصبالانخراط في المجال؛ أي
الدخول إلىصميم آليته مثل الميكانيكي. وبالفعل، فقد عمل مع معظم المتخصصين وأصبح
على درايةٍ بمعظم عمليات المجال وحِيَله. وكان أمريكيٍّا مرة أخرى، من واقع أنه فعل ذلك
جزئيٍّا كصاحب عمل لإيصال رجاله إلى مستوى عالٍ من الكفاءة، ولكنه فعله أيضًا بطريقةٍ
غامضةٍ بصفته ندٍّا لهم، أو على الأقل بفخرٍ بإظهار نفسه أيضًا كعامل؛ لهذا السبب كان
غالبًا ما يظهر كممثل للعمال، في نقاطٍ فنيةٍ تبعد كثيرًا عن شهرة عمه الكبيرة في السياسة
أو الرياضة. وقد أضفَتْ ذكرى تلك المناسبات العديدة، وعندما كان هنري الصغير يخرج
فعليٍّا من ورشة العمل مشمِّرًا عن ساعديه، للمطالبة ببعضالامتيازات فيما يتعلق بظروف
العمل؛ أضفت ذكرى تلك المناسبات العديدة قوة غريبة، بل عنفًا أيضًا، على رد فعله الحالي
في الاتجاه الآخر.
حسنًا، لقد حاصروا أنفسهم جيدًا هذه المرة. بعد تهديدٍ مثل هذا لم يعد » : صاح قائلًا
هناكشيء سوى تحدِّيهم. لم يبقَشيءٌ سوى طردِهم جميعًا الآن؛ ودون تأخيرٍ وهنا. وإلَّا
«. فسنكون أضحوكةَ العالم
سأتعرَّضلنقدٍ » : قطب ساند العجوز جبينه في غضبٍ مماثل، لكنه تحدَّث ببطءٍ قائلًا
«… شديد
نقد! ستتعرَّض للنقد إذا تحدَّيْتَ تهديدًا بالقتل! هل لديك أي » : صاح الشاب بحدة
فكرةٍ عن مدى ما ستلقاه من انتقادٍ إذا لم تتحدَّ هذا التهديد؟ هل ستستمتع بعناوين
«؟« صاحب عمل يخضع لتهديد بالقتل » ،« الرأسمالي العظيم مذعور » ؛ الصحف
خاصة وقد ظهر في العديد » : قال اللورد ستانز وقد بداشيءٌ من الاستهجان في نبرته
«.« الرجل القوي في مجال البناء بالصُّلب » من العناوين بالفعل باعتباره
احمرَّ وجه ساند بشدةٍ مرة أخرى من الغضب وجاء صوته غليظًا من تحت شاربه
«… أنت محقٌّ بالطبع. إذا ظن هؤلاء الهمج أنني خائف » : الكث وهو يقول
عند هذه النقطة انقطعت محادثة الجمع ودخل شابٌّ نحيف مسرعًا باتجاههم. كان
أول ما لوحظ فيه أنه كان أحد أولئك الذين يعتقد الرجال، والنساء أيضًا، أنهم ذوو مظهرٍ
لطيف للغاية بحيث لا يمكن أن يبدوا لطفاء. فكان لديه شعرٌ مجعد أسود جميل وشارب
ناعم، وكان يتحدث كالنبلاء، ولكن بلكنةٍ مصقولة للغاية ومنغمة تنغيمًا دقيقًا. عرفه الأب
براون في الحال، فهو روبرت راي سكرتير السير هوبرت، الذي كان يراه كثيرًا مسترخيًا في
منزل السير هوبرت، لكن دون هذا الجزع في حركاته ولا تلك التقطيبة التي على جبينه.
أنا آسف يا سيدي، ولكن ثَمة رجلًا ينتظر هناك. لقد بذلت قصارى » : قال لرئيسه
«. جهدي للتخلُّصمنه. إن معه رسالةً فقط، لكنه أقسم أنه يجب أن يسلمها لك شخصيٍّا
تقصد أنه ذهب أولًا إلى منزلي؟ » : قال ساند وهو يلقي نظرةً سريعةً على سكرتيره
«. أظنك كنت هناك طوال الصباح
«. نعم يا سيدي » : قال السيد روبرت راي
سادصمت قصير؛ ثم أوعز السير هوبرت ساند إليه على نحوٍ مقتضب بأنه من الأفضل
أن يحضرالرجل معه إلى هنا؛ ثم ظهر الرجل بالفعل.
لا أحد، ولا حتى أقل السيدات تدقيقًا، كان سيقول إن هذا الرجل كان وسيمًا للغاية؛
فقد كان له أذنان كبيرتان جدٍّا ووجه كوجه الضفدع، وكان يحدق أمامه بثباتٍ شبه مروع،
وهو ما عزاه الأب براون إلى وجود عين زجاجية. في الواقع، لقد أغُري خياله إلى تزويد
الرجل بعينين زجاجيتين؛ بسبب النظرة المحملقة الثابتة الذي كان يرمق بها الجمع. لكن
خبرة القَسِّ، المختلفة عن خياله، كانت قادرةً على اقتراح العديد من الأسباب الطبيعية لذلك
الوهج الشمعي غير الطبيعي؛ كان أحدها إساءة استخدام الهبة الإلهية المتمثِّلة في الخمور.
كان الرجل قصيرًا ورثَّ الملابس وحمل قبعة مستديرة كبيرة في إحدى يديه ورسالةً مغلقة
كبيرة في اليد الأخرى.
نظر إليه السير هوبرت ساند؛ ثم قال بهدوء كافٍ، ولكن بصوتٍ بدا بطريقة أو
«. أوه — إنه أنت » : بأخرى رقيقًا على نحو غريب، يخرج من ملء حضوره الجسدي
مد يده ليتسلم الرسالة، ثم نظر حوله نظرة اعتذار، وبإصبع ساكن متأهب للحركة،
قبل أن يفتح الرسالة ويقرأَها. وعندما قرأها، وضعها في جيبه الداخلي وقال على عجلٍ
حسنًا، أعتقد أن هذا الأمر برمته قد انتهى، كما تقول. لا مزيد من » : وببعض الغلظة
المفاوضات التي يمكن إجراؤها الآن. لن نتمكَّن من دفع الأجور التي يريدونها على أي
«. حال، لكن أود أن أراك مرة أخرى، هنري، بشأن … بشأن إنهاء الأمور بشكل عام
حسنًا، » : قال هنري ربما ببعض العبوس، كما لو أنه كان يفضل أن ينهيَها بنفسه
«. سأكون في الشقة رقم ١٨٨ بعد الغداء. يجب أن أعرفَ إلى أي مدى ستصل الأمور
تحرَّك الرجل ذو العين الزجاجية، إذا كانت عينًا زجاجية بالفعل، مبتعدًا بتثاقل،
واتبعتْه عين الأب براون (التي لم تكن بأي حال من الأحوال عينًا زجاجية) بتأمُّلٍ بينما
يشق طريقه عبر السلالم ويختفي في الشارع.
في صباح اليوم التالي مر الأب براون بالتجربة غير المعتادة من الاستغراق في النوم؛
أو على الأقل الاستيقاظ مع قناعة ذاتية بأنه لا بد أنه قد استيقظ متأخرًا. وكان ذلك
يرجع جزئيٍّا إلى تذكُّره، كما قد يتذكَّر المرء حلمًا، حقيقة أنه كان نصف مستيقظٍ في ساعة
معتادة ثم عاد للنوم مرة أخرى؛ وهو حدث معتاد بما فيه الكفاية لمعظمنا، ولكنه غير
معتاد للغاية للأب براون. وبعد ذلك صار مقتنعًا قناعة غريبة، في هذا الجانب الغامض
منه الذي كان عادةً ما يخفى عن العالم، أنه في تلك الجزيرة المظلمة المنعزلة من أرض
الأحلام، بين الاستيقاظين، كانت حقيقة هذه القصة ترقد هناك مثل الكنز المدفون.
وهكذا، قفز بسرعة كبيرة، وارتدى ملابسه، وأخذ مظلته الكبيرة ذات البروز الكثيرة،
وخرج إلى الشارع، حيث كان الصباح الأبيض البارد ينشق ويتفتَّح مثل الجليد المتناثر
حول المبنى الأسود الضخم الذي أمامه. فُوجئ عندما وجد الشوارع تلمع وهي شبه خاويةٍ
بضوءٍ بلوري بارد، وأدرك من شكلها أن الوقت لم يتأخَّر كثيرًا كما كان يخشى. ثم فجأة
شق السكونَ بسرعةٍ كسرعةِ السهم سيارةٌ رمادية طويلة توقفت أمام الشقق الكبيرة
الخالية. خرج اللورد ستانز من داخل السيارة واقترب من الباب، حاملًا (ببطء نوعًا ما)
حقيبتين كبيرتين. وفي اللحظة نفسها، فُتح الباب، وبدا شخصٌما كما لو كان يتراجع بدلًا
من أن يخرج إلى الشارع. نادى ستانز مرتين على الرجل الثاني بالداخل، قبل أن يكمل ذلك
الرجل إيماءته الأصلية بالخروج إلى عتبة الباب؛ ثم عقد الاثنان محادثة قصيرة، انتهت
بحمل السيد النبيل حقيبتيه صاعدًا بهما إلى أعلى، وخروج الآخر إلى وضح النهار كاشفًا
عن الكتفين العريضتين والرأس الملتفت لهنري ساند الصغير.
لم يكوِّن الأب براون انطباعًا عن هذا الاجتماع الغريب إلى حدٍّ ما، إلى أن مر يومانِ
لقد حدث شيءٌ فظيع، » : وبينما يقود الشاب سيارته الخاصة، ناشد القس لدخولها وقال
وأنا أفضِّل التحدُّث إليك أكثر من ستانز. أنت تعلم أن ستانز قد جاء قبل أيام ولديه فكرة
مجنونة تتمثَّل في المكوث في إحدى الشقق التي اكتمل بناؤها للتو؛ لذلك اضطررت للذهاب
إلى هناك مبكرًا وفتح الباب له، لكن كل ذلك سينتظر. أريدك أن تأتي معي إلى منزل عمي
«. في الحال
«؟ هل هو مريض » : سأل القس على عجل
«. أظن أنه قد مات » : أجاب ابن الأخ
ماذا تقصد بقولك إنك تظن أنه ميت؟ هل » : سأل الأب براون بسرعةٍ بعض الشيء
«؟ أحضرت طبيبًا
لا، ليس لديَّ طبيبٌ أو مريض … لن يفيد استدعاء الأطباء لفحص » : أجاب الآخر
الجسد؛ لأن الجسد قد هرب، لكن أخشى أني أعرف إلى أين ذهب … الحقيقة هي … لقد
«. أخفيناها لمدة يومين، لكنه اختفى
ألن يكون من الأفضل أن تخبرني بما حدث فعليٍّا من » : قال الأب براون بلطف
«؟ البداية
أعرف أنه لَعارٌ مقيت أن أتحدث بتهكُّم هكذا عن هذا العجوز » : أجاب هنري ساند
المسكين، لكن الناس يصبحون كذلك عندما يتوترون. وأنا لا أجيد إخفاء الأشياء؛ أهم ما
في الأمر دون الدخول في تفاصيل هو … حسنًا، لن أخبرك بالتفاصيل الآن. هذا ما يُسميه
بعض الناس على وجه الدقة باللقطة الشاملة؛ من إطلاقٍ للشكوك عشوائيٍّا وما إلى ذلك.
«. لكن أهم ما في الأمر أن عمي البائس قد انتحر
كانا في ذلك الوقت يتنقلانِ بالسيارة عبر آخر أطراف المدينة وأول أطراف الغابة
والمتنزه خلفها؛ كانت بوابات المنزل الكائن بضيعة السير هوبرت ساند الصغيرة تقع على
بعد نصف ميل تقريبًا وسط الحشد السميك من أشجار الزان. كانت الضيعة تتكون
بالأساس من متنزهٍ صغير وحديقة منسقة كبيرة، تنحدر في مصاطب كلاسيكية مبهرة إلى
حافة النهر الرئيسي للمنطقة. وبمجرد وصولهما إلى المنزل، اصطحب هنري القسَّ على
عجلٍ إلى حدٍّ ما عبر الغرف الجورجية الطراز القديمة وخرج إلى الجانب الآخر؛ حيث نزلا
بصمت عبر المنحدر، وهو منحدر حادٌّ نوعًا ما محاط بالزهور، استطاعا من خلاله رؤية
النهر الشاحب ممتدٍّا أمامهما في مسارٍ شبه مستوٍ مثلما هو الحال عند النظر من أعلى.
وعندما كانا يلتفان حول زاوية المسار، تحت جرةٍ كلاسيكية ضخمة توَّجَها إكليلٌ متنافر
بعضالشيء من نباتات الغرنوقي، رأى الأب براون حركةً بين الشجيرات والأشجار الرفيعة
تحته مباشرة، والتي بدتسريعةً كحركة طيور مفزوعة.
وفي وسط الأشجار الرفيعة المتشابكة بجوار النهر، بدا أن شخصين يفترقان أو
يبتعدان عن بعضهما؛ حيث انسل أحدهما بسرعة داخل الظلال، وأتى الآخر لمواجهتهما؛
مما أدى إلى توقُّفهما وسط صمتٍ مفاجئ ولم يكن في الحسبان. حينها، قال هنري ساند
«. أعتقد أنكِ تعرفين الأب براون … يا ليدي ساند » : بأسلوبه الغليظ