عبده علي الفهد

شارك على مواقع التواصل

طوق

بقلم: عبده علي الفهد
Abdualialfahad@gmail.com

- فأس
- منجل
- حبل
- كوخ قش
لا قوت أقتات، ولا منزل فيه ابات، فكل ما املك؛ هي تلك الأدوات،
ورثتها عن أبي.
بعد ان شيعت والدي بمفردي ودفنته استلقيت على ظهري، اندب حظي و قدري, إلى يميني قبر أبي,
و على شمالي قبر أمي.
حاورتهما: لماذا سكنتم هذا الواد الخال المهجور؟، هل جذبتكم اليه؛ الطيور الجارحة، ام السباع المفترسة!.
لماذا جاورتم الضواري و الحجر و الشجر، و تركتم جيرة البشر، إلى من اتحدث بعد فراقكم، إلى من اشك الضجر، هل تجبن الصخور، و تستمعن الحجر؟.
هل تحس السباع، بما اعانيه من آهات واوجاع؟.
كيف اطلب من فاقد الاحساس ان يحس بآهاتي، ربما شعر النبات بما اشعر الا انه عجز عن مناداتي...
: إرحل، أغلقت الأبواب وقطعت الأسباب، رحل عنك الأحباب وفارقك الأصحاب، إرحل!.
:من اين ياتي هذا الصوت؟، انه صوت امي!. سأضع اذني على تراب القبر.
الصوت لم يتكرر، والوقت تأخر، دنت الشمس من المغيب...
فداهمتني الأهوال وضاق بي الحال.
عدت إلى كوخي؛ دخلت الكوخ، فهديت قوائمه وارجعت عاليه سافله، عثرت فيه على برطمان صغير مغلق، فتحته، و جدت بداخله عقد كهرمان.
سعدت برؤيت العقد، فضممته إلى تركتي،
وعلى ظهري حملت أدواتي.
مع الغروب؛ شديت الرحال تارك مسقط رأسي، نحو المجهول كانت وجهتي.
حل الظلام بعد أن أفل القمر، فدخلت كهف ابات فيه، فلمحت باب الكهف شبح، ارتعبت فوقفت، فاخذت الفأس بكف والمنجل بكف واستعديت للنزال؛ فتقدمت نحوه بثبات دون خوف أو ارتجال.
: إن كان هذا كهفك، فاعتبرني ضيفك، و إن كنت تنوي الهلاك، فلن يهلك سواك.
: خذ هذا ألف دينار، مقابل أن تعطيني البرطمان وعقد الكهرمان.
: اكشف عن وجهك، وبوح بسرك قبل أن انقض عليك، وانتزع روحك عن جسدك.
: انا مرسل من أبيك، أحميك، من أي شر يؤذيك، و استعيد أمانته كي لا يوصم بالخيانة.
: ما أراك إلا كاذب ...
لماذا لم تعط والدي المال في حياته،
فقد عانى من الفقر حتى لحظة وفاته؟. ولم يك يعلم بالبرطمان, وعقد الكهرمان، ولم يذكرهما على لسان، لن أعطيك مقصودك, ولن تنال مطلوبك!.
: أمك هي من أمرتك أن تترك الكوخ المصون، و أعانتك على استخراج كنزي المدفون، لكن عليك ان تعلم، أننا جيران، نسكن معا في نفس الكوخ من زمان، وليس أباك من شيده وبناه؛ فقد أتى طريد فأويناه ونجيناه.
: لن أفرط بما ورثته عن أبي ولو كلفني حياتي.
: أعطني ما أخذت يداك، قبل أن ألحقك بأمك وأباك!.
برزت للمارد بعضلات مفتولة، وسواعد مصقولة، شاهرا منجلي و فأسي.
ففتح المارد فمه، فخرج منه لهب قذف بي، فالقاني على ظهري.
وقعت يدي على البرطمان، فأخرج عقد الكهرمان، ولبسته حول عنقي كي لا يأخذه المارد.
انطفأت النار المندفعة من فم المارد.
لفظت أنفاسي فأستعادت رباط جأشي.
فاخذت البرطمان بيدي ورجمت به المارد بشدة.
فصُعق كبرق السماء، أحال المارد إلى هالة لهب تبعثرة في الهواء.
تنفست الصعداء، استلقيت، متخذا من التراب فراش، شرد عني النعاس، فهجم عليا الوسواس.
فهُيأ لي أن عقد الكهرمان، الذي وضعت حول عنقي كأمان؛ له صلة وثيقة وارتباط بالشيطان، وأنه سيطاردني في كل مكان، فقررت التخلص منه.
بت ليلي صاحي، وأثناء مروري الصباح رأيت بئر عميق، فألقت العقد فيه كي لا يكون للشيطان إليه طريق.
استمريت في المسير..حافي عاري لا ساتر يسترني، عدا لحاف مابين الركبة والسرة.
فكنت أسافر الليل و أنام النهار،
و بعد شهر زمان، شاهدت طُرق مطروقة، وحقول مزروعة، فحثيت الخُطى في طريقي، فسمعت خوار، ونهيق، و ثغاء، فاستبشرت بقربي من البشر.
وفي أحد الحقول، و جدت بنت دوارة، للمياة حوارة، تسقي الزرع بعناية، تحث الخُطى تسابق الماء، قابضة بشمالها معزق، ويمينها منجل.
فجأة تعثرت ببعض الحصاة، فوقعت في جدول الماء، وتراكمة حولها الأحجار التي تساقطه من الجدار، فكانت من الهلاك قاب قوسين أو أدنى.
شاهدت ما جرى، عندما كنت جوار الحقل واقف، فانطلقت نحوها لإنقاذها، كالبرق الخاطف.
فرفعت من فوقها الأحجار، ثم انتشلتها من الماء، فكانت في حالت إغماء.
حملتها على كتفي، ودرت بها عدة دورات ورأسها يتدلى، كي يخرج ما تسرب إلى رئتيها من ماء، ثم وضعتها على الأرض وضغطت على صدرها عدة ضغطات،ومن ثغرها أعطيتها قبلة الحياة.
تنفست فعادت للحياة من جديد، كانت مكشوفة الرأس، منزوعة الحذاء، ظاهرة الوريد.
شاهدت على صدرها؛ عقد الكهرمان، فتعجبت وارتعبت ومن جوارها هربت.
اثناء فراري و في نهاية الجدول عثرت على نعليها عائمة، أخذتها وعدت، فوجدتها قد استوت جالسة.
وضعت أمامها الخفين وهميت بالمغادرة.
: تمهل اخبرني من تكون؟ واشرح لي ماذا حصل؟، فقد فقدت وعيي لحظة سقوطي.
وقفت فاستدرت، فحكيت لها ما جرى وصار، ثم إليها وجهت الاستفسار.
: من أين لك العقد الذي على صدرك...؟
مباشرة خلعت العقد وقالت: خذ هذا العقد من الآن صار ملكك.
قلبت العقد في كفي، تفحصته
كي أتأكد بأن لا يكون شبهه.
: هذا العقد ألقيته في البئر قبل عدة أيام، فوجوده بحوزتي كان يعرضني لمطاردة الهوام.
: صدقت، عثرت عليه في المسنى عند ردي ساقية الماء، فها قد رده الله إليك.
فتبرأء كلانا عن اخذ العقد، فتجادلنا وتحاورنا، فاجمعنا على تسويقه وبيعه
بشرط أن يكن لي ثمنه.
: أين بلدك وأهلك وعشيرتك؟
رديت باختصار شارحا ظروف الحال.
فعرضت عليا البقاء لأيام، وأن أتخذ من الحقل مقام!.
حضر أباها بالطعام فوجدنا في حالة انسجام، نتبادل الكلام.
استشاط غضب وبرز على جبينه العصب، فتنحنح وصاح: ابنتي صباح هل صار المحظور لديك مباح؟
ألا تخشين العار ؟ كيف تقفين أمام من هو من ثيابه عار؟
دارت وإلى أبيها سارت، فرآها في اشَّر حال؛ ثيابها مبلولة ملطخة بالوحل و الرمال.
فوضع ما في يده واستل من خصره خنجره، وهجم عليً وقال: من اعتدى على ابنتي الوحيدة لابد لي من قطع وريده!.
فهم بطعني، فحالت صباح بيني و بينه، فهدأت من روع أبيها وحكت له القصة.
فأبدى إعتذاره و قدم شكره، وطلب عفوه عم بدر منه.
فعرض عليا أن أحل ضيفه!.
فصحبني إلى الدار، فذبح احد الكباش، وبش بي، فالبسني أحسن القماش.
وبعد ثلاثة أيام استأذنت للذهاب.
فطلب مني والد صباح؛ ان أبق حارس لحقله، وافقت، فأقمت في محراب الحقل.
صباحا أحتطب بمعولي والفأس،
فأحضر ما جمعت من حطب فأبيعه للناس.
أعطاني والد صباح مساحة، فبنت عليها دار.
ذات يوم طلبت صباح من والدها
ان يذهب برفقتي إلى السوق لبيع عقدها.
و عند عرضه تهافت عليه التجار،
وتنافسوا فبلغ سعره ألف دينار.
فاشتراه تاجر غريب لم يعرفه التجار.
اندهش والد صباح، فاخذ الألف وصره في صرة، ووضعه في عجزة
وعند وصوله اخبر ابنته بثمن العقد الباهظ.
قبضت صباح من والدها ثمن العقد، واعطتني، فاحترت أين اضعه وخفت سرقته.
فأشارت عليا صباح بوضعه في صندوق مقفل، وتأمينه لدى شيخ القبيلة، فهو ذو ثقة.
فسألني الشيخ عما في الصندوق ؟.
: ألف دينار.
اندهش الشيخ فقال: ما عملك؟.
: حطاب.
همس الشيخ في سره؛ انه لاشك سارق، ثم قال: أنت آمن على ما استأمنت اذهب يا حطاب.
كنت أمر على صباح في الحقل ذهابآ وإياب، فأزداد بها إعجاب.
أحييها بالفأس والمعول، فترد التحية بالمعزق والمنجل.
آأتي من الضيعة أترنح على ظهري حمل أحطاب، مخلوط بالأخشاب، بطرف الحقل أتكئ على مسني، فتأتيني صباح مسرعة بشربة ماء.
ذات يوم نظرت صباح إلى حِملي المهول، فقالت: هل لك إخباري بإسمك؟
: طوق !
: هل كان والدك قوي فتي، عريض المنكبين، طويل الساقين، صنديد همام، دواس الظلام، تهابه الهوام؟.
: قبل ان اخبرك، عليك ان تخبريني، هل أمك، زهية، بهية، ذات جبين وضاح، وحواجب هلالية، مسلهمة ذات حواشي ململمة، مشربة الخدود نادشت الجعود، جوزية الشفتين مهوية القرطين، مدبلجة الكفين بارزة النهدين، إن عبست أضأت، وإن ضحكت أشرقت؟.
تبسمت صباح ودارت وإلى حقلها انسحبت، بعد ان قالت: رحمة الله تغشاها.
تنحنحت بافتخار، فحملت الحطب، و واصلت المسار بعزيمة واصرار.
ذات يوم مر شيخ البلدة، فلمح صباح، فهام بها، وأرسل إلى أبيها يخطبها بإلحاح!.
رفضت صباح هذا الطلب، فعتب الشيخ على والدها اشد العتب.
استوقفت طوق أثناء مروره بحمله وقالت:
يا طوق، أتى الشيخ لخطبتي!.
يا طوق، استشرتك فشيرني!.
: بب بب ألقى ما على ظهره من حطب, و تشقلب، فظهر عليه الغضب،
وقال: حدث ما لم يكن في الحسبان
وبماذا أجاب والدك المصان؟
كان طوق متردد خجول، لم يفصح لها عم في خاطره يجول.
أحست صباح بخجله، فأرادت جس نبضه.
: إذا لم اقبل بالشيخ فارس،
ربما أعيش بقية حياتي عانس!.
: أنا أنا أنا!.
: أنت أنت أنت ماذا؟.
: الفارس... !
أشرق وجه صباح وتهلل، فأحمر وجه طوق خجل.
: عليك بخطبتي من أبي، الآن، قبل فوات الاوان.
تمت الخطبة، وشاع خبرها.
الشيخ رآى ذلك إهانة ما بعدها إهانة،
فقد فضلت عليه من هو اقل شأنا و مكانة.
قرر الشيخ الانتقام.
ذهب طوق إلى الشيخ، طلب صندوق الأمانة، فأنكره وجحده!.
عجز الحطاب عن الإثبات، فظن الناس أن فيها مبالغات!.
فكيف لحطاب أن يحوز الألوفات، فهذا لا يتماشى مع طبيعة الأحوال في كل الأوقات.
فإلى من يشكو ظلم من ظلمه، فكل من حوله خدم للشيخ وحشم.
طفق عائد نحو داره، مشبك كفيه خلف ظهره.
كانت صباح منتظرة عودة طوق، بشغف وشوق!.
فعاد بخُطى خايب، وهيئة بائس.
فراع صباح منظره فهرعت إليه مسرعة.
: هل غدر فمكر وتعالى فاستكبر
وللأمانة أنكر؟.
ألجم طوق لسانه فصمت، فتولت عيناه الإجابة فأوضحت وأبلغت.
كظمت صباح غيظها، و أظهرت سرورها وبهجتها.
فطلبت من والدها أن يكون لها خير معين، لدحض مكر الماكرين وكيد الكائدين.
فقاسم طوق نفقات الفرح والزفاف،
وتأجل المهر إلى أن تنقضي السنين العجاف.
كان عرس كبير، حضره جمع غفير، حطابين بفؤوسهم، وفلاحين بمناجلهم، كبيرهم والصغير.
عدى الشيخ لم يحضر، ولم يجب الداعي، فأضحى حاسد وشاني.
مرت الأيام...
ألمت بوالد صباح عٍلة في بدنه،
تقاطر إليه الحُكماء فلم يستطع إي منهم أن يبريه من علته وسقمه،
دنى أجله فوافته منيته وانتقل إلى جوار ربه.
أضحى طوق وصباح وحيدين،
لا والد ولا أخوان ولا ولد.
ورثت صباح؛ ثورين جرارين، وبقرتين حلابتين، وحقلين زراعيين، وبيت طابقين.
ترك طوق الاحتطاب، ولزم في البيت الاحتجاب.
افتقده العامة فتسألوا و عنه سألوا،
فاحتاروا في أمره وما هو مصيره.
بلغ الشيخ خبره فانشرح صدره،
وأرسل احد عساكره للتحري عنه.
العسكري: ياصباح أين الحطاب مضى عليه مدة منذ أن اختفى؟.
: افتقرت أحواله، فذهب للاغتراب، بعد أن جحده الشيخ الأمانة.
سمع الشيخ من العسكري ما قال،
فتمنى للحطاب الزوال.
في المساء تبادل طوق مع صباح الأفكار، وتذكرا كل ما جرى، فلم يغيب عن بالهم الألف الدينار.
عقدا العزم على استعادة الحق المنهوب، بأي وسيلة وأي أسلوب.
: سأكيدنه كيد نساء؛ لاينسى و لا يبلى، سأجعله يأتي إليك ذليل مستباح، يترجاك السماح.
وكلما عليك؛ أن تطلق لي العنان، فلا تسيء بي الظن مهما كان.
في الصباح ذهبت صباح ترعى الأبقار، في حقل الشيخ القريب من الدار.
من النافذة لمح الشيخ بقر في احد مزارعه، فأمر احد عساكره بضبط صاحب الأبقار وزجره!.
وصل وإلى الراعية أمعن النظر؛ انبهر وفي موضعه تسمر فلم يتقدم خطوة أو يتأخر.
: من أنتي ولمن هذه البقر؟.
: أنا زوجة الحطاب.
كانت صباح قد تزينت بزينة؛ تزيغ البصر و تهيج الذكر،
تصدر عن معاصمها أصوات الأساور، وتتدلى على صدرها فصوص الجواهر، منقوشة الأنامل، كثيفة الجدائل.
عاد العسكري وقال: يا شيخ هذه زوجة الحطاب، دعها ترعى تنال فيها الأجر والثواب، انها راعية ليس ككل الرعاة؛ من رآها نسى أسمه ومن سماه، وتمنى يكن ثورا لها ترعاه.
فغضب عليه غضب كبير، و وصمه بالاهمال والتقصير.
فأمر عسكري آخر أن يتصدى لها ويمنعها.
فأخذ سلاحه وتلقاها، وبدل أن يمنعها، قام بالرعي معها.
فواعدته مواعدة الغرام، يأتيها ليلا في غسق الظلام.
العسكري جن جنونه، فأخفى سره ومكنونه.
فطلب من زميله أن ينوبه في الحراسة هذه الليلة.
اقتربت الشمس من المغيب،
فأخذ بندقيته، و ذهب، وصل فطرق ففتحت مسرعة وبشت به ورحبت، أدخلته المجلس فجلس و استراح،
بعد ان علق في المعلاق السلاح.
ذهبت لتحضير العشاء.
وبعد أن تعشى، على ظهره استلقى
فسرت في عروقه غريزة الذكر نحو الأنثى.
فجأة سُمع طرق الباب، فقال: من يكون الطارق للباب هل هو صاحب من الأصحاب؟.
ردت: كلا ! ثم قالت وهي مرعوبة يارب بسترك استرنا ولا تفضحنا. وتقدمت نحو الباب وقالت: من في الباب؟.
: أنا زوجك طوق الحطاب !
أظهرت الخوف وارتعبت، فكان رعب العسكري اشد.
فطلب منها تخليصه مما هو فيه،
وإيجاد أي وسيلة تخفيه.
فقالت لزوجها تمهل حتى ارتدي ثيابي!.
فأحضرت مجرفة وحقيبة ذبالة، وألبسته ثياب رثة، وأدخلته الاسطبل وقالت: انقل ذبل البقر إلى السطح ولا تتوقف مهما حصل!.
بدأ العسكري العمل، ثم فتحت الباب فدخل الحطاب، صاح ولاح غاضب عليها عاتب، ثم قال: من هذا الذي في الدرج؟.
: انه ابن خالي، أحضرته لمساعدتي في نقل الذبل إلى السطح.
: وهذا سلاح من؟.
: هذه بندق عمي، أحضرتها لحماية البيت من السرق.
أخذها وتفحصها وتوجه نحو العامل وقال بعد أن دقه بالبندق باحد الأضلع: هيا خليك أسرع، وكلما أحس طوق بخفة خطوات العسكري على الدرج،
صاح وهج وذهب إليه فيوسعه بكرسي البندق دق ورج.
شعشع الفجر، فتحت صباح الباب،
فخرج العسكري كما يخرج السنجاب،
تارك ثيابه وسلاحه في بيت الحطاب.
فتسلل إلى بين زملائه خلسة ونام،
كاتم سره مخفي أمره فأطال المنام.
اليوم التالي ذهبت صباح للرعي كالعادة، حضر الشيخ وأيقظ العسكري من رقاده!.
: اليوم ليست نوبتي، فقد انتهيت أمس من خدمتي.
فكلف زميله الأخر للذهاب للمزرعة وإخراج البقر،
وعندما وصل حدث له ما حدث للأول؛ نظرة فموعد.
عاد إلى زميله فاستأذن بعد أن أكد عليه وذكّر؛ انه سيذهب ضيف عند احد أقربائه لتناول العشاء والسمر
وأن لا يقلق عليه إن غاب أو تأخر.
فهم زميله مضمون ما قاله فعرف انه سيجري له ما جرى له.
ذهب إلى السوق فاشترى ما لذ وطاب، ومع المغيب طرق الباب،
فتحت زوجة الحطاب، وقالت: تفضل بالدخول قبل أن يلمحك احد من أصحاب الفضول!.
أعطاها الهدايا، ووضع بندقيته في احد الزوايا، جلس في صدر المجلس يعتريه الغرور، وبعد أن قدمت له واجب الضيافة، قالت: بقدومك غمرتنا البهجة والسرور، اخلع عنك ثيابك، حتى أعود من تحضير شرابك!.
فخلع من على خصره حزام الرصاص.
أظهرت صباح الرضا، وبدأت فأزالت من على رأسها احد الأعطاف.
فإذا بثلاث طرقات على الباب متتاليات!.
فوقف مرعوب، فبادرت صباح وقالت: استرنا يا ستار العيوب!.
قد يكن احد لمحك عند دخولك فأتى لفضحك!.
تكرر الطرق فقالت: من الطارق؟
رد بصوت مرعب: أنا طوق الحطاب افتحي الباب.
ارتبش العسكري وارتعش فلبس بالمقلوب، فقالت: اتبعني، قد نجد وسيلة للهروب.
اوصلته السطح فقالت: خذ هذه المجرفة والحقيبة والحبل،
وقم بنقل هذا الذبل إلى الإسطبل.
ثم عادة، ففتحت لزوجها فدخل؛
هائج يسخط ويسب، فضرب الجدار بالعصا، فصاحت صباح وكأنها وقعت على ظهرها.
ثم قال: ما هذه القربعة على الدرج؟.
ردت: هذا ابن خالي أحضرته كي ينقل الذبل، فهو قريب وليس غريب.
اقترب منه ومسك خلف رأسه،
وبعد أن تمكن من هسه وجسه
كاد أن يفصل رأسه عن جسده،
من شدة قبضته على رقبته.
قال: يابن الخال عليك بالإستعجال!. فدخل المجلس فشاهد البندق والرصاص.
فسأل: ولمن هذا ؟
ردت: استعرتها من عمي كي احرس البيت من النوائب عندما كنت غائب !
رد: بوركت هذا من الآن سلاحي.
بات العسكري طالع نازل الدرج،
أوقات يندرب وأوقات يتدحرج.
لاح الصباح ففتحت صباح،
فطلب منها أن تأتيه بالذخيرة والحزام والسلاح.
قالت: أعفني الآن ربما طوق يصحا
سأتيك بذلك إلى المرعى!.
فخرج العسكري نصف جسده عاري،
فاستقبله زميله ضاحك متشفي.
فقال: بعد أن قهقه كيف كانت ليلتك خبرنا؟
رد: ههههه ههههه الذي طلعت نزلنا !
وأين بندقك والمحزق والطيار؟
رد: هن في أمان ستأتي بهن صباح وضح النهار.
أين سلاحك أنت وذخيرتك والوشاح؟
ماذا لو دخل الشيخ علينا هالحين،
وعن كل ذلك سألنا فماذا نحن قائلين؟
رد: سننام ونتغطى، فنقل بتنا حارسين فأضحينا مرهقين.
في الصباح أتت صباح ومعها السلاح
مغطى ملفوف فوجهت المرآءة إلى سكن الحراس المسقوف،
نظروا من النافذة فإذا بالبقر في المزرعة.
ذهبوا إلى صباح بوجوه وجله
وخطى هزله.
أمامها وقفوا كطلاب الدراوشة، رؤوس منكوسة وأنظار معكوسة.
قالت : نحوي وجهوا أنظاركم، فقد حفظت أماناتكم.
ففي هذا الكيس أسلحتكم وأمتعتكم
ولي شرط عليكم!.
ردا بصوت واحد: إشرطي سنلبي شرطك وننفذ أمرك.
قالت: أن تشهدوا بالحق إن استشهدتم، وأن تكتموا أسراري ما حييتم، وأن لا تعتدوا على أبقاري في مراعيكم.
حملوا الكيس وهرعوا إلى المحراس فرحين مستبشرين.
اطل الشيخ من النافذة، فإذ بالبقر داخل الزرع منتشرة؛ تأكل بعضه، وتحشر بعضه، وترفس بعضه.
كانت صباح بذلك متعمدة.
نادى الشيخ للحراس، لا مجيب رغم مناداته المتعددة!.
ذهب الشيخ بنفسه، فبرزت صباح متزينة، فكان عطرها قد استولى على أنفاسه، قبل أن يزيغ فيها بصره.
قال: لا رادع يردعك ولا مانع يمنعك؟.
ردت بصوت دلال: عهدناك شهم كريم، تظهر على وجهك نعمة النعيم، فقد أثبتت لي الأيام، أني كنت أعيش في أوهام، ليلي نهد ونومي سهد، فلا أرضعت أنثى ولا انجبت ولد.
:و ما هوا السبب؟.
: زواجي من الحطاب، هجرني على الفراش، ورعٌاني القراش، كنت فاقدة الصواب، عندما فضلت عليك الحطاب، الذي أضحى أكبر كذاب.
: سبق وان اتهمني باطل بخيانة أمانة، لكن اين هوا البائق؟.
: بعض الأخبار تقول انه قد مات، والبعض يقول انه مسجون بعدة سرقات، أما أنا فقد أصبحت منه من اليائسات.
سمع الشيخ ما قالته صباح فحل عليه الارتياح.
فسمح للأبقار بالمرعى ليل نهار، وجلس يتبادل مع صباح الأخبار، فصادته وإلى بيتها واعدته.
مر على سكن الحراس الاثنين، فتغطوا بالبطاطين وتبادلوا الأنين،
فتناولهم بالتهديد والوعيد، قالوا: أُصبنا بالإغماء، وتقلص في الأمعاء، وإسهال وطرش وحمى.
: أذهبا سبعة أيام إجازة، فلم يعد لي بكم حاجة.
كشف عن وجهيهما مبتسمين، فكانوا للشيخ شاكرين.
:لكن قبل ذلك أريد أن تذهبا إلى السوق، فتشتريا ما لذ وطاب، فتحملان ذلك إلى بيت الحطاب!.
فبعد غياب طوق حلت بهم الفاقة،
فوجبت عليهم الصدقة.
انتفضوا من الفراش مسرعين، ونفذا ما أمرهم، واثناء الطريق، تغامزا وتهامسا؛
قال الأول: يا ترى هل سيقوم الشيخ بنقل الذبل إلى السطح؟
أجاب الثاني: ربما يختلف عمله لعلو مقامه، أرجح أن يقوم بالكنس والبرح.
وصلا فطرقوا، فتحت صباح، فإذا الباب مركوم، بأنواع الخضر والفواكه واللحوم.
قالا: هذا مرسل من شيخنا عتيق،
يبدوا أنك دللتيه على نفس الطريق.
قالت: تفضلا بالدخول !.
أبو اشد الإبا ونظرا؛ نحو الإسطبل و الجباء!!.
ضحكت، فضحكا، ثم تفرقوا.
حل المساء...
فأتى الشيخ بأطمارة، بمحزقة وطيارة، وبندقيته الميمُ ون، ومداعته والتتن.
قرع الباب قرعتين، ففتح الصارعين، تلقته صباح ببخور جاوي، وعطر مكاوي، فأجلسته في مقامه، وطلبت منه خلع حزامه!.
فأخذت بندقيته وعلقته على الجدار أمامه.
نصبت قدامه المداعة، ومدت إلى فمه القصبة.
قالت: إشفط تعميرة، حتى افرغ من طبخ الطعام وتحضيره!.
أشعلت التنور فقدحت القدور، فحلت على الشيخ البهجة والسرور.
استمرت صباح في الذهاب والإياب،
بين مجلس الشيخ ومكان تخفي زوجها الحطاب.
حان وقت تناول طعام العشاء، فأحضرت صباح غسل الماء، غسل الشيخ فمدت صباح طرف خمارها ونشفت يداته، لتزداد طمأنينته.
أحضرت المائدة، مد الشيخ يده نحو الكباب، وقبل أن يلمس اللحم سمع طرق الباب!.
فهتفت صباح بالآيات والأذكار،
قائلة: يا ستار يا ستار!. هل أخبرت عساكرك بقدومك، فأتوا لتناول طعام العشاء معك؟.
نشف ريق الشيخ فالقى مافي يده، نهض من مجلسه نحو الباب أراد أن يشق طريقه، فاصطدم بالمداعة، فأحرقت الجمر ثيابه.
قالت: من في الباب؟.
رد: طوق الحطاب.
فطرقت خديها ووركيها، و وضعت السبابتان في عينيها!.
همس الشيخ: أخفيني في التنور !
ردت: ستنضج وتفور !
لكن سأخرج ثيابي وأدخلك الصندوق واقفله.
فأدخلته وطبقه وبالقفل قفله.
ثم ذهبت وفتحت الباب.
دخل طوق بايق نايق، فقال: أراك منشرحة مرحة، في رغد عيش مرتاحة، وفوق هذا كله أضحيتي شرابة مداعة!.
اخبريني مع من كنت موعودة، ولمن هذه المائدة ممدودة؟.
ففتش البيت وخباياه، ثم جلس على الصندوق.
قالت: يا طوق إليك انتابني الشوق، بيتك عامر، وشرفك طاهر، فلا تنخدع بالمظاهر.
عمي كان على المائدة، وهذه بندقيته ومداعته، أتى بلحم كبش، فطلب مني طبخه!.
خرج من البيت لتوه، بعد تناول وجبته.
تفضل على الطعام، وبعد أن نفرغ نتم الكلام.
أكل طوق بنهم وشهية قائلا:كم احب اللحوم المشوية!.
: بالهناء كل لقمة مكتوبة لأكلها، حدثنا يا طوق عن غيبتك الطويلة، هل كنت من الغانمين أم عدت من الخائبين؟.
: الغربة يا صباح كربة، عملت نجار احترقت المنجرة، عملت بالتجارة بضاعتي بارة، عملت حارس مخازن سُرقت فدخلت السجن.
خرجت من السجن قبل يومين أتيتك اقلب الكفين؟.
غدا سأبيع هذا السلاح والمداعة، وعند عودة عمك اخبريه انه أتى سارق فسرقه.
: أمانة عمي تسري بعروقي ودمي، محال أن اسمح لك!.
إذا كنت بائع فبع شيء يخصك.
: افتحي الصندوق قد أجد بعض الجواهر أبيعها وانتفع بثمنها.
: مفتاح القفل ضائع.
بات الشيخ في الصندوق جائع معطوف، بارد، كفرخ منتوف.
صباحا استيقظ طوق، صاح: هاتي المفتاح !
ردت: لم اعثر عليه !
تقدم طوق واخذ البندق وحشاها بالذخيرة، قال: سأطلق الرصاص على القفل حتى اكسره!.
صاحت: لا لا تفعل، ربما يحترق الصندوق بما داخله فنخسره، إن كنت عازم على بيعه دون سواه، فبعه كما هو مقفل بمحتواه.
وافق الحطاب على الفكرة، فحمد الشيخ ربه وشكره.
ساعدت صباح طوق في إخراج الصندوق، وحمله على الحمار وسار.
وضعه في سوق المدينة، وللبيع عرضه!.
فكان يطلب به ثمن غال، لا يخطر للمشتري على بال.
أتى مشتري فقال: بكم هذا الصندوق؟.
قال: بألف دينار.
رد: هل أنت بكلامك جاد، أم إن هذا من باب المزاح والعناد!!.
غضب الحطاب فربط الصندوق خلف الحمار وسحبه في السوق.
اجتمع الناس حوله ليتبينوا أمره، فقالوا: هل لك أن تفتح الصندوق لنرى مكنونه وسبب غلو ثمنه؟.
قال: ضاع مفتاحه وليس لي مفتاح سواه، لذا عزمت على بيعه بما حواه.
ثم نهم الحمار وزجر، فتقرقع الصندوق في الحفر، صادف ابن الشيخ في ممر، استوقف الحمار وسأل صاحبه، عن سبب جر هذا الصندوق خلف الحمار.
رد: معروض للبيع إن كنت مشتر ادفع ألف دينار.
صمت باستغراب ولم يرد جواب !
زجر الحطاب الحمار، فصاح الشيخ من الصندوق: اشتر يا ولدي ولو بألف دينار!.
سمع الابن صوت أبيه الأليف،
فنشب بينه و بين الحطاب شجار عنيف.
حضر العساكر فأقتادوهم مع الصندوق إلى حاكم السوق، فأخرجوا الشيخ والدم من رأسه يروق.
التفت الحاكم وقال: إن ما قمت به يا حطاب، أمر لا تستوعبه الألباب!
رد: سيدي الحاكم استودعت لديه صندوقي، وفيه دراهمي ونقودي
ألف دينار، وعند طلبي رد الأمانة،
كانت منه الخيانة، فأنكرني وجحدني في وضح النهار.
فطلب الحاكم من الحطاب إثبات، فأحضرت صباح حراس الشيخ الاثنين، فكانوا نعم الشاهدين، أقر الشيخ بالخيانة فاستوعد برد الأمانة.
ذهب ابنه على الفور، واحضر الصندوق بدنانيره.
فسلمه إلى الحطاب وطلب منه السماح، فتبسمت صباح!.
فتصافحوا وتعافوا، وإلى ديارهم عادوا.
بعد أن استعاد الأمانة من شيخ القبيلة اشترى الضياع و شيد القلاع فسعد و أسعد و أنفق وتصدق و خلّف الأولاد و ذاع صيته في البلاد.
مرت السنين فأضحى طوق الحطاب كهل ، أبيض شعره و تقوس ظهره ، أحس بانقضاء عمره و دنو أجله.
ذات مساء تبادل الحديث مع صباح و أخبرها بما يجول بخاطره و أنه أشتاق إلى زيارة قبر أبيه و أمه في مسقط رأسه.
طلبت صباح مرافقته مع بعض الأولاد .
قال : الطريق طويل و شاق و يزداد صعوبة بوجود الرفاق ، لذلك سأذهب بمفردي و تبقي مع الأولاد تنتظري عودتي.
عزم على السفر فأعدت صباح خيل ركوبه وزاده.
في الصباح أخذ فأسه ومنجله و خلع نعله و تجرد من ثيابه ، عدى سترة تستره بين ركبتيه والسرة ، فكان شبه عاري الجسد حافي القدمين.
ذُهلت صباح لحالته التي رأته عليها،
فقالت: ما هذا الذي أنت عليه ؟.
قال: أليس هذا حالي الذي رأيتيني عليه أول مرة يا صباح ؟ أحب أن أعود بالحالة التي بها أتيت ، بمنجلي و الفأس والحبل .
و دعته صباح بحضور الأولاد و بعض الأسياد.
فسلك الطريق التي منها آتى ، ينتعل الحفاء و ينام في العراء.
بعد عدة أيام و في المساء ساقته الأقدار إلى نفس الكهف الذي بات فيه ليلته الأولى بعد مغادرته مسقط رأسه ، دخل و في احدى زواياه أنزوى ، فتذكر ما دار في هذا الكهف و ما جرى ، حل الظلام فوضع رأسه كي ينام ، فلمح على الشفق ظل على باب الكهف استقام ، استل فأسه والمنجل و أستعد للقتال ، فبادر المارد بالكلام : لا تسألني يا طوق من أكون و لا تطيل الكلام ، فأنت تعرف أني صاحب العقد الكهرمان ، لقد استعدته بعد أن أضعته ، أنا التاجر الذي اشتراه فأعدته إلى موضعه بعد أن منحتك ثمنه كي تنعم به .
أخبرني يا طوق ما الذي أعادك بعد طول غيابك ؟.
: انتابني شوق لزيارة قبر أبي و أمي و مسقط رأسي .
: الكوخ منصوب عامر بسكانه، والكنز مدفون في مكانه، و طُمر القبرين بالأعشاب والأشجار و أندثرت عنهما الأثار.
اختفى المارد و بقي طوق في الكهف ، بات ليله بفارغ الصبر منتظر صباحه.
أطل على التلال و الهضاب والشعاب فاستعاد ذكريات شبابه ، أحس بأوراق الأشجار تحييه و جداول الماء تناديه، و صخور البازلت الصماء الملساء مبتسمة، تروغ التربة تحت قدماه مرحبة، و كلما اقترب من الكوخ زادت سعادته.
أشعر أني ولدت من جديد، هاقد وصلت باب الكوخ قبل المغيب، هاهو قائم القوائم بعد أن هديته و تركته خراب!.
من هذا الرجل الذي خرج من الكوخ؟. كم هو شبيه بأبي!.
كانه ابي لاغيره ولا سواه من امامه وقفاه!.
: هلم ، وطأت أهلاً و نزلت سهلاً!. هات إعطني؛ الفأس و المنجل و الحبل، افتقدت هذه الأدوات من زمان ، احتاج اليها في جُل الأحيان، تفضل بالدخول!.
حاورت ذاتي: الكوخ كماهو كل شيئ في موضعه وكاني لم اهدمه، حتى مكان الكنز.
يا فنون: لدينا ضيف يا زوجتي، أجلبي له حليب الضأن ، لبت الطلب وقالت: تفضل يا مسعود، إعط الضيف اللبن.
ياللعجب انها شبيهه بإمي شبه تام.
هل هذا يعقل؟، تتشابه الاسماء و الاجسام؟
حتى الاسماء إسم ابي واسم امي، ماذا يحدث؟.
هل بعث من في القبور؟، ام اني انتقلت الى دار الآخرة؟.
هل هما ابي و إمي...؟
سوف ابوح لهما بإسمي!!،... لالا سأبق اتحرى ما يدور حتى ينكشف المستور.
أضافاه ثلاثة أيام داخل الكوخ دون أن يسمحا له بالخروج ، بعدها سألاه عن أسمه و وجهته و سبب قدومه ؟.
حكى لهما قصته و أخفى عليهما، إسمه و قصة عقد الكهرمان ، ثم وجه لهما السؤال : من قام ببنا الكوخ بعد أن هدمته ؟.
قالا : تهنا السبيل بعد فرارنا من ظلم وقع علينا من ظالم أخذ حلالنا و نهب أموالنا و قتل أبنائنا ، فنجونا بأنفسنا و لمحنا هذا الكوخ من بعيد ، فأتيناه فوجدناه كما تراه الأن ، فيه كل الأثاث و أبريق الماء وأدوات الطبخ ، و فيه بعض الزاد والغذاء ، فظننا أصحابه في المرعى أو خرجوا لأمرٍ ماء ، فانتظرنا قدومهم كي نحل ضيوف عليهم ، حل المساء فلم يأتي أحد ، فأكلنا بعض الطعام و بتنا فيه نيام ، خرجنا من الكوخ الصباح و حوله طفنا و إلى الضياع القريبة ذهبنا علنا نأنس بأحد ، فعثرنا على قبرين حديثين ، اعتقدنا أنهما أصحاب الكوخ ، و لكن تسألنا عن من قام بدفنهما ؟.
فغلب علينا الظن أنه حدث لهم ظلم مثل الذي حدث لنا فدفنوا قتلاهم و فر الباقون ، فخطر لنا سؤال أخر اذا كان الأمر كذلك فأين هم المعتدون الظالمون ؟.
فتجاهلنا الأمر و عدنا نحو الكوخ ، و قبل وصولنا شاهدنا نمر أتي من فج الوادي حاملاً في فمه غزال ، خشيناه واختفينا خلف شجرة و راقبناه ، فوصل باب الكوخ و حط الغزال وعاد من حيث أتى ، فوصلنا و وجدنا الغزال لا زال ينبض بالحياة ، فذبحناه و سلخناه و على النار أنضجناه ، فكان غداءنا و عشاءنا ، فاستمر على هذا المنوال في كل يومان يأتينا بغزال ، فطاب مقامنا في هذا المكان و فيه أنجبنا أبننا هذا ، يجمع الحطب و يذهب بها إلى مفترق الطرق فيبيعه للمارة.
همست في سري: وهذا الابن يشبهني ايضا في سن الشباب، ويحمل صفاتي، و يمتهن مهنتي حطاب، بقي ان اعرف اسمه؟
ماهو اسمك يابني؟.
: اسمي طوق.
تسمرمكانه، فاتح فمه، و تدلى لسانه، و تجمدة عروقه، وتوقفت عيناه عن الدوران.
نادوه، ياغريب ياغريب لم يسمع ولم يجيب، رشوه بالماء، وهزوه بالايدي، بعد جهد جهيد صحي.
سألوه: ماذا حل بك؟.
: تذكرت ابي و امي.
نظر إلى الأبن و طلب منه أن يصحبه إلى قبر أبيه و أمه.
فأوصله إلى المكان ، فأزاح الأعشاب و الأشجار و أعاد ترتيب الأحجار ، ثم استلقى على ظهره بين القبرين بعد أن أبتهل إلى المولى بالدعاء ، فوضع يده اليمين على قبر أبيه و اليسرى على قبر أمه ، فاغمض عيناه.
انتظر الابن قيامه فطال انتظاره ، فناداه : حان وقت العودة و دنت الشمس على المغيب ، فلم يجيب ، أقترب و وخز قدمه بعود حطب فوجد جسده قد تصلب ، رفع رأسه و جس أنفاسه و نبضه فوجده قد فارق الحياة.
تركه و عاد مسرعاً إلى أبويه، فحضرا و حملوه إلى الكوخ و غسلوه و كفنوه و إلى جوار أمه و أباه دفنوه.
رحمت الله تغشاه ، هكذا سنة الحياة...
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

طوق
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.