عبده علي الفهد

شارك على مواقع التواصل

كهف الأرانب
بقلم: عبده علي الفهد
[email protected]

أخبرني صديق لي أنه كان له صاحب في القرية يلازمه كظله، وكانت هوايته صيد الأرانب. فكان يرافقه في رحلات الصيد في الشعاب ومنحدرات الجبال. فبينما كان صديقه يصيد الأرانب، يقوم هو بجمع الحطب ويشعل النار، فيشويان ويأكلان، استمرا لفترة. ذات يوم أخبره أن الأرانب ندرة، وبعد فترة انعدمت، فلم نجد ما نصيده. فقال: سنأتي بأرنب إلى هذا المنحدر وندعه يتكاثر. ذهب إلى السوق فاشترى ذكرًا وأنثى وتركها في المنحدر ترعى. بعد عدة أيام بحث عنها فلم يجد لها أثرًا. فبلغه أن أحد شباب القرية صادها. ذهب إليه ونشب شجار؛ حيث رد بالإنكار، وقال إن ما صاد هو أرنب بري. احتار! ثم أتاني بعد عدة أيام، أمام باب منزلي استقام، ناداني، خرجت، فقال: سلفني ثمن أرنب؟ فقلت: سيذهب بعد الأول. رد: سوف أشتري أرنب أبيض، ونعلن للجميع بلونه، فلن يقدم أحد على صيده. وافقته الفكرة، إلا أني لم أعطه ثمنه، ولم أتمكن من تلبية طلبه؛ فلم أكن أمتلك نقودًا. زاد غضبه، انصرف على عجل، ذهب إلى منحدر الجبل، باحثًا عن الأرنب! لم يجد للأرنب أثرًا، دخل كهفًا استظل، مستلقيًا على ظهره، وبقي يتفحص أخاديد سقف الكهف بنظره. سقطت حجر بحجم البطيخة من سقف الكهف، وقعت جواره؛ ظهر موضعها؛ ثقب اندفعت منه ريح شديدة ساخنة كريهة. لم يستطع النهوض من شدة صفعها، فغطى وجهه بكفيه وانقلب على أحد جنبيه. أحس بتوقف الريح؛ كشف عن وجهه، فشاهد أرنب أبيض خرج من الثقب الذي سقط منه الحجر. قفز إلى جواره؛ جلس ينظر إليه كالقط الأليف، مد كفه نحوه، أسند أذنيه إلى الخلف، ممسحًا على رأسه، وهو مستكين، وكلما دلك ظهره؛ استرخى واضعًا رأسه بين ذراعيه. قال في ذاته: هذا هو الأرنب الذي نويت أن أشتريه، من أين أتى؟ لم يسبق لأحد أن رأى أرنبًا أبيض في الخلاء. فجأة! شاهد الحجر الذي سقط؛ يطير ببطء حتى عاد إلى موضعه الذي سقط منه، في سقف الكهف، فأغلقت الفتحة. أحس بفزع ورعب؛ أزاح الأرنب جانبًا نهض، خرج من الكهف وجسده يرتجف، لحقه الأرنب، وبعد عدة خطى، تخطى الظل، لفحته أشعة الشمس، فساخ وداخ، سقط من قيامة، فاقدًا لوعيه. أفاق قبل الغروب مذعورًا، فشاهد الأرنب حوله يدور. طفق عائدًا نحو القرية، والأرنب سائر خلفه. فلما اقترب، نبحت عليه الكلاب، ففر الأرنب من خلفه نحو أحد الشعاب. استقبله صديقه، وفي وسط القرية، استقام وأعلن قائلًا: أرنبي الأبيض إن صادها أحد؛ سيكون عقابه أشد. كان قوي البنية مفتول العضلات، يهابه الشباب، وتفتن به البنات. في اليوم التالي؛ ذهب إلى الكهف ذاته، امتد على أرضيته، ناظرًا في سقفه، كي يرى خروج الأرنب الأبيض. إلا أنه غفى فنام؛ برهة، وعندما أفاق شاهد؛ عددًا هائلًا من الأرانب البيض تملأ الكهف حوله. تجلس بشكل دوائر منتظمة، جميعها ناظرة إليه. استوى جالسًا، وجسده يرتجف، تلفت في كل الاتجاهات، لم يجد فراغًا أو ممرًا. أمسك بأكبرها وأسمنها، ثم نهض والأرنب في يده؛ انصرف كل ما كان جواره من أرانب، منتشرة في كل الاتجاهات، حتى اختفت في مروج الشعاب. ظل ممسكًا الأرنب الذي في يده، ومشى متجهًا نحو القرية، وعندما وصل؛ تجمع أهالي القرية حوله؛ يتهامسون فيما بينهم: كيف عثر على هذا الأرنب الأبيض في الصيد؟ ولم يسبق لأحدنا أن رأى في المرعى أرنبًا أبيض مثل الذي نرى! فرفع الأرنب بيده عاليًا وقال: ها أنتم ترون الأرنب الأبيض؛ وهناك على شاكلته أعداد أخرى تنتشر في المرعى، وإن حدث أن قام أحدكم بصيدها؛ يكون قد اعتدى على أرانبي التي تعد من مقتنياتي وأملاكي، وهذا يعد إنذاري الثاني؛ ومن اقدم على ذلك، فقد أوقع نفسه في المهالك؛ سيقع في دائرة غضبي، ويقصل رأسه سيفي. توارى من كان حوله مبتعدين؛ فشق طريقه حتى وصل إلى صديقه. فذبحا الأرنب وقاما بشيه وأكله. استمر على هذا الحال فترة. وفي موسم زراعة الحقول؛ تعالت أصوات المزارعين؛ شاكين عن تعرض الحقول في أطراف القرية؛ لغزو الأرانب البريه وقرض المحاصيل الزراعية، ولم يجرؤ أحد على التصدي لها؛ كونها محمية من قبل صاحبها "علي بقية". تجمع المزارعون أمام دار علي بقية، فخرج إليهم؛ فقدموا إليه شكواهم، شارحين ما تتعرض إليه مزارعهم، من التهام من قبل أرانبه البيض المنتشرة في الشعاب المحيطة بالقرية! رد: سوف أتأكد من صحة شكواكم، بعدها أخبركم؛ بما يجب عليكم القيام به لحماية مزارعكم! انفض الجمع كل إلى وجهته. فذهب علي بقية إلى صديقه عارضًا عليه مساعدته في إيجاد حل لهذه المعظلة! رد: الحل يسير؛ عليك أن تعلن للجميع استباحة صيدها؛ حينها لم تمض فترة قصيرة حتى تكون قد أبيدت عن بكرة أبيها! فقال: ألم تسأل نفسك؛ ماذا سيحل بي وبك، إن فعلت ذلك؛ حتمًا سنعود لسابق عهدنا من مكابدة الجوع؟ رد: فماذا ترى؟ فقال: عليك أن تعلن للجميع الحضور؛ لسماع ما أقول؟ اجتمع الجميع دون تخلف؛ فاستقام علي بقية فيهم واقفًا، فقال: أنتم تعلمون دون جدال؛ ما كان عليه حالي قبل أن أمتلك أرانبي؛ من جوع وعناء، وما أضحيت عليه الآن؛ من نعيم وهناء! ردوا بصوت عال: جميعنا يعلم ذلك! فقال: أرأيتم أن فنية أرانبي؛ من أين أحصل على حوائجي! ردوا: نعلم أنه سيلحق بك ضرر، لكن ما يحل بنا يفوق ذلك بكثير؛ وليس من العدل أن تضحي بمصلحتنا مجتمعين، في سبيل مصلحتك وحدك! فقال: أنتم تعلمون أن ما أحتاج إليه؛ هو سد رمقي بلحم مشوي، فهل أنتم قادرون على تلبية طلبي كي أصرف عن مزارعكم أرانبي! ردوا: ما هو طلبك أخبرنا لنرى إن كان ذلك في مقدورنا؟ قال: لا أطلب منكم أكثر مما أنا عليه: وجبة لحم مشوي؛ في غدوتي وعشائي وصباحي؛ يأتيني ذلك في عقر داري، ما لم فدعوني وشأني؟ ساد الهرج والمرج فقال بعضهم: دعونا نتدارس الفكرة سنعود لنعطيك رأينا صباحًا، فهل بمقدورك أن تمنع عن مزارعنا الأرانب هذه الليلة؟
رد: كلا! موعدنا غدًا. انفض الجمع، ثم اجتمعوا للتشاور، فقال بعضهم: إن ما يطلبه علي بقية، هو تقديم كبش فدية؛ كل نهار، وكل ما يمتلك مزارعو القرية لا يكفي ثلاثة شهور، فلا جدوى من ذلك، فحتمًا ستعود الأرانب لما كانت عليه! فقال آخرون: نجيب طلبه، فنعطيه كل يوم فدية حتى ننتهي من جمع محصول الحقول، بعدها نجنح للنكول، نكون بذلك قد تعدينا الخطر، فإن عادة الأرانب لم يلحقنا من عودتها ضرر. جرى التوافق على الرأي الثاني؛ فذهبوا إليه اليوم التالي، بكبش فتولى صديقه ذبحه وانضاجه، بينما ذهب علي بقية إلى كهف الأرانب، أطلق صفارة؛ فتجمعت الأرانب حوله. أشار بإصبعه إلى الحجر في سقف الكهف؛ فسقطت، وفتح الأخدود، فتقاطرت إليه الأرانب بالصعود، استمرت في الدخول، بينما ظل واقفًا، حتى اكتمل دخولها؛ فأشار إلى الحجر، فعادت إلى موضعها. عاد إلى القرية؛ فصادف في أحد الحقول أحدها، حاول صيده، إلا أنه وقف على رجليه رافعًا يديه، فقال: أتظن أنك قادر على صيدي! رد: أتعص أمري؛ ناديت فحضر الجميع، فلماذا أنت لم تأت؟ فقال: لم يعد لك علي سلطان؛ بعد أن أكلت لحم الضأن، وأعدت الحجر إلى موضعه. انظر حولك ماذا ترى؟ رد: حقول زارعة. فقال: أغمض عينيك ثم افتحهما! رد: غير معقول أين ذهب زرع الحقول؟ فقال: بمفردي أبدتها بلمح البصر. سأله: من تكون؟ رد: سأخبرك؛ انتشلني بأحد يديه من موضعه، فقذفني نحو القرية، فهويت جاثيًا أمام صاحبي فاقدًا لوعيي. عمل صاحبه على إفاقته، وبعد عناء فتح عينيه، فسأله: كيف أتيت؟ رد: لا علم لي ماذا رأيت؟ فقال: رأيتك ارتطمت على الأرض أمامي كخرقة بالية قذفتها رياح عاتية. تفضل كل قطعة اللحم المشوي! فقال: أنسيت أني علي بقية! كيف تهزأ بي؛ تعطيني قطعة خشب، على أنها لحم مشوي؟ رد: إنها لحم انظر كيف أمضغها وابتلعها! فقال: لم تعد صديقي؛ إنك جني من الجان؛ تبتلع العيدان. ابتعد عن طريقي. تنحى صديقه فمشى بخطى متعثرة، بينما استمر صديقه سائرًا خلفه؛ فدخل أحد الخرائب، فاضطجع في أحد زواياها وهم أن يتغطى باللحاف؛ فلمح صديقه خلفه، فقال: ماذا تريد مني لماذا تلاحقني إلى بيتي؟ رد: هذه خرابة خلاء هلم معي أوصلك بيتك؟ فقال غاضبًا: انصرف عني، ماذا جنيت حتى تطاردني أيها الجني؟ انصرف صديقه عنه بعد أن يأس، وظل يأتيه بالطعام يضعه جواره وينصرف. مضت مدة وهو باق على هذا الحال. وفي أحد الليالي هطل مطر مصحوب ببوارق وصواعق، فإذا بطارق يطرق الباب. فتح الباب؛ فشاهد علي بقية واقفًا، ثيابه تنزف وجسده يرتجف، أدخله على عجل، فأعطاه ثيابًا وطعامًا وشرابًا، ثم قال: هل عدت لجاد صوابك، وذكرت أني أعز أصدقائك؟ رد ضاحكًا: هل عادة الأرانب؟ أجاب: لم تعد تظهر بعد أن سكنت الخرابة. عاد علي بقية لسابق عهده؛ فمارس حياته، إلا أنه ساءت أحواله وتغيرت طباعه؛ عندما يمشي يشعر أنه لم يعد هناك وزن لجسده. ولم يعد قادرًا على التحكم بخطواته. يأكل بنهم، إن هناك من يشاركه أكله. من يومها ينادونه بالأرنب؛ يلتهم ما يجد أمامه حتى الأعشاب. أضحت حياته لغزًا من الألغاز. حدث له ذلك عندما كان في ريعان شبابه، إنه الآن شيخ، قد تجاوز المئة، يمشي بخطى متسارعة وكأنه في العاشرة من عمره.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

كهف الأرانب
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.