Mohammadgarrah

شارك على مواقع التواصل

ساءل "باتا" نفسه وهو يجول بين المروج الخضراء الممتدة أمامه ببساتينها وحقولها قائلاً: أي جمال بعد هذا الجمال الذي أرى؟!، وأي خير بعد هذا الخير الوفير من الثمار والمحاصيل الذي جادت بها أرضنا السمراء الطيبة؟!
لم ينتظر رداً وهو يعيش تلك اللحظة من النشوة والفرح والإقدام، لكن غصن تين مال ناحيته وهو يهمس له بصوت رخيم وخفيض: حقول الدنيا فانية يا صديقي
"باتا".
عندما انتبه "باتا" لما سمعه كان غصن التين قد عاد لمكانه وسط أقرانه، فقال لنفسه: هل أنا في حلم أم أن ما سمعته ورأيته قد حدث بالفعل؟!، لم يرد عليه الغصن لكن الكرمة التي تتمدد نشوانة على التكعيبة القريبة قالت له بصوتها الأنثوي العذب الرفيع: أنا من أشجار الجنة يا عزيزي ، لكن ثماري هنا تختلف عن ثمار قريناتي هناك!.
نظر "باتا" لشجرة العنب ملياً، فصفقت أوراقها بلحن أثار شجونه، فتذكر أباه وأمه وافتقاده لحنانهما فأغرورقت عيناه بالدموع، لكن بقرته الطيبة بادرته بالقول: أرضنا يا "باتا" قطعة من (حقول إيارو) جنة الرب الأزلية، لكنها ورغم غناها وغزير عطائها لا تعادل شيئاً مما هناك!
انتبه "باتا" إلى بقرته التي تقف إلى جواره، ومسح بيديه الدموع التي سالت بطيئة على خديه وقال بصوت متهدج: أعلم يا بقرتي الطيبة أن الجنة فيها مالم تره العين بعد، لكن سؤالي كان عن أرض تناظر أرضنا، ونهر يعادل نهرنا!.
نظرت له البقرة من جديد وهي تقول بحكمة العالم بباطن الأمر: من حيث الأرض والنهر فهناك أراض أكثر ماء وأخصب تربة من أرضنا، لكنها يا "باتا" تفتقر إلى أهم شيء في هذا الوجود.
قال باتا: أرض تفوق أرضنا ماء وخصوبة ماذا ينقصها ياترى؟
واصلت البقرة بمرح: لو أعملت عقلك فسوف تعرف أنت الإجابة!
قال "باتا" متساءلاً: أرض أكثر ماء وأخصب تربة ماذا ينقصها؟، لا أدري ماذا ينقصها؟، قولي أنت فلا إجابة عندي وأخشى أن تكون فزورة من فوازيرك يا بقرتنا العزيزة.
ابتسمت البقرة وهي تتحداه من جديد: قلت لك فكر بعقلك وأنت تعرف ماذا ينقص تلك الأرض الخصبة!.
ضحك ساخراً ثم قال: أرجوك يا صديقتي لا تضعيني في اختبار، هيا أخبريني بالإجابة لأنني لا إجابة عندي!.
قالت: فكر بعقلك واسترجع مخزون معرفتك وأنت تصل للإجابة.
قال: صدقيني لا إجابة عندي، ثم ضحك ساخراً وهو يقول: ما رأيك اسألي الحمار فربما تكون عنده الإجابة!
ردت البقرة ضاحكة: دع الحمار في حاله؛ لأنه لا يعلم؛ وهو أيضاً لا يفهم لغتنا يا صديقي، ولا تنسيني أن أقول: ينقصها أنت يا "باتا"!!
رد "باتا" مندهشاً: تقولين أنا؟!
قالت: نعم ولكن لست أنت تحديداً، استطردت قبل أن يرد فقالت: الأمر ليس لغزاً، ما أقصده أنها ينقصها إنسان يملك مثل صبرك وحلمك، تنقصها يد خبيرة ونفس طيبة شاكرة،، تنقصها بركة أنفاس هؤلاء الناس الطيبين من حولك!
جال "باتا" بنظره وعاد ليقول لبقرته: دائماً أنت تأسريني بعلمك وتفيضين عليّ من أسرارك، كم أنا ممتن لك، وكم أنا سعيد بك يا بقرتي الحكيمة!
قالت البقرة: لو كنت قد أعملت عقلك لكنت قلت الكثير والكثير من المعلومات التي أثق أنك تمتلكها، كثيرون يا صديقي يمتلكون ثروات طائلة ، يستوي في ذلك الأفراد والممالك، والعاقل الراشد هو من يحسن إدارة موارده ويعظم استفادته منها!.
قال: في كل مرة تأسريني بحديثك وحكمتك، لذا أطلب منك أن تحكي لي ولا تتركيني هكذا معلقاً.
قالت: إذا كانت أرض مصر الطاهرة تجود بخيرها فإن الفضل في ذلك يعود لكم أنتم أهل مصر.
قال ولكن النيل المقدس هو الأساس.
قالت : لا ينكر فضل النيل إلا أعمى، ولكن النيل وحده لم يصنع هذه الحضارة العريقة، الناس هنا هم من صنعوا الحضارة لما روضوا النهر وفلحوا الأرض!.
قال : أرى أن تفيضي عليّ من بعض علمك فقد إذداد شوقي وتنامت لهفتي كي أعرف قصة جدودي الذين صنعوا حضارتنا.
قالت: كما أخبرتك، بلاد كثيرة تجري فيها أنهار وتزدحم أرضيها بالسهول الجاهزة للزراعة ورغم ذلك تجدها فقيرة معدمة.
قال: لا أعتقد أن لمثل أهل تلك البلاد من أعذار طالما وجدت الأرض، وجرى الماء.
قالت: في الزمن القديم كانت مصر من البلاد المطيرة شأنها في ذلك شأن بقاع أخرى كثيرة تتوزع على سطح الأرض الفسيحة، وكان الناس يعيشون على الصيد والقنص، ولم تكن أممنا نحن معشر الحيوان قد استأنستوها بعد، سارت الأمور على ذلك المنوال ما سارت، ولكن لأن دوام الحال من المحال فقد حدث أن حادت الريح التي تحمل السحاب وغيرت وجهتها عن هذه الأرض إلا قليلاً، وترتب على ذلك أن قل المطر فهبط الناس من أعالي الأرض إلى حيث السهول والمنخفضات التي يجري فيها الماء.
قال : وبالطبع كان جدودي الأقدمين هم من هبطوا؟!
قالت : ما لك لا تأخذ الموضوع على محمل الجد ؟ أنا أحكي لك الآن كيف تكونت مصر، وكيف ولماذا تفوقت على غيرها، واصلت: نعم هبط جدودك من أعالي الجبال التي بدأت تتصحر أرضها وتجف ينابيعها ويغادرها اللون الأخضر وتتحول مرغمة إلى اللون الأصفر لون الموت وانتهاء الحياة، هبط الأقدمون يا صديقي جماعات جماعات إلى حيث النهر وواديه ودلتاه، هذه الجماعات تعارفت وتعاونت وانطوت تحت رايات سرعان ما اندمجت وشكلت كيانات استقرت على الأرض لتكون قريبة من سر الحياة الماء.
قال باتا: اعقد أن هذه الكيانات تعارفت وتعاونت وإلا ما كانت قد اتحدت.
قالت: بالفعل هذا ما حدث ، وفي تلك الفترة تم اسئناسنا لنكون في خدمتكم يا بني البشر، كما عرف أجدادك الزراعة وخبروا أسرارها ومواعيد محاصيلها، وتنامت خبراتهم حتى اخترعوا الكتابة فدونوا كل ما كانوا يحتفظون به في رؤوسهم وينتقل شفاهة من جيل إلى جيل ، وصارت مصر دولة قبل أن تعرف أماكن أخرى شكل الدولة فاستحقت أن تكون أم الدنيا.
قال: تتحدثين عن مصر وتاريخها كما لو كنت من بني البشر، وكما لو كنت قد جلست إلى كبير الكهنة في مدرسة الحياة!، من أين لك بكل هذا العلم يا صديقتي؛ من أين لك وبيننا من بني الإنسان من لا يعرف سطراً مما تعرفينه؟!
قالت: لو كنت اعملت عقلك ما كنت قد سألت هذا السؤال.
قال: وما دخل عقلي هنا بالموضوع يا صديقتي؟!.
قالت: عندما خلقت الدنيا وتوزعت المخلوقات عليها ميزت السماء الإنسان بعقل يتفوق على عقولنا نحن وغيرنا من المخلوقات، فمثلا استطاع الإنسان وهوالأقل حجماً، والأقل قوة أن يسوقنا، وأن يبتكر من الوسائل ما يقهر بها الوحوش والأسود وغيرها من المخلوقات الضارية ، واستطاع جدودك أن يروضوا النهر المقدس النيل العظيم ويضبطوا فيضانه قدر ما يستطيعون حتى لا تذهب مياهه هباء فزرعت الأرض وتنوعت المحاصيل وبنيت دعائم الحضارة منذ ذلك الزمن البعيد.
قال: لكنك لم تخبريني كيف تكونت معرفتك ومن اين استقيت وتزودت؟
قالت: لو كنت تعرف حتحور حق المعرفة ما كنت سالت سؤالك يا عزيزي.
قال: بالفعل حتحور تتجلى أحياناً في صورة البقرة.
قالت ومن أحب حتحور فاضت عليه بالمعرفة وملأت قلبه بالحب والسلام.
قال: الحب والسلام، ما أجملهما من كلمتين بهما يعمر الكون وبهما يعيش الناس في سلام متحابين.
قالت: في عالمنا لا توجد صراعات كصراعاتكم، ليست هناك أطماع وليس هناك عرش أو صولجان، خلقنا ونعرف رسالتنا في الحياة وراضين بما كتب لنا في ألواح القدر، لكنكم أنتم يتسلل الشيطان إليكم ويغوي بعضكم فلا تكفونعن الحروب، ولا يردعكم الدم المسال.
قال: لي سؤال أرجو ألا أسبب من وراء طرحه اي إحراج أو ألم لك.
قالت: هات ما عندك فليس هناك ما يحرج او يؤلم وستعرف لماذا.
قال: ألا يؤلمك أن الإنسان قد تميز على غيره من المخلوقات ومنها بالطبع الحيوانات وصار سيد الكون بكل ما فيه من مخلوقات؟!
قالت: لا يؤلمني ذلك، وأعتقد أنه لم يؤلم من سبقونا لسبب بسيط يا صديقي وهو أن كل مخلوق خلق وهو يعرف وظيفته ورسالته في الحياة، كل خلق لما يسر لها ، ولو فهم كل مخلوق ذلك حتى داخل الأمة الواحدة والمجتمع الواحد على اختلاف حجمه ما تولدت المشاكل ولما نما الشر وتكاثر.
قال: لي سؤال آخر أرجو ألا يحرجك أيضا فهل أطرحه ام احتفظ به لنفسي ولا أطرحه؟
قالت: قلت لك لا تستحيي ما دمت تبحث عن المعرفة، من حقك السؤال في إطاره، تكون لك الإجابة في إطارها أيضا، هل فهمت أم أن المسألة تحتاج توضيحا أكثر يا عزيزي ؟
قال: اتفقنا، ألا تخشين سكين الجزا؟
قالت: قلت لك لقد خلقنا ونحن نعرف دورنا في الحياة، ولأن لكل أجل كتاب عندكم، فالأمر ذاته عندنا، هذه وظيفة من وظائفتنا، والعمر طال أم قصر مصيره إلى انتها، لا يهم شكل النهاية ما دامت سوف تحدث في كل الأحيان، وتحت أي ظرف.
قال: هل تتجلى لك حتحور الربة الجميلة والحكيمة؟
سؤاله، لأنها صاحت فيه أن ينتبه لقدوم أخيه قبل أن يصل مخافة أن يجدد اتهامه له بأن رأسه تسكنها الشياطين، وان مساً أصابه جعله يحدث نفسه ويتحدث إلى الحيوانات وغيرها من المخلوقات ويتخيل أشياءً لا وجود لها!.
قال "باتا" صدقت يا بقرتي لقد صار أخي يعيرني بعقلي الذي يراه معطوباً، ولم يكتف بذلك بل أخبر زوجته فصارت تنظر لي بريبة وتبتسم كلما رأتني ابتسامة صفراء ماكرة، وأخشى أن ينزلق لسانها فينطق بما ليس فيّ، وتجري عليه شتائمها فتستهين بشخصي الذي تعرفينه!
قالت البقرة: هيا أسرع يا صديقي وفك المحراث عني وحمِّله على ظهر صديقنا الحمار المندهش دائما ً لحديثنا الذي لا يفقهه!.
قال "باتا" ضاحكاً: هو صحيح لا يشاركنا الكلام لكنه ينصت لنا بانتباه ملحوظ لدرجة أنني أظنه قد صار يفقه ما نتحدث فيه ويتخابث فلا ينطق إلا بالنهيق الذي ينفر منه كل من شاء حظه العثر أن يسمعه.
قالت البقرة هيا يا صديقي لقد اقترب أخوك وسيصيح عليك قبل أن يصلك ودع حكاياتك الآن، أجلها لمرة قادمة.
لم يرد "باتا" لأن اخاه صاح عليه بصوته الغليظ من بعيد فتحرك باتا بالحمار ناحيته وهو يحاول ألا يقع المحراث من على ظهره.
*****
كل من بالقرية كان يعلم قصة (باتا) وأخيه، كانوا يعرفون أنه ولد لأسرة ريفية بسيطة، وقد رحل والداه عن الدنيا وكان ما يزال غضاً غريراً، وتركا له ولأخيه الذي يكبره مساحة من الأرض الزراعية فضلاً عن المنزل الذي يعيشان فيه.
ويعرف أهل القرية أيضاً أن (أنوبيس) الأخ الأكبر لباتا لما شعر بحاجته إلى زوجة ترعى شئونه وتجهز له طعامه تحدث إلى أخيه الصغير بما عزم عليه وشرح له مدى أهمية وجود إمرأة في البيت، تنظف الفراش، وتطبخ الطعام الذي افتقداه منذ رحلت والدتهما، ومضى الأخ الأكبر في حديثه وهو يحاول إقناع شقيقه الأصغر بأهمية وجود الزوجة التي يريدها، ولم يتردد في طمأنته بأن زوجته التي سيختارها ستكون له بمثابة الأم التي فقدها مبكراً.
قال باتا: هل تستأذني يا أخي في حق من حقوقك؟، هل فكرت أنني سوف أعترض؛ أو لا أوافق.
قال أنوبيس : ليس الأمر بالشكل الذي تراه ، أنا أردت فقط أن أحيطك علماً حتى لا تفاجأ وحتى تكون إلى جواري وأنا أخوض غمار تلك التجربة.
لم تستمر المناقشة طويلاُ، وبدون تردد قام الأخ الصغير بمعانقة أخيه الكبير وبارك له وقال فرحاً ساذهب معك لخطبتها وسأكون إلى جوارك وأنت تتم مراسم زفافها وسأكون لها ابناً وأخاً ولن أعصيها أو أرفض مساعدتها ما حييت.
****
كانت فتاة مليحة هكذا رآها "أنوبيس" من منظاره. وكانت أماً يافعة أو أختاً كبيرة كما رآها "باتا" الذي شغلته الحيرة التي تسكن عينيها والشقاوة التي تطل منهما، لكنه تغالب على ما شغله وهو يقول لنفسه: كيف ستفهم أنثى وأنت لم تجلس إلى إمرأة من قبل؟!
لم تمض أيام كثيرة حتى زفت العروس التي هام بها
"أنوبيس" فتدللت عليه وتمادت في دلالها، وفي الليلة التي دخلت فيها تلك العروس البيت شعر باتا بالوحدة للمرة الأولى، فأخوه الذي كان يشاطره الرقدة قد صار له سريره وأصبحت تقاسمه الفراش إمرأة لم يكن لها وجود من قبل، وزاد من وحشة "باتا" في منزله أنه للمرة الأولى يترك الغرفة التي اعتاد النوم فيها منذ وعى بالأشياء، وعندما أخلى أخوه له غرفة بالية تجاور حظيرة الحيوانات ارتضاها "باتا" ولم يجادل، وقال لنفسه ستكون رقدتي بالقرب من أصدقائي الذين اعتادوا الحديث معي وأعتدته أنا أيضاً، كم سأكون سعيداً وأنا بالقرب منهم أخفف عنهم تعب النهار، وأتسامر فأعرف منهم مالا يعرفه أحد من أخبار وأسرار، وكم سأكون سعيداً وأنا أحفزهم لبذل المزيد من الجهد ونحن نعمل كل يوم في الحقل المثمر دائماً بأطيب الثمار والمحاصيل.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.