Sottoo3

شارك على مواقع التواصل

صديقة المتوحد (الفصل الثاني)
صديقة المتوحد
عزيز ياقوت
الفصل الثاني


و سلمته إلى أبيه الذى قال: هيا بنا.
و سحبه دون حتى أن يمنحه فرصة للسؤال..
فتجرأ هو على غير العادة و سأل فى خفوت: إلى.. إلى أين؟؟
رد والده بإقتضاب و بنبرة غامضة لم ترق له: المدرسة.
كانت المرة الأولى التى يسمع فيها هذا الأسم.. و عندما وصلا إلى مبنى ضخم.. قرع والده براحته القوية بابه الأخضر الحديدى..
و سمع صريرا من الجهة الأخرى تزامنا مع تحرك أحد الأبواب كاشفا عن رجل أسمر البشرة أخضر العيون يرتدى جلبابا ذى لون أسود فاتح.. أفسح لهما الطريق دون أن ينطق حرفا واحدا.. كاشفا عن ملعب رملى يقف به الكثير من السيدات و الرجال و الأطفال.. و الذى لاحظ هادى أنهم أى الأطفال يرتدون نفس ملبسه تقريبا.. فتوقف والده عند أول خطوات الملعب و أمال رأسه تجاه هادى إلى الأسفل فى مشهد جعله يشبه عمالقة أفلام الخيال العلمى و قال: وصلنا.
عندها فقط أنفجر هادى بالبكاء.. لم يشعر بتلك المدرسة الشابة الجميلة التى تلقفت كفه الصغير من راحة أبيه إلى راحتها و تبادلا بضع كلمات مقتضبة لا يتذكر منها هادى حرفا واحدا.. العجيب أنها لم تنفعل ببكائه كأنما معتادة على هذا الأمر.. و الحقيقة أن سبب بكائه كان طبيعيا جدا.. طفل يبلغ من العمر خمس أعوام.. يجد نفسه فجأة محاطا بعالم جديد مزدحم بأشخاص لا يعرف منهم فردا واحدا.. فكيف لا ينفجر باكيا.. بل كيف لا يهرب..
صعدت به المدرسة الشابة إلى أحد الفصول.. و جاء مجلسه بجوار فتاة جميلة.. حتى أنه توقف عن البكاء فجأة من رقة جمالها..
كانت فتاة مستديرة الوجه بيضاء اللون و شعرها الأسود الفاحم مربوط كذيل الحصان يتدلى خلف ظهرها بدلال..
قالت الفتاة و هى تنظر إليه بدهشة: لماذا تبكى؟؟
أنتبه هادى فجأة أنها لا تبكى..
صمت بضع لحظات و هو ينظر إليها بحثا عن جواب ثم قال: لأننى لن أعود للمنزل مرة أخرى.
ضحكت الفتاة كاشفة عن أسنان بيضاء منمنة و هى تهتف فى دهشة: من قال لك هذا؟؟
هرش رأسه و هو يجيب: لا أحد.
ضحكت الفتاة مرة أخرى و قالت: يا لك من أحمق.. هذه مدرسة لتلقى العلم.
ثم أردفت: هل تظن أن أهلنا قد أحضرونا إلى هنا ليتخلصوا منا!
لم يجب هادى.. بل كان عقله مشغولا بذلك المخلوق الجميل الذى هدأ من فزعه و أزال عنه رهبة اليوم الدراسى الأول فى الحياة بسهولة شديدة.
" ما أسمك ؟"
سألته الفتاة بصوتها العذب فأجاب فى إنبهار: هادى.. هادى محمود.
قالت الفتاة: و أنا إسمى رماح.. رماح يوسف.
رفع حاجبيه فى دهشة و هو يهتف: أى أسم هذا؟؟
هزت الفتاة كتفيها ببساطة وهى تجيب: إسمى.
قال و هو يهز رأسه إليها: أعلم.. لكن ما معناه؟؟ أن الرماح على ما أظن هى تلك العصا المدببة التى أشاهدها فى أفلام الحروب و المعارك على شاشة التلفاز.
همت رماح بالرد عليه لولا أن قاطع صوت المدرسة حديثهما و هى تقول: هل لك أن تفسح المجال لزميلك ليشاركك مقعدك أيها الصغير؟؟
ألتفت هادى إلى مصدر الصوت فوقع بصره على المدرسة و بجوارها زميل دراسى له فهتف فى دهشة: و أين سيجلس؟؟
أشارت المدرسة إلى بقعة خالية و هى تجيب فى دهشة مماثلة: هنا بجوارك.
هتف هادى معترضا و هو يستدير إلى حيث أشارت: لكن المكان كما تري...
و فجأة أرتسمت على وجهه كل ملامح الذهول.. فلم يكن هناك أثر لرماح.. أى أثر.
قال مازن فى ضيق و هو ينظر إلى خالته الجالسة بجواره و التى لم تكف عن الدعاء و الإبتهال محركة جسدها بشكل دائرى فى وضع الثبات يشبه كثيرا تلك الدمى ذات السلك الزمبركى التى يضعها السائقون أمامهم لتتحرك بنفس الطريقة فور تحرك السيارة: ألا يوجد طريقة للدعاء غير تلك الطريقة التى تسبب التوتر؟؟
توقفت خالته عن الحركة و الدعاء فجأة.. و أستدرات إليه فى مقعدها و قلبت أمامه كفها بإستعجاب و هى تقول فى غرابة: بل أنا التى لا أدرى كيف تجلس هكذا مثل التماثيل الحجرية و أخيك يتأرجح بين الموت و الحياة فى الغرفة المجاورة.
ثم أستطردت: على الأقل أظهر بعض القلق و إن كان مزيفا.
رد مازن فى غضب و هو يعتدل فى جلسته ليواجهها هو الآخر: ماذا تريدينى أن أفعل؟؟ الطبيب قال أنه يحتاج إلى بعض الوقت.. هل أتقافز حول الغرفة مثل القرود على الأشجار حتى يبدو لكى أنى قلق.
نظرت إليه بضع لحظات ذاهلة.. ثم قالت و هى تشيح بوجهها عنه: هداك الله يا ولدى.
ثم غمغمت: لا عجب أن كان أخيك لا يحب التحدث إليك غالبا.
ثم صاحت فى غضب مفاجىء: لأن أسلوبك لا يشجع المرء حتى على النظر إلى وجهك.
أشاح مازن بكفه و هو يصيح: أنت تعلمين تماما العلم أنه لا يحب الحديث مع أحد منذ الصغر.. كان دائما يحب العزلة.
ثم أستطرد: حتى عندما كبر و ظل وحيدا فى بيت الأسرة لم يفكر فى الزواج.
قالت خالته فى خفوت: لأنه لا أحد منا شجعه فى هذا الأمر.
صاح مازن: بل بسبب ثريا.
ثم أشار إليها بسبباته و هو يستطرد: و أنت تدركين تلك الحقيقة مثلنا جميعا.
صمت خالته بضع لحظات ثم أغرورقت عيناها بالدموع فجأة و هى تنتحب: أه يا هادى يا قطعة من قلبى.. نجاك الله يا ولدى.
عاد هادى من يومه الدراسى الأول فى حيرة شديدة للغاية.. بسبب البيئة الجديدة التى وجد نفسه مزروعا فيها فجأة بين ليلة و ضحاها.. و تلك الكومة من الأوامر و الفروض المنزلية التى أملوها عليه مدرساته فى الفصل المدرسى.. و بسبب رماح.. ترى أين أختفت ؟؟ لقد سافر فى كل الوجوه التى وقعت عليها عيناه بحثا عنها قبل أن يغادر المدرسة.. هل فزعت لرؤية زميله الذى حل محلها.. ربما لأنه كان أضخم منهما معا.. لكن كيف أختفت بهذه السرعة.. لابد أن يبحث عنها حتى يعرف منها سر تلك الحركة السحرية..
و فى غمرة أنشغاله بالتفكير فى رماح قاطعته صيحة من أبيه تطلبه بإسمه على الفور..
فقفز من فوق سريره الصغير و أنطلق فى سرعة إلى غرفة أبيه المجاورة و هو يجيب فى تلقائية: ماذا يا أبى؟؟
أنعقد حاجباه أبيه فى غضب و صاح فى عنف: ماذا يا أبى؟؟ أسمها نعم يا أبى.
ثم صاح فى عنف أكبر: كم مرة أخبرتك بهذا الأمر.
أرتبك هادى و شبك كفيه فى رهبة و هو يجيب فى تعلثم: معذر.. معذرة يا أبى.
قال والده بنفس النبرة: كيف كان يومك المدرسى الأول؟
صمت هادى بضع لحظات كأنما يحاول أن يجد الكلمات المناسبة خشية أن يغضب والده مرة أخرى.. لكنه قال فى النهاية: جيد.
هتف والده فى أستنكار: جيد؟؟ فقط؟؟
لم يعرف هادى بماذا يجيب.. و لم ينقذه سوى أمه التى دلفت ألى الحجرة مسرعة و هى تقول: كان يوما رائعا.. و هادى عاد منه سعيدا.
ثم أردفت و هى تنظر إلى زوجها: لكن هناك كومة من الطلبات نحتاجها لبدء معركة الدراسة.
هتف زوجها فى دهشة: أى طلبات.
صاح هادى فجأة: كراسات و أقلام وأغلفة حمراء و زرقاء و صفراء و العديد من الألوان.
صاح والده فى غضب: الأن أنحل لسانك و أجبت.
توارى هادى خلف أمه و والده يكمل: أه..لا أدرى متى ستصبح مثل أخيك.
ثم صاح مرة أخرى: مازن.
جاء مازن مسرعا أمام أبيه و قال فى ثبات: نعم يا أبى.
أدار الأب بصره إلى هادى و هو يقول: أرأيت؟؟
قالت الأم و هى تضم هادى و تضعه أمامها: أن هادى ليس له مثيل.. و سيصبح يوما ما ذا شأن.
ثم أستطردت: أنه آخر العنقود.
صاح الأب فى غلظة لا مبرر لها: سنرى.. و الأن هيا إلى غرفتكما.
أسرع هادى كالحصان من أمام أبيه و عاد إلى غرفة النوم التى يتشارك فيها مع أخيه الأكبر و أنفاسه تتلاحق.. لم يصدق أنه نجا من غلظة والده المعتادة.. أنه لا يعلم لماذا يعامله بتلك الطريقة.. ماذا فى أخيه يري والده أنه ينقصه ليحبه..
دلف مازن إلى الغرفة بعد لحظات و هو يقول: فيما تفكر يا هادى؟؟
نظر هادى إلى أخيه فى دهشة كأنما أدرك فجأة وجوده فى الغرفة فقال فى خفوت: لا شىء.. أفكر.
أتجه مازن إلى حيث يرقد و سأله فى سخرية: تفكر فى ماذا أيها الأحمق!
ثم أستطرد: فروضك المنزلية ستبدأ فى أسبوعك الثانى من الدراسة.
ثم أشار إلى صدره فى أعتداد: اسألنى أنا.. فأنا أعرف كل شىء.
نظر أليه هادى و هو يقول: هل تعلم كل شىء حقا؟؟
رفع مازن رأسه و أجاب فى ثقة: بالطبع.
تردد هادى بضع لحظات قبل أن يقول: حسنا.. هناك أمر أريد أن أعرف عنه بعض المعلومات.
و قص عليه هادى واقعة رماح التى أختفت فجأة من جواره فى مقعد الدراسة و سأله أن كان يعرف عنها أى شىء..
فقهقه مازن فى سخرية و قال: أيها الأحمق أى أكذوبة تلك؟؟
عقد هادى حاجبيه فى غضب جعله شديد الشبه بأبيه و هو يقول: ليست أكذوبة لقد تحدثنا سويا.
ظل مازن على نفس نبرة السخرية و هو يهتف: و كيف أختفت أذن؟؟ هل تبخرت فى الهواء أم أبتلعها الحائط المجاور لها؟؟
صاح هادى: لما أذن تظن أننى أسألك.. ألم تقل لى أنك تعلم كل شىء.. أذن أنت تعلم اين هى.
دفعه مازن و هو يقف أمامه: أيها الغبى..أنها خيال.
قال هادى فى أرتباك: خيال؟؟
هتف مازن: بالبطع.
ثم أستطرد: لو لم تكن خيال فأين هى؟
هب هادى من سريره و هو يهتف فى غضب: لكنك قلت أنك تعلم كل شىء.
ثم أردف: أيها الكاذب.
أتجه مازن نحوه و هو يصيح فى خشونة: أنا كاذب..حسنا سأريك.
و نشبت بينهما معركة طفولية لمحتها الأم و هى فى طريقها إلى المطبخ.. فحولت أتجاهها مسرعة إلى غرفتهما و هى تصيح فى غضب: ماذا دهاكما؟؟ لماذا تتشاجران ؟؟
ثم خفتت نبرتها و هى تردف: ألا تعلمان أن أباكما يحتاج إلى بعض الهدوء.
رفع مازن سبابته و أشار نحو هادى و هو يهتف: ذلك المأفون نعتنى بالكاذب.
رد هادى فى غضب: لأنك كذلك بالفعل.
أتجه مازن نحوهادى لأشعال المعركة من جديد فصاحت الأم: كفى.
ثم أستطردت: الأن فليذهب كل منكم إلى سريره.. لديكما مدرسة فى الصباح.
أطاع الطفلان أمهما فى آليه.. و ظل هادى طوال الليل يفكر فى رماح إلى أن غلبه النوم بضربته القاضية.

يتبع...
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.