tamaeozpublishing

شارك على مواقع التواصل

وقف أبو ذر رضي الله عنه بين يدي أمير المؤمنين الفاروق عمر رضي الله عنه وقال بصوت مجلجل: أنا أكفله يا أمير المؤمنين!!!
لنعد إلى القصة من أولها حتى نتعرف حقائقها ونبين دروسها وعبرها، ففي كل قصة آية وفي كل حكاية حكمة، ومن تأمل حاز ومن اعتبر فاز.
يُروى أنه في أحد البوادي من أعراب المدينة يسكن شاب مع زوجته وأطفاله الثلاثة ولم يكن يمتلك من حطام الدنيا سوى ناقة يشربون لبنها وينقل عليها الأمتعة للناس مقابل دراهم معدودة.
وفي يوم تركها لتأكل من خشاش الأرض، فنزلت في أرض جاره، فأكلت من زرعه فرماها بحجر في رأسها فماتت، فأمسك الشاب الحجر وقتل به الرجل كما قتل ناقته.
كان للرجل ثلاثة أبناء أمسكوا بالشاب حتى أتوا به إلى مجلس القضاء عند أمير المؤمنين ليقتص لهم من قاتل أبيهم، وفي حشد من الصحابة والتابعين عرضوا قضيتهم أمام أمير المؤمنين، فأقر الشاب بما فعل، وكان قضاء أمير المؤمنين أن يقتص منه نفساً بنفس، وأسلم الشاب رقبته للقصاص واشرأبت الأعناق تنظر إلى السيف المسلط على رقبته، والسياف ينتظر الإذن من أمير المؤمنين.
نظر الشاب وفي عينيه دموع الندم وقال: يا أمير المؤمنين لقد تركت زوجتي وأولادي ولا يعلمون عني شيئاً أتأذن لي بأن أذهب أخبرهم وأصلح لهم شأنهم وأدلهم على مالٍ قد كنزته لهم، يُعينهم على ضراء الأيام؟ قال: ومن يكفلك؟ قال الشاب: ليس هنا من أحدٍ يعرفني وليس لي قريبٌ يكفلني.
فتقدم أبو ذر الصحابي الجليل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أقلت الغبراء وما أظلت الزرقاء رجلا أصدق لهجة بعد الأنبياء من أبي ذر" وقال: أنا أكفله يا أمير المؤمنين.
قال الفاروق: إذا لم يأت أقمت عليك الحد مكانه، وأمهل الفاروق الشاب ثلاثة أيام كما طلب.
قال: يوم أذهب فيه ويوم أرجع فيه ويوم أجلس فيه مع أهلى وأولادي أودعهم وداعا لا لقاء بعده.
وفي اليوم الثالث اجتمع الناس في الوقت المحدد لعودة الشاب ينتظرونه وأوشك الوقت أن يمر دون أن يأتي، والناس تلوم أبا ذر كيف تكفل من لا تعرفه؟ ولكنه لم يأبه لهم ووقف بلا تردد في المكان الذي يُحكم فيه للقصاص ونفسه راضية مطمئنة، والناس تنظر في الاتجاه الذي سار منه الشاب لعلهم يرون خيالاً يمنون أنفسهم أنه ربما يكون هو القادم.
غربت شمس اليوم الثالث وقال الناسٌ في حسرة: لقد انتهى الوقت المحدد يا أمير المؤمنين، وأولاد القتيل أنفسهم صاحوا في نفسٍ واحد: ها هو الشاب قد أتى يا أمير المؤمنين، ها هو الشاب قد أتى يا أمير المؤمنين.
وما كان لأمير المؤمنين أن يمر عليه ذلك الموقف دون أن يسأل ويعرف: ما الذي دفع الشاب أن يرجع ليُقتل؟ ومن كفله يقتل مكانه وانتهى الأمر؟ خاصة أنه من مكانٍ بعيد وليس عليه رقيب ولم يُكلف أحد بإحضاره؟ قال: يا أمير المؤمنين: لقد أتيت ووفيت بعهدي لئلا يُقال بأن أهل الوفاء قد ماتوا.
فتعجب أمير المؤمنين والحاضرون من فعل الشاب.
أما أبو ذر فكانت علامات الطمأنينة من قبل أن يأتي الشاب ومن بعد أن أتى بادية على وجهه، فقال الفاروق: وأنت يا أبا ذر ما الذي حملك على أن تكفله؟ قال: لئلا يُقال بأن أهل المروءة قد ماتوا.
فقال أبناء القتيل الثلاثة: ونحن عفونا عنه لئلا يقال أن أهل العفو قد ماتوا.
ابتسم الفاروق وقال للشاب وفاؤك بالعهد قد أنجاك ثم قال: يا أبا ذر أكنت تظن أني أقتص منك لهم؟ ما كنت لأسلمك ولو دفعت كل مالي دية لهم.
ثم أمر للشاب وأولاد القتيل بعطاء من بيت المال ورجعوا إلى ديارهم مأجورين غيرمأزورين.
وقبل أن نختم هذا القصة نذكر بيتين لبهاء الدين زهير:
وَما ضَاقتِ الدُّنيا على ذي مروءةٍ ولا هي مسدودٌ عليهِ رحابها
فقَـد بشَــّرتني بالسَّــــعادَةِ هِمَّــتي وجاء من العلياءِ نحوي كتابها
وقد نظم أحد شعراء العراق في العصر الحديث «السيد عبد المهدي» أبياتاً بعنوان «مررت على المروءة وهي تبكي»:
مررت على المروءة وهي تبكي فقلت علام تنتـحب الفــتاة
فقـــالت كيـف لا أبـكي وأهـــلي جميعاً دون خلق الله ماتوا
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.