Horof

شارك على مواقع التواصل

يا له من شعورٍ سيء أن يهجرك النوم كل ليلةٍ؛ بينما تظل تراقب هذا الظلام وأنت ممددٌ على فراشك حتى يزول.. ثم تبدأ أصوات الطيور في البزوغ شيئًا فشيئًا قبل أن تدرك أنك قد اجتزت الليل كله في الصمت إلى أعتاب الفجر؛ ثم يبدأ وميض ضوء الصباح ينسلًّ تدريجيًا عبر شقوق النافذة ليعلن مُضي ليلةٍ أخرى في عالم الأرق المستمر.. وأنا أتساءل.. كيف يمكن لعقلي تحمُّل هذا الأمر مرارًا وتكرارًا؟ ربما للوحدة دورٌ رئيسي في هذه المهزلة المرهِقة، أشعر أنَّ هناك دائمًا مَن يراقبني رغم ذلك.. ربما الوساوس هي من تلعب هذا الدور السادي بلا شفقة ولا رحمة؛ ربما تراكمات عقلي من كل الصور والمشاهد التي أبتلعها يوميًّا بسبب عملي في المباحث.. كل هذه الجرائم والمعاناة.. كل هذه الأرواح التي تبحث عن الثأر من الجناة من خلالي.. حتى أنني في كل جريمةٍ وفي خِضم بحثي عن هوية الجاني أشعر أحيانًا أنني أفقد هويتي، ربما هذا هو سبب ما أعانيه يوميًا من أرق.. ربما كان يجدر بي ترك هذه الوظيفة.. ربما.. ولكنني لسبب ما أجهله أشعر أنه لم يعد في استطاعتي تركها، ربما هناك شيءٌ ما بعد كل هذه الحياة.
هذه الليلة كانت مختلفة؛ جائتني مكالمةٌ هاتفية بعد منتصف الليل من رئيس وحدتي العقيد (سعيد):
- (يوسف)، معذرة على إزعاجك في هذا الوقت من الليل.. و لكن الأمر هام.. تعلم أنَّ المقدم (هيثم) في مهمةٍ تدريبية خارج البلاد..
- لا داعي للاعتذار سيادة العقيد، ما الأمر؟
- جاءتنا إخباريةٌ من شرطة النجدة بجريمة قتل.. سأرسل لك إحداثيات موقع الجريمة.. عليك أن تذهب هناك في الحال لجمع المعلومات اللازمة.
- حسنًا، سأكون هناك قريبًا.
ربما أنقذتني هذه المكالمة من معركتي مع الأرق على أية حال.. فنهضت لإعداد نفسي مصطحبًا قدحي الحراري وما قمت بتعبئته من قهوة، منطلقًا إلى موقع الجريمة..
كان شارعًا هادئًا في حيٍّ يعد من الأحياء الراقية، وأمام إحدى بناياته كانت سيارتان من سيارات الشرطة وسيارة إسعاف في حالة تأهُّب، وما إن وصلت إليهم حتى بادرني أحد الضباط بملامحه المتسائلة عن هويتي؛ فأخرجتها من جيب سترتي قبل أن يقول:
- معذرةً سيادة النقيب
- ماذا لدينا؟
- جثة رجلٍ في العقد السادس من عمره، يبدو أنه قد تعرض للقتل بشكلٍ غير طبيعي.
- القتل هو أمر غير طبيعي أيها الضابط!.
- نعم.. ولكن.. سترى سيادتك بعد قليل.
جالت عيناي في شرفات الحي التي امتلأت بأهلها يراقبون الوضع، فقلت للضابط:
- يبدو أنَّ لدينا جمهور.. هل من شهودٍ على الواقعة؟
- لا يوجد شهود، بيد أنَّ الجار الذي يقطن أسفل الضحية – وهو من قام بالاتصال بنا– سمع أصواتًا فيما تبدو كمعركةٍ طاحنة؛ فاستيقظ من نومه في هلعٍ هو وأسرته، وما إن هدأت الأمور صعد لجاره في محاولةٍ لتبين الوضع والاطمئنان عليه -فالضحية يقطن وحيدًا في شقته- طرق الباب عدة مرات فلم يلقَ استجابة، فقام بالإبلاغ عما حدث..
وصلنا إلى شقة الضحية، وكان تصميم البناية -على ما يبدو- أن يحوي كل دور فيها شقة واحدة على مساحة مائتي مترٍ مربع.. كانت الشقة في حالةٍ يُرثى لها، معظم الأثاث قد تحطم.. وقد انتشر فريقٌ من المعمل الجنائي لمعاينة مسرح الجريمة قبل نقل الجثة.. يا لها من فوضى!.
استطرد الضابط حديثه ونحن نقترب من جثة الضحية:
- طبقًا لأقوال الجيران فإنَّ الضحية يدعى (حسين نظمي)، كان يعمل بوزارة الآثار قبل بلوغه سن التقاعد.. ولكن الجيران قالوا إنه رغم التقاعد كان مستمرًا في التواصل مع عمله لأنهم لم يروه ينقطع عن موعد نزوله من بيته كلَّ صباح في موعد العمل.. ربما لأن زوجته متوفاة منذ عقدٍ من الزمن.
كان الأمر مريعًا.. أدركت الآن ما قصده الضابط بأنها جريمة قتل غير طبيعية، كان يبدو أن جسده قد تحطم، وبالأخص وجهه، كمن تعرض للدهس من شاحنة.. غير أن الشاحنة لن تمر عبر بيته!.. ولم تقتصر دهشتي على هذا الأمر، بل لأن الأثر على جسده يبدو كأثر أيدٍ ضخمة؛ ليست ضخمةً للغاية.. ولكن الفكرة مثيرةٌ للرعب.
حاولت إخفاء شعور القلق حول هذا الأمر بداخلي وأنا أقول للضابط:
- على ما يبدو أنَّ نظرتك في محلها أيها الضابط، لقد أحسنت صنعًا بإبلاغك عن الأمر.
فابتسم ابتسامةً بدت لي طفولية وهو يشعر بالرضا عن نفسه، وهو يقول:
- لقد قمت بواجبي فقط.
لمحت عيناي إحدى الصور الفوتوغرافية معلقةً على الحائط، ويبدو أنها تعود لسنوات للضحية وزوجته وبينهما فتىً في طور المراهقة.. فأشرت إليها وأنا أقول:
- يبدو أنَّ للضحية ابن.. أين هو؟
فقال الضابط:
- نعم.. (أحمد حسين) .. الجيران يقولون أنه قد سافر بعد وفاة الأم إلى الولايات المتحدة منذ سنواتٍ للدراسة.. لازلنا نبحث عن طريقةٍ للتواصل معه لإخباره بالأمر، على مايبدو أنَّ هاتف الضحية مفقود، لم نتأكد أنه يملك هاتفًا ولكن الجار قد أعطانا هذا الرقم وقال إنه رقم الهاتف الشخصي للضحية، حاولت الاتصال به لكنه مغلق.
فتناولت الورقة التي تحتوي رقم الضحية وقلت:
- حسنًا.. بعد انتهاء هذه الفوضى إذا لم نتمكن من إيجاد الهاتف هنا سنفترض وجوده مع الجاني.. وفي جميع الأحوال سنتولى أمر تحديد موقع الهاتف... أتمنى ألا يكون الأمر صعبًا. قلت جملتي الأخيرة همسًا وأنا أنظر إلى جثة الضحية.. ثم نظرت إلى الضابط مستطردًا:
-شكرًا جزيلًا.. سأنتظر تقريرك عن الأمر.
ابتعد الضابط بينما اقترب مني (راشد) -أحد رجال الأدلة الجنائية- وهو يقول:
- الأمر فوضوي قليلًا.. لقد أنهينا العمل المبدئي على الجثة ومعظم ما حولها.. يستطيعون الآن نقل الجثة إلى المشرحة، لقد قمنا بالاتصال بالطبيبة الشرعية والمفترض أنها قد وصلت إلى المعمل؛ وأتمنى ألا تفقد الوعي.. سنبقى هنا حتى ننتهي من مسرح الجريمة بالكامل والعمل على رفع البصمات وجمع كل ما يبدو أنه دليل.
فأومأت برأسي متفهمًا وأنا أقول:
- حسنًا.. سأعطي الإذن بنقل الجثة، وسألحق بهم إلى المشرحة.
قلتها وأنا أهم منصرفًا فاستوقفني قائلًا وهو يرفع يده بحافظةٍ بلاستيكية بها مفتاحٌ صغير:
-هذا المفتاح وجدناه أسفل طرف السجادة بالقرب من الضحية.. وعلى ما يبدو أنه لم يصل هناك عن طريق المصادفة، لقد قمت بتصويره وتسجيله.. يبدو أنه ينتمي إلى خزينةٍ ما ولكننا لم نجد ما يطابقه هنا.. لو حل الجريمة يبدأ من هذا الشيء فأنت مدين لي بوجبة غداء فاخرة، لن تتملص مني كما في المرة السابقة!.
فابتسمت متفهمًا وأنا ألتقط الحافظة وأتفحص المفتاح قبل أن أقول:
- حسنًا.. حسنًا.. هذه المرة لو قمت بمساعدتني حقًا سأدين لك.. فأنا أتولى هذه القضية وحدي هذه المرة.
ثم استدرتُ لأغادر المكان، وفي رأسي تدور مئات الأسئلة.. ما الذي فعله العجوز ليستحق هذا الأمر؟ هل الجريمة كانت بدافع السرقة؟ إذن فضربة صغيرة كفيلة بردعه، وليس هذا التدمير؛ هل كان انتقامًا؟ ربما.. ولكن لماذا؟ هل كان استجوابًا قاسيًا؟ هل للعجوز سرٌّ يخفيه؟ ما سرُّ هذه الأيدي القوية؟ من أين لإنسانٍ القوة لتحطيم عظام شخص بأصابع يده؟! ليس هناك في رأسي سوى السعي إلى إجابةٍ مقنعة.. ربما خلف هذا المفتاح خيطٌ لدليل.


0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.