MiskBook

شارك على مواقع التواصل

(1)
أقف كعادتي اليومية منذ أن تزوجت، في شرفة المنزل المطلة على حديقة غناء في أحد الكومباوندات في القاهرة الجديدة، أحتسي كوبًا من القهوة بعد أن غادر زوجي إلى عمله، حياة مملة قليلاً مقارنة بحياتنا قبل الزواج، ولكني كنت أعلم جيدًا حجم المسئولية التي على عاتقي، وعلى عاتق زوجي ليستمر هذا البيت، ولنعيش في نفس هذا المستوى الذي طالما حلمت به.
فزوجي طبيب أسنان مشهور يدعى أيمن نجاتي، ودكتور فى الجامعة، وله عيادة كبيرة في نفس الكومباوند، لذلك يومه دائمًا ما يكون مشغولاً ما بين التدريس في الجامعة ثم الذهاب إلى أحد المستشفيات الحكومية، الذي دائمًا ما يصر على مساعدة الناس به بدون مقابل، ثم يعود للغداء معي، وينصرف بعد ساعة للعيادة، ليعود منهكًا بعد منتصف الليل لينام، ولأنني لست من ذلك النوع النكدي من النساء، فلقد كنت دائمًا ما أتركه ليرتاح، مكتفية بخروجة نهاية الأسبوع التي يقضيها كلها معي، وتنتهي بعشاء رومانسي ساحر، وعلى الرغم من مرور أربع سنوات على زواجنا، إلا أننا لم نرزق بأي طفل حتى الآن، على الرغم من كل تحاليلنا التي تثبت صحتنا الجيدة.
وعلى الرغم من وحدتي هذه، إلا أنه رفض عودتي للعمل، وأنا مقدرة طلبه هذا، فهو يحبني جدًا ودائم القلق علىَّ، ولا يستطيع التركيز في عمله وأنا خارج البيت، وأنا أرى أن كلامه صحيح، حيث تحولت الحياة في مصر إلى غابة كبيرة، فما أن أغادر الكومباوند بسيارتي حتى تتغير الدنيا إلى زحام، وسيارات ميكروباص لا تعبأ بي، وحوادث اختطاف، وسرقة، وعنف، لذلك فضلت ترك العمل والتفرغ إلى مملكتي الأبدية في البيت.
وعلى الرغم من هدوء زوجي وحسن طباعه، إلا أنه كان مهووسًا بالمزادات، وقد امتلأ البيت بالعديد من التحف واللوحات، ونقل العديد منها إلى عيادته، ورغم أنه قد سيطر قليلاً على تلك الهواية، إلا أنه أصبح بين الحين والآخر عندما يجد شيئًا نادرًا لا يستطيع منع نفسه من شرائه، حتى جاء ذلك اليوم عندما كنت أقف في المطبخ أعد طعام الغداء، وسمعت صوته يجيء مبكرًا ليس على غير عادته.
أيمن في سعادة وحماسة: حبيبتي نوجة.. تعالي بسرعة شوفي أنا جبت إيه؟
ما أن سمعته وسمعت سعادته ودلعه لي باسم نوجة وليس نادية، أدركت أنه قد اشتري شيئًا من مزاد حضره اليوم، فخرجت إليه محاولة اصطناع بعض الحماسة، فعلى الرغم من أننا مشتركان في أشياء كثيرة، إلا أنني لم أكن من هواة الأنتيكات والتحف ولا أحبها نهائيًا، فلقد كان ذوقي مودرن لأقصى درجة، لذلك خرجت إليه راسمة بسمة كبيرة على وجهي: أيمن حبيبي حمد الله على السلامة.
قال أيمن بحماسة أكبر وهو يخرج شيئًا ما من صندوق خشبي صغير: تعالي شوفي أنا لاقيت إيه، جبت حتة تحفة كان نفسي ألاقي زيها من زمان.
قالها وأخرج قناعًا برونزي اللون والمعدن، مخيفًا جدًا، فلقد كان على شكل كائن فضائي أو جني بوجه طويل وعين كبيرة وبلا فم، وضع القناع أمام وجهه وقال: الحمد لله إن ما كانش حد في المزاد النهاردة خبير زيي، وإلا ما كانش حد سابه، انتى عارفة القناع ده إيه؟
قلت وقد تحولت الابتسامة علي وجهي إلى بلاهة حقيقية: إيه؟!
قال أيمن بحماسته المعهودة: قناع أشوري نادر جدًا من البرونز، ما يتقدرش بتمن وأنا قدرت أخده بعشرين ألف جنيه بس.
وقد تحولت تعابير وجهي من البلاهة إلى تعبير "هو أنت أهبل يا عم" وقلت: يا بلاش والله، المهم إنك تكون سعيد ومبسوط.
قال أيمن والسعادة تكاد تسقط من على وجهه أرضًا: هطير من الفرحة، ده أنا بفكر ما أروحش العيادة النهاردة وأقعد أتفرج على القناع ده.
زادت ضحكتي بعد أن تحولت إلى نوع "لا روح الشغل أحسن بدل ما تقعد تحب لي فيه": لا يا حبيبي عيب تسيب الناس العيانة وما تروحش، كدة يؤثر على سمعتك وبعدين القناع هيروح فين، أديه مستنيك لما تيجي.
قال أيمن وقد عقل كلامي وعلت الجدية وجهه: كلامك صح يا نوجة، طب يلا بقي نتغدى علشان ألحق أرجع بدري أتفرج عليه قبل ما أنام.
تبدلت الابتسامة إلى "هو أنت جايب لي ضرة حضرتك" وجاهدت وحاولت قتل الأنثى النكدية داخلي، لكنها تغلبت علىَّ فقلت: لا يا حبيبي، أقعد حب فيه شوية لحد ما الأكل يستوى.
تركته مع ضرتي الجديدة وذهبت إلى المطبخ لأنهي إعداد الطعام، ولكنني لم أستطع محو شكل القناع من عقلي، فبالرغم من شكله الغريب، إلا أنني لم أطمئن له بالمرة.

(2)
وكعادة زوجي ما أن شرب كوب القهوة الأمريكي بعد الغداء، حتى انصرف إلى العيادة، وتركني لأبدأ روتيني المعتاد من غسيل الأطباق ثم الجلوس لأتابع بعض المسلسلات الأجنبية التي أفضلها، وما أن جلست حتى رأيت القناع في مكانه الجديد، فلقد وضعه زوجي في المكتبة خلف التلفاز، وضعه ليظل ناظرًا لي بعينه الفارغة المرعبة.
ولأنني لا أجد ما أفعله فلقد قررت البحث وراء هذا القناع، من باب اكتشاف أنه ليس أثريًا أو أنه تقليد، وإغاظة أيمن الذي كان فرحًا به كمن وجد كنزًا، وضعت اللاب توب أمامي وأخذت أبحث عن ذلك القناع، وأنا متأكدة أنني لن أجده، ولكنني كنت مخطئة، فما أن كتبت في البحث أقنعة برونزية قديمة، وتصفحي قليلاً حتى طالعني القناع بصورته المرعبة من خلال شاشة المتصفح، وما أن ضغطت على صورته حتى نقلني لصفحة تاريخ هذا القناع، التي كان فيها الآتي:
قناع من البرونز من عصر الدولة القديمة السومرية، مفقود منذ حوالي مائة عام ولم تصلنا منه غير تلك الصورة المرسومة من مكتشفه، ويعتبر الحاكم إيتانا هو أول من مَلَك ذلك القناع، وأول من دوّنت ملكيته له، حيث كان من المكتشفات الثمينة التي اكتشفت على حالتها الأصلية في مقبرته، ولكن بعض العلماء يشككون في نسبته للحضارة السومرية، حيث إن شكل القناع وطريقة صنعه بعيدة كل البعد عن المتعارف عليه في تلك الفترة، وينسبون ذلك القناع إلى حضارة أقدم بكثير من ذلك، وربما إلى قارة أطلانتيس المفقودة.
وأكثر ما حير المستكشفين وقتها هو حالة القناع، فلقد كان في حالة ممتازة، ولا يعلوه الصدأ، ما جعل بعضهم يصر على أنه من معدن يشبه البرونز وغير معلوم، فلقد كان أملس جدًا ولا تظهر عليه أي آثار للطرق أو الصب، ولا يتفاعل مع أي من الأحماض أو القلويات المعروفة، ويصعب خدشه جدًا، لذلك قرر المستكشفون الإنجليز نقله إلى إنجلترا لعمل المزيد من الأبحاث عليه.
ولسوء الحظ غرقت السفينة على سواحل البحر الأبيض المتوسط، ولم يظهر القناع من بعدها نهائيًا، ولكن تناثرت بعض الشائعات حول ظهوره من الحين والآخر في بعض المزادات التي تبيع الآثار بشكل غير شرعي، حتى اختفت أخباره تمامًا منذ خمسينيات القرن المنصرم.
نظرت للقناع مبهورة وقلت لنفسي: "يا بن الإيه يا أيمن ده أنت طلعت خبير في الأنتيكات وأنا اللي كنت فاكراك عبيط وبتضييع فلوسك"، قمت لأحضر القناع وأتفحصه، بالفعل القناع خفيف جدًا على أن يكون من البرونز، بل وأنت تحمله تشعر أنه من البلاستيك، حتى ملمسه يبدو ناعمًا جدًا وخاليًا من العيوب، حتى قلت لنفسي: برضه الفار رجع يلعب في عبي، شكله نسخة وعم أيمن لبسها، أخذت أقلب القناع وأتفحص كل مللي فيه، تحت ضوء فلاش الموبيل الخاص بي، لعلي أجد في أي ركن منه عبارة "made in china" ولكن بلا فائدة، فقمت وأحضرت خاتم زواجي الماسي، وقررت خدش القناع به، ولكن كان القناع أصلد بكثير من الماس، فلم تجدِ محاولاتي حتى بترك أثر صغير عليه، فتوقفت عن خدشه خوفًا على خاتم زواجي الباهظ الثمن، فقررت أن أقوم بتجربة أخرى عليه، فأخذته ونزلت إلى الحديقة لأفتح الغرفة التي بناها أيمن لوضع كنوزه الذكورية من بعض صناديق تحوى بعض الذكريات، من طفولته وشبابه إلى مكانه المقدس ومحرابه المحرم على أي شخص دخوله، وهو ورشته الصغيرة التي ملأها بالعديد من العدد والأدوات اليدوية والكهربائية التي يستخدمها في إصلاح أي شيء تالف في البيت، أو في الاهتمام بأنتيكاته من تلميع وتنظيف، ولأنني كنت مهندسة وعملت في إحدى الشركات قبل الزواج، فقد كنت أعرف الكثير من تلك المعدات وطريقة استخدامها، وبالفعل أحضرت حجر الجلخ المسمى بـ"الصاروخ" وحاولت قطع القناع ولكن بلا فائدة، مسحت عرقي بيدي، وقررت أن أحاول معه آخر محاولة متناسية ماذا سوف أقول لأيمن لو تدمر القناع عند عودته؟ ولكني قررت المجازفة .
صعدت إلى المطبخ وأحضرت إناء به ماء بارد وثلج كثير، ثم نزلت به إلى ورشة زوجي ووضعت القناع على حامل حديدي، وأخرجت شعلة تعمل بالغاز يستخدمها زوجي في لحام بعض المعادن في بعض أنتيكاته المعدنية، ووجهت اللهب إلى القناع لعشر دقائق كاملة، ثم ألقيت القناع في الماء والثلج الذي أخذ يغلي بشدة لدقيقتين كاملتين جعلني أجري خائفة إلى خارج المكان.
عندما عدت كان القناع يشع بنور أزرق نابض لثوانٍ قليلة ثم رجع لحالته الطبيعية، كأن لم يحدث له شيء بالمرة، كذبت عيني وقتها وقلت إن الوهج الذي رأيته ما هو إلا انعكاس الضوء على الماء، وأخذت القناع لأعيده إلى مكانه قبل عودة أيمن، ولكنني لم أكن أعلم أن ما فعلته سيغير حياتي إلى الأبد.

(3)
عاد زوجي باكرًا من العمل على غير عادته، ولكن كان يبدو أنه لم يستطع ترك تحفته الجديدة تقضي يومها الأول في البيت وحيدة، أو لعلها حاسته السادسة التي أنبأته بما فعلته بها، ولكني أستطعت أن أخفى آثار الجريمة جيدًا، فلقد جففت القناع جيدًا وأعدته إلى مكانه، وأعدت ترتيب ورشته الصغيرة كما كانت، قبل أن أعود لأجلس على الأريكة المعتادة، وبراءة الأطفال على وجهي.
يدخل أيمن البيت بحماس شديد قائلاً: أنا جيت، فين القناع، أنا ما قدرتش أكمل الشغل وعقلي مشغول به.
نظرت له ولسان حالي يقول "إيه اللي جابك يا منيل بدري كدة" وقلت له: حبيبي، القناع مطرح ما أنت سيبته، من ساعة ما مشيت وهو بيقول أيمن أيمن.
طبعًا لم يسمعني أو يلتفت لي كعادته عند شراء تحفة جديدة، ثم أخذ القناع من مكانه وجري به إلى ورشته الصغيرة ليتفحصه.
جريت وراءه داعية الله ألا يكتشف أي تغيير في ورشته قائلة: طب أتعشى الأول يا حياتي وبعدين اتفرج عليه.
لم يعرني اهتمامًا بالطبع، واتجه ليجلس على المنضدة، ويخرج أدواته من درجها ويشعل اللمبة ذات العدسة المكبرة، ويضع القناع تحتها ليتفحصه بدقة، وأنا أنظر حولي لأفتش عن أي تفصيلة قد أكون نسيتها، حتى رأيت أمامه عود كبريت محترقا، إنه عود الكبريت الذي استخدمته في إشعال الشعلة، وكأي أنثى وثبت كالقطة إلى خلفه لأضع يدي على عينيه وأضمه إلى صدري حتى أحاول الوصول إلى عود الكبريت لإخفائه، محاولة التدلل عليه قائلة: لا.. أنا زعلانة منك، كدة ما تسلمش عليا لما رجعت.
كدت أن أكسر عنقه وأنا أمد يدي الأخرى لأصل إلى عود الكبريت حتى التقطته، فتراجعت للخلف وأنا أتنفس الصعداء، ثم أرسم على وجهي علامات الحزن كـ جرو صغير، وكعادة هذه الحركة التي لا تخيب مع أيمن، التفت لي ليحتضني ويعتذر لي، قائلاً: أنا آسف يا روحي، بس انتي مش متخيلة القناع ده مهم قد إيه، ده كنز، ده ثروة ما تتقدرش بثمن.
وأخذ يشرح لي قيمة القناع ودقة صنعه لساعتين، وأنا أقول لحالي: والله يا حاج نص اللي بتقوله غلط، وأنا دورت وعرفت الكثير عنه فأنجز علشان ننام".
الحمد لله مر اليوم بسلام، ولم يكتشف أيمن ما فعلته بالقناع وتوجهنا للنوم، وكعادة أيمن التي أحقد عليه بسببها، هو أنه ما أن وضع رأسه على الوسادة، نام في أقل من دقيقة، وكأنه يمتلك زرًا سحريًا، ما أن يضغط عليه ينطفئ حتى الصباح دون أن يستيقظ لمرة واحدة ليدخل الحمام، أما أنا فكنت من النوع الذي يظل في السرير لساعات يصارع النوم، أفكر في حياتي، في يومي، أحلم بأشياء لم أعشها، أخرج حوارًا ما بيني وبين أحد أصدقائي، أتخيل نفسي غنية وأقوم بأعمال وأسفار في الخيال، أو حتى يقفز شكل شخص ما أو ممثل ما إلى عقلي وأقضي الليل كله أحاول أن أتذكر اسمه، وتمضي الساعات وأنا أحاول النوم حتى أسقط في النوم وكأن عقلي أنهى كل شيء استطاع أن يفكر فيه فقرر أن يكمل تفكيره في أحلام خيالية أظل فيها طوال الليل، أجرى وأقاتل لأقوم في الصباح أشد تعبًا وإرهاقًا مما كنت قبل النوم .
ولكن تلك الليلة كانت مختلفة، فما أن نام أيمن حتى تحولت كل حواسي وأفكاري ناحية شيء واحد.. القناع، وكأنه ينادي عليَّ من داخل عقلي ويجذبني لأذهب إليه كمغناطيس قوي، كالمسحورة قمت من السرير وتوجهت إلى غرفة المعيشة حيث يقبع القناع ساكنًا بمظهره المخيف.
أخذت القناع وجلست على الأريكة أقلبه في يدي، وبدون أي سبب وضعته على وجهي ليضيء القناع بلون أزرق باهت ويختفي كل شيء من حولي.

(4)
كنت أقف وحيدة في ليلة مقمرة، وسط حقول كثيفة تحت شجرة تفوح منها رائحة زكية، لا أدرى كيف جئت إلى هنا، وآخر ما أتذكره هو أنني ارتديت ذلك القناع الغريب، ربما سقطت في النوم دون أن أدرى، ولكنني كنت أتعجب لدقة تفاصيل ذلك الحلم، فعادة الأحلام لا تكون بتلك الدقة الشديدة.
فاجأني صوت من خلفي قائلاً: لارسا، كنت أبحث عنك، ما الذي أتى بك إلى هنا؟
رغم أن ما قاله كان بلغة لم أسمعها في حياتي من قبل، إلا أنني فهمتها جيدًا وأجبته بدون تفكير: مشكيم، وكيف لي أبقى في المنزل في ليلة كتلك الليلة الجميلة.
كان من يدعى مشكيم هذا، رجلاً ضخمًا، مفتول العضلات، كثيف الشعر، بلحية كثيفة وطويلة مضفرة بعناية، ومن ملابسه تعرف أنه من الجنود المقاتلين، اقترب مني وعلى وجهه نظرة حب شديدة، وقال: لا يوجد من يضاهيك جمالاً يا لارسا، حتى آلهة الجمال نفسها، ولكني قلقت بشدة عندما عدت إلى المنزل ولم أجدك فيه فعرفت إنك هنا كعادتك.
قلت له وأنا اقترب منه: عندما تغيب كثيرًا مع جيش الملك، أذهب إلى هنا كل ليلة، إلى المكان الذي شهد بداية حبنا، وأول لقاءاتنا لعلي أجد في المكان وذكرياته دواء لقلبي المشتاق.
احتضنني ذلك المشكيم بشدة، وكنت أريد أن أقول له "أنا متجوزة يا عم أنت، ابعد عني يا عم" ولكن من ردودي عليه، يبدو أنه زوجي، وأنا أحبه وهو يحبني لدرجة الجنون، لذلك قررت مجاراة الحلم للنهاية.
وكأنني دمية صغيرة حملني على كتفه، وقال: هيا نعود إلى البيت فلقد اشتقت لك ولطعامك كثيرًا.
وفجأة شق السماء ضوء مبهر، فنظرت إلى السماء لأجد كرة من النار تتجه نحونا بسرعة شديدة، ما أن رأى مشكيم ذلك حتى تحرك سريعًا ليبتعد عنها وهو يحملني، ولكن ما أن ابتعدنا قليلاً حتى دوي الانفجار الذي حملنا ليلقينا بقوة بعيدًا، لنصطدم بالأرض بقوة ونفقد الوعي.
كنت أول من استعاد وعيه، فلقد حماني مشكيم من الانفجار والسقوط بجسده، حاولت أن أجعل مشكيم يستعيد وعيه، ولكن بلا فائدة، وبدافع الفضول الشديد ذهبت لأرى سبب ذلك الانفجار، لأجد كرة لامعة وقد تحطم جزء كبير منها، وقد استقرت داخل حفرة أحدثها الاصطدام بالأرض، اقتربت لأرى ما تلك الكرة اللامعة التي ما أن لمستها حتى وجدتها باردة على عكس ما توقعت، ولكنها ما لبثت حتى انفتحت طاقة صغيرة فيها، ليخرج منها مخلوق قصير رفيع بشدة، ولكن ما جعلني أتوتر وأبتعد قليلاً، هو ما كان يرتديه ذلك المخلوق، فلقد كان يرتدي القناع البرونزي المخيف، وهو يقترب مني ليشير إليّ لأسقط على الأرض أمامه، ويضع يده على رأسي، لم أشعر بأي ألم، ولم أدرِ لمَ فعل ذلك؟ ولكنه ما أن رفع يده حتى خرج سيف كبير من صدره، وارتفع في الهواء ليظهر مشكيم من خلفه وهو يقول صارخًا بغضب: كيف لك أن تلمس لارسا الجميلة أيها المخلوق المشوه .
كنت أنظر إليه ولسان حالي يريد أن يقول "الله يحرقك يا عم الغوريلا، أنت قتلت كائن فضائي يا أهبل" ولكن مشكيم لم يتركه، بل وضعه أرضًا وداس عليه ليخرج السيف منه، ثم ينهال عليه ضربًا بالسيف حتى اختفت معالم الكائن تمامًا.
قمت من مكاني لأمسك مشكيم محاولة تهدئته، وقلت: لقد انتهى أمره يا عزيزي، هيا فلنعد للبيت فأنت تحتاج إلى الراحة.
توقف مشكيم وهو يتنفس بسرعة قائلاً: هل فعل بك شيئًا، هل أنت سليمة يا جميلتي؟
قلت له: أنا بخير، هيا بنا لنعود قبل أن يتجمع الناس هنا ممن رأوا تلك الكرة النارية.
نظرت أسفل أرجله لأجد ذلك القناع ملقيًا على الأرض، وقد تلطخ بمادة زرقاء لامعة، التقطته ودسسته وسط ملابسي بسرعة، ثم قام مشكيم وحملني مرة أخرى، لنذهب إلى البيت وأنا مستسلمة ومتدلية على كتفه كالذبيحة، فيبدو أنه مقتنع بشكل ما أنني كسيحة، لا أستطيع المشي إلى البيت.
في الصباح انصرف مشكيم كعادته باكرًا لينضم إلى جيشه، وقمت أنا من النوم لأستكشف ما حولي في ضوء النهار، كنت أرتدي ثوبًا من الصوف يشبه الساري الهندي، وأرتدي حذاء جلديًا بسيطًا، توجهت سريعًا لأبحث عن أية مرآة لأنظر إلى وجهي، ولكني لم أجد، فنظرت لنفسي في حوض المياه، بالفعل كنت جميلة بشدة، على الرغم من أنني لا أضع أية من مساحيق التجميل، وشعري مرفوع لأعلى ومربوط بشريط من الجلد.
أخرجت القناع ونظفته ونظرت إليه جيدًا، كان هو نفس القناع بلا شك، ولكن كيف أتى إلى ذلك الحلم، الحلم الذي بدأت أشك فيه بشدة.
فجأة يدق الباب بعنف ثم ينكسر، ليظهر على الباب مشكيم في حالة مزرية، والدماء تنزف من كل شبر في جسده بغزارة، ومن خلفه وقف العديد من الجنود الذين أمسكوا به بعنف.
يتقدم إلى داخل البيت رجل طويل مهيب الهيئة، يرتدي ملابس فاخرة، والعديد من المشغولات الذهبية، وقد ضفرت لحيته الطويلة، وزينت بحلقات ذهبية، يقف أمامي قائلاً: أين القناع؟
أخفيت القناع في ملابسي وقلت: أي قناع الذي تحكي عنه؟
قال الرجل: هل تعتقدين أنك تستطيعين خداعي، خداعي أنا الملك إيتانا، للمرة الأخيرة أطلب منك القناع.
إيتانا!! نعم لقد قرأت هذا الاسم من قبل، نعم تذكرته إنه الحاكم السومري وأول من أمتلك ذلك القناع البرونزي، بيد مرتعشة أخرجت القناع من ملابسي وأعطيته إياه في صمت.
قال الملك: كيف تسمحين لنفسك أنت وزوجك أن تستوليا على أي شيء على أرضي بدون علمي، لقد رأتك مجموعة من جنودي عندما هرعوا إلى مكان سقوط النجم وأنتِ تضعين ذلك القناع في ملابسك ليلة أمس، ويبدو أن زوجك صعب المراس، فلقد أبى أن يخبرنا بمكان القناع حتى بعد تعذيبه، ولكنك تبدين أكثر عقلاً.
وضع الملك القناع في ملابسه، وبكل اللامبالاة قال لجنوده قبل أن يخرج: اقتلوهما واجعلوهما عبرة لأمثالهما.
وحتى قبل أن أصرخ أو أستوعب ما حدث، قفز أحد الجنود أمامي وغرس سيفه حتى مقبضه في صدري، وقبل أن أسقط أرضًا كنت أرى مشكيم وقد سقطت رأسه أرضًا والدماء تنزف من عنقه بغزارة، ثم أظلمت الدنيا وكأنني لم أوجد من قبل.

(5)
نادية.. نادية
فتحت عيني لأجد أيمن أمامي، وعلى وجهه ابتسامة حانية ويقول: إيه اللي نيمك برة أوضتك، أنا قمت ما لقتكيش جنبي قلقت عليكي جدًا.
تثاءبت بشدة حتى كاد أيمن أن يرى أمعائي من فمي، ثم هرشت شعري، وتحسست موضع ألم غريب في صدري قائلة: معلش يا حبيبي أصلي ما جاليش نوم، وما رضتش أزعجك، فطلعت أتفرج على التليفزيون شوية بالليل، وشكلي نمت مكاني.
قال أيمن وهو يجلس إلى جواري، ويمسح بحنية على شعري: أنا ما أقدرش أفتح عيني، وما تكونيش أول حاجة أشوفها.
ربت على يده وقلت: ربنا يخليك لي يا حبيبي، معلش شكلي أتأخرت عليك في الفطار، ثواني واعملك إلى فطار.
قال أيمن بعد أن وقف متصنعًا دور الطباخ: لا يا مولاتي، النهاردة الفطار ها يكون عليا وانتى ما تتحركيش من مكانك.
انصرف أيمن إلى المطبخ، ونظرت إلى مكان القناع فلم أجده، فبحثت بجانبي فوجدته فقمت سريعًا لأعيده إلى مكانه قبل أن يلاحظ أيمن، كان الألم في صدري لا يحتمل، فقمت بفتح أزرار منامتي، لأجد مكان الألم خطًا أبيض رفيعًا، كأنه جرح ملتئم لم ألاحظه من قبل، أقنعت نفسي أنه أثر جرح في الطفولة أو خربوش ما، ونسيت الأمر كله بعد اختفاء الألم من صدري.
كان إفطارًا رومانسيًا مع أيمن الذي أعد بعض البيض المحروق، وكوب من القهوة بشعة المذاق، ولكني لم أعترض، وتناولته كله وبعدها انصرف أيمن إلى عمله، وتركني وحيدة كالعادة.
كنت أجلس على الأريكة ناظرة إلى القناع، وجلست أتذكر ما حدث أمس، فهل من الممكن أن ما رأيته لم يكن حلمًا، وأن أثر الجرح في صدري ما هو إلا أثر الطعنة التي تلقيتها، لم يكن أمامي لأتأكد غير شيء واحد، وهو أن أعيد التجربة مرة أخرى، وبالفعل قمت وأحضرت القناع وجلست على الأريكة، وما أن وضعته على وجهي، حتى تألق بلون أزرق باهت واختفى كل شيء.
*********************************
كنت جالسة على أريكة وثيرة في غرفة كبيرة من الرخام الأبيض، وخلفي وقف عبدان ضخمان يحركان عصيان ضخمة تنتهي بمروحة من ريش النعام، وحول الأريكة جلست مجموعة من الشابات، وفي وسط الغرفة يوجد ما يمكن أن يطلق عليه حمام سباحة صغير، وسطه نافورة صغيرة تتدفق منها المياه، أما باقي الغرفة فحدث ولا حرج، على كم البهرجة والثراء الفاحش الذي تعكسه كل أركانها، نظرت إلى يدي فكانت يد معروقة وقد ظهرت التجاعيد بها، نظرت حولي فوجدت مرآة صغيرة من المعدن المصقول، فرفعتها لأرى وجهي، كنت كما أعتقدت من مظهر يدي امرأة تجاوزت الخمسين من العمر، ولكن يظهر عليها الثراء الشديد .
مساء الخير يا لاهبو، كيف حال زوجتي الحبيبة اليوم؟
نظرت إلى مصدر الصوت لأجد الملك إيتانا أمامي في نفس هيبته المهيبة، زوجتي؟ إذن أنا الآن زوجته بعد أن كان قاتلي في المرة السابقة، نظرت له وأنا أقول لنفسي "تعالى يا سبع البرمبة، تقتل القتيل وتمشي في جنازته" وقلت: مساء الخير جلالة الملك وزوجي الحبيب.
كنت في تلك الأحلام أشعر بشعور غريب، فلقد كنت أستطيع التحكم في نفسي، ولكن أغلب الأوقات أجدني متفرجة فقط، وأجد نفسي أتحرك وأتكلم بدون تدخل مني، لذلك قررت الاستسلام وترك الأحداث تمضي لأعرف ما سوف يحدث.
قال الملك بعد أن جلس إلى جواري: هل سمعتِ عن كرة النار التي سقطت من السماء أمس؟
نظرت له قائلة لنفسي: "آه طبعًا شفت كل حاجة قبل ما تقتلني" وقلت: سمعت بعض الجواري يتحدثن عنها، فلقد نمت مبكرًا يوم أمس، قل لي أنت ماذا حدث؟
أمر الملك الجواري بالانصراف ثم اقترب مني وقال: يبدو أن الإله شمش قد استجاب إلى صلاتي وتضرعاتي.
"شمش مين يا عم هو أنت صعيدي" قلت: ماذا تقصد يا ملكي؟
قال الملك وهو يعتريه الحماس: كما تعرفين أننا كبرنا في السن، ولم يرزقنا الإله بابن يرث الملك حتى الآن، وكنت طوال السنوات الماضية أصلي وأدعو الإله شمش ليرزقني بالابن الذي سيرثني ويرث الحكم من بعدي، وقد أخبرني أحد كهنتنا عن نبتة توجد في السماء، تشفي من العقم، وبعد الكثير من القرابين والصلاة لكي يساعدني الإله شمش بالحصول على تلك النبتة، أتاني بالأمس الإشارة بالموافقة.
قلت وأنا أظهر بعض الحماس: حقًا، أتقصد أن النار التي سقطت من السماء هي الإشارة؟
قال الملك معقبًا: نعم، هي الإشارة، وقد فسرها الكهنة وأخبروني أن الإله شمش يخبرني بأنه للحصول على تلك النبتة يجب علىّ أن أذهب إلى أحد الجبال العالية في منطقة ما وراء حدود مملكتنا، وفوق هذا الجبل يوجد نسر ضخم جدًا ومريض، ولكن هذا النسر هو الوحيد القادر على الذهاب إلى مكان تلك النبتة، ولكن الثمن هو أن أعالج هذا النسر وأساعده على العودة إلى الطيران، وساعتها سيحملني إلى مكان النبتة.
"إيه يا عم قصة فيلم هرقليز اللي بتحكيها دي" قلت له: مليكي لا تخاطر بنفسك في مثل تلك المغامرة، التي لا يعرف أحد عاقبتها، وكما قلت لك مرارًا أن تتزوج امرأة أخرى أصغر مني لعلها تنجب لك ما لم أستطع أن أنجبه لك.
قال الملك وقد لانت ملامحه: لا وحق جميع آلهتنا، لن أتزوج أو أنجب إلا منك انتى فقط يا ملكتي وأميرة قلبي، وسوف تحملين وتنجبين لي الولد، وسنسميه بليخ كما أردت دائمًا.
"بليخ؟ بليخ حمدي.. كركركركركر" حاولت ألا تظهر الابتسامة على وجهي، فدسست وجهي في صدره قائلة: فلترعاك الآلهة وتعود إلينا سالمًا.
احتضنني الملك بقوة، وقال لي وهو يخرج شيئًا من ملابسه قائلاً: هذه هدية تلقيتها من السماء وقد أتت بها كرة النار، أقدمها لك لترعاك وتحميك حتى أعود.
نظرت للقناع بين يدي وقلت لنفسي "أهلاً بيك والله كنت مستنية ها تظهر امتى "
*********************
مرت سنوات عديدة تكاد تصل للسبع سنوات، ولم يعد الملك، سبع سنوات مرت كأنها ثوانٍ في هذا الحلم، ليعود الملك بجيشه الصغير، وقد ظهرت آثار التعب عليهم، وقد فقد الملك الكثير من وزنه، ولكنه ما أن وصل القصر حتى أسرع إلى غرفتي.
انفتح الباب وظهر عليه الملك قائلاً: حبيبتي لقد عدت، وقد زاد اشتياقي لك، ولكنني أخيرًا أحضرت لك النبتة، بعد أن قمت بمغامرة لن تتخيليها أبدًا.
قلت له وأنا أرحب به، وأجلس تحت قدميه: احكي لي يا مولاي، فلقد اشتقت لسماع صوتك كثيرًا.
أخذ الملك نفسًا عميقًا وقال: عندما تركنا مملكة كيش واتجهنا إلى مكان النسر الذي أخبرنا به الكهنة، مشينا كثيرًا ولأيام طويلة مخترقين سهولاً بها مستنقعات ووحوش، وصعدنا جبالا وعرة كثيرة الثلوج، ومررنا على أقوام لا تشبه أيًا مما نعرف، حتى وصلنا إلى الجبل المنشود، وصعدنا هذا الجبل بصعوبة، وفقدنا العديد من الجنود، ولكننا وصلنا لنجد ذلك النسر، لم أكن أتوقع أن يكون ذلك النسر في مثل هذا الحجم، فلقد كان في حجم يستطيع أن يحمل فوق ظهره عشرين رجلاً على الأقل، ولكنه كان في حالة يرثى لها، فلقد سقطت عليه حجارة ضخمة جدًا من الجبل كسرت جناحه وحبسته في عشه طويلاً، وبالطبع لبثنا طويلاً نتقرب إليه ونطعمه حتى تقبلنا وارتاح لنا، وقدرنا أن نقترب منه ويثق فينا، ورغم صعوبة حالته إلا أن أطباءنا نجحوا فى أن يعالجوه ويعيدوه إلى صحته وقوته السابقة، ولكن النسر كان قد فقد الثقة في نفسه، وفي قدرته على الطيران مرة أخرى، وبعد كل هذا الوقت الذي وصل إلى أكثر من ثلاث سنوات، استطعت أن أبني صداقة قوية معه، واستطعت أن أحثه على الطيران، وبالفعل نجح في الطيران، ولكن عضلاته قد وهنت، والطريق إلى مكان العشبة طويل وشاق في السماء، ويحتاج إلى قوة واحتمال من النسر، وطوال عامين كاملين استطعت أن أدرب النسر حتى استطاع الطيران بقوة، وقررنا الصعود للسماء إلى مكان العشبة، ولكن بعد ساعات من الطيران، واقترابنا من السماء، سقط النسر مجهدًا، وقد يئس من القدرة على تحقيق الهدف .
ليلتها حلمت أننا استطعنا الوصول، وعندما قصصت الرؤيا على النسر، تشجع واعتبرناها علامة من الآلهة، وبالفعل كررنا التجربة ووصلنا إلى السماء، ووصلنا إلى مكان العشبة الشافية، وعندها رأينا الإله شمش، الذي باركني وقدمني إلى الآلهة عشتار التي باركت العشبة وبشرتني بملك يأتي منك اسمه بليخ وسوف ترعاه الآلهة.
بعدها عدنا إلى مكان عش النسر، وودعته وأحضرت العشبة ورجعت إلى هنا، وقد أمرتني الآلهة بأن نأكل سويًا العشبة، وسنرزق بالابن بعدها بتسعة أشهر.
أخرج الملك من ملابسه عشبة غريبة الشكل، ثم اقتسمها بيني وبينه، ومد يده بها إليّ لآكلها، مددت يدي إليه وأخذتها منه، ولسان حالي يقول "سبع سنين وجاي بحزمة زرع، أوعى يا عم تكون بانجو" أكلت العشبة التي كانت رغم شكلها طيبة المذاق وكأنها من الجنة.
**************************************************
كان ما قصّه عليّ الملك غريبًا جدًا، وكنت أثق أن ما يقصه خيالات أقنعه بها الكهنة، وأن ما حدث لا يتعدى صعوده على جبل مرتفع بصحبة ذلك النسر الضخم، حتى وجد تلك النبتة التي يعرفها أطباؤنا جيدًا وأخبروه بها وبشكلها مرارًا وتكرارًا، وأن لقاءه بتلك الآلهة ما هو إلا تخيلات تسبب بها نقص الأكسجين على ذلك الارتفاع.
ولكن يبدو أن تلك النبتة "سرها باتع" فبعد تسعة أشهر بالكمال والتمام، كنت مستلقية على سريري مغمورة بالعرق، وتقلصات بشعة تقطع بطني، وبعدها ألد ولدًا بصحة جيدة وبالطبع أصر الملك أن يسميه بليخ.
تحول الحلم الذي أراه إلى وضع الحركة السريعة، ومرت السنوات سريعًا، وكبر الولد وأصبح قويًا وشابًا يصلح أن يكون ملكًا بحق، حتى أتى اليوم الذي ناداني الملك إلى غرفته لأدخل إليه، وإذ به في حالة يرثي لها، وقد اقترب مني أحد الكهنة، وقال لي بصوت خفيض: إن الملك يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويريدك في أمر ضروري.
اقتربت من الملك الذي همس في أذني: هل تتذكرين القناع الذي أهديتك إياه؟
قلت والدموع تتساقط من عيني: نعم أتذكره وأحتفظ لك به منذ أن أعطيتني إياه.
قال الملك وصوته يضعف أكثر وأكثر: وصيتي لك أن يوضع ذلك القناع على جثتي في قبري، لعل هدية السماء تشفع لي في رحلتي الأبدية.
قلت وقد ارتميت على صدره: لا تقول هذا، أنت الملك العظيم، وسوف تشفى وتعيش سنوات أخرى طويلة.
لم يرد الملك على كلماتي، وعندها أيقنت أنه مات.
**************************************************


طوال أربعين يومًا، عكف الكهنة على العمل لإعداد جثة الملك، لم يكن السومريون في درجة كبيرة لتحنيط الجثث كما عمل الفراعنة، ولكنهم كانوا يكتفون بإفراغ الجثة من أعضائها الداخلية، وحشوها بالصوف، ثم إفراغ الزيوت العطرية عليها، وفي داخلها، ثم تصفيف الشعر واللحية بدقة بالغة، واستبدال العين بجوهرتين، ثم إلباس الملك أفخم ثيابه وجواهره كلها، مع الاحتفاظ بالتاج الملكي الذي سوف يورث إلى ولي العهد الجديد، ثم وضعوا القناع البرونزي على وجهه كما أوصاني.
كانت جنازة مهيبة، حمل الملك وقد وضع القناع على وجهه من القصر إلى مقبرته، على محفة من الذهب، تجرها كل خيوله التي تعدى عددها العشرين، من أجود أنواع الخيول، وقد تقدمها جيشه بالكامل في أبهى صوره، وقد حزن الشعب كله عليه، وحضرت كل مملكة كيش جنازته، من أول القصر الملكي حتى منطقة المقابر الملكية.
وفي داخل المقبرة العظيمة البناء، التي صرف عليها الملك في حياته ببذخ ليتم تزيينها برسومات تمثل حياة الملك، ومغامراته الأسطورية، والعديد من تماثيله وأثاثه المفضل، ووضع الكهنة الملك على سرير نحت من الرخام الأبيض، وأشعلوا البخور وذبحوا الكثير من الأضاحي من البقر والخراف، حتى كل الخيول التي كان يملكها الملك.
وبلا أي تدخل مني وجدتني أجري إلى جانب جثة الملك وأبكي وأقول: لن أترك مليكي، سوف أدفن معه لأخدمه في الآخرة كما خدمته في الدنيا.
"المجنونة دي بتقول إيه؟ يا حاجة أنا مش عاوزة أموت" كنت أعرف أنه كان من المعتاد في تلك الأزمنة دفن الملك مع كل خدمه وجواريه، وحتى كل زوجاته، وكانوا يدفنون معه قصرًا أو طواعية منهم، لحبهم له، وإيمانًا منهم بموضوع الذهاب معه لخدمته في الحياة الأخرى.
اقترب مني كبير الكهنة، وقال: نحن نقدر تضحيتك يا مولاتي، وبسبب شجاعتك تلك لن نتركك حية في المقبرة لتعاني، بل سنزيد تضحيتك قدسية ونقدم دمك قربانًا للآلهة.
قالها وأشار للجنود، وكأن الجنود اعتادوا على مثل تلك الطلبات، فبدون حتى أن تكرر طلبها، رفعني أحد الجنود ووضعني بجانب جثة الملك، وثبتني الكهنة، إذ مسكني أحدهم من أرجلي والآخر من يدي، نظرت لهم وأنا أقول لنفسي "ها تعملوا إيه يا مجانين" ونظرت إلى جانبي لأرى جثة الملك، والقناع أمام وجهي، وعندما نظرت أمامي كان أحد الجنود يرفع خنجره في الهواء ويهوي به على صدري، وأظلمت الدنيا واختفى كل شيء.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.