Horof

شارك على مواقع التواصل

كلبوني

كلبوني فتاة شقراء، دائمًا ما تترك شعرها حرًّا طليقًا، خصلاته تتباين بين البني الفاتح والأصفر المذهب، لولبي، عيناها زرقاء، ليست في زرقة السماء المكنوس من السحب البيضاء، ولكن عيناها زرقاء وحسب، على الرغم من أنها لم تتجاوز بعد ربيعها الخامس عشر، إلا أنها تبدو وكأنها على مشارف العشرينات، جسدها كما كانت تقول جدتها لأمها:
- البت دي جسمها فاير قبل أوانه بكثير، ما شاء الله، عيني عليها باردة.
والد كلبوني جزائري الأصل ووالدتها مصرية يسكنون في بيت بحديقة صغيرة لا يتجاوز عمق الحديقة الأمامية المترين، تطل على شارع الست نخلات، أهم ما يميز هذا البيت بساطة التصميم، النخلتان اللتان تقفان على يمين ويسار الباب الخشبي، البوص المنخفض، تعيش مع والديها في الجزائر، يأتون إلى مصر في الإجازات الصيفية فقط، وحسني ذلك الصبي أبيض البشرة يسكن في بيت من ثلاثة أدوار، ملحق ببيت حسني حديقة أكثر عمقًا من حديقة بيت والد كلبوني حيث يصل عمقها إلى خمسة أمتار تقريبًا وبها أيضًا نخلتان، إحداهما تقع بالقرب من شباك حجرة والد حسني، والأخرى إلى يسار الباب الخشبي للحديقة، حسني ينتظر إجازة الصيف بفارغ الصبر حتى يلتقي بكلبوني، كلبوني تتمتع بوجه صبوح كما تقول أم حسني.
"أصل أنا بحس باليوم الحلو لما أشوف وش كلبوني الصبوح ده ساعة الصبحية، وتلاقي وشها كده بيضحك من غير ما يحاول يضحك، سبحان الله".
والد حسني أثناء فترة سفره إلى أمريكا في مطلع السبعينيات ادخر مبلغًا ماليًّا أرسله لزوجته دفعة واحدة لتشتري البيت الذي يسكنون فيه من أصحابه المسنين بمائة ألف جنيه، وهذا المبلغ في بداية الثمانينات يعد محترمًا جدًّا، وبعدها بخمس سنوات أرسل لها خمسين ألفًا أخرى، وطلب من شقيقها المهندس المدني أن يبني فوق البيت ذي الطابق الوحيد طابقين إضافيين، وأن يصمم للطابقين العلويين مدخلًا منفصلًا، كان طلبه يبدو في نظر شقيقها غريبًا بعض الشيء؛ خاصة مع التكتم الشديد الذي يحيط به والد حسني نفسه في تخطيطه لشؤونه الشخصية، وعكف شقيقها المهندس على عمل عدة تصميمات لكيفية عمل مدخل منفصل لهذين الطابقين العلويين حتى توصل إلى تصميم فهلوي يعتمد على أن يغتصب جزءًا من الأرض المجاورة لهذا البيت، وهي أرض مهجورة لا يستدل لها على صاحب، وقد تحولت إلى خرابة فقام بتنفيذ هذا التصميم الفهلوي.
في مطلع التسعينيات ظهر لهذه المخروبة صاحب، رفعوا قضية على والد حسني وقدموا عقد شراء الأرض وطلبًا لهدم هذا المدخل المنفصل، وكان من غير الممكن هدم ذلك المدخل المنفصل؛ لأن والد حسني قد باع هذين الطابقين في وقت سابق إلى أسرتين صديقتين إلى والد حسني كانا يعملان معه في أمريكا.
فلجأ شقيق زوجة والد حسني إلى أحد أصدقائه العاملين بهيئة مساحة المدنية الذي أكد له أن هناك مخرجًا من هذه القضية وهي أن هذه الأراضي كلها وضع يد، وأنه لم يتم تخصيص كل المساحات وقتها، وبتقديم طلب تخصيص يمكن ضم هذه المساحة المغتصبة لأرض والد حسني، والميزة الإضافية في هذه المعضلة أن الأرض الخرابة تطل على ناصيتين، فالجزء المغتصب منهما إنما ذهب مع التخطيط الميداني عند رسم الشوارع، كل هذا تم بحبكة مدهشة مع أوراق تم تزويرها بعناية ورشوة عدد من الموظفين في هيئة المساحة والشهر العقاري، ومحامي ابن حرام استطاع أن يقلب القضية لصالح والد حسني؛ وبذلك خسر ورثة الأرض القضية.
والد حسني لم يكن يعلم شيئًا عن كل هذا، ولكنه في إحدى زياراته لمصر وهو يشاهد مزهوًا مبناه المكون من ثلاثة طوابق استوقفه شاب وامرأة في عقدها الخامس وقالت له المرأة بحسرة:
- روح منك لله، عشان اللي بيسرق أراضي الناس مش بيكسب أبدًا.
تركا الرجل في وسط حالة من الذهول والصدمة، ولدى استفساره من شقيق زوجته استشاط غضبًا أمام دهشة شقيق زوجته الذي تصور أنه سيشكره على صنيعه: "هو أنت فاكر إن دي فهلوة وشطارة، دي سرقة يا باشمهندس"، شقيق زوجته انصرف محنقًا وهو يستغرب من ثورة الآخر على مترين تم اغتصابهما من الأرض فقط!
بعد سنة كاملة من الرجاء والتوسل الذي ساقه والد حسني على ورثة الأرض، قبلوا بالعرض الذي تقدم به وهو أن يدفع لهم مبلغًا ماليًّا مقابل ما أخذ من أرضهم وتكدر شقيق زوجته كثيرًا عندما علم بتصرف والد حسني وثار قائلًا لشقيقته:
- جوزك ممكن يوديني في داهية بالطريقة دي، وكل الناس الطيبين اللي وقفوا جنبي عشان خاطر نسلك له الموضوع، يعنى خيرًا تعمل شرًّا تلقى.
أم سليم صاحب حسني دائمًا ما تقول على والد حسني:
- أنا مستعجبة إزاي جاب كل الفلوس دي، وخصوصًا لما نزل نهائي اشترى أرض في العامرية ورمى فيها أساسات عمارة يجي تمن أدوار وبيقولوا إن الشغلانة دي الواحد بيطلع منها بفلوس حلوة قوي، ده غير خمسين ألف جنيه في البنك، ده غير إنه بايع الدورين اللي فوق بيته بمبلغ محترم.
- ربنا يفتح عليه، بلاش الهلاوس اللي في دماغك.
- مش القصد، ده أصله مقعدش في السفر إلا خمستاشر سنة.
- طيب دي أمريكا، يعني بلد غنية مش زي مصر.
- طب مهو أخويا بقاله قد إيه ويمكن أكتر ومش عارف يعمل نص اللي عمله.
- يا ولية يا هبلة، أخوكي ده إيه؟ ده راح ولا جه عامل في محطة بنزين.
- أنا سمعت والله أعلم أنه كان شغال، متزعلش في الكلمة قواد (نطقت الكلمة الأخيرة بسرعة وسربت دماء خجل زائفة لخديها).
- لا إله إلا الله، أقول إيه بس؟
- وأنا مالي، الخدامة الفلبينية اللي عند صحابه اللي ساكنين فوقيه هي اللي قالت لي كده، في مرة قابلتني فيها في السوبر ماركت.
يومها تعجب جدًّا زوج أم سليم من أن الخادمة الفلبينية هي التي تدلي بأخبار كهذه، وحدث نفسه وهو يضرب كفًّا بكف:
- دنا كنت فاكر أن النسوان في مصر بس اللي فيهم العادة المهببة دي!
سليم صديق لحسن منذ أن كانا أطفالًا؛ لذا فإن صداقتهما قوية على الرغم من فرق السن بينهما، سليم قد بلغ الشهر الماضي عامه السادس عشر، وكان سليم سعيدًا جدًّا بهذه المناسبة؛ لأنه سيصبح قادرًا أخيرًا على استخراج بطاقة شخصية.
كلما أتت كلبوني في الإجازات الصيفية كان ينتاب حسني رغمًا عنه شعور بالضيق من عمره؛ لأن الفتيات كما يرى لا تحب الصبية الذين يساويهن في العمر، فما الحال وهو يصغرها بعام كامل، أحس بأن ذلك العام الذي يقف كحائل بينه وبين كلبوني كأنه مسافة طويلة جدًّا من الزمن.
لم يكن العام الذي يشكل لديه كل هذا الهم إلا في فترة الإجازات الصيفية ويراها إحدى مميزات سليم، والميزة الأخرى التي تميز سليمًا وتنقص حُسْنِيًّا أن سليمًا طويل! كلبوني عندما تتحدث إليه ترفع عينيها على نحو ملحوظ على الرغم من أنها طويلة هي الأخرى، وعندما تتحدث إلى حسني دائمًا ما تحني رأسها على نحو ما! سليم يثبت شعره المجعد بجيل يفرد الشعر فينساب في نعومة على وجهه، ودائمًا ما تذكر كلبوني أن سليمًا في وسامته أقرب إلى الممثل الأمريكي براد بيت، وخصوصًا أنه يمتلك نفس فم براد بيت على حد قولها!
شفتا سليم صغيرة وممتلئة، وقد ورث هذا الفم الأنثوي الجميل عن أمه، قمحي البشرة، وكلبوني لا يمكن أن يقال عنها أنها قمحية اللون أو بيضاء البشرة، ولكن وجهها أشبه برغيف ساخن ساعة خروجه من الفرن والدخان يتسرب من مسامه، مع خديها الأشبه بالتفاح الأمريكاني كما تقول عنها والدة سليم.
والد سليم مدير إدارة في مطابع محرم بيك، ولكنه خرج بمعاش مبكر في حركة الخصخصة للمطابع وأودع ثمن المكافأة لدى إحدى البنوك، وعن طريق علاقاته عمل بمطبعة صغيرة بالمنشية بمرتب 600 جنيه، حمدت أم سليم الله كثيرًا؛ لأن زوجها لن يبقى في البيت ويكتفي بأن يوجه لها الكثير من الأوامر الحمقاء عن كيفية إدارة البيت، ولا يخفى عليها أن الحالة النفسية لوالد سليم سيئة؛ لأن الوظيفة التي كان يشغلها في مطابع محرم بك كانت تضعه في صفوف الأفراد المهمين، كان يحظى باحترام بالغ من كل مرؤوسيه ليس لأنه رئيسهم ولكن لأنه كان ابن حلال على حد قول العاملين في إدارته لدرجة أنه عندما أتاه خبر وفاة حسن أحد عمال إدارته أقام شادر عزاء له على نفقته الخاصة احتلت الزقاق الذي يسكن فيه العامل بحي كوم الدكة، تحدث أهل المنطقة عن هذا الشادر كثيرًا، ولم يكتفِ بهذا بل عمل جاهدًا على جمع تبرعات مادية من العاملين في إدارته والإدارات الأخرى وأرسلها إلى أسرته لحين البدء في اتخاذ إجراءات صرف المعاش، الحاقدون يرجعون ذلك لأنه كان يمهد لدخول انتخابات مجلس الإدارة لهذا العام.
الآن هو يعمل ملاحظ عمال ويقف على أيديهم في الطباعة، وأحيانًا يضطر أن يصلح إحدى ماكينات الطباعة بنفسه، ومن ثم ينظر إلى كفيه الملطختين بالشحم، يتذكر أيامه الأولى في مطابع محرم، كان يطمع في أن يصل بتدرجه الوظيفي في مطابع محرم إلى درجة مدير عام، ولكن شهادته المتوسطة حالت دون تحقيق ذلك؛ لأن هذا الترقي الوظيفي يستلزم أن يكون حاصلًا على درجة جامعية.
لديه سيارة بيجو 504 ولأنه رجل منضبط يحافظ عليها ويرعاها جيدًا، والسبب في أنه أصيب بذبحة صدرية ووضع في العناية المركزة هو أنه وجد زجاج باب سيارته مكسورًا والكاسيت الجديد قد سرق.
" يلعن أبوك ابن كلب، هو زنك على الكاسيت الزفت ده يا سي سليم تسبب في كسر إزاز العربية".
رفض بشكل نهائي أن يضع سليم يده على مقود العربية مرة أخرى بعد أن وجده يقوم بحركات بهلوانية، تحفير وتخميس وذكره بأنها سيارة محترمة لم تصنع لمثل تلك الحركات الغبية، آخر مناقشة دارت بينما تطورت إلى أن ضرب والد سليم سليمًا على وجهه، فكف الآخر عن هذا الأمر تمامًا.
سليم لا يقطن في شارع الست نخلات أو حتى قريبًا منه، ولكن بيته يقع على الجانب الآخر، فيحتاج أن يتجاوز خط الترام الزرقاء ويسير في شارع واسع ينحرف في نهايته إلى شارع ضيق يقع بيت سليم في آخر هذا الشارع المسدود، يسكن في الدور السادس، ولأن الله يعلم أن والدته امرأة بدينة فخفف عنها أخيرًا واستطاع سكان العمارة أن يجمعوا ثمن تركيب المصعد، وقد تم ذلك منذ ثلاثة أشهر، وتعتبره أم سليم حدثًا تاريخيًّا.
حسن يشعر بضيق بالغ كونه قصيرًا، وفارق الطول بينه وبين كلبوني ملحوظ، ولكن كلبوني تحرص دائمًا على ألا تشعره بهذا الفارق، وفي حالة تواجدهما معًا تجلس عندما يتحدث لترفع رأسها إليه بشكل مبالغ لتشعره هذه الحركة بسعادة طاغية، حسني يحب سليمًا فعلًا، فرق السن بينهما لا يتعدى العامين، إلا أن حسنيًّا يعتبر سليم قدوته على الرغم من فشله في محاكاته أغلب الوقت، حسني أبيض البشرة، شعره بني فاتح وناعم، وهناك بعض النمش الذي يتناثر على أنفه الصغير، وخداه شديدا الاحمرار، لدرجة أن كلبوني تقول له وهي تضحك:
- أنت وشك مكسوف كده على طول.
فيضحك حسني فيزاد خداه احمرارًا، فتضحك كلبوني أكثر، فيدعو الله أن يظل وجهه على هذا النحو لتستمر في الضحك، كلبوني ترى أن حسنيًّا يشبه ليناردو دي كابريو، وذلك عندما سمعها تقول ذلك لأخيه الصغير، فظل يقفز في مكانه من السعادة؛ لأن الفتيات تحب هذا الممثل، وفي نظر كلبوني ليناردو يمثل لها طفلًا جميلًا تكتفي بأن تضعه على حجرك وتلاعبه، ولا يمكن أن تعتبره رجلًا!
كلبوني تتحدث اللهجة المصرية جيدًا؛ لأن والدتها في الجزائر تحرص على الدوام أن تبادلها الحديث باللهجة المصرية، ودائمًا يشاهدان سويًّا أفلامًا ومسلسلات مصرية، ولقد فرضت والدة كلبوني على زوجها أن يتحدث معهما بالمصرية، وكانت أحيانًا تحرص على أن تترجم لكلبوني كل ما يقوله أفراد عائلة والدها من اللهجة الجزائرية إلى اللهجة المصرية، في حين أن كلبوني تفهم جيدًا ما يقولونه!
عندما يتحدث حسني مع سليم بشأن كلبوني يذكره حسني دائمًا بأن " الواحد اللي يحب واحدة يا سليم لا يمكن أن يفكر فيها بطريقة وحشة أبدًا ولازم يقدسها في خياله"، سليم لديه خيال مراهق خصب، ولأنه يجيد الرسم فقام برسم العديد من الرسومات العارية لكلبوني، والد كلبوني المعروف باسم روبي مع أن اسمه الأصلي الحسن، عندما ذهب إلى فرنسا بدل اسمه من الحسن إلى روبير، وقابل أم كلبوني واسمها نوران في باريس؛ لأنها كانت تشتغل بوظيفة المسؤولة الإعلامية بالسفارة المصرية هناك، وبعد قصة حب استمرت لعامين تزوجا، قابلته أول مرة في حفل أقامتها السفارة المصرية ودعت إليها صفوة المجتمع الباريسي، كان روبي أحدهم، وجدت أصدقاءه الفرنسيين في الحفلة يدعونه روبير فاعتقدت لأول وهلة أنه فرنسي حتى أدركت في لقائهما الثاني أنه جزائري، وبعد زواجهما قررت أن تناديه بروبي؛ ولذلك فإن أم حسني من وقت لآخر تعبر عن امتعاضها من اسمه بقولها: "هو فيه راجل يبقى اسمه روبي، راجل إيه ده؟!".
روبي يعشق فرنسا والفرنسيين جدًّا؛ لأن أباه حمد كان يتعامل مع جنود الاحتلال الفرنسي في الجزائر، والمنطقة التي كانوا يسكنون فيها قريبة للغاية وقتها من إحدى الثكنات العسكرية للفرنسيين، وكان يورد لهم الجبن الفرنسي بكافة أنواعه، وقد أفهمه جندي المراسلة شروط صنع هذه الجبن، لدرجة أنه كان يحصل على إجازات مفتوحة بدعوى أنه يعلم حمد كيفية صنع مختلف أنواع الجبن الفرنسي؛ لأنه قبل أن يتم تجنيده كان يعمل في إحدى شركات الجبن بمرسيليا، ظل حمد يتعلمها حتى احترفها وبرع فيها، شأنه شأن الفرنسيين، وأحسنها لدرجة أن الجنرال قائد الثكنة كان يرسل لزوجته في باريس من هذه الجبن، وقد كتب عليها بالفرنسية: "صنع عند حمد".
بفضل إجادة حمد لصناعة الجبن الفرنسي توطدت العلاقة بينه وبين الجنرال "فنسان"؛ لذلك كان يعتبر الشاب جاسر الذي اعتقل أكثر من مرة في فترة الإحتلال الفرنسي حمد خائنًا، والذي زاد العداء بينهما أن حمد كان يستقبل الجنرال فنسان في بيته، الشاب جاسر ينتمي إلى فرقة للمقاومة السرية، كان يكثر في إلحاحه على قائد التنظيم أن يعطي له الإذن بتصفية حمد، حمد يستقبل الجنرال فنسان في حجرة الضيافة العربي، والجنرال فنسان كثيرًا ما يذكر لحمد أنه مغرم بالحضارة العربية، وكلما دخل حجرة الضيافة استدار لحمد قائلًا وعيناه تلمع بالإعجاب:
Tries bien sentimental
Mercy … mercy
علم حمد الجنرال كيف يدخن الشيشة ويشرب الشاي أسود اللون ممزوجًا بطعم النعناع المركز، ويجلس كلاهما حتى مطلع الفجر وهما لا ينفكان عن الأحاديث المتنوعة التي يتناول فيها كل منهما الحكي عن بلاده وثقافتها وعن سيرته الشخصية، وحمد يتحدث الفرنسية بطلاقة وحرص أن يحضر الحسن أغلب هذه الجلسات، ويذكره أن ينتبه لحديث الجنرال حتى يجيد الفرنسية كما يتحدثها أهلها، وعندما يؤذن المؤذن يقوم الجنرال للانصراف وهو يخبر حمد ضاحكًا أن عليهما الذهاب لصلاة الفجر، وبهذه الجملة تنتهي جلسة السَّمر تعقبها ضحكة الجنرال العالية، ومن ثم يسود البيت من بعدها هدوء تام.
كان حمد يستميل الجنرال فنسان في بداية علاقته معه من أجل زيادة الربح، ولكن بعد ذلك تحول تقربه منه من منفعة مادية إلى صداقة حقيقية، حمد يرى أن المقاومة لن تؤتي ثمارها مع الفرنسيين، وضرباتها لا تتعدى قرصة نملة، والمقاومة لن تُجلي الفرنسيين عن البلاد، والفرنسيون عازمون ألا يغادروا البلاد حتى يقرروا هم ذلك، فدائمًا ما كان يتساءل: لماذا كل تلك الطاقات المهدرة والتي لا تعدو عن كونها نحت أخرق في صخرة صلبة؟! شهدت تجارة حمد في فترة صداقته للجنرال تألقًا وازدهارًا؛ لأن الثكنات الأخرى بدأت ترسل سياراتها إلى دكانه عقب صلاة الجمعة وتمون من جبنه الجيد، ويرجع الفضل في ذلك إلى الجنرال فنسان الذي قام بالتغطية الإعلامية اللازمة لجبن حمد، ومنذ هذا الجبن وحمد يرسل للجنرال مخصوصًا عشرين كيلو جبن مشكل كدلالة على كرم العرب!
قائد المقاومة الجزائرية في تلك النواحي لاحظ أن تجارة الأخير انتعشت إلى حد ملفت للأنظار، بدأ يعيد النظر في كلام جاسر خاصة بعد أن رفض حمد طلب أحد أتباع قائد المقاومة أن يهبهم بعضًا من أرباحه للمقاومة، وأنه كيف يتعرض بالأذى لمن أحسنوا إليه، ومنذ هذا الحين صدرت الأوامر بقتل حمد، ونفذ جاسر الأمر حتى أنه فصل رأس حمد وهو نائم على فراشه إلى جوار زوجته، وعلق رأسه على عصا خشبية، وظل يجري في الشوارع ويصرخ منددًا بأن هذا عقاب كل من تسول له نفسه أن يتعاون مع المحتل.
حزن الجنرال فنسان على صديقه حمد، وأقام له جنازة عسكرية حيث صف يوم مماته عشرة من خيرة جنود المعسكر وأطلقوا النار على روح الفقيد، الحقيقة أن الجنود كلهم في الثكنة قد داهمتهم حالة من الضيق؛ لأنهم سيفتقدون بعد اليوم جبنة حمد الرائعة!
لما كبر الحسن وبلغ التاسعة عشرة من عمره ارتحل إلى باريس وأمضى عشر سنوات ثم تعرف على أم كلبوني، وقد ارتحل إلى فرنسا بمعاونة من صديقه الفرنسي أوليفييه الذي يعيش في الجزائر، تروي عنه أم حسني أنه في بداية حياته هناك تزوج من فرنسية ليحصل على الجنسية، وبعدما حصل عليها انفصل عنها مقابل عشرة آلاف فرنك فرنسي وقتها، ولكنها لا تعرف التفاصيل التي جمعت بين أم كلبوني والحسن عندما واجهته قائلة:
- أنا بحبك يا روبير وعايزاك تتجوزني، موافق!
طبعًا عند هذا الحد رأى روبير أن نوران ليست ككل النساء الشرقيات، ولكنها امرأة مميزة جدًّا من وجهة نظره.
حسني مثل أي صبي في عمره كل اهتماماته تنحصر في مشاهدة الأفلام الأمريكية، وذات مرة شاهد فيلمًا جنسيًّا لم يشعره بأي لذة جنسية، بل أحس بالقرف وقرر ألا يشاهد هذه الأفلام مرة أخرى، وضحك عندما واجهته أمه مرة قائلة بصوت متوتر حاولت أن تجعله متماسكًا:
- أنا سيباك تتفرج على الدش، والدش زي ما بيجيب أفلام حلوة فيه أفلام وحشة، وأنا واثقة إنك مش بتتفرج على الأفلام الوحشة.
- اسمها الأفلام السكس يا ماما.
- طيب يا فالح، أديك سمعت كلامي.
كذلك يصرف الكثير من وقته في الجلوس إلى النت أو ألعاب الفيديو جيم وسماع أغاني الروك والميتلز، أغلب تنزهاته تكون عادة مع جمع من رفاقه إلى نادي سبورتنج، أما كلبوني مثل أي بنت في مرحلة المراهقة تقرأ روايات عبير وشعر فاروق جويدة؛ ولأن حسني يحب كلبوني بشدة يضغط على نفسه ويقرأ كليهما على مضض، وعندما تأتيه كلبوني وتجلس معه في الحديقة كانت تكره أن تجلس أسفل النخلة التي تقترب من باب الحديقة الخشبي؛ لأنها ذات مرة جلست أسفلها فلدغها دبور، لذلك كانت تجلس عند الأخرى القريبة من شباك والدة حسني، حاول أن يكلمها في إحدى المرات عن روايات عبير وأشعار فاروق جويدة لكنها ردت عليه في ضيق:
- حسني أنا مش بحب الأولاد اللي بيقروا الحاجات دي، لأن الحاجات دي بتاعت البنات بس.
أطرق بوجهه أرضًا وقد جثم على أنفاسه إحباط كبير، خصوصًا أنه أمضى وقتًا كبيرًا في قراءة هذه الأشياء كأنها فرض منزلي، ورغم ذلك لم يستحوذ على إعجابها، تورد وجه كلبوني فجأة عندما شاهدت سليم يدخل إلى الحديقة فهتفت وصوتها مفعم بالفرح:
- سليم أنت جيت، كويس.
شعر حسني يمكن للمرة الأولى بغيرة غير مسبوقة، وحاول أن يواري ضيقه الذي افترش ملامحه للوهلة الأولى على نحو مفضوح وهو يصافح سليم الذي صافحه في فتور وقد وجه جُلَّ اهتمامه إلى كلبوني حتى تناسيا وجوده تمامًا وانخرطا في أحاديث لم يستطع أن يجاريهما فيها، حسني نتيجة لسيطرة مشاعر الضيق والغيرة عليه، والذي زاد غيظه هو عدم قدرته على تركهما والرحيل عنهما أو الوقوف واستكمال مسلسل حرق الدم! لاحظت كلبوني كدره فوثبت حتى أصبحت خلفه وأحاطت بذراعيها عنقه وتهدل بعض من خصلات شعرها الذهبي على جبينه فشعر أيضًا للمرة الأولى ببرودة مفاجئة تكهرب كل أطرافه وقد هدأ فوران دمه تمامًا، في حين قالت هي في دلال طفولي مخلوط بنزعة أنثوية واضحة:
- حسني انت ساكت ليه، انت زعلان منا ولا إيه؟
في اليوم التالي لم يشاهد حسني كلبوني طوال اليوم فشعر بانقباضة شديدة تملأ قلبه، عندما عادت كلبوني مع عائلتها في وقت متأخر من الليل من زيارة عائلية، عند مدخل الحديقة سألت والدها:
- بابا انت ليه زرعت النخل بالطريقة دي؟
ضحك وهو يقول:
- النخل بالطريقة دي يا حبيبة بابا بيحسسك إنه عامل زي حرس التشريفة في الداخلة والطالعة، وكأنه بيضرب لنا تعظيم سلام.
حسني فشل في صباح يوم آخر أن يمنع نفسه من مشاعر الكراهية التي سيطرت عليه تجاه سليم وهو يشاهد كلبوني تركب خلف سليم دراجته وقد أحاطت خصره بذراعيها وتضحك بصوت مرتفع وطرف الفستان يتطاير فيكشف عن فخذيها وسليم يذرع الشارع جيئة وذهابًا، طلبت من سليم التوقف أمام بيت حسني وهي تشاهده يطل عليها من شرفة غرفته الأرضية ثم هتفت به:
- اغسل وشك يا حسني وحصلنا.
- مش عايز.
غادر الشرفة ليبتلع ظلام الغرفة جسده، تذكر أنه في الأسبوع الفائت بينما ثلاثتهم يجلسون إلى مائدة في نادي سبورتنج أن كلبوني قالت:
- تحبوا أقولكم جملة قصيرة بالفرنساوي.
- مش طالبة صداع يا كلبوني.
قالها حسني بفظاظة، ندم عليها لحظة نطقها، ولكنها خرجت منه في حركة صبيانية استغلها سليم في أن أصر على أن يسمع منها هذه الجملة واستجداها حتى وافقت بعد الضيق الذي شعرت به من فظاظة حسني.
J’aime a sleem
ضحكت ضحكة عالية فشاركها سليم الضحك بينما تحول شعور حسني من الندم إلى الغيظ الشديد، لقد غلبه سليم بسبب حماقته، والسؤال الذي ظل يطارده في استفزاز لماذا تصرفت بحماقة؟ لماذا؟!


0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.