tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

(غيمة موريتانية)


في بلدِها يبدأ فصل الخريف في شهرِ تموز ( يوليو)، وينتهي في شهرِ أيلول (سبتمبر)، وعلى عكسِ بعض البلدان يُسمّى فصل الخريف هنا بفصلِ الربيع؛ حيث يختلف خريفهم فتتساقط الأمطار، وتتحول الصحراء إلى جنةٍ خضراء ساحرة وبينما يرتبط فصل الخريف بمناظرِ الأشجار جافة الأوراقِ، يتّصل خريفهم بمناظرٍ خلّابة للوديانِ العامرة بالخيراتِ، ويكسو اللون الأخضر الجبال والتلال، وينعكس كرم الطبيعة الغنّاء في هذا الفصل على أغنامهم حيث ترعى، وتأكل من خيرِ الطبيعة وتمتلئ باللحمِ و تُدِر اللبن.. حقًا خريف بلدها العزيز -موريتانيا- هو فصلُ الخيرِ.
فكّرتْ في هذا أثناء عودتها من الجامعةِ، لقد كانتْ هناك لتستلم شهادة تخرّجها. أخيرًا تخرّجتْ وسترتاح من عناءِ الدراسة، في الحقيقةِ هي كانت تحب الدراسة جدًا خاصة بوجودِه في محيطِها، تتذكَّر وجهه الأسمر المليح وملامحه الجذّابة. طوال سنين دراستها كان معها عامًا تلو عام، ولم تحزن عند انتهاءِ الدراسة إلا لفراقِه.
وصلتْ لمنزلِها ودلفتْ تنادي والدتها:
- أمّي أين أنتِ؟ يا أهل الدار لقد أتيتُ، وأحضرتُ شهادة التخرّج، لقد أصبحتُ رسميًا وباعترافٍ من النظامِ الموريتاني خرّيجة حاصلة على مؤهلٍ عالٍ.
خرجتْ والدتها من المطبخِ، وهي تمسح يديها بقطعةِ قماشٍ، وتضحك على ابنتها التي مهما مرّتْ الأيام والسنون ستظل طفلة بتصرفاتِها.
- أخفضي صوتكِ فاطمة، ما الأمر الجلل إذا تخرّجتِ من الجامعةِ؟ الآلاف من الفتياتِ يتخرّجن من الجامعةِ كلّ عام، وهذا يعني أنكِ لم تقومي بعملٍ جللٍ.
قَبّلتْ فاطمة أمها قُبْلة قوية على وجنتِها، وهي تلاعب حاجبيها قائلة:
- أمي العزيزة، لماذا تفعلين معي هذا؟
نظرتْ لها والدتها بتساؤلٍ، فأكملتْ حديثها:
- تُشعرينني دائمًا أن ما أقوم به من إنجازاتٍ ليست مهمة البتّة. هذا ظلم.
ثم رفعتْ يديها للسماءِ تكمل حديثها:
- الحمد والشكر لكَ يا الله أن رزقتني بوالدي حبيبي، الذي دائمًا يشعرني بأنني عبقرية زماني.
أخفضتْ يديها ثانية بجوارِها، ثم غمزتْ بعينِها لوالدتِها وهي تسأل:
- بالمناسبةِ، أين الحاج أحمد؟ مالي لا أراه ملتصقًا بحبيبةِ قلبه، يَبُثّها عِشقِه الذي لا يَنضُب؟
أخفتْ والدتها ابتسامتها، ثم زجرتْها على وقاحتِها قائلة:
- تحشّمي يا فتاة، وهيا أمامي؛ لتبدلي ملابسكِ، وتساعديني في إعدادِ الطعام قبل عودةِ والدكِ من الخارجِ.
رفعتْ فاطمة كف يدها اليمنى بمحاذاةِ جبهتها فيما يشبه التحيّة العسكريّة، وهي تقول بنبرةٍ جديّة للغايّة:
- عُلِم ويُنَفّذ يا فندم.
ثم التفتتْ، وذهبتْ باتجاهِ حجرتها في خطواتٍ صارمة، عسكريّة المظهر مشاغبة الجوهر، وقفتْ والدتها تنظر لها وهي تضرب كفًا بكفٍ، ثم اتجهتْ للمطبخِ وهي تُفكّر بأن زوجها تأخّر نصف ساعة كاملة عن موعدِ عودته المتوقع.
رغم الصخب الذي دلفتْ به للمنزل، ومشاكستها لوالدتِها إلا أن قلبها يؤلمها، لقد رأتْه اليوم وكعادتِه لم يُحدِّثها، وإنما فقط ناظرها بعينيه الواسعتين، نظراته تلك تخبرها بكثيرٍ من الأشياءِ التي تُناقض أفعاله معها، حتى أنها كانت تعتقد في بعضِ الأحيان أن خيالها هو ما يهيئ لها هذه الخالات؛ فتُوَبِّخ نفسها زاجرة.
هي ترى هناك في قاعِ عينيه شوقًا كبيرًا و لهفةً، ملامحه ترتسم عليها شبه ابتسامة خجولة عندما يلمحها، أو تحطّ عليها عيناه ويعلم أنها متواجدة في الجوار.. إذن لمَ لمْ يتحرك حتى الآن؟ حتى أنه لم يُلَمِّح مجرد تلميح أنه معجبٌ بها؛ هي تعلم أن مجتمعهم محافظ جدًا، وأنه ليس من المُستساغ فيه أن يحدِّث الشاب الفتاة، لكنها كانتْ تأمل أن ما تعتقد أنه إعجابٌ من طرفِه سيجعله يتقدّم خطوة ناحيتها، والآن بعد إنهائهما لدراستهِما لم يعُد لديها أمل، وتأكَّد لها أن قصة الإعجابِ والحبِّ التي ظنتها ما هي إلا محض خيال ووهم. دلفتْ فاطمة لحجرتِها تدندن بأغنيةِ لكوكبِ الشرق (فات الميعاد).
"فات الميعاد
وبقينا بُعاد، بُعاد بُعاد
والنار النار بقت
دخان ورماد فات
فات الميعاد"
ثم أنهت الأغنية متمتمة:
- بالفعلِ قد فات الميعاد.
حطتْ عيناها على الصورةِ القابعة في إطارٍ بجوارِ سريرها، صورة لوالدِها ووالدتِها، عيني والدها تنضحان بالحبِّ وهو يناظر زوجته، هي تريد حُبًّا مُتبادلًا كهذا الذي بين والديها، هذا الحبُّ الذي يكبر بمرورِ الزمن ويملأ الكون من حولِها، حُبًّا يمنحها القوة على مواجهةِ صعاب الحياة، حُبًّا يجعلها سعيدة مشرقة كما ترى وجه والدتها رغم التجاعيد التي خطّها العمر عليه، حُبًّا يحوِّل بيتها إلى جَنةٍ كما يفعل في منزلِهم صوت والدها عندما ينطلق مخاطبًا والدتها، ويغازلها بكلماتٍ مبطنة ظنًا منه أنها لن تفهمها.
- عائشة، يا عيش أين أنتِ؟
انطلق صوت والدها عاليًا، معلنًا عن عودتِه فهمّتْ بتبديلِ ملابسها سريعًا؛ لتذهب إليه وترحب به كما تفعل دائمًا.
***
"اشتقتُ إليكَ فعلمني ألا أشتاق
علّمني كيف أقُصُ جذورَ هواكَ من الأعماقِ
علّمني كيف تموتُ الدَّمعة في الأحداقِ
علّمني كيف يموتُ الحبّ وتنتحرُ الأشواقِ؟"
كانتْ تجلس على أريكةٍ منفردةٍ في ساحةِ المنزل، بين يديها دمية صغيرة تلازمها منذ الصّغرِ، تجدل شعر دميتها وصوتها النشاز يصدح بقصيدةٍ من غناءِ العندليب (عبد الحليم حافظ)
- ولمَن تشتاقين يا ابنة الحاج أحمد؟
جاءها صوت والدها من الخلفِ لتهبّ واقفة، ثم تجري إليه، وتتعلق برقبتِه كطفلةٍ صغيرةٍ، تطبع قُبْلة على كتفِه، وهي تخبره بعينين تشعان بالحبِّ والاحترامِ:
- ومَن غيركَ في حياتي يستحق أن أشتاق إليه يا أفضل والد في هذا العالم؟
ضحك والدها وهو يفك يديها من حول رقبته، ويجلس على الأريكةِ التي كانتْ تجلس عليها منذ دقيقةٍ، يلتقط دميتها من الأرضِ، ويناظرها بنظرةٍ لم تعلم معناها، ثم أشار لها وهو يقول:
- تعالي واجلسي بجواري يا مُحتالة.
نفّذتْ طلبه دون تردد لتجلس ملتصقة به، تتشبث بذراعِه وتنتظر ما سيقوله لها. نظر لملامحِها بتمعنٍ، وهو يتنهد ثم قال:
- هيا أخبريني ما الذي تخططين لفعلِه بعد أن تخرّجتِ من الجامعة؟
اندسّتْ في حضنِه أكثر، ثم قالتْ بمشاكسةٍ:
- ماذا أقول لكَ يا والدي العزيز؟ هناك الكثير والكثير مما أريد فعله.
رفعتْ كفها أمام وجهِها وأخذتْ تعدِّد على أصابعِها:
- أولًا: أريد أن أقضي وقت أكبر معكَ لتدللني كما كنتَ تفعل وأنا صغيرة، ثانيًا: سوف أعود لممارسة هوايتي الأولى والوحيدة، وأقرأ كل الكتب التي صدرتْ أثناء انشغالي في الدراسةِ، وأخيرًا: سأمارس شقاوتي على والدتي الحبيبة كالعادةِ.
ضحك والدها ملء فيه على جدولِ ابنته الممتلئ بما يناسب شخصيتها المَرِحَة، بينما كانتْ والدتها تقف بعيدًا، تراقبهما والسعادة تغمرها؛ فصغيرتها كبرتْ، وأنهتْ تعليمها وفي نفسِ الوقت أصبح الخُطّاب يدقون بابها. ذهبتْ عائشة إلى المطبخِ؛ لمعاودةِ صنع الطعام وهي تفكّر كيف تفاتح زوجها في موضوعِ العريس الذي تقدّم لابنتهما؟
***
بعد الانتهاءِ من تناولِ الطعام أتى موعد عادة قديمة من عاداتِ بلدها تحبها جدًا، ألا وهي شرب (الأتاي) أو الشاي، وللحقيقةِ (الأتاي) يعتبر المشروب الرسمي للمغرب العربي كله تقريبًا، وله عادات وآداب في تقديمِه، وفي بلدِها يتم تحضيره بحرفيةٍ حيث يقوم محضِّره باختيارِ ثلث كأس صغير من الشاي يتم وضعه في برادٍ صغيرٍ، يصبّ الماء الساخن عليه، ويُرَج جيدًا لتنقيتِه من الشوائبِ والموادِ الحافظة، وبعد ذلك تصبّ هذه الخلاصة جانبًا في كأسٍ، وتسمى هذه المرحلة (تشليلة)، بعدها يصبّ الماء الساخن مرّة أخرى، ويوضع على نارٍ هادئة في موقدٍ غازي صغير أو موقدٍ للفحمِ يسمى (فرنة)، ويترك لدرجةٍ تقارب الغليان، ثم يبدأ في عمليةِ صنع رغوة في كافةِ الفناجين الصغيرة، يرفع (البراد) عاليًا ويُصبّ الشاي داخل الكؤوس حتى تكتمل العملية، ثم تتمّ إعادته إلي النارِ مرّة أخرى؛ لتسخينه فقط وبعدها يضاف النعناع والسكر، ويوزع حينها في الأكوابِ الصغيرة حتى المنتصف، ومن ثمَّ يقدَّم في صينيةٍ صغيرة تسمى (سرفاية)، وتسمى هذه العملية (الكأس الأول) ثم تعاد نفس العملية للكأسِ (الوسطاني) أي الثاني، ثم الثالث (التالي).
بعد أن شربتْ فاطمة كأسها الثالث استأذنتْ من والديها لتصعد لحجرتِها. اقتربتْ عائشة من جلسةِ أحمد حيث كان يطالع هاتفه، وتنحنحتْ قبل أن تناديه باسمه كما تعودتْ أن تفعل عندما يكونا بمفردِهما (حيث أن من عاداتِ موريتانيا ألا تنطق الزوجة اسم زوجها أمام أحد أو أمام الكبار).
- أحمد، من فضلكَ، أريد اطلاعكَ على أمرٍ ما.
انتبه أحمد لزوجتِه، ولنبرةِ صوتها المرتبكة فوضع هاتفه بجانبِه مما جعلها تستأنف حديثها:
- هناك سيدة اتصلتْ بي اليوم، تريد القدوم لطلب يد فاطمة.
مشاعر مختلطة خامرتْ أحمد وهو يسمع أن ابنته جاءها خاطبًا، لكنه كتم مشاعره وقال ما يجب قوله في مثل هذه الأمور:
- على بركةِ الله يا عائشة، إن كانتْ أسرة جيدة فلتفعلي الأمور المعتادة في هذا الوضع.
***
في اليومِ التالي.
أخبرتها والدتها عن اتصالِ السيدة بها، وطلبها القدوم لطلبِ يدها، وللحظةٍ ساورها الشك أو الأمل أن يكون المتقدِّم هو زميلها في الجامعةِ، لكنها سرعان ما وأدتْ هذا الأمل؛ حتى لا يكون شعورها بالإحباطِ كبيرًا عندما يتضح أنه ليس هو، لم تعرف ماذا تفعل فاتجهتْ إلى حُجرتِها تجلس بها، تقلّب في دفاترِها تارّة وتلعب بدميتِها تارةً أخرى. فتحتْ أحد الدفاتر وخطتْ فيه.
(علمت اليوم أن هناك مَن تقدّم لخطبتي، ولا أعرف هل أنا سعيدة أم حزينة، لكن ما أعرفه أنني عندما يسألونني عن رأيي سأختار ما يُسعِد أهلي.
كيف لي أن أرفض إن أرادو تزويجي الآن؟ وأنتَ لم تأخذ خطوة نحوي، لم تلمّح لي حتى بالإعجابِ؛ فلمَ أنتظركَ؟
الوداع يا حلمي ويا وجعي.. الوداع يا حبيبي).
أغلقتْ الدفتر، وهي تهز رأسها ثم فكّرتْ أنها حقًا مجنونة. لمَن تكتب وهذه الكلمات لن تصل لأحد؟!
هي كانتْ تُحب سرابًا، وهمًا اخترعته بنفسِها لنفسِها، لكن الآن يجب أن تَفيق من أحلامِها، وتنتبه لسعادةِ والديها وسعادتِها، لعلّ الله يرسل لها رجلًا تقيًّا يحبها كما يُحِب والدها والدتها. سمعتْ صوت والدتها تنادي عليها فنزلتْ مسرعة؛ لتساعدها.
***
في اليومِ التالي.
انقضى اليوم بين تجهيزِ المنزل وتنظيفِه، وبين تجهيزِ وليمة كبيرة للضيوفِ وهذا في عُرفِهم يعدّ موافقة مبدئية حيث أنه يتم تجهيز وليمة دليلًا على الموافقةِ. الوليمة كانتْ كبيرة، وحرصتْ والدتها على أن تتضمن كل ما تشتهيه الأنفس من الأطعمةِ التي تشتهر بها موريتانيا بدايةً من (الكسكسي) باللحمِ، والخضروات، ومطحون الملوخية، والتوابل الموريتانية مرورًا (بمارو الحوت) ويتكون هذا الطبق من الأرزِ المطبوخ بالبخارِ، ويتم تزينه بالسمكِ المقلي المحشو بالبصلِ، والتوابلِ الشهية وبعض الخضراوات المطبوخة بالبخارِ أيضًا، وبالطبعِ لن تكون الوليمة وليمة إن لم تكن تحتوي على طبقِ (التشيطار)، وهذا الطبق عبارة عن لحمٍ مقددٍ تمّ تجفيفه بعد إزالةِ الشحوم منه، ووضعه في الشمسِ وبعد التجفيفِ يتمّ طبخه على نارٍ هادئةٍ، ثم طحنه حتى يصبح عجينًا ويضاف إليه مرق خاص به، كما لم تخلُ الوليمة من أصنافِ الحلويات الشهيرة ببلدِهم، والمصنوعة من الفاكهةِ وقد صنعتْ أمها حلوة الزبادي بالبرتقالِ، مع القرفة والزعفران وأيضًا صنعتْ ترتل الموز الشهي.
شاركتْ فاطِمة في كلِّ الترتيبات من تنظيفٍ، وإعدادٍ للطعامِ كانت تعمل، وتعمل وتعمل دون كلل، رغم أن والدتها لم تكن تريدها أن تُجهِد نفسها في يومٍ كهذا، لكنها كانت تريد الإجهاد البدني حتى تُلهي نفسها عن الإجهادِ الفكري؛ نعم عقلها مجهَد كثيرًا من التفكيرِ والتساؤلِ عن هذا الخاطب المنتَظر، أسئلة لم تستطِع البوح بها؛ ففي عرفِهم هذا لا يصح، بل سيُظهِرها بمظهرِ النزقة، التي ترغب بالزواجِ وتشتاق له، فكتمتْ تساؤلاتها وانتظرتْ تخبر نفسها: " إن غدًا لناظِرهِ قريب".
والدتها زجرتها، وأمرتها أمرًا أن تذهب لحجرتِها لتمكث بها؛ فأهل عريسها على وشكِ الوصول، فذهبتْ لتأخذ حمامًا سريعًا، وتنتعش أو تقنع نفسها أنها منتعشة حتى تناهى لسمعِها صوت ترحيب والدتها بالضيوفِ.
لم تستطع المكوث في غرفتِها أكثر فنزلتْ بحرصٍ، ووقفتْ في مكانٍ قريبٍ من مجلسِ النساء، ثم استرقتْ النظر لتجد والدتها تجالس سيدتين وأربع فتيات، حاولتْ استراق السمع للأحاديثِ الدائرة؛ لعلّها تعلم أي شيء عن عريسِها، لكن لم يأتِ أحد على ذكرِه حتى أعلنتْ والدتها أن هذا وقت الانتقال لحجرةِ الطعام، وبعد استقرارهن بالجلوسِ حول الطعام قالتْ والدة العريس:
- بسم الله ما شاء الله، إذا كانتْ فاطمة ابنتنا ساعدتْ في إعداد هذه الوليمة فهكذا ضمنتْ أن ولدي سيسمن بعد الزواجِ، هو ليس أكولًا بطبعِه، لكن مع هذه الأصناف الشهية، ووجه فاطمة الصبوح ستُفتَح شهيته للدنيا بإذن الله.
ضحكتْ والدتها والفتيات معها ما عدا واحدة فقط من الفتياتِ لم تشق وجهها مجرد ابتسامة صغيرة.
ردتْ عائشة وهي تمدح في ابنتها:
- إن فاطمة أصرّتْ أن تشترك في إعدادِ الوليمة بنفسِها، لقد ربيتها على أن تكون سيدة بيت من الدرجةِ الأولى، رغم اهتمامنا أنا ووالدها بتعليمِها الجامعي إلا أننا لم نُرِد أن تكون مجرد فتاة متعلمة، دون أن تُلِمّ بأشغالِ المنزل وخباياه.
نظرتْ السيدة حفصة والدة العريس للمائدةِ وهي تهزّ رأسها علامة الاستحسان.
حسنًا، لقد تشوّقتْ لرؤيةِ هذا العريس مخفي الاسم، انتبهتْ لانتهاءِ الضيوف من تناولِ الطعام، وبسرعةٍ اختبأتّ في حجرةٍ بجوارِ الرواق المؤدي للحمامِ، لكنها كانتْ قريبة من البابِ حدّ سماعها لحديثِ الفتاتين اللاتين كانتا تمران من أمامِ الحجرة وإحداهما تقول: -
- لا أعلم ما الذي أعجب أخاكِ في هذه الفتاة؟ إنها رفيعة جدًا، بل قوامها يشبه أعواد القصب كما أن سُمرتها داكنة.
فردّتْ مرافقتها سريعًا مدافعة عن اختيارِ أخيها:
- بل قوامها يشبه قوام الممثلات، وعارضات الأزياء ولا تشوبه شائبة، وسُمرتها مشرقة تشبه سُمرة الشوكولاتة الذائبة كما وصفها أخي بالضبطِ.
هذا الحديث جعل أنوثتها ترقص، وقلبها يزغرد بين أضلعِها، وهي تعرف لأولِ مرّة أن لها معجبًا سريًّا، يراها مليحة الوجه والقدّ.
لقد شعرتْ بثقتِها في نفسِها تعود بعد أن غابتْ؛ بسببٍ هذا الغبي زميلها في الجامعةِ، الذي لم يلتفتْ لإعجابِها به الظاهر في عينيها، أدركتْ أن الخطيب المزعوم تقدّم لها بعد رؤيتِها، ولم يرسل والدته وأخواته ليعاينّها كما تعاين البضائع قبل الشراءِ، حمدتْ ربها وطلبتْ منه أن يتمّ عليها نعمته ويعينها على الإخلاصِ للرجلِ الذي سيصبح زوجها؛ فهي على الأقلِ ستحظى برجلٍ يحبها.
انتهتْ الجلسة على خيرٍ، وانتهى اليوم ليبدأ يوم جديد، ويبدأ التحضير لعقدِ القران، وتبدأ والدتها في طقسِ المشاورة؛ فتتصل بالخالةِ فلانة والصديقةِ أم فلان وفي كلِّ اتصال تقول الجملة الشهيرة:
- أنا مشاوراكم على عقدِ قران ابنتي فاطمة على ابن الحاج حسن الخليل الأسبوع القادم.
فتنطلق الزغاريد من الطرفِ الآخر في المكالمةِ وتنطلق الشرارات من داخلِها؛ لفشلِها في معرفةِ اسم معجبها السري.
جهز والدها ساحة منزلهم ليُعقد فيه القران، وجهزتْ والدتها وخالاتها -اللاتي أتين من مختلفِ محافظات بلدِها؛ لحضورِ عقد القران- صالة المنزل من الداخلِ لاستقبالِ النساء، كان الكلّ يعمل إلا هي، الكلّ يشترك إلا هي رغم أنها أكثر مَن يحتاج للاشتراكِ، وإلهاءِ نفسها عن المشاجرةِ القائمة بين قلبِها وعقلِها؛ فقلبها دائمًا يتذكّر زميل دراستها، مَن شَغَلَه بعينيه ونظراته المهتمة بينما عقلها يحاجِج قلبها بأنه لم يأخذ خطوة جدية نحوها، بل يصل به الأمر أن يخبر قلبها بأنه كان يحتاج للحبِّ لهذا اخترع هذه الأوهام الخاصة بالنظراتِ، وهي لا تعرف هل تأخذ صف القلب أم العقل؟ لتنهي الصراع سريعًا مع اقترابِ موعد عقد القران لصالحِ العقل؛ فهي لن تصبح على ذمةِ رجل وقلبها يميل لآخر.
يوم عقد القران كان يومًا مرهقًا للجميعِ، قضته هي، وصديقاتها وبنات خالاتها يتجهّزن ويتزيَّن، الفرح عمّ الأجواء، وتسرب لداخلِ قلبها فاندمجتْ مُنحِّيَة كلّ ما يعتمل به من مشاعر، وقررتْ أنها ستبتهج دون تفكير. بعد آذانِ العصر تمّ العقد بوجودِ كبار عائلتها وكبار عائلة خطيبها.
جلستْ في حجرتِها وهمس قريبتها يصل مسامعها بأن العريس الغائب عن العقدِ كما تقتضي عادات البلد أرسل مهرًا كبيرًا، وأرسل رجالًا كُثر من أهلِه، بل يعتقدن أنه أرسل قبيلته كلها، وهذا في حدِّ ذاته بمثابةٍ رفع لقدرِها، وقدرِ عائلتها وجعلها تتشوّق لمعرفتِه أكثر وأكثر.
لم ينسَ والدها أن يشترط في عقدِ الزواج أنه إذا حدث وتزوّج الزوج امرأة أخرى بعدها فسيكون عقد الزواج لاغٍ ويصبح أمر فاطمة في يدِها.
مرّ اليوم بسلامٍ، وانصرف المدعوون وكانتْ فاطمة على وشكِ تبديل ملابسها عندما دلفتْ والدتها لها قائلة:
- مبارك لكِ حبيبتي، يبدو أن زوجكِ من وجهاءِ قبيلته؛ فقد أحضر كبار رجال القبيلة ليحضروا عقد قرانه، وكان الرجال يتسابقون ليشهدوا على العقدِ بل كادوا يقتتلون فيما بينهم، هنيئًا لك حبيبتي.
كلمة زوجكِ التي نطقتها والدتها دخلتْ أذنها فأطربتها (زوجكِ) لقد أصبحتْ زوجة، ليس وكأنها تتعجّل الزواج! لكن الكلمة داعبتْ أنوثتها، وحلمها في أن تصبح أمًّا كأمّها مراعية ومتفهمة.
- بارك الله في عمركِ، وعمرِ والدي يا أمّي وحفظكما لي.
مدّتْ يدها تأخذ يد والدتها اليمنى لتقبّلها بينما حطّتْ اليد اليسرى تربّت على رأسِها، وعندما اعتدلتْ سألتْ والدتها بنبرةٍ ملحَّة:
- أمّي، لقد عُقِدَ القران، أليس من حقي الآن أن أعرف اسم زوجي؟ هيا حبيبتي رجاءً أخبريني، ولن أُخبِر أحدًا أنكِ قُلتِ لي الاسم بل سأدّعي أني تفاجأتّ به.
ضحكتْ عائشة على ابنتها، التي مهما مرّ عليها من أحداثٍ لا تكبر أبدًا.. قرصتها من وجنتِها وهي تخبرها بخبرٍ نزل عليها كدلوِ ماءٍ بارد:
- اصبري يا فتاة، لقد أتيتُ لأخبركِ أن زوجكِ سيأتي بعد عشرِ دقائق ليراكِ.
صُعِقتْ فاطمة وهي تعرف أنها أخيرًا ستتعرّف على الرجلِ الذي عقد عليها، بل الرجل الذي وصفها كقطعةِ شوكولاتة ذائبة، أخذتْ تدور حول نفسها وهي مرتبكة لا تعرف ماذا يجب أن تفعل؟ لتوقفها عائشة ممسكة بكتفيها، تحاول بثّها الطمأنينة وتهدئة توترها.
- اهدأي حبيبتي، هذه أول مرّة أراكِ مرتبكة هكذا.
أخذتْ تزفر عدة أنفاس بعمقٍ، ثم تعود لتسحبهم ثانيةً و بين شهيقٍ وزفيرٍ انتبهتْ لشيءٍ مهم.
- أمي، لكن كيف وافق أبي على حضورِه اليوم؟ هذا مخالف للعُرف، لا يصح أن يأتي يوم العقد.
نظرتْ والدتها لعينيها، وهي تهزّ رأسها بيأسٍ مجيبة:
- لقد أرسل زوجكِ مع والدتِه يستأذن الحضور لرؤيتكِ، ورغم أن العادات تقتضي ألا يراكِ، إلا أننا ارتأينا أنه لا ضير من رؤيتِه لكِ ما دام لم يركِ قبل الخِطبةِ ويجلس معكِ.
رتبتْ فاطمة أفكارها قليلًا لتعرف ماذا يجب أن تفعل فقالتْ:
- حسنٌ حبيبتي، امنحيني خمس دقائق وسألحق بكِ لحجرةِ الضيوف.
ذهبتْ والدتها، وتركتها تحاول تنظيم ضربات قلبها، التي اضطربتْ بعد معرفتِها أنها سترى زوجها الآن، عدّلتْ من ملابسِها سوداء اللون، وجدّدتْ زينة وجهها الخفيفة ثم لحقتْ بوالدتِها.
***
- أنرتَ المنزل يا ولدي.
قالت عائشة للشابِ الجالس في الجهةِ المقابلة لها، ينتظر ظهور عروسه، عينيه على البابِ لا تحيدان عنه إلا عندما تحدّثه حماته. لقد استقبلته حماته، ولم يرَ حماه؛ فالعادة تقتضي أن يتجنب ابنته، وتتجنبه ابنته لفترةٍ، كما يجب ألا تذكر فاطمة زوجها أمام والدها؛ احترامًا له وخجلًا منه. نقرتان خفيفتان على البابِ تبعهما فتحه ثم ظهرتْ بملحفةٍ سوداء، ووشاحٍ على رأسها وزينة وجه لا تحتاجها، ومنذ متى تحتاج الشوكولاتة للتزيّن؟ أخفضتْ نظرها للأرضِ وهي تخطو لداخلِ الحجرة، ولم ترفع بصرها لتراه إلا عندما أمرتها والدتها بتحيتِه قائلة:
- فاطمة، سلّمي على زوجكِ.
زوجته! نعم لقد أصبحتْ زوجته وكلْ حياته، يتساءل الآن لمَ لمْ يطلب من والدِها أن يكون اليوم العقد والزفاف معًا ليأخذها معه لمنزلِه فتُنيره؟ رفعتْ رأسها تنظر له، قلبه يقرع في جنباتِه وينتظر ردّة فعلها عندما تراه.
وقعتْ عيناها عليه لتشهق مصدومة، إنه هو! هو مَن كان يتصارع قلبها وعقلها بسببِه، هو مَن خطف أنظارها في الجامعةِ، مَن ظلتْ تحبه في صمتٍ طوال سنين دراستها الجامعية، ورغم الشك الذي ساورها يوم الوليمة إلا أنها صدمتْ الآن عندما تأكّد شكها، ابتسامة عريضة شقّتْ ملامحه فزادته وسامة، عيناه مليئتان بالشقاوةِ، وعائشة تنقل نظراتها بين الاثنين ولا تفهم شيئًا.
- السلام عليكم.
ألقت فاطمة السلام دون أن تمدّ يدها له، بل ذهبتْ لتجلس بجوارِ أمها المتعجّبة مما يحدث، شهقة ابنتها والشقاوة التي تملأ عيني الواقف هناك ينتظر جلوس زوجته ليجلس، استأذنتْ الذهاب لتحضير مشروب للعريسِ، ولتترك لهما حرية التعارف رغم أنها تشعر أنهما يعرفان بعضهما جيدًا.
بعد ذهاب عائشة لم يتحمل فقام من مجلسِه مقتربًا منها، وهو يهمس اسمها، لأول مرّة يأتي على ذكرِ اسمها، ويتذوق حلاوته بين شفتيه يا الله!
- فاطمة.
هل نادها باسمها؟ بل هل هذا اسمها؟ متى كان جميلًا هكذا؟ لم ترد عليه، وأخفضتْ رأسها تلعب بطرفِ وشاحها، عدة مشاعر تعتمل بداخلِها خجل، وصدمة، وسعادة وخوف..
خجل منه، ومن نفسها ومن حبها الذي يتصارع بجنبات قلبها، يريد الخروج و الإعلان عن نفسه، صدمة من وجوده هنا أمامها، في آخرِ مكان كانت تتخيل أن تراه فيه، بل وأصبح هو زوجها بعد أن تآمر مع عائلته وعائلتها لإخفاء شخصيته عنها، سعادة لأنها أصبحتْ زوجته هو، ولا أحد غيره هو مَن سهر القلب يتمناه حلالًا لها، وخوف من أن تكون تحلم وستستيقظ قريبًا من حلمِها ليتحول واقعها لكابوسٍ.
مدّ يده يخلّص طرف الوشاح الذي ستمزقه من فرطِ توترها، ثم أمسك بيدِها لتسري قشعريرة محبّبة في جسدِها كله وهو يجذبها ليوقفها بكلِّ سلاسةٍ أمامه، لم تكن تتخيل أنه يفوقها طولًا بهذا الشكل، ولم تكن تعرف أنه يمتلك كلّ هذه الوسامة، ولم تكن تتخيل أنها ستشعر أن قدميها هلاميتين كما تقرأ في الرواياتِ.
نادى اسمها مرّة أخرى وهو يحدثها قائلًا:
- فاطمة، هذا أنا عليّ، عليّ حسن الخليل. أعلم أنكِ لم تكوني تعلمين من أنا قبل دلوفكِ لهذه الغرفة، أنا آسف، لكنني لم أستطع أن أجرح براءتكِ وأحدّثكِ في الجامعةِ، لم أكن أستطيع حتى جرحكِ بالنظرةِ فما بالكِ بالكلمةِ؟
ازدرد ريقه ثم أكمل:
- لقد انتظرتُ طويلًا حتى هذه اللحظة، عندما سألتُ عنكِ وعن والدكِ علمتُ أنه يرفض تزويجكِ قبل إنهائكِ لدراستكِ، فانتظرتُ طويلًا أُمنّي نفسي بيومٍ كهذا أقف فيه أمامكِ وقد أصبحتِ حليلتي لأعترف لكِ أنني.. أنني..
تردّد قليلًا، هذه أول مرّة يتحدّث معها وأول مرّة سيقولها لها. سيطر على توترِه، وتشجّع ليكمل قائلًا:
- أنني أحبُّكِ يا فاطمة منذ أول يوم رأيتكِ به، وكلّ يوم رأيتكِ فيه كان حبي لكِ يزيد أكثر عن اليومِ الذي يسبقه. أحببتُ خجلكِ، وتحفظكِ، أحببتِ عيونكِ التي كانت تغمض في خفرٍ عندما تلتقي بعينيّ، أحببتُ ذكاءكِ وأنتِ تحاورين وتجادلين في المحاضراتِ وأحببتُ كلّ شيء فيكِ.
لا، لن تحتمل أكثر من هذا، هل سيلومها أحد إن فقدتْ الوعي الآن؟ ماذا يجب أن تقول ردًّا على هذا الكلام؟ لا إنه ليس كلامًا عاديًا، إنه غزل. علي يتغزّل بها هي فاطمة!
- أتعلم أن اسمكَ عليّ، وأن اسمي فاطمة؟"
يا للغباء! ما الذي تتفوهين به الآن أيتها الغبية، التي كان يمدح في ذكائها منذ دقيقة واحدة؟
قهقه ضاحكًا، يفهم ما تريد قوله، وأحجمتْ عن التفوه به ليُكمِل بدلًا عنها وهو يخلخل أصابعه بين أصابعِها، ويضع قُبْلة أعلى رأسها:
- جعلكِ الله لي كما كانتْ الزهراء للإمامِ عليّ رضي الله عنه.
خفقة، والثانية وأين الثالثة؟ لقد ضاعتْ منها خفقات قلبها بعد هذه القُبْلة، جسدها يختضّ بشعورٍ لا تعرف كنهه، لتقول غافلة عمّا فعلته به بعد همسِها بصوت خفيضٍ وصله بسهولةٍ:
- عليّ.
قال وهو يقترب من ثغرِها يتلقّفه بفمِه:
- يا قلب عليّ.
تشعر أنها تطير في السماءِ، قدميها لا تلامسان الأرض، جسدها لا تشعر به، هل كانتْ تمتلك عظامًا؟ أم كانتْ هكذا دائمًا هلامية الجسد؟
أفلتها من قُبْلتِه عندما سمع خطوات والدتها قادمة، ليُجلِسها على المقعدِ خلفها ويعود لمقعدِه، قلبه ينبض باسمها، لقد قَبّلها أول قُبْلة لهما، لم يكن ينوي التعجّل منذ أول يوم ولكنه لم يستطِع صبرًا. دلفتْ والدتها تحمل صينيه عليها ثلاثة أكواب من الأتاي، قدّمتْ له كوبه، ثم وضعتْ الصينية على الطاولةِ وجلستْ. تنحنحتْ ثم همستْ لابنتِها بصوتٍ خفيض عندما لاحظتْ تخضب وجنتيها بحمرةِ الخجل:
- فاطمة هل تعرفين عليّ من قبل؟
ارتبكتْ فاطمة، ورفعتْ نظرها لعليّ ثم همستْ لوالدتِها:
- عليّ كان زميلي في الجامعةِ.
ظهرتْ الصدمة على وجهِ عائشة للحظةٍ، ثم سيطرتْ على ملامحِها ليكسوها البرود وهي تنقل نظرها من ابنتها لعليّ.
استأذن عليّ للمغادرة بعد احتسائه للشاي، وبعد مغادرتِه بدأتْ المواجهة بين الأمِ وابنتِها لتعاجلها عائشة قائلة:
- فاطمة، هل كنتِ تعلمين أن عليّ سيتقدّم لخطبتكِ؟ هل حدّثكِ في الجامعةِ مثلًا ملمّحًا أو مصرّحًا برغبتِه في الارتباطِ بكِ؟
هل تشك أمها أنها كانتْ على علاقة بعليّ من قبلِ أن يأتي لخِطبتِها؟ شعرتْ بطعنةٍ في قلبِها، وشعرتْ أنها تفقد ثقة والدتها بها، ولأولِ مرّة تشعر بالفرحةِ لأن عليًّا لم يلمّح لها بحبِّه أو رغبته في الارتباطِ بها من قبلِ، ورغمًا عنها ترقرقتْ الدموع في عينيها وهي تقول لوالدتها بنبرةٍ صادقة:
- لا، أنا لم أعرف برغبةِ علي ولم يلمّح لي من قبلِ عن رغبتِه، بل لم نتحدّث سويًا قبل اليوم. استأذنكِ أمي، سأذهب لتبديلِ ملابسي والنوم، تصبحين على خيرٍ.
ردّتْ والدتها عليها شاردة:
- وأنتِ من أهلِ الخير حبيبتي.
ذهبتْ عائشة لحجرةِ نومها لتجد أحمد يكاد يأكل الأرض بخطواتِه ذهابًا وإيابًا، يظهر القلق على ملامحِه حينما رفع وجهه لها وخطى تجاهها وهو يقول:
- هل ذهب؟ هل تركتِهما وحدهما؟ ماذا قال؟ وما شعور فاطمة عندما رأته؟
رفعتْ أحد حاجبيها متعجّبة من سيلِ الأسئلة التي عاجلها بها حالما رآها لتقول بنبرةٍ يغلب عليها التهكم:
- اهدأ يا أحمد، مَن يراكَ، ويرى غيرتكَ سيشك أنكَ تغار على حبيبتِكَ وليست ابنتكَ.
زفر أنفاسه، وهو يجلس على طرفِ الفراش خلفه قائلًا:
- إنها وحيدتي يا عائش، أغار عليها جدًا، ولا أعرف هل غيرتي هذه طبيعية أم أنها بسببِ تقاليدنا وأعراف بلادنا؟
تحركتّ من مكانِها، تتجه لخزانةِ الملابس، تأخذ ملابسها ليقوم خلفها يقترب منها، يده تتسلل لخصرِها لتجفل للحظةٍ، ثم تبتسم ابتسامة مشاكسة دون أن يراها فيضع ذقنه على كتفِها وهو يتصنّع البؤس في نبرتِه قائلًا:
- ماذا تفعلين؟ اليوم عقد قران ابنتي ألن تواسيني يا عائش القلب؟
وضعتْ يدها على يدِه المحيطة بخصرِها تزيحها، وهي تلف بوجهِها له وتغمزه بعينِها:
- أنتَ لا تحتاج للمواساةِ يا قلب عائش، أنتَ تحتاج لأن تكبر قليلًا وتعلم أن ابنتكَ صارتْ عروسًا.
قهقه ضاحكًا، وهو يخطف قُبْلة من وجنتِها المكتنزة:
- وكيف أكبر وأنا أراكِ تصغرين كلّ يوم عن الذي يسبقه؟ لقد اعتقدتُ أنكِ أنتِ العروس اليوم وليس ابنتكِ.
احتضنها يغيبها في حممِ عاطفته، التي تزداد كلما زاد عمرهما وهي تهمس بممانعةٍ واهية:
- أحمد انتظر قليلًا.
***
- عليّ، مَن الفتاة التي أتتْ مع والدتِكَ وأخواتكَ البنات يوم الوليمة؟
سألتْ فاطمة بنبرةٍ بها من التدلّلِ الكثير، وبمكرٍ مبطن ليرد عليها وهو يهمّ بالدخولِ لمنزله؛ لقد أصبحت عادة بينهما أن يهاتفها بمجردِ أن يخرج من عملِه، ويحدّثها طوال الطريق وحتى يدلف لمنزله:
- تقصدين سلمى ابنة عمتي؟
قالتْ وهي ترفع كتفيها وتخفضهما ثانيةً:
- لا أعلم، لم انتبه لاسمها ووالدتكَ تعرّفني بها.
وضع المفتاح في الثقبِ المخصص له في بابِ المنزل:
- إذا كان الأمر هكذا لمَ تسألين عنها الآن؟
سأل بمكرٍ، هو يعلم لمَ تسأل عنها لقد أخبرته أخته بما قالته سلمى و بردِّها عليها، ويبدو أن زوجته قد سمعتْ الحديث أو ربما شعرتْ بشيءٍ. أتاه صوتها مرتبكًا وهي تخبره بما تشعر به منذ هذه الزيارة وكتمته في قلبِها، لكنها لم تستطِع كتمانه أكثر من هذا، يجب أن تعرف ما موقع هذه السلمى في حياته؟
- يبدو أن لكَ مكانة خاصة عندها و...
لم يدعها تكمل ما كانتْ ستقول فقاطعها، وهو يغلق الباب، ويلقي تحيّة سريعة على والدِه ووالدتِه ويصعد سريعًا لحجرته:
- استمعي لي حبيبتي، أنا لا أهتم لمكانتي لدى أي أنثى غيركِ، وأريد منكِ المثل، لا تهتمي إلا لمكانتكِ أنتِ لدي، ولتعلمي أن ليس لأنثى غيركِ مكانة عندي غير أمي وأخواتي، أما مَن عداهن فلا أراهن أبدًا أبدًا.
لقد أراحها من التفكيرِ في هذا الموضوع، فهي كانتْ خائفة أن يكون بينهما قصة حب قديمة، ولم ترد سؤال أخواته خوفًا من أن يؤثر سؤالها على صداقتِها الوليدة معهن.
- حسنٌ يا زهراء عليّ، أيمكنني إنهاء المكالمة الآن؛ لأنني مرهق جدًا ويجب أن ارتاح لأستعد ليومِ غد؟ وأنتِ أيضًا حبيبتي يجب أن ترتاحي جيدًا يا عروس.
قال كلماته وهو يستعد للاستلقاءِ على فراشِه دون إبدال ملابسه من شدةِ إرهاقه، أشفقتْ عليه خاصةً وصوته يظهر مدى إرهاقه فأنهتْ المكالمة سريعًا وهي تحلم بيومِ غد وما يحمله لها.
***
يوم الزفاف.
ذبح والدها الكثير من الذبائح لاستقبالِ المدعوين من وجهاءِ البلد، بينما كانتْ هي تتحضّر للذهاب للمزيّنة، التي ستزيّن يديها وقدميها بنقوشِ الحناء في وجودِ صديقاتها وسط أجواء من السعادة وأصوات الغناء بأغاني الفلكلور الموريتاني، وللمرّة الثانية سترتدي الملحفة السوداء التي ترمز للحياءِ في المجتمعِ الموريتاني.
ثبتتْ المزينة الدبشة على منابت شعرها -الدبشة زينة تثبت على أول الشعر تكون من الذهب-، ثم وضعتْ لمسات من الزينةِ الخفيفة على وجهِها، كانتْ تعدّ الساعات والدقائق تنتظر اتصالًا من أحدِ صديقاتها تخبرها به أن المدعوين كلهم قد حضروا، فهي يجب أن تكون آخر شخص يدلف للقاعة، تذكرتْ أن والدها لن يحضر العرس في القاعةِ التي أجّرها عليّ، لكنه على غير العادةِ لم يستطِع ألا يودّعها صباحًا، وعيناه مليئتان بالدموعِ وهو يقول لها:
- اليوم ستنتقلين لحياةٍ جديدةٍ مع أشخاصٍ جُدُد، تعاملي معهم كما تُحِبين أن يُعامَل أهلكِ، واعلمي أن رضى زوجكِ من رضاهم، عندما تجدين زوجكِ مهمومًا سرّي عنه، وعندما تجدينه سعيدًا انسي همومكِ وشاركيه سعادته، كوني لزوجكِ أمًّا، وابنة، وأختًا، وزوجة وحبيبة كما كانتْ أمكِ لي دائمًا.
غمرها في حضنِه وهو يقبّل رأسها، ثم تركها وهبّ يمسح دموعه التي تمرّدتْ على حواجزِ عينيه فانسابتْ على وجنتيه.
عادتْ من شرودِها على صوتِ المزينة وهي توبخها؛ لأن دموعها تفسد زينتها، ثم على صوتِ رنين هاتفها يخبرها أن عليّ وصل ليأخذها لحضورِ الحفل.
دلفتْ للقاعةِ وسط زغاريد الأحباب من الأهلِ والجيرانِ، لكنها لم تدخل على قدميها، بل فجأة وجدتْ نفسها محمولة على زراعي زوجها، ورغم الوشاح الذي ينسدل على رأسِها مخفيًا وجهها عن الناظرين شعر هو أن الحمى أصابتها من شدةِ خجلها، واستطاعتْ هي مع اقترابِ وجهها منه أن ترى وسامته الشديدة وهو يرتدي الدراعة، أنزلها في مكانِ جلوسها فاقتربتْ صديقاتها منها، وأخذوها، ثم أخفوها عنه وهن يحاوطنها يطالبن العريس أن يأتي ليأخذها من بينهن إن استطاع، في عادةٍ جميلة أخرى من عاداتِ بلادهم، حاول عليّ أن يخترق البنات دون أن يلمسهن لكنه لم يستطع لينظر لأخواته فأتين بصديقاتِهن، ودلفن وسط صديقات وقريبات العروس يشكلن ممرًا، فدلفَ منه لعروسِه ثم أمسك يدها، وأخذها واتجه للمقعدِ المخصص لهما، لم يفلت يدها من يدِه حتى بعد أن اطمأن لجلوسِها بجوارِه، بل كان يمر بإبهامِه على ظهرِ يدها في حركةٍ جعلتْ القشعريرة تنتابها، وعندما شعر بارتعاشِها مال عليها يهمس بالقول:
- أنتِ ترتعشين، هل تشعرين بالبردِ؟
ابتسمتْ له من تحتِ الوشاح، وهي تحاول السيطرة على مشاعرِها ثم قالتْ:
- إنما هي رهبة اللحظة، كما أنني كنت أتمنى لو أن أبي معي.
نظر عليّ لوالدتِها التي تلف بين المدعوين ثم قال:
- أنا متأكد أن والدكِ أيضًا يتمنى لو يحضر، ويمضي معكِ أطول وقت ممكن؛ لكنها عاداتنا أن يغيب الوالد عن عُرسِ ابنته كما تعلمين، كما أنني أشك إن حضر والدكِ أن يتركني آخذكِ معي في نهايةِ العُرس فهو يغار عليكِ بشدةٍ.
مدّتْ يدها تمسح دمعة هاربة تسللت على وجنتِها عندما اقترب أحد المطربين الذين يحيون الحفل، ليقوم بعادةِ سؤال العريس في مكبرِ الصوت قائلًا:
- والآن سنسأل العريس، ونعرف منه إذا كان يحب عروسه أم لا؟
فأخذ منه عليّ الميكرفون، وأوقف فاطمة أمامه ثم قال:
"يسألونني هل تحبّها؟
بل أنا منذ الأزلِ أتنفس عشقها
يسألونني أترضى بُعدها؟
لا وربي بل أموتُ دونها
تمشي تتدلّل بخطواتِها، فيتركني قلبي ويهفو لها
يا مدلّلة وقعتُ في شباكِها
شِدّي الشبك جيدًا،
وإلا تحملي نار حبي إذا فيكِ أضرمتها".
أنهى كلماته، وهو يقبّل رأسها وسط تصفيق وزغاريد النساء من حولِهما ليجلسا ثانيةً فتُناديه وهي تميل ناحيته:
- عليّ.
نظر لها بعد أن كان ينظر لوالدتِه، التي تشير له أن الوقت تأخّر ويجب أن تذهب.
- قلب عليّ.
- أنا أحبُّكَ.
لقد قالتها أخيرًا! وقف على قدميه يمسك بيدِها، معلنًا انتهاء الحفل لتتدلّل هي، وترفض النهوض وظلّا هكذا حتى أجبرها على النهوضِ، والمضي معه للسيارةِ، ليتجه الاثنان إلى منزلِهما للبدءِ بحياةٍ جديدة معًا.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.