tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

تحت ستار الليل البهيم تسلل لبيت سيدنا ذي الكرامات كما يطلقون عليه مرتجفًا برعب من المكان المتطرف الذي يقع به البيت، لا يدور بذهنه إلا خاطر واحد "إن حدث لي مكروه ها هنا لن ينجدني أحد، ولو ظللت أستجير طوال الليل !" وأيضًا لما سيطلبه من سيدنا إن كان سعيد الحظ وسمحت له مساعدته بمقابلته اليوم.
بخطوات مترددة تقدم، وقبل أن تلمس يده الباب الخشبي ليطرقه انفتح، فسرت قشعريرة باردة على طول جسده الفارع فزعًا، لكنه كان أشد إصرارًا من أن يعود خالي الوفاض واتبع الضوء الخافت الذي ظهر أمامه من العدم كما أخبره الصوت الهامس بأذنه، وعلى حين غرة اكتسحت جسده المرتعش لَفحة سَمُوم رغم برد يناير القارس بالخارج حتى دخل غرفة منزوية لا يُضيئها إلا قبس من نار شديد الهُزال، انبعث من قصعة سوداء موضوعة أمام امرأة استقرت شمعتان في الهواء فوق رأسها، انعكس وهجهما على شعرها الأحمر ببريق غريب كأنما هو ألق من نار والتمعت عيناها الزرقاوان كأعين القطط، فهمس بفزع ما إن رآهما:
- أعوذ...
بسرعة بديهة رسمت على شفتيها المصطبغتين بالأحمر القاني أشد ابتساماتها إغواءً ومالت للأمام متعمدة إظهار زينتها من حافة ثوبها المتسعة، تتساءل في نفسها باستغراب بالغ "أيريد حقًا أن يستعيذ بالله بحضرة سيدنا وخدمه السفليين؟! لِمَ أتاه إذن هذا الأحمق؟!"
اتسعت عيناه منشدهًا بحسنها الذي لم ير مثله من قبل وتحول مسار تفكيره لسؤال وحيد تفوه به دون وعي منه:
- أجنية أنتِ، أم إنسية؟!
لم تُجب سؤاله، إنما قالت بهدوء بعدما دققت النظر لعينيه وهسهس شياطينها بأذنها:
- ما تريده خطير جدًا حمدان.
- كيـ.. كيف علمتِ باسمي، وبما أريده؟!
- سؤال يدل على ذكاء باهر. أين تحسب نفسك بالمناسبة؟
رعدة خوف سرت بجسده وهو يجيبها:
- فـ.. في دار سيدنا ذي الكرامات.
هتفت به مساعدة الساحر بغضب أضاف مسحة شيطانية على وجهها المحمر:
- لا تراوغ! هذا ما يجمل به الناس حقيقة سيدنا. في دار من أنت؟
ثم صاحت به بنفاذ صبر:
- تحدث.
- ساحر.
- أحسنت، أنت بحضرة ساحرنا الأعظم عاصم بن عامر نجل أكثر السحرة علمًا.
تلفت حمدان من حوله بحثًا عن عاصم، فقالت له:
- لن تراه، لكنه يسمعك. أستطيق ما يطلبه منك، أم تعود من حيث أتيت؟
انتفض جسده وأجابها بأحرف مرتجة:
- سأطيق.. يجب أن تكون كنوز المقبرة الملكية لي مهما كان الثمن. لن أتركها لشرف أبدًا.
تحولت عيناها لأبيض عكر وقالت بهسيس أرعبه تنفيذًا لما نقله إليها خدمها من أوامر الساحر الراغب بإخضاعه له بالكامل:
- كما تشاء.
ثم صمتت، وقال الساحر بصوت مزلزل:
- شرف هذا ما اسم والدته؟
- خضرة.
أخرج عاصم ورقة بيضاء من دفتره الصغير وكتب فيها شرف خضرة، ثم بدأ بحساب دلالة الحرف المتشابه بالاسمين لاختيار السحر المناسب وقال:
- ما الضُر الذي تريد إلحاقه به؟
- يفقد أمواله، يمرض، أي شيء، الأهم أن أسبقه بشراء المنزل الموجودة تحته المقبرة.
تخاطر عاصم مع أقوى خدمه الذي استدعى شيطانًا تحت إمرته لتنفيذ الأذى المراد بشرف، ثم قال:
- سنحتاج تيسًا قربانًا وخصلة من شعر شرف أو بعضًا من أظافره، أي شيء من أثره، وكلما ازداد خصوصية؛ ازدادت قوة السحر.
- الخادمة بقليل من المال تحضر كل ما نريده.
ثم سأل حمدان بعدما ذكر له عاصم مواصفات تفصيلة لذلك التيس:
- هل أحضره حيًا؟
- نعم.
- سأفعل.
- أتريد خاتم التوفيق؟
سأل حمدان ببلاهة:
- ها! وبماذا سيفيدني؟
- حينما تهم القيام بمشروع أو أمر ما استفت الحجر، إن تغير لونه، فمعناه خسارة أو خطر محدق.
التمعت عيناه ببريق الطمع وقال للساحر:
- بالطبع أريده.
- ثلثي ما حوته المقبرة لي.
- مو...
غص حمدان ببقية أحرف كلمته بعدما تابع عاصم حديثه قائلًا:
- وسنحتاج لطفل زوهري.
- طفل؟! لِمَ؟
- ستنحر عنقه بنفسك ليُقدم قربانًا، وبتعاويذي ودمائه سيدعك حراس المقبرة تدخلها آمنًا.
هتف حمدان بهذيان بعدما هب واقفًا وقد تجسدت صورة الصغير المغدور أمام عينيه:
- لا، لا أريد. لم أعد أرغب بتلك المقبرة اللعينة، سأكتفي بالخاتم. كم ثمنه؟
- ثلاثون ألفًا. حرر الشيك لحامله.
ذَيَّل حمدون الشيك بتوقيعه الذي جاهد ليتحكم بارتعاشة يده أثناء كتابته كي لا يفسد خطه، ثم أعطاه لعاصم الذي قال بعدما منحه الخاتم:
- ارتده بسبابتك، وانصرف قبل أن يحل عليك غضبي.
ثم أمر أحد خدمه بشل حركته قرب باب الغرفة وقال بتوعد إمعانًا في إثارة رعبه:
- إن ذهبت لغيري؛ ستروى المقبرة بدمائك أولًا.
وعندما انصرف سألت مساعدته بعجب:
- لِمَ فعلت ذلك عاصم؟! لولا قولك أنه من سينحر الطفل؛ لاستجاب لكل ما أردت.
- هو نفذ ما أردته بالفعل.
ثم أضاف بنفس الغموض الذي لم تنجح في سبر أغواره يومًا رغم طول عشرتهما:
- ما تريدينه أنتِ أيضًا مِيرِيسَّا شديد الوبال، فاحذري!
***
مع إطلالة الشمس بأول أشعتها الذهبية الدافئة أنهت رواء ارتداء ملابسها في عجلة وقالت لزوجها:
- من فضلك زياد أوصلني بطريقك، سيارتي بمركز الصيانة.
- حسنٌ، هيا بنا.
وصلت لمقر عملها بابتسامة بشوشة حَيَّت بها الممرضة التي استوقفتها أمام غرفة السيدة أحلام لتعلمها بآخر أخبار مريضتها العنيدة التي دخلت لها رواء بعد هنيهة متسائلة بعتاب:
- أبلغتني منال أنكِ رفضتِ تناول إفطاركِ كما فعلتِ مع عشاء البارحة، أهذا ما اتفقنا عليه؟
أغرقت الدموع وجه أحلام الذي لازال محتفظًا بجمال ملامحه الناعمة على الرغم من تغضنه والحزن العميق الذي سكنه وقالت ببكاء أوجع قلب رواء:
- لم يعد للحياة طعم بعد فراق ابنتي وحفيدي، قتلها بقلبي شوقي لهما.
انصب تركيز رواء لا إراديًا على طيف الشابة التي جاورت مريضتها محتضنة طفلها بقوة تتشمم عنقه باكية، لكنها ما لبث أن أخفضت نظراتها وأكملت حديثها قائلة بصورة طبيعية بعدما تصادمت نظراتها مع نظرات الشابة التي غمرتها الدهشة:
- أنتِ تحبين التحدث عنها وأنا سأستمع لكِ.
سألتها أحلام بلهفة:
- أحقًا ستفعلين؟
- نعم، لكن يجب أن تأكلي أولًا.
- لا أريد، صدقيني أشعر للطعام غصة تسد حلقي.
- أعلم أنه قاسٍ عليكِ ما حدث لابنتكِ، لكن هل ستكون سعيدة وهي تراكِ معذبة؟!
ثم صمتت قليلًا وسألتها آملة أن توافقها:
- ما رأيكِ أن أطعمكِ بيَدي كما كانت تفعل رحمها الله؟
ابتسامة شاحبة ارتسمت على شفتيها المتشققتين، ثم هزت رأسها موافقة وقالت بشرود:
- كانت ملائكية، نفحة من السعادة وهبها لي الله لتضيء حياتي.
وابتلعت بصعوبة ملعقة الزبادي التي أطعمتها رواء إياها، ثم تابعت حديثها بحنين:
- كانت كنسمة ندية تزرع البهجة أينما حلت. صفاء كان لها من اسمها النصيب الأكبر.
- أأنتِ من سميتها؟
- نعم، أتعلمين لازلت أذكر بسمتها المطمئنة بيومها الأول بالمدرسة، الحماس الذي التمع بِبُنِيَتَيَّها، ليالي السهر الطويلة بالثانوية العامة.
تنهدت بشوق تغترف من تلك الذكريات زادًا لها يُعينها حتى تلقى ابنتها، ثم تابعت مغمضة العينين كأن طيف ابنتها يُؤنسها:
- السعادة التي أضاءت وجهها حينما تخرجت بتفوق في كلية الألسن كما طَمحت وصديقاتها اللاتي التففن من حولها.
وعلى ذكر صديقاتها اسودت ملامحها من شدة الغضب، ثم قالت ببغض خالص:
- كلهن أحببنها إلا تلك الحرباء المتلونة!
قطع استرسالها في الحديث طرقات على باب الغرفة أعقبها دخول إحدى الممرضات بوجه ممتعض خاشية تكرار نزاعها اليومي مع مريضتها النكدة، لكن وجهها ما لبث أن تهلل عندما شاهدت رواء بجانبها وقد أنهت أحلام إفطارها كاملًا في سابقة من نوعها، فقالت بحبور:
- شكرًا لكِ دكتورة رواء على رعايتكِ لها.
ثم ناولتها العلبة البلاستيكية الصغيرة التي حوت الأدوية وزجاجة الماء بعدما أخذت صنية الإفطار وغادرت تحمد الله على وجود تلك الطبيبة الصبورة ضمن الطاقم الطبي المتميز لدار رعاية المسنين الفخمة التي تعمل بها، وعندما أغلقت الباب قالت أحلام بكراهية مستأنفة حديثها:
- طالما حذرتها منها، لكنها كانت طيبة القلب ولم تعِ خبث سريرة من ظنت أنها صديقتها والحقد الذي أضمرته لها.
- يا إلهي! أكانت بهذا السوء؟!
- بل أكثر بكثير. عندما رفض زوجي من نبض قلب ابنتي بحبه حثتها على التمرد وظلت توسوس لها أن تمتنع عن الطعام لتضغط عليه.
- وماذا فعلت صفاء رحمها الله؟
- لم تستجب لها، لكنها أيضًا لم تملك حكمًا على قلبها وانزوت تنعي حبًا أُجبرت على التخلي عنه طاعة لأبيها.
- وماذا فعل زوجكِ؟
- لم يجد بدًا من القبول بعدما ظللتُ أُقنعه بمدى حرص مدحت على نيل رضاه، وأيضًا لحب ابنته الشديد له.
استغربت رواء عدم زيارة أي من أفراد أسرتها لها منذ أتت لدار الرعاية وسألتها بدهشة:
- أين زوجكِ وابنكِ؟ لِمَ لا يزورانكِ؟!
تحشرج صوت أحلام وفاضت عيناها بالدموع قائلة:
- لا أدري أيجب أن أحزن على حال زوجي، أم أفرح؟!
حافظت رواء على وجه ثابت الملامح لا يعبر عما يدور بداخلها وسألتها:
- لِمَ سيدة أحلام؟
أجابتها ببقايا وعي متفلت بعدما صمتت هنيهة وقد بدأت تشعر بتأثير الدواء المُهدئ:
- لقد أصيب بالزهايمر منذ خمس سنوات... كان قلبينا أنا وابنته يتقطعان عليه، لكنني... الآن أغبطه على تلك النعمة، يا ليتني أفقد ذاكرتي مثله كي أتخلص من العذاب المرير الذي أحياه!
ربتت رواء على كتفها تواسيها، لكنها غرقت في دوامة ذكرياتها، تهذي بانهيار:
- أنا من أَلْحَحْتُ علـ... ليو...افق. سلمتها بيدي لقا...
وبسط عليهما الصمت الحزين سطوته بعدما استسلمت أحلام للنوم، إلا أن نشيجًا خافتًا جذب أنظار رواء عنوة لتلك التي لم تفارق مكان وقوفها بجانب أحلام، تهز رأسها نافية بألم وهي تهمس بكلمات عجزت عن سماعها.
***
شحب وجه مِيرِيسَّا وأضحى كوجوه الموتى بعد التحذير الذي أربك حساباتها ما إن تفوه به عاصم، وقالت له باستياء لم تتمكن من مواراته:
- لقد وعدتني أن تعلمني.
وجه سبابته إلى صدرها قائلًا بنفاذ صبر:
- وأنتِ عاهدتني أن تصبري حتى أقرر أنا الوقت المناسب لتعليمكِ.
- لماذا الانتظار؟!
أربد وجهه غضبًا، وقال لها:
- أخبرتكِ مرارًا وتكرارًا ما تريدينه يتعدى بكثير قدرة تحملكِ الحالية.
فتحت فمها لتحدثه، لكنه أوقف الكلمات بحلقها قبل أن تجادله قائلًا باستهانة:
- أعلم أنكِ تحسبين نفسكِ مستعدة، لكنكِ مخطئة.
ثم أصبح حديثه التحذيري أشد صرامة وهو يقول لها:
- اكتفي بما تفعلينه بناصر وإلا...
ابيض وجهها تمامًا وقد غادرته دماء الحياة، ثم سألته بتلعثم:
- أخبروك رغم مشاغلك؟!
مال بجسده مقربًا وجهه من خاصتها قائلًا بزهو:
- لا توجد شاردة ولا واردة لا يعلموني بها ميريسا كي تبقى الأمور تحت سيطرتي ولا يفلت زمامها من يدي.
وأضاف بهدوء شديد تعلم جيدًا ماذا أخفى خلفه من تهديد لها:
- الهي بدميتكِ كما يحلو لكِ، لكن لا تتطلعي لما يفوق هذا حتى أقرر أنا. أفهمتِ؟
نكست رأسها بخنوع تتقي شر غضبته وقالت بهدوء:
- فهمت.
بدل عاصم موضوع حوارهما متسائلًا رغم علمه بالإجابة إلا أنه أراد تذكيرها بما فعله لأجلها:
- لماذا اخترتِ هذا العقاب بالذات؟
أحكمت ذكرى خروجها من بيت زوجها منذ سنوات مطرودة وثاقها على عقلها بعدما أخبر ناصر أخيه بما تضعه له من سائل أسود كريه الرائحة بطعامه، ولم يكتف بالقول فقط، بل أراه وهي تفعلها. ما زالت تتذكر وقفتها المصدومة بوجودهما معها بالمطبخ ممسكة بالزجاجة التي حوت السحر بين أصابعها المرتجفة، تبحث عن حجة تنقذها بعقلها الذي خذلها عندما هتف بها زوجها متسائلًا بحدة:
- ماذا وضعتِ بطعامي؟
لم تجد سوى تبرير واهٍ همست به بخفوت رغمًا عنها لشدة جفاف حلقها:
- بعض.. الفيتامينات.
سألها ناصر بتهكم:
- أي فيتامينات ذات الرائحة العفنة هذه؟!
ابتلعت ريقها الجاف بعناء، ثم همست متلعثمة:
- لا أذكر اسمها... وصفها الطبيب بالمرة الماضية.
دار من حولها بريبة حرص على إظهارها لأخيه الذي احتلت عينيه نظرات شك، ثم قال:
- غريب أمركِ! لم يعتد منكِ أخي هذا الاهتمام بأدويته، دائمًا أمي من تتابع مواعيدها، أما أنتِ فإما تتسوقين، أو تلهين بالنادي.
همست بندم أجادت رسمه على ملامحها أثناء مسحها لدمعات زائفات سالت على وجهها المحمر غيظًا:
- اكتشفت خطئي وقررت إصلاحه كما نصحتني والدتكما...
ثم أضافت بمسكنة ناظرة لعيني زوجها:
- كي أكون الزوجة الجيدة التي يستحقها حبيبي أمير.
لان وجه زوجها تأثرًا بدموعها وبالانكسار في صوتها، وشعر ناصر أن الأمر بدأ يُفلت من بين يديه وأن هذه الأفعى ستنتصر ككل مرة، فقال لها بخبث يُهادنها:
- لا تحزني زوجة أخي، لا بد أنني مخطئ.
لمعة انتصار تلألأت بعينيها ما لبثت أن انطفأت حينما تابع ناصر:
- أعطيني زجاجة الدواء كي أجعل الطبيب يبدله بأخر أفضل منه.
ثم جذب الزجاجة من يدها بعنف عندما شحب وجهها وقبضت أصابعها عليها بقوة قائلًا لها بسخرية:
- ما أمهركِ! كدت أصدقكِ وأكذب عيناي، لكن ردة فعلكِ المتطرفة فضحتكِ.
ثم التفت إلى أخيه قائلًا برجاء:
- لا تصدقها، هي تسممك وتحليل المعمل سيثبت لك.
نزعت عنها قناعها وقالت بكبر طالما كان رداؤها بعدما تيقنت أن معركتها خاسرة، وقد سئمت تملق زوجها العجوز الذي كرهته وأخيه البغيض بقدر شوقها لحبيبها الوحيد:
- لم يكن سُمًا، بل سِحرًا.
حاول زوجها تخطي الصدمة التي نُقشت آثارها على وجهه المصفر، ثم هتف بحنق:
- اجمعي ملابسكِ وفارقينا. من اليوم أنا أرمل، وأثير ماتت أمها.
انهار تماسكها بعدما فاجأها زوجها بما لم يخطر لها ببالٍ وقالت بغضب:
- لا، ابنتي خط أحمر. بأي حق تمنعني عن زيارتها؟ أخبرها أننا تطلقنا.
- بل بموتكِ وإلا أسلمكِ للشرطة والدليل بقبضة أخي إن اتضح أنه سحرًا بدلته بسُمٍ.
فرت من بين جفنيها دموعًا حقيقة هذه المرة أغرقت وجهها وانحنت على ركبتيها بذل تقبل يديه قائلة:
- أرجوك دعني أراها بوجودك!
وحينما لم تلحظ أي تأثير لكلماتها عليه أو لخضوعها بين يديه سألته بحرقة:
- كيف يطاوعك قلبك على حرمان طفلة في الثانية عشر من أمها؟
لم يرف له جفن، بل قال بقسوة لم تعتدها منه حاسمًا أمرهما:
- ما لدي قلته، لا فائدة مما تحاولين فعله. أنتِ غير مؤتمنة عليها. فراقكما أفضل لها.
نفضت بجبروت عن عقلها ذكراها الأليمة ووجهت أفكارها إجباريًا للتركيز على انتصارها الغالي الذي صبرت لأجل تحقيقه ست سنوات كاملة. ست سنوات أهدرتها من عمرها لتعلم أصول علم السحر فقط لأجل اللحظة التي ترى فيها بعينيها عذاب ناصر على يديها، ثم أجابت عاصم بحقد تغلغل عميقًا بقلبها على ناصر بعدما نجا زوجها مما حاكته له بمخيلتها من نوازل حينما فاجأته نوبة قلبية حادة، فقد حياته على إثرها بعد أسبوع من رحيلها أنهى فيه أوراق الوصاية على ابنته، وكذلك أوصى بكل ما يخصه من أملاك العائلة إلى أخيه، تسترجع خططتها المُحكمة لمستقبلها التي خرباها لها وصغيرتها التي حرماها منها:
- لم يشفِ بعضًا من غَلِيلي إلا شقائه بالهلاوس التي أصبحت لا تفارق صحوه، والكوابيس التي أزعجت منامه.
- احذري ميريسا أن ينقلب سحركِ عليكِ! أنتِ لم تتقني التحكم بخيوطه كاملة بعد.
وأضمر في نفسه أنه سيدعها تجرب لترى بعينيها مغبة تمردها ما دام بإمكانه احتواء أضرار عبثها.
***
تمطت رواء بكسل بعدما أنهت يوم عملها المرهق، ثم جذبت حقيبتها في عجلة كي لا تتأخر على زياد الذي لا ريب ينتظرها بالأسفل منذ نصف ساعة على الأقل، وقالت ما إن جلست بسيارته:
- آسفة حبيبي. أرادني المدير بأمر هام ولم أتمكن من الانصراف إلى أن وجدت حلًا للمشكلة التي واجهت الطاقم الطبي صباحًا.
ربت على كف يدها المستريح فوق فخذه أثناء قيادته بشوارع العاصمة المزدحمة نسبيًا في هذا الوقت من الليل قائلًا:
- لا عليكِ، فخور بكِ بشدة. هذا الحماس الذي عاد يسكن عينيكِ هو كل ما أرجو.
مر الطريق الطويل إلى بيتهما بسرعة بعدما غرقت رواء بالنوم على كتف زوجها من شدة التعب، إلا أن الهدوء الحميمي السائد تبددت هالته عندما صاحت وهي تتحرك بعنف أثار فزع زياد الذي جاهد ليستعيد السيطرة على مقود سيارته قبل أن يتوقف بها على جانب الطريق، ثم ربت على كتف زوجته التي صرخت بهستيرية باكية:
- لا أسمع ما تقولين أقسم لكِ، لِمَ تفعلين بي هذا؟! لِمَ؟!
- رواء، اهدئي... افتحي عينيكِ، لا تدعي كابوسكِ يسيطر عليكِ.
ضمت نفسها إليه ما أن أبصرت عينيه القلقتين تطمئنه وتدثر نفسها الوجلة بأمان احتوائه، ثم قالت بهمس من بين أنفاسها المضطربة:
- بشع زياد، ما رأيته بشع جدًا.
مسح على رأسها يهدئها، ثم سألها بقلق:
- ماذا رأيتِ؟
- نفس المرأة ذات الثوب الذي تتقاطر منه الدماء، لكنها اقتربت مني كثيرًا حاملة طفلها...
لم تتمالك نفسها، وغلبتها شهقات بكائها حينما قالت:
- الذي تحول لرماد تفتت زياد وملأ غباره عيني.
رغم إشفاقه عليها مما ينتابها من كوابيس مروعة؛ كان عقله يفكر في أمر أخر بالغ الأهمية، وسألها:
- هل تغير شيء أخر؟
رفعت رأسها عن صدره ناظرة لعينيه وقد زاد من إنهاكها التوجس الذي توشحه سؤاله إضافة للصداع النصفي الذي هاجمها بشراسة، ثم أجابته بخفوت:
- نعم، أرتني طريقًا لبيت ما، وظلت تصرخ بحرقة أمامه بكلمات لم أسمعها إلا بنهاية الحلم.
التفت لها بكامل جسده وسألها بلهفة متوقعًا إيجاد حل لألغاز حلمها مستعصي الفهم:
- ماذا قالت؟
- لا أذكر، لا أذكر.
ثم انتحبت بقلة حيلة هاتفة:
- لقد تعبت. أنا أكاد أجن زياد. لا أدري لِمَ أنا! أو حتى ماذا تريد مني لتتركني بسلام.
- اذكري الله حبيبتي، كل شيء سيصبح بخير.
- متى زياد؟ لم يعد لدي مقدرة لتحمل كل هذا.
ضمها إلى صدره، وقال لها بأمل لازال يتشبث به بكل قوته رغم ما يحدث لهما:
- قريبًا رواء، فقط اصبري لعل الله يُحدث بعد ذلك أمرًا!
- أريد أن نذهب إلى ذلك البيت عسى أن نجد الحل فيه!
- لا رواء، لن نذهب. ما تطلبينه غير منطقي بالمرة.
صاحت به بقنوط:
- وأي مما أحياه منطقي؟!
أخفضت صوتها عندما لاحظت الضيق الذي ارتسم على وجهه، ثم قالت بهدوء:
- وافق لأجلي... أرجوك!
أوجعت قلبه كلماتها الراجية، لكنه قال بإصرار:
- لا رواء، لن أستطيع مطاوعتكِ في هذا.
فضلت تأجيل الحوار لوقت آخر وتعكزت على عضده القوي باستسلام وهما يصعدان لبيتهما، ثم انضمت له بالفراش منهكة وسقطت بنوم عميق رأت نفسها فيه سائرة بمنتصف قنطرة شديدة الضيق أسفلها هوة مليئة بأفاعٍ فاغرة الأفواه توازنت فوقها بصعوبة، وعن يسارها قطة سوداء الفراء غمرت قلبها الرهبة ما إن وقعت عيناها على لونها المُقبِض الذي ناقض البياض الناصع للقطة الوديعة التي وفقت عن يمينها، كلتاهما تموءان بأنين صاخب تريدان منها أن تنقذهما، وما إن مدت يديها للبيضاء وحملتها حتى تحولت لطفل جميل ذو رائحة مسكية ابتسم لها بحلاوة، ثم همس بأذنها:
- أنقذي أبي.
عندها قوست القطة السوداء ظهرها متحفزة، ثم نظرت لها ببغض قطر من عينيها الزرقاوين قبل أن تنقض عليها بشراسة.
****
سحابة من البخور الكثيف غمرت أرجاء الغرفة الصغيرة الخالية إلا من منضدة أرضية تشقق خشبها، وُضعت فوقها قصعة شديدة السواد فاحت منها رائحة منفرة ومسند قماشي جلست عليه ميريسا التي تمتمت بإحدى التعويذات التي أجادت التحكم بالموكل بها الذي ما إن حضر حتى سألته بلهفة:
- كيف حالها؟
لم تدرِ لما شعرت بانقباضة بقلبها عندما هسهس خادمها:
- سأُريكيها.
لكنها علمت عندما أبصرت ناصر يتحسس جسد صغيرتها الذي بدأت الأنوثة تترك بصمة حُسنها عليه منغمسًا بإحدى نوبات هلوساته، ثم سألها بتلعثم وقد خُيل إليه أنها ميريسا معشوقته:
- لِمَ اخترته هو؟
وبصوت لم تسمع يومًا بمثل بؤسه ولا بهذه الكراهية التي حملها همس لابنتها:
- لِمَ ترفعتِ عن حبي وفضلتِ أخي الذي لم يعشقكِ يومًا كما عشقتكِ أنا، بل وركعتِ ذلًا بين يديه؟!
ورغم اشمئزازها مما يفعله بصغيرتها، إلا أن ما قصم قلبها حقًا هو الفزع الشديد الذي ارتسم على وجه فتاتها حينما استيقظت وأبصرت عمها بهذا القرب منها وقد أوشك أن يلثم شفتيها مغيبًا، ثم ندائها المرتعب منتفضة هلعًا:
- أبي، أمي، أنقذاني.
فاضت الدموع من عينيها بحسرة بعدما عادتا لشكلهما الطبيعي، وظلت تدور بالغرفة كلبؤة شرسة عبث ضبع نتن بصغيرتها وقد احتجزتها أسوار البعد عن نجدة وحيدتها من بين براثنه. لم تملك إلا أن تشاهد مغبة انتقامها الذي ذاقت مرار حنظله بما يُفعل بابنتها رغمًا عنها، ودون وعي منها ندت عن شفتيها صرخة ألم كادت الجدران ترتج لها، ثم سقطت أرضًا تنتحب بحرقة عاجزة عن إيجاد طريقة لإنقاذ ابنتها خاصة أن عاصم بخلوته وهي لن تستطيع مهما أوتيت من قوة مجرد اقتراب من باب غرفته المحروسة بمردة الشياطين، وبينما هي شاردة في حال صغيرتها المسكينة؛ فاجأتها طرقات واهنة شعرت من وقعها على الباب كم مرتبك صاحبها أو صاحبتها، فحاولت استعادة سيطرتها على نفسها، وما إن أبصرت المرأة مغبرة الثوب التي أتتها حاملة ابنتها، ثم جلست بارتجاف شديد أمامها وقد تجسد الشقاء على وجهها الذي أخفضت هامته وشفتيها المرتعشتين حتى شعرت بالشفقة على حالها خاصة عندما قالت من بين شهقات بكائها الحارة وهي تضم ابنتها النحيلة إلى صدرها:
- أنقذي ابنتي. لقد أوشكت أن تخنق أخاها الذي حاول إيقاظها من نومها المضطرب وأبعدناها عنه بصعوبة، فزامت بصوت غليظ.
لم تستطع إكمال حديثها وانفرطت دمعات ثخينات من عينيها الذابلتين بعدما تذكرت التشنجات العنيفة التي أصابت ابنتها عقب تخليصهم لأخيها من بين يديها، لكنها حاولت التماسك وقالت برهبة بعدما كفكفت دموعها بكُمِّ عباءتها المهترئة:
- ثم سقطت أرضًا شاحبة الوجه.
أسندت ابنتها الذاهلة إلى المنضدة، وهبت واقفة من جلستها المنكسرة، ثم قبلت يدي ميريسا قائلة:
- ليس لي سواكِ. أرجوكِ خلصيها ببركة كراماتكِ! وسأكون خادمتكِ.
سحبت ميريسا كفها من بين يدي المرأة وربتت على كتفها بتعاطف حقيقي بعدما رأت في معاناتها انعكاسًا لتمزق قلبها على حال ابنتها، ثم قالت:
- لا تخافي. ستكون بخير.
وألقت مزيدًا من البخور حتى تشوشت صورتها بأعينهما، ثم همست بآيات من القرآن الكريم علمها إياها عاصم خاصة مع أولئك الذين يؤمنون بكونه ومساعدته من أولياء الله الصالحين، وأتبعتها بكلمات لم تفهما منها شيئًا، فتجسد رجل عظيم الطول ضخم البنية خلف الفتاة مباشرة لم يَرينْ أقبح منه وجهًا، ارتدى السواد من رأسه لأخمص قدميه، ذو كفين غزيرتي الشعر معقوفتي الأظافر قال بنبرة شديدة الخشونة انتفضت لها قلوبهن:
- لن أفارق جسدها. هي من أغرتني بامتلاكه. لطالما تمايلت بانتشاء أمام المرآة مزهوة بجمال جسدها النضر.
ومس رقبة الفتاة التي اختض جسدها وخرج الزبد من جانب فمها كأنها تفارق الحياة بهذه اللحظة، ثم هبط بيده لأسفل ببطء مسرورًا بأذيتها وقد تركت أظافره الحادة خدوشًا على طول عنقها وهي تتخبط بالطاولة الخشبية أثناء حركتها العشوائية، ثم هتف بكبر يتحدى ميريسا التي لم تتوقف شفتاها عن التمتمة:
- لا سلطة لكِ علي. خادمكِ أضعف من أن يقف بحضرتي، وأنتِ لا تسوين دونه.
واختفى عن أعينهن المذهولة، ثم ظهر بهيئة مروعة لميريسا التي فقدت الوعي من شدة الرعب، ثم أفاقت في غضون دقائق مكدودة الجسد باردته بعدما انصرفت المرأة وابنتها وجلتان مما شاهدتاه، وبقهر أشد مما كانت عليه قبل أن تدخلا عليها أسندت ظهرها للحائط، وعادت أفكارها تجنح نحو ابنتها المسكينة التي حصدت ويلات ما زرعت بعدما خذلها عقلها الذي خلى من أي فكرة قد تساعدها على إنقاذها، تتخطفها أمواج الحيرة "تُرى هل يجب أن تذهب لناصر لتكف أذاه عن ابنتها، أم يجب أن تتشبث بمن سخرته لأجل حمايتها؟" وسرعان ما زاحم هذا الخاطر وسوسة حِيكت بأعماق نفسها "ماذا سيحدث بعد ذهابكِ؟ ناصر على الرغم من كل مساوئه لا يجرؤ على مجرد التفكير بعصيان أمه التي أضحت لا تطيق سماع اسمكِ بعدما أخبرها أمير بكل شيء لتساعد أخيه على التصدي لكِ إن حاولتِ العودة مرة أخرى".
***
فتحت رواء عينيها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة جذلى تستبشر خيرًا رغم غرابة حلمها بعدما أصغت السمع لأذان الفجر الذي أفاقت على صوت ندائه، ثم أيقظت زياد قائلة بسعادة:
- لقد تذكرت. أخبرتني المرأة بالأمس أن أُظهر الحقيقة وستفارق أحلامي.
سألها بتيه عندما عجز ذهنه الذي لم يستفق تمامًا من سطوة النوم عن فهم ما تقوله:
- ماذا؟! عن أي حقيقة تتحدثين؟
- انتبه لي أرجوك! يجب أن تدعني أذهب إلى ذلك البيت الذي حدثتك عنه البارحة بالله عليك.
- ما الذي جد لتطلبي بهذا الإلحاح رواء؟
- لقد رأيت رؤية لطفل المرأة الذي تحول لرماد بالأمس رجاني فيها أن أساعد أمه، وأنقذني من قط أسود وأفعى هاجمتني من الخلف.
ثم قصت عليه تفاصيل ما رأت بمنامها وتابعت قائلة:
- عندما استيقظت تذكرت ما هتفت به أمه بلوعة أمام البيت الذي أرتني إياه.
صمتت تلتقط أنفاسها اللاهثة، وقالت بخفوت بعدما ضغطت بخفة على كفه:
- أرجوك وافق! أشعر أنني لن أرتاح إلا إن ساعدتهما.
- اتركيني أفكر رواء، فما حواه حلمكِ من تحذيرات يجب أن تؤخذ في الحسبان.
سألته باستغراب شديد:
- عن أي تحذيرات تتحدث؟
انتبه من شروده العميق بما حواه الحلم من رموز، ثم أجابها:
- تلك القطة السوداء رواء تعني إيذاءً أو أمرًا شريرًا يُراد بكِ، والأفعى التي هاجمتكِ كل هذا غير مطمئن بالمرة رغم إنقاذ الطفل لكِ.
عادت بانتباهها لأرض الواقع حينما صدح هاتفها بالرنين بعدما غرقت في التفكير بما فسره لها زياد من دلالات حلمها قبل عودته للنوم، وفاجأها الفزع الذي صبغ صوت منال وهي تخبرها:
- السيدة أحلام أصابتها حالة هياج لم يتمكن معها أي من الطاقم الطبي أو حتى ابنها نفسه من الاقتراب منها، كما أنها لا تتوقف عن طلبكِ.
- ابنها؟! لِمَ حضر مبكرًا هكذا؟
- يريد أن يُخرج والدته من المركز ويعود بها إلى منزله.
- نصف ساعة وسآتيكِ. أخبريها أنني قادمة، وأخرجي ابنها من غرفتها وإن تطلب الأمر استدعاء الأمن له.
حمدت الله في نفسها أثناء ارتدائها ملابسها أن سيارتها قد أُصلحت وجلبها زياد بالأمس، وهكذا لن تُضطر لإيقاظه مبكرًا جدًا عن موعد ذهابه لعمله الذي يتطلب جُلَّ تركيزه ولياقته الذهنية، وما إن وصلت للمركز حتى توجهت لغرفة أحلام التي هتفت بلوعة حينما رأتها:
- لا تدعيه يأخذني، أرجوكِ.
- لا تخافي سيدتي، لن يحدث إلا ما تريدين.
- أتعدينني أنكِ لن تتخلي عني؟
تبسمت رواء بوجهها على الرغم من اضطرابها وقالت بصدق:
- أعدكِ. لن يحدث شيء رغمًا عنكِ.
وربتت بحنو على ظهر أحلام التي ما لبثت أن غرقت بنوبة بكاء تقطعت لها أنفاسها حتى سرى مفعول المهدئ الذي حقنتها به وارتخى جسدها، ثم سألت منال الواقفة بجانبها:
- أين ابنها؟
- ينتظركِ دكتورة أمام مكتبكِ كما أمرتِ.
- لا تفارقي غرفتها، وعندما تفيق أرسلي لي إحدى الممرضات لتخبرني.
ذهبت لمكتبها تشتعل غضبًا من ذلك المتهور الذي أوصل والدته لهذه الحالة بالغة السوء تتوعده في نفسها، لكنه لم يمنحها رفاهية البدء بالحديث، بل بادرها بخوف استشعرته جليًا بصوته الأجش وهو يسألها بلهفة:
- هل أمي بخير؟
أجابته بهدوء متحكمة بالغضب العاصف بنفسها تقديرًا لحالته المختلفة تمامًا عما توقعت:
- بخير الحمد لله.
تنفس الشاب الصعداء براحة أطلت من عينيه اللتين اختلفت نظرتهما من الذعر الشديد للاطمئنان ما أن تفوهت بكلماتها هذه، وأزاح العصا التي يستند إليها ولم تنتبه لها رواء إلا الآن، ثم قال بحرج بعدما تهالك جالسًا على المقعد المواجه لها:
- عذرًا، لن أستطيع الوقوف أكثر.
ثم ما لبث أن قال بعد بضع ثوانٍ من الصمت الثقيل:
- أعلم أن هناك مئات الأسئلة تدور بذهنكِ وتريدين إجابات لها دكتورة رواء.
فتحت باب غرفة مكتبها، وقالت بلباقة:
- تفضل كي نتحدث دون مقاطعة سيد؟
أجابها بذهن شارد:
- هاشم.
ثم قام من جلسته بتمهل وقد نُقش على وجهه ألم بالغ حاول جهده إخفائه، لكن عينيها دقيقتي الملاحظة التقطته، فأبطأت من مشيتها مراعاة له، وقالت بعدما جلست على كرسيها وقدمت له كوبًا من الماء:
- تفضل.
تناول هاشم دواءً له، ثم قال بتوتر شديد:
- كنت شابًا مستهترًا...
ثم صمت وفهمت رواء أنها أمام مريض يريد الخلاص لنفسه، لكنه ما زال عاجزًا عن البوح، فقالت بهدوء بعد بضع ثوانٍ تركته فيهن يستجمع نفسه:
- لكن من الجلي لي أنك تغيرت.
رفع رأسه الذي كان قد نكسه دون وعي منه وسألها كغريق تمسك بكل ما أوتي من قوة بلوح خشبي ساقه الله إليه:
- لِمَ تقولين هذا؟
- هذا ما لاحظته بوضوح، لكن انطباعي لا يهم، الأهم ماذا ترى أنت؟
صمت يفكر بعمق وكأنه يحل أحجية استعصى حلها على ذهنه المشوش، ثم قال:
- أحيانًا أشعر أنني تغيرت حقًا... وأوقات أخرى أشعر أنني بت أشد سوءًا مما كنت عليه.
- لماذا تشعر بالسوء من نفسك؟
حاول التهرب من إجابتها وسألها مبدلًا الحوار:
- ألن أعطلكِ عن مرضاكِ؟
- لا تقلق أمامي ساعة كاملة قبل موعد تفقد أول مرضاي اليوم.
ثم ما لبثت أن سألته:
- كيف عرفت أنني طبيبة والدتك؟
- كنت أقف بالزاوية أتطلع لرؤية تلك التي طلبتها أمي بهذه اللهفة، تستنجد بها من ابنها الوحيد، وكانت الممرضة قد ذكرت من قبل أنها ستتصل بطبيبتها النفسية.
حزنًا عميقًا سكن حدقتي عينيه لمحته رواء قبل أن يُبعد نظراته عن وجهها ويتطلع للأفق عبر النافذة المطلة على حديقة المركز من خلفها قائلًا بشرود:
- أعلم أنها محقة في خوفها، لكنه مزق قلبي رغم هذا.
ثم أضاف بسخرية من نفسه وبإحساس مدمر بالذنب:
- وكيف لها أن تطمئن لمن كان سببًا مباشرًا بضياع أبيه؟!
***
لم تجد ميريسا بدًا بعد طول تفكير من الاستعانة بتعويذة "الكالا" لنجدة ابنتها بعدما سُدت بوجهها كل الطرق الأخرى رغم نهي عاصم الشديد لها عن إجرائها بمفردها، لكن حياة صغيرتها الغالية على المحك وهي على أتم الاستعداد للتضحية بكل شيء لأجل سلامتها. بأرجل هلامية ذهبت لمكتبة عاصم العتيقة، ثم مدت يدًا مرتعشة لكتاب بعينه أراها إياه من قبل حينما بدأ بتعليمها أساسيات تحضير "جِيلاجياش" الموكلة بتعويذة "الكالا" لتحقيق رغبات مُرِيداته، لكنها أعادته إلى مكانه برهبة، وقررت انتظار عاصم والاكتفاء مؤقتًا باستخدام تعويذة أخرى أقل قوة، إلا أنها أجادت استخدامها. بدأت بانتقاء العظام التي تحتاج إليها من أحد الرفوف الخشبية وانتقلت إلى الجانب الآخر منه لتأخذ بعضًا من أقمشة الأكفان المتحللة، ثم عادت لمجلسها الأرضي أمام القصعة السوداء التي أزكت النيران بجوفها بعدما وضعت كل ما جمعته ببوتقة نحاسية صغيرة مررتها فوق ألسنة اللهب المحمر متمتمة، وما إن انتهت حتى همست ببغض:
- اللعنة عليك ناصر!
وحشت ما بالبوتقة داخل شريحة لحم نيئة، ثم أطعمتها لكلب قيده عاصم إلى الحائط الرمادي متقشر الطلاء بسلسلة غليظة منذ أسبوع، وحررت السلسلة من الجدار بعدما خاطت فمه على الحجاب الموضوع بجوفه دون تأثر بدموع الحيوان المشلول الذي استوطن جسده أحد خدمها، وخاطبته بجمود كأنما قد أصابها مس من جنون:
- أعلم ألا ذنب لك بما أفعل، لكني مجبرة مثلك تمامًا.
ثم اصطحبته للمقابر القديمة القريبة من البيت، وإمعانًا في الحيطة والحذر كسرت قدمه الأمامية والأخرى الخلفية المعاكسة لها في الاتجاه كي لا يستطيع نجاة، وغادرت تجر قدميها بإنهاك حتى وصلت للبيت تشعر بألم صاعق بكامل جسدها المكدود.
***
رضخ زياد لإلحاح زوجته بعد استخارة الله عدة مرات كان آخرها بالأمس، واستيقظ عازمًا على مصاحبتها للبيت الذي رأته بحلمها، لكن ما إن فُتحت البوابة الخشبية متساقطة الطلاء بصوت صرير مفصلاتها الصدئة المزعج حينما لمستها رواء بيدها المرتعشة حتى عادت هواجسه لبسط سلطانها عليه، وبالرغم من الرهبة التي استعمرت قلب رواء، إلا أن يده القابضة على كفها البارد طمأنتها، فوطأت بأقدام مرتجفة أغصان الأشجار الجافة التي فرشت ما كانت يومًا حديقة غناء قبل أن تعبث بها يد الإهمال إلى أن وصلت لباب المنزل الذي ناقض الحديقة بطلائه اللامع ورفعت يدها تطرقه، لكنه فُتح ما إن لمسته، فوفقت هنيهة أمام المنزل يمنعها خوفها الشديد من ولوجه وتدفعها رغبة قوية بسبر أغواره إلى أن أفاقت من الحرب المحتدمة بين جنباتها على صوت زياد الرخيم الذي غمرها بالأمان، يقول بحنان أمدها بشجاعة لحظية:
- تقدمي رِواء، ولا تخشي شيئًا. أنا معكِ لعل تلك الغمة التي نغصت عليكِ حياتكِ تنجلي حبيبتي!
وبالرغم من أجراس التحذير التي صدحت بعقلها حينما مدت يدها أخيرًا نحو مقبض الباب حاسمة أمرها بعد طول تردد، إلا أنها مضت قدمًا، وما إن خطت أولى خطواتها الواهنة داخل باحة المنزل الداخلية حتى أُغلق الباب بعنف زلزل ثباتها الواهي فاصلًا بينها وبين زوجها الذي ظلت تناديه ولم تجد منه استجابة، فزادها صمته المريب هذا قلقًا، لكن تَحَوُل المنزل المُقبض أمام عينيها المتسعتين ذعرًا لأخر نابضًا بالدفء والحياة اجتذبها لجوفه جعلها تتقدم بذهول تستكشف أرجائه، ثم لفت نظرها صوت الشجار المحتدم بالطابق الثاني، وعلى الرغم من خوفها تغلب فضولها وصعدت أولى درجات السلم الحلزوني مدفوعة برغبة متعطشة لمعرفة ماذا يحدث حتى أبصرت بمنتصفه امرأة شابة تتبادل الصراخ مع رجل تبدو ملامحه الوسيمة المقابلة لها للوهلة الأولى مألوفة لديها بشدة، لكنها لا تذكر متى أو أين رأته من قبل، ورغم أنها لم تتمكن بعد من رؤية وجه المرأة التي حملت شمعة كاد لهبها ينطفئ من فرط سرعة حركتها في ذلك الجانب المظلم من السلم، إلا أنها استشعرت لهيب غضبها العارم، ورأتها تلتفت للرجل الذي تبعها مراضيًا لها هاتفة به بخيبة أمل:
- أهذا ظنك بي؟! أتصدق حقًا أنني قد أضر بطفلي؟
هبطت رواء الدرجات القليلة التي صعدتها، واختبأت منهما خلف عمود مزخرف تنتفض نبضات خافقها فزعًا وقد غمرتها الشفقة على حال الرجل بعدما غضَّن الندم ملامحه وكست وجهه مسحة من حزن عميق، يسحب الكلمات سحبًا، لا يطاوعه لسانه على النطق بها:
- ستفعلين دون قصد؛ إن لم تتمي علاجكِ.
وقفت الشابة التي نُقشت ملامحها المتألمة بعقل رواء حيث هي ذاهلة، وتابع هو حديثه بصوت مرتجف:
- أرجوكِ استمعي لي! ستشفين وتستعيدين سعادتكِ كما كنتِ بشهور حملكِ الأولى.
زفر أنفاسه بعصبية بدت جلية على ملامح وجهه المحتقن عندما هزت رأسها نافية بأسًى، وقال بنفاذ صبر:
- الرحمة بالله عليكِ، ترفقي بي وأخبريني لِمَ تسمحين لتلك الحاقدة بتسميم أفكاركِ؟!
ثم ضرب سور السلم بقبضة يده بكل الغضب المعتمل بنفسه وقال لها بضيق:
- لقد تعبت من إصلاح كل ما تخربه بحياتنا البائسة.
صاحت به من بين دموعها المنهمرة تلون المرارة صوتها المبحوح:
- وأنا لم أعد أحتمل همزات ولمزات الجميع عليّ من خلف ظهري. أقسم لك أرهقني جحودهم، وكأن أمر مرضي بيدي.
ضمها إليه عاجزًا عن مواساتها. إن كان هو لم يسلم من نهش ألسنتهم الجارحة؛ فكيف بها وهي السبب من وجهة نظرهم البغيضة فيما يحدث لهما، لكنها تَفَلَتَتْ منه بقوة، وجرت إلى الغرفة المواجهة للمدفأة الحجرية مغلقة الباب من خلفها صامة أذنيها عن ندائه المرعوب باسمها أثناء هرولته إلى حيث ذهبت، وتبعته رواء بأرجل هلامية من فرط الرعب بعدما تذكرت أين رأتهما من قبل هامسة لنفسها بهذيان:
- مستحيل! أنا واهمة بالتأكيد.
لكن القهر بصوت الرجل وقلة الحيلة الهاربة من أسر جفنيه المنطبقين بشدة وهو يطرق الباب محدثًا زوجته برجاء لعلها تستجيب له جذبت انتباها رغمًا عنها:
- أنا مخطئ. أنتِ لن تمسي طفلنا بسوء. لن أحدثكِ ثانية عن الذهاب للطبيب.
ثم وضع كفيه على الباب وأسند إليهما رأسه متابعًا بأمل صبغ صوته الخافت:
- سنرحل من هنا ونبدأ حياتنا بمكان جديد، فقط افتحي الباب ودعيني أدخل إليكِ أميرتي.
ثوانٍ من الصمت المطبق لم يقطعه سوى أزيز الرعد بتلك الليلة العاصفة مرت على أعصابه المستنزفة كعمر كامل أعقبها صوت زوجته الخافت تسأله بهدوء:
- ألازلت أميرتك حقًا؟ ألا تراني كالجميع أمًا مشوهة الفطرة تعجز عن رعاية طفلها كما يجب؟
شهقة بكاء غافلت رواء بعدما استمعت لكلماتها التي فاضت وجعًا وخرجت ملتهبة كتمتها بكل قوتها، ثم سكنت تمامًا تستمع لرده بترقب:
- ستظلين دائمًا أميرتي وأروع أم في الكون بعيني.
عاد الصمت مجددًا، فهتف بأنين رجل أنهكته المصائب:
- لا تزيدي عذابي وافتحي الباب... أرجوكِ!
- سأفتح إن وعدتني أنك ستنتظرني عند المدفأة.
وصمتت تلتقط أنفاسها التي بدت لرواء ضعيفة جدًا، ثم تابعت بنفس الخفوت كأن صوتها قادم من أعماق بئر سحيق:
- أتوق للجلوس بين أحضانك، أراقب وهج النيران كما اعتدنا بأول زواجنا.
وعلى الرغم من غرابة طلبها، إلا أنه توجه إلى المدفأة وأشعلها، ثم وقف يراقب حبات المطر المنهمرة بغزارة على زجاج الشرفة، تُظهر له ومضات البرق أشجار الحديقة المنتفضة بردًا أثناء انتظاره لمجيئها إليه، لكن الصرخة الصادحة بالعذاب التي صدرت عنها أوقفت قلبه عن النبض لثانية التفت عقبها بجسده إليها جزعًا ومد يده ليتلقفها بعدما لمحها تتهاوى بهذه السكين المغروسة عميقًا بصدرها صارخًا بفزع:
- حبيبتي.
وأسند رأسها إلى ذراعه، ثم قال لها عقب بحثه عن هاتفه:
- اصمدي صفاء، لا تغمضي عينيكِ.
- اتركني... يا ليت قلبي يتوقف سريعًا...
التقطت أنفاسها بمشقة، ثم تابعت حديثها:
-يا ليته لا يخذلني هذه المرة أيضًا... ويتمسك بأمل واهٍ... لقد اهترأ ألمًا.
لفظت الدماء التي تجمعت بفمها وقالت بتقطع:
- دعه يستريح... واعتني بطفلنا كما لم... أُحسن أنا يومًا.
نزع السكين من موضعه وجذب مِفْرش الطاولة المجاورة لهما يكمم به جرحها بعدما فشل في الاتصال بالإسعاف، ثم قال لها:
- بل فعلتِ كل ما باستطاعتكِ لتوفري له حياة أفضل.
صرخت متأوهة، ثم رفعت كفها المرتعش إلى وجهه القريب منها ومسحت دمعة غافلته وسقطت قائلة براحة غمرت قلبها رغم الألم المشتعل بصدرها:
- لا تحزن، اخترت موتي... كي لا تمتد يدي لطفلي بسوء... كما طَلَبَتْ مني مرارًا.
ولفظت أنفاسها الأخيرة على صدره المرتج بعنف ما يعتمل بداخله هامسة:
- أنا... أحبه.
هز جسدها المرتخي على ذراعه بقوة هاتفًا بعذاب:
- أخبرتكِ ألا تغلقي عينيكِ.
نزفت روحه الثكلى دماء فقد نصفها الثاني رغم رفضه تصديق موتها، وشوش دمعه المتحجر بعينيه الرؤية أمامه أثناء محاولته الاتصال بالإسعاف ثانية ومن بعدها بالشرطة. فجأة؛ سمعت رواء صرخة امرأة فزعة وفقت خلف النافذة الزجاجية المفتوحة، وتخلل جسدها المتصلب تيار هواء بارد أغلق باب غرفة الصغير الباكي محدثًا دويًا هائلًا خطف إليه عنوة نظرات عينيها اللتين انعكس عليهما تراقص وهج النيران على طلائه الأبيض من الأعلى. نيران تسعى كأفاعٍ هائجة جمدت جسدها الساقط أرضًا من هول ما أبصرته مآقيها الباكية، وبالرغم من وهنها كافحت حتى استوت واقفة، ثم هرعت إلى الباب قبل أن تطاله بأكمله ألسنة اللهب النهمة، لكنه لم يستجب لأي من محاولاتها المستميتة لفتحه، وعكس سطحه المصقول ازدياد الحريق استعارًا حتى باتت تستمع لطقطقات الخشب المشتعل، إلا أن البكاء المرتفع الذي ما زال يصل لسمعها المتحفز من داخل الغرفة دفعها للمحاولة من جديد إلى أن فتحته. لم يمنحها الزمن رفاهية التساؤل، وأجبرها ما تلى هذا على الجري بأقصى سرعة للجانب الأبعد من الغرفة حيث أبصرت الصغير الذي أحاطت به نيران الشمعة المتشبثة بالملاءة الزرقاء لمهده ذي الستائر الحريرية، ومدت يديها لتمسك به، فاخترق كفها جسده الصغير، وتسمرت هي مكانها كجثة فاقدة للحياة، تتساقط الدموع بغزارة من تحت كفيها اللذين أخفت بهما عينيها هربًا من الصورة البشعة المزروعة تحت جفنيها لجسده الغض الذي قُدم قربانًا لجذوة النار الشرهة صارخة حتى بح صوتها:
- زياد أدركني! يا ليتني استمعت لنصيحتك! ولم تطأ قدماي هذا البيت المشئوم.
ثم التفت من حولها باحثة عمن يغيثها، لكنها لم تبصر إلا ذلك المسكين الذي حمل جسد زوجته الدامي بين ذراعيه وركض بتخبط لخارج المنزل، وبمجرد سكونها مشدوهة بما استنتجه عقلها الذي لم يُجن بعد رغم كل ما مرت به لفتها سحابة من دخان أسود، زادت أنفاسها المتحشرجة ضيقًا خلال بحثها بجنون في حقيبة يدها عن ورقة وقلم، فلم تجد سوى قلم الكحل خاصتها لتكتب به رسالة، ينبئها جهادها لتتحصل على بعض ذرات أكسجين تبقيها واعية حتى تخط تتمة رسالتها أن القادم عصيب، وعلى حين غرة ارتخت أصابعها المرتعشة عن الإمساك بالقلم وتخاذلت قدماها عن حملها، فسقطت على ركبتيها شاهقة وقد بهت وجهها وازرقت شفتاها، تسترجع أحداث اليوم السابق حينما أعدت كوبين من القهوة المُرة كما تفضل هي وزوجها وجلسا معًا يطالعان آخر قضيتين وُكِل للدفاع عن متهميهما، لكن على حين غرة انحسرت ذكرياتها عندما استمعت لنداء خافت بصوت أنثوي شجي أتاها من بعيد، صُمت عنه مع انسلال الوعي من جسدها المتهاوي.

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.