tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

توطئة :
" الهايكو" فنّ شعري شديد الاستقلالية والتميز والتفرّد !
القصيدة متنفس كل مكونٍ وظاهرة في الطبيعة ، وقد أملتها الطبيعة وكتبتها بنفسها ، ولا فضل لًاصابع الشعراء إلا في الخشوع وهي تنقل أحاسيسها .. قصيدة الهايكو سُلالة وحدها ، قصرُها ، وكثافتها ، واقتصاد حروفها وسطورها ، لا علاقة له بأي فنٍ من فنون الشعر الأخرى .. قصيدة مستقلة في تقنيتها ، وبساطتها ، وفضائها ، وطقسها اللغوي .. وبمعنى أكثر وضوحاً هي السيرة الذاتية auto biography للطبيعة ولا شيء آخر.. فلسفة الطبيعة بكل ظواهرها ومكوناتها .. وشاعر الهايكو ناسك متفرّد في ابتهالاتهِ ، معبدهُ الآمن الطبيعة ، وهو بنبيذ أحاسيسهِ ، وقصيدتهُ في طقسِها اللغويّ الكهنوتي صلاة !
و" الهايكو العربي" مغامرة شاقة – عذبة مقدّسة ، أيقونة إبداعنا الماضي أبداً في تشكيل عالمٍ ، بسحر الكلمات ، وكل قصائد الهايكو مجتمعة وليدة رحمٍ دافيء واحدٍ هو الطبيعة لا غير! لا صلة لقصيدة الهايكو العربي ، وهايكو العالم بالآيديولوجيا ، ولا بالغرام ، ولا بالنضال ، ولا بالتاريخ ، ولا بالانتماءات والعقائد ومَن ظنّ ذلك ، غافل وجاهل في تقنية الهايكو وطقسه اللغوي والموضوعي معاً.
. الهايكو قصيدة حُبّ إلهي في الطبيعة الفاتنة ، وإغواؤها يفوق إغواء أنثى ساحرة الجمال ، وفلسفة هذا الحبّ تقومُ على محبة كلّ شيء في الطبيعة ، ومفرداتها بعطر الوردة ، وصوت العندليب ، وسرّ الزنبقة ،وتنهد النسمات ، ووشوشة الأغصان لبعضها ، ولحن الجداول في سيرها الخجول .. لا فكر ، ولا شطحات ذات ، ولا أحلام خلبية ، كلّ ذلك بعيد عن وسادة الطبيعة العطرة ..! الطبيعة تكتبُ ، وتحكي نفسها ، والشاعر مصغٍ بكلّ مايفيض بهِ من أحاسيس .
. بدايتي مع " الهايكو" وأنا لم أتحرّر بعدُ من لحظةِ الذهول الّتي فاجأني بها شاعر الهايكو اليابانيّ ، وهو يذرفُ الدموع أمام الطبيعة في عشقٍ صوفيّ .. كانت في كتابي الأول " ما يقولهُ الربيع" 2005 ، باعتقداي أنهُ أول ديوان عربي يصدر في الهايكو ، وجاءت القصائدُ فيه نزفاً واحتراقاً ، قلتُ في مقدمته : ( إنّها تجربتي ، وهي ليسَت بهرجاً لغوياً ، إنّما هي شيءٌ مُقلِق يغلي في الأعماق .. جنينٌ لغوي بيانيّ باذخ البساطة والعمق ، ينبغي أن نرشقهُ بنسمةٍ ، وأن نضعَ تحتَ وسادتهِ باقة حنانٍ ليجدَ طريقهُ مضيئاً ، أمّا أنْ يُرتّبَ العالمَ ، أو يكونَ نشيدَهُ القادمَ ، وهو محتاجٌ إلى إصغاءةٍ ممغنطةٍ بعسلِ المعاناة ..!!
في كتابي الثاني "رسائل المطر"- تجربة في الهايكو العربي 2013 في طبعتي ( القاهرة 2013والشارقة 2015) قلتُ : (كانت الكلماتُ صاحبة المبادرة ، كتبتْ نفسَها بنفسِها ، ولهذا جاءت مشاغبة ، والبلاغة مُستفِزة ، والخيالُ أكثر جنوحاً وشروداً وابتكاراً أيضاً ، والحالة الشعرية ، والتجربة أكثر نضوجاً ) ..!!
في الكتاب الثالث " العصافير ليسَت من سُلالةِ الرياح"2017 جاء " الهايكو العربي" كرهانٍ دائمٍ وإصرارٍ على الجديد والمثير ، كفنٍّ يسابقُ أدواته ، وحالته ، وزمنه ، ليُضاف إلى ديوان الشعر العربي باقتدارٍ ، يُمثل كتابة هيَ بعدَ الكلمات ، وفروسية خيالٍ بعدَ الخيال ، ليصبحَ من مرجعياتِ إبداعنا الشعريّ وثقافتنا العربية .
. الهايكو العربي بفنيّةٍ ومهارة عالية يُؤسّسُ للقصيدة " اللقطة" ، وهي تُقرأ بالعين والقلب معاً ، بلْ بكاملِ الجسدِ .. تُقرأ وتُشاهدُ في الآن .. وبكلّ طقوس الصّمت المقدس القريب من الصّلاة والخشوع .. وفي ذهولٍ هو الأقرب إلى ذهول مغرمٍ بتفاصيل أنثى وُلِدَتْ من رحمِ قرنفلةٍ جريحة .. "هايكو" جديد يُقرأ في تأمّلٍ سيميائي يُنبيءُ بالكثير ..!!
ومن مميزات قصيدة "الهايكو العربي " عن غيرها أنها تقومُ على المفارقة ، في صورة شعرية طازجة ، توسع البالَ ، تنشطهُ ، تجمع بينَ شروط العقل والقلب ، وعاطفة يمارسها القاريء بسهولة كما الحنان ، في إيقاعٍ ممتعٍ قائمٍ على المفاجأة والدهشةِ خاليين تماماً من قلقِ الغرابةِ .. والافتعال.. ولعبة الكلمات !!
قراءة هذهِ القصيدة ، والاصطياف في عوالمها يُشبهُ تماماَ الدخول والانتشاء في نسماتِ واحةٍ ، يخلقُ علاقاتٍ جديدةً ، مباركةً ومزدانة بعطر الطبيعة ، ومثابرة الفصول ، وأنفاس الفجر ، ومزاح الطيور، وأحاسيس وردةٍ تتّفتح بلا رقابة ، حيث يتداخلُ الزمان والمكان ، يتبادلان المواقع والمهام في إيقاعٍ شعري باهر ، ولهو استعاراتٍ غير مسبوق ، عافهُ شعراء الهايكو اليابانيّ ، وأغرُمَ بهِ - حتّى الذهول - شاعر الهايكو العربي وهو يعيش ( زمن لغة كونيّة) كما تنبّأ بهِ شاعر الحداثة العظيم آرتور رامبو .. لغة بإمكانها خلق العالم ، اختصاره، تشكيله ، أو خلق عالم مخمليّ جديد ، دستورهُ جمال الإيحاء والخيال المنتج المبتكر..!!
." إنَّ الشعرَ تأسيس " – هولدرلين !!
وهذا هو كيمياء قصيدة الهايكو بالضبط !! قصيدة لا تتكيءُ على إيقاع الطبيعة لتخلدَ فحسب ، بلْ لتكونَ حياة ، وفرحاً ، وحلما ً ، وإبداعا ، وهيَ على نقيض إيقاعات تفعيلات القصائد الأخرى المسكونة بالتكرار والافتعال والضجر ، رُغمَ اجتماع القصائدِ جميعها على مائدة الحروف والأجراس والبساط الحريريّ للنبوءات !
.أرادَ الشعراءُ اليابانيون الرهبانُ الثلاثة " باشو MATSU BASH 1644-1694 " و" بوسون TANIGU CHI BUSON 1716- 1783 " و" إيسا ISSA KOBYSHI" 1763-1783 ومَن سارَ على نهجِهم من الشعراء ، صوغ رسالة لا تشحبُ حروفُها ، بلغةٍ كهنوتية ، فسفورُ حروفها منغّم بفقهِ عقيدة " الزن" ZEN.. سعوا وهُم سعاداء بعصافير إيحاءاتهم أنْ يضعوا قاموساً متفرداً وساحراً للطبيعة ، يُخلّد كلّ حركة حياة وتوهج لكائناتها ومكوناتها وحالاتها ، يضاهي أبجدية " قاموس العاشقين" الذي وضعهُ شعراء الحبّ والعشق والغرام على امتدادِ الحقبِ والأزمان والأمكنة ، بلْ تميّزَ عليهِ في سحرِ جملهِ الرشيقة البسيطة والمقتصدة .. فجاء شعر "الهايكو" HAIKOكفنٍّ شعريّ ، يخلّدُ ويُؤرّخُ لكلّ حركة صغيرة أو كبيرة لكلّ مكونٍ من مكوناتِ الطبيعة ، تفاصيل فصولها ، وظواهرها ، وكائناتها الأكثر وضاعة والأسمى والأجمل معاً ، الكلّ بمنزلة " بوذا " بفقهِ عقيدة الزن القائمة على " محبة كلّ شيء" .. لتبدو قصيدة " الهايكو" هويتها الأصل وميلادها الأزليّ ، داخل كونٍ واسعٍ صاخبٍ في موسيقا كواكبهِ وحركة ظواهرهِ و اختلافِ أحلامِ كائناتهِ .
" ليسَ في ذاكرة الأزهار اسمٌ للخريف"- هايكو عربي !
هذه أغنيات تسرق الآذان منتقاة بعزف قلبٍ ، اندلقت من قريحة الطبيعة ، والعازفُ الماهر شاعر الهايكو .. خمسة دواوين ، بل خمس سيمفونيات للطبيعة ، جاء ديواني الأولُ" مايقولهُ الربيع"2005 ، صدر في القاهرة كأول تجربة هايكو عربي تصدرُ في كتابٍ و تلاهُ " رسائل المطر"في طبعتين 2012 – القاهرة و 2015 الشارقة و" العصافير ليست من سُلالة الرياح" 2017 القاهرة و" سوناتات الماء والزنابق" – مختارات – الكويت 2018،و " حكاية الوردة" 2021 قيد النشر .. وكان حافز الاستمرار- بالإضافة إلى محبةِ هذا الفنّ الشعريّ العريق - هو ترجمة تجربتي في الهايكو إلى خمس لغاتٍ عالمية إلى الآن ، وهي الأسبانية والفارسية والروسية وألإنجليزية والرومانية .. وفيض الدراسات القيمة والرسائل الجامعية الاحتفائية به كتأسيس لفن شعري عربي جديد، بأقلام كبار النقاد والكتّاب والباحثين العرب والعالم .
" ليس في ذاكرة الأزهار اسمٌ للخريف" قاموسٌ آخرُ لقراءةِ الطبيعة ِ!
والكون غارقٌ في عزفهِ السيمفونيّ ، قاموسٌ بحروفٍ ملونةٍ جاذبةٍ ماتعة ، لايخرجُ في أبجديتهِ عن مفرداتها في طقسٍ لغوي لايشبهُ إلاّ نفسه ، متفرّد في لغتهِ وموضوعه ِ ، وكيمياء تقنيتهِ .. الطبيعة تتكلمُ .. تكتبُ سيرتها .. وسيرتها تُقرأ وتُشاهد!
و قصيدة الهايكو " تُكتَبُ وتُقرَأ وتُفهمُ بوصفها قصيدة مستقلة ، مكتملة قائمة بذاتها " – حسب ماجاء أيضاً في " ديوان التانكا " ص11.. هذا المؤسس " باشوBASHO " يقول : " حياتنا البسيطة هي أعظم حياة " و الطبيعة وسيط روحي .. وفي " حكايات الزن " كتب هنري بورنل HENRI BRUNEL : " تنطوي على صور الطبيعة أو انطباعات حولها ، معَ كلّ ما تتضمنهُ من طقوسِ وعاداتِ كائنات حيّة " !

" ليسَ في ذاكرة الأزهار اسمُ للخريف" الرهانُ على أنْ يصبح َ" الهايكو العربي" أحد مرجعيات شعرِنا العربيّ المعاصر ، إذا ما توافرت فيه شروطه كإنجيل للطبيعة الباذخ في سحره ، حيث تعاف مفرداتُهُ الآيديولوجيا والنضال والعشق والغرام .. وغيرها من شطحات أفكار الشعراء الذين ركبوا موجة الهايكو من دون الرجوع وفهم مرجعياته !

عِذاب الركابي /الأسكندرية - صيف 2021

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.