tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

وُجِدَ العرب في ديارهم قبل أن يُعرَفوا باسم العرب بين جيرانهم، وكانت لهم لغة عربية يتكلمونها وتمضي على سُنَّة التطور عصرًا بعد عصر، إلى أن تبلغ الطور الذي عرفناه منذ أيام الدعوة الإسلامية.
وهذه هي القاعدة العامة في تسمية الأمم وفي تطور اللغات؛ فليس العرب بدعًا فيها بين أمم المشرق والمغرب.
فالهند — مثلًا — كانت عامرة بسكانها قبل أن يُسمَّى نهرها بنهر «الهندوس»، وقبل أن يُطلَق اسم هذا النهر على شبه الجزيرة كلها.
والحبشة كانت عامرة بقبائلها المتعددة قبل أن يسميها العرب بهذا الاسم، ويقصدون به بلاد الأحباش أي السكان المختلطين، وقبل أن يسميها اليونان باسم «أثيوبية» أي: بلاد الوجوه المحترقة، وقبل أن يسميها العبرانيون باسم بلاد الكوشيين لأنهم ينسبون أهلها إلى كوش بن حام بن نوح.
وكانت بلاد السكنداف معمورة قبل أن يسميها أهل الجنوب بلاد «النورديك» أي: الشماليين.
وكانت إنجلترا معمورة بطائفةٍ من السكان بعد طائفة، يوم أُطلق عليها اسم إنجلاند أو إنجلترا، أو أرض الأناجلة angles الذين قدموا إليها في القرن الخامس بعد الميلاد، ومن ملوكها مَن كان يحلو له أن يسميها بلاد الملائكة Angellykes؛ لأن البابا غريغوري اختاره لها بدلًا من اسم بلاد الأناجلة الذي يشبهه في نطقه Engeliscé … فراح بعضهم يرسم صورة «ملائكية» على عملتها الذهبية، والتبس الأمر على أتباعهم فأوشك أن يُخلَط عليهم الحقيقة لولا قرب العهد باسم الأناجلة واسم موطنهم المعروف.
•••
وكل هذه الأمم كانت لهم لغات يتكلمونها قبل ألفَيْ سنة، ولا يتكلمها اليوم أبناؤها على النحو الذي كان يفهمه آباؤهم، ولا يشذ عن ذلك أمة من الأمم ولا لغة من اللغات.
•••
وقد مضى على العرب أكثر من ألفَيْ سنة وهم معروفون بهذا الاسم الذي يطلقونه على أنفسهم ويطلقه عليهم غيرهم، ولا يزال أصل التسمية وتاريخ إطلاقها غير معروفَين على التحقيق إلى اليوم.
هل أُطلقَ عليهم اسم العرب لأنهم كانوا يسكنون موقع الغرب من أمةٍ أخرى يحل فيها حرف العين محل حرف الغين كما يحدث في بعض اللهجات؟
هل أُطلقَ عليهم هذا الاسم من العرابة بمعنى الجفاف أو الصحراء في لغة بعض الساميين بشمال الجزيرة؟
هل أُطلقَ عليهم نسبةً إلى يعرب بن قحطان، أو نسبةً إلى «عربة» من أرض تهامة كما يقول ياقوت؟
إن مؤرخي العرب يختلفون في ذلك كما يختلف فيه غيرهم، ويقول ياقوت في معجم البلدان بعد أن أشار إلى ذلك: «إن كل مَن سكن جزيرة العرب ونطق بلسان أهلها فهم العرب، سُمُّوا عربًا باسم بلدهم العربات. وقال أبو تراب إسحاق بن الفرح: عربة باحة العرب، وباحة العرب دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم — عليهما السلام — أما النبطي فكل مَن لم يكن راعيًا أو جنديًّا عند العرب من ساكني الأرضين فهو نبطي …»
وكما قيل: إن العرب سُمُّوا بهذا الاسم لأنهم نزلوا إلى الغرب من منازل غيرهم، يُقَال: إنهم سُمُّوا شرقيين Saracena عند قومٍ من أوروبة، وإن الاسم في أصله كان يُطلَق على قبيلةٍ عربيةٍ تسكن إلى الشرق من جبل السراة، ولعلهم سمَّوهم «سراتيين» نسبةً إلى الجبل نفسه، وتَحرَّف الاسم بلغات الأوروبيين إلى سراسين!
نذكر هذه الخلافات لنقول: إن وجود العرب في ديارهم سابق لها متقدم عليها، وإن الثقافة العربية ينبغي أن تُنسَب إلى أمتها قبل أن تُسمَّى بهذا الاسم أو بذاك من الأسماء المُختَلَف عليها؛ فلا اختلاف على نسبة الثقافة إلى الأمة كائنًا ما كان الاسم الذي عُرِفَت به عند جيرانها وعند سائر الأمم التي تتحدث عنها، وتختار لها اسمها على حسب مصادره ومناسباته في عُرْفِهَا.
•••
ولا خلاف في علاقة العرب الأقدمين بالجزيرة العربية، ولا في قِدَم العمران بهذه الجزيرة.
ولا خلاف كذلك في قِدَم اللسان العربي فيها، ولا في أنه أقدم لسان تكلم به سكانها الأقدمون، ولم يُعرَف لهم لسان قبله مخالف له في أصوله وخصائصه التي تَميَّز بها بين اللغات العالمية.
أكان المتكلمون بهذا اللسان قبل ثلاثين قرنًا مقيمين بالجزيرة العربية أم كانوا مقيمين في موطنٍ آخرَ ثم هاجروا إليها؟
هنا تختلف الأقوال بين مَواطنَ ثلاثة، هي: الحبشة وبادية الشام وأعالي العراق.
لكن الحبشة ليست مصدر الحاميين والساميين في جهةٍ واحدةٍ؛ فالساميون أحرى أن يكونوا وافدين إليها على قلَّةٍ محدودةٍ، وليس من الموافق للأوضاع التاريخية ولا للمألوف من الهجرة هناك أو في جهاتٍ أخرى أن يكون الساميون المنتقلون من الحبشة أكثر من عشرات أمثالهم في موطنهم الأصيل بالبلاد الحبشية، ولم يحدث في عصور التاريخ المعروف أن كان المهاجرون من الحبشة إلى جنوب الجزيرة يزيدون عددًا على الذين يهاجرون من جنوب الجزيرة إليها.
كذلك لم يحدث في حدود التاريخ المعروف أن ترحل الجماعات الكثيرة من بلاد الهلال الخصيب أو من أعالي العراق إلى الصحراء العربية؛ فليس هذا مما حدث في الواقع ولا مما يوافق المعهود في بواعث الهجرة وحركاتها المألوفة.
فمن المألوف أن يحدث الجفاف والجدب في البلاد الصحراوية فيرحل عنها أهلها، ومن التاريخ الواقع أن هذا قد حدث فعلًا غير مرة في هجرة القبائل من جنوب الجزيرة وأواسطها إلى بلاد الأنهار أو بلاد الخِصب الدائم والمرعى الموفور، ولكنه لم يؤلف ولم يحدث قط أن ينعكس الأمر فترحل القبائل أفواجًا أفواجًا من أرض الماء والمرعى إلى أرضٍ تتخللها الصحارى الواسعة، ويطرأ عليها الجفاف والجدب في عهودٍ متلاحقة، تكاد أن تنتظم في مواعيدها وأدوارها.
فمن الثابت أن جنوب الجزيرة كان مأهولًا قبل ثلاثة آلاف سنة، وكانت له عمارته ومبانيه التي لا تنشأ في قرونٍ قليلة، فهل كان وفود هؤلاء إلى الجنوب بعد سكان آخرين سبقوهم ثم انقرضوا أو انهزموا وخلفهم الوافدون على بلادهم؟ فمَن هم أولئك السكان الأولون؟ وما لغتهم؟ وما الداعي إلى افتراض وجودهم؟ ومن أين جاءهم الوافدون اللاحقون وتغلَّبوا عليهم بالقوة التي تهزمهم؟ وما هي لغتهم وعلاقتها بالعربية؟
كل ما يمكن أن يُقَال عن ذلك: إنه تخمين لا دليل عليه ولا موجب له، ولا موافقة بينه وبين تجارب الواقع في أماكن الهجرة المطروقة من قديم الزمن، داخل الجزيرة العربية أو من حولها.
ولا صعوبة في تصور الهجرة من الجنوب إلى الشمال على حسب التجارب الواقعة، فلا تضطرنا وقائع التاريخ إلى السؤال عن أبناء البلاد الأصلاء في العراق أو بادية الشام أين ذهبوا ومَن هم في أصولهم وما هي لغاتهم وأنباؤهم؛ فإن التاريخ يدلنا عليهم وعلى بقاياهم، وآثارهم حيث أقاموا قريبة من مواطنهم سواء كانوا من السومريين أو من الآريين أو من الطورانيين على التخوم الفارسية أو تخوم الصين، بعضهم لبث في الأرض، وبعضهم جلا عنها إلى ما وراء حدودها، وكلهم ترك من مخلفاته ما يتركه المغلوب المقيم أو المغلوب الذي زال عن البلاد.
فالثقافة العربية إذنْ هي ثقافة الأمة التي نشأت تتكلم اللغة العربية وعاشت تتكلمها كما كانت على الألسنة في كل دورٍ من أدوارها على سُنَّة التطور في جميع اللغات.
وقد كان أشهر اللغات السامية وأشيعها في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد ثلاثًا بين جنوب الجزيرة وشرقها إلى الشمال وغربها إلى الشمال، وهي: اليمنية والآرامية والكنعانية؛ مما يدل على أنها نبتت في الجزيرة من الجنوب إلى مواطن الهجرة التي درجت عليها القبائل منذ فجر التاريخ، في طريق بحر العرب شرقًا إلى وادي النهرين، أو طريق البحر الأحمر غربًا إلى فلسطين.
ثم شاعت الآرامية وغلبت على سائر هذه اللهجات وتفرعت منها النبطية التي اتفقت الروايات على أنها أم لهجات الحجاز. ولم تكن الآرامية بعد شيوعها غريبة عن المتكلمين بالكنعانية أو الحِمْيَرية وعن الكاتبين بالحروف النبطية أو حروف المسند؛ فكان المقيمون والراحلون بين هذه الأرجاء يتخاطبون بها كما يتخاطب أبناء الأقاليم في القُطر الواحد، أو كما يتخاطب أبناء وادي النيل اليوم من الإسكندرية إلى الخرطوم، مع اختلاف اللهجات والألفاظ في بعض المفردات.
ونحن نعلم أن مؤرخي العرب كانوا ينسبون شعوب العرب البائدة جميعًا إلى «إرم» ويسمونهم بالأرمان كما جاء في تاريخ سني الملوك لحمزة الأصفهاني. ويجوز أن يكون الآراميون من سلالة هؤلاء الأرمان هاجروا إلى وادي النهرين في تاريخٍ مجهولٍ، ولكن تاريخهم المعلوم يرجع إلى عهد دولتهم التي حكمت بابل، وقام منها بالأمر حمورابي صاحب التشريع المشهور (سنة ٢٤٦٠ق.م)؛ حيث سادت اللغة الآرامية واديَ النهرين وبادية الشام وأرض كنعان وبلاد الأنباط، وظهرت لهجتها العامة — كلامًا وكتابة — في كل قُطرٍ من الأقطار.
يقول صاحب كتاب «الأبجدية: مفتاح تاريخ الإنسان»: «الآرامية فرع كبير يرجع إلى الهجرة السامية الثالثة، ذُكِرَت في مصادر التوراة وفي الكتابة المسمارية، ويُطلَق اسم آرام الذي ورد في التوراة على سلالةٍ عنصريةٍ كما يُطلَق على الإقليم الذي تسكنه تلك السلالة، وجاء في أسماء الأمم بسفر التكوين أن آرام جد الآراميين وقيل عنه إنه ابن سام، وجاء في موضوعٍ آخرَ أنه حفيد ناحور أخي إبراهيم، ويُقَال عن يعقوب إنه آرامي تائه، وعن أمه وزوجاته إنهن آراميات. وباستثناء لفظة غامضة في الحفائر الأكادية في النصف الثاني من الألف الثالثة قبل الميلاد، تعتبر رسائل تل العمارنة المسمارية في القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد أقدم إشارة إليهم باسم أخلام Akhlami أو Akhlamn أي: الأحلاف الذين يُظن أنهم هم أحلاف آرام المذكورين في وثائق القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وهم يُسمَّون في المصادر الآشورية (أروميو) أو (أراميو) وجمعهم آرامي.»
إلى أن يقول: «إن موطن الآراميين الأول غير معروف، وهم يوصفون في ألواح تل العمارنة — التي تَقدَّم ذكرها — بأنهم أفواج مترحلة مغيرة، ويرجح أنهم قدموا من جهة الشرق الشمالي لبلاد العرب إلى بادية الشام من طريق، وقَدِمُوا من الطريق الآخر إلى العراق. وعند نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد انتهى سلطان الحيثيين و المتنيين Mitanni على تلك الأرض، وظهرت الإمارات الآرامية الصغيرة في الشمال الشرقي والشمال الغربي من وادي النهرين، ثم طرأت على توزيع السكان في سورية الشمالية بعد استقرار الموجة الآرامية بين القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد طوارئ واسعة النطاق … واغتنمت قبائل الآراميين فرصة هذه الطوارئ؛ فأقامت بقوة السلاح ووفرة العدد سلسلة من الممالك الصغيرة في أخصب المواقع من شمال العراق وجنوبه إلى شرق البادية السورية، وأمكن — بفضل تدجين الجمل العربي حوالي نهاية القرن الثاني عشر قبل الميلاد — تيسير طرق القوافل تيسيرًا كبيرًا؛ فأقيمت في جوانب البلاد مراكز للتجارة الغنية، أشهرها تدمر أو بلد النخيل».
وبعد الإشارة إلى أدوار الضعف التي انتابت الآراميين بعد ذلك، قال:
إن فقدان الحرية السياسية لم يكن معناه نهاية التاريخ الآرامي، بل كان هذا الضعف الذي أصاب الحكومة فاتحة التفوق في الثقافة الآرامية ومسائل الاقتصاد الذي عم آسيا الغربية … فاصطبغت سورية كلها وجانب كبير من وادي النهرين بالصبغة الآرامية، وأصبحت اللغة الآرامية هي اللغة الدولية في ذلك العهد، وأصبحت على عهد الدولة الآخميدية الفارسية إحدى اللغات الرسمية في الإمبراطورية، ولسانًا عامًّا يتكلم به التجار من مصر إلى آسيا الصغرى إلى الهند. وبلغ من قوة اللغة الحيوية أنها شاعت في الاستعمال بعد ألف سنة من ذهاب الدولة الآرامية، وعاشت اللهجات التي تفرعت عليها قرونًا أخرى في بعض القرى النائية.
وتمام هذا الكلام عن غلبة الآرامية أنها كانت تنازع العبرية بين اليهود وهي لغتهم الدينية، ومن ذلك ما جاء في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التكوين «أنهم أخذوا حجارة وعملوا رجمة ودعاها لابان (يجر شهدوتا) … وأما يعقوب فدعاها جلعيد، وقال لابان: هذه الرجمة شاهدة بيني وبينك اليوم.»
ومعنى «يجر شهدوتا» بالآرامية حجر الشهود، وهي قريبة من لفظها ومعناها باللغة العربية الحديثة، أو هي اللغة العربية كما كانت تُنطَق في ذلك الدور من أطوارها.
ثم غلبت الآرامية على العبرية في المعابد والكتب الدينية؛ فتُرجِمَت إليها كتب التوراة والتلمود، وكُتِبَت بها بعض الأسفار أصلًا من عهد عزرا ودنيال، فلما كان عصر الميلاد كانت الآرامية هي اللغة التي يتكلمها السيد المسيح، ويجري بها الخطاب بينه وبين تلاميذه، وبينه وبين المستمعين إليه في عظاته ووصاياه.
جاء في الإصحاح الخامس من إنجيل مرقس حكاية عن السيد المسيح: «وأمسك يد الصَّبية وقال لها: طليثا قومي، وتفسيره … لكِ أقول قومي.»
وجاء في الإصحاح الرابع عشر: «وقال يسوع: يا أبا — الأب — كل شيء مستطاع لك.»
وجاء في الإصحاح الخامس عشر منه: «وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوتٍ عظيمٍ: إلُوِي، إلُوِي، لما شبقتني.» وتفسيره: إلهي، إلهي، لِمَ تركتني؟ ومعنى شبقتني هنا «جاوزتني وتخليت عني» كما يمكن أن تعني اليوم بالعربية التي نتكلمها.
وعلى ذلك يصح أن نقول: إن الآرامية هي عربية تلك الأيام في مواطنها، وإنها قريبة جدًّا من اللغة العربية الفصحى بعد تطورها نحو ثلاثة آلاف سنة، لا يُستغرب أن يحدث فيها مثل هذا الاختلاف في نطق الألفاظ، وتركيب بعض العبارات.
قال صاحب كتاب الكنز في قواعد اللغة العربية وهو يتكلم عن الآرامية ويسميها البابلية: «ثم انظر فيما يكون من التشابه الظاهر بين العربية والبابلية ولا سيما في الإعراب وحركاته، كالتنوين مثلًا … فهو في البابلية ميم وفي العربية نون، وهذان الحرفان من أحرف الإبدال، ونحن نعرف أن من العرب من يُجيز إبدال أحدهما بالآخر، ومنها علامة الجمع: فهي في البابلية الواو والنون كما أنها في العربية الواو والنون أيضًا، وفي السريانية الياء والنون، وفي العبرية الياء والميم، ومنها أن جميع الأفعال في البابلية أقرب إلى صيغها في العربية؛ فصيغ الأفعال التي وجدوها في هذه اللغة تبلغ اثنتي عشرة صيغة، وأكثر هذه الصيغ مشهور معروف في العربية والعبرية والسريانية …»
•••
وجملة القول: إن الثقافة الآرامية عربية في لغتها ونشأتها ونسبتها إلى عنصرها، ولا يمكن أن تعرف لها نسبة إلى أمة غير الأمة العربية في عهودها الأولى؛ فكل ما استفاده العالم من جانبها فهو من فضل هذه الأمة على الثقافة العالمية.
أسماء أخرى
بعد تحقيق المقصود باسم العرب في الزمن القديم، نستطرد إلى تحقيق أسماء الأمم والبلاد التي عاصرت العرب في تلك الحقبة كما عرفها اليونان، وانتقلت منهم إلى الأوروبيين والشرقيين بعد شيوع الثقافة اليونانية؛ فإن تحقيق هذه الأسماء لازم لمعرفة المدى الذي انتهت إليه علاقات اليونان بتلك الأمم، وتحقيق ما استفادوه منها أو استفادته منهم على اختلاف الروايات والدعاوى في الأزمنة المتأخرة.
فاليونان يتوسعون كثيرًا في تسمية البلاد والأمم وإطلاق الاسم على موضعه وعلى المواضع التي تجاوره في بعض الأحوال، وقد يتفق لهم عكس ذلك في تخصيص جزء من الأرض بالاسم الذي يعمها ويشملها مع غيرها، لرابطة المشابهة والجوار.
ومن ذلك أنهم أطلقوا اسم سورية على الإقليم المشهور بين شواطئ البحر الأبيض الشرقية وبلاد الروم وتخوم العراق، ثم توسعوا بها حتى شملت «آشورية»، وأصبح اسم السريان عندهم عَلمًا على الآراميين في الرقعة الواسعة التي يسكنونها من وادي النهرين إلى سيناء وأطراف الحجاز.
وهم يطلقون اسم فينيقية على شاطئ فلسطين إلى الشمال والجنوب من مدينة صور التي اشتُهر أبناؤها الملاحون عندهم باسم الفينيقيين، ولكن فينيقية — كما يدل اسمها — كانت اسمًا لبلاد النخل في الإقليم كله، من كلمة فينقس عندهم بمعنى النخلة Φοὶνξ، وتقابلها عند الرومان كلمة Palmyra التي أُطلِقَت على مدينة «تمر» أو «تدمر» في شرق البقاع … و«تمر» هي الكلمة السامية التي تقابل كلمة Palm بمعنى النخلة في بعض اللغات الأوروبية إلى اليوم … ولا يخفى أن أرجح الأقوال عن أصل الفينيقيين الأقدمين أنهم نشَئُوا عند الخليج العربي في بلاد النخيل، وتحولوا منه إلى فلسطين يوم كانت وطنًا مشهورًا بكثرة ما فيها من النخيل … واسم مدينتهم «قرطاجة» التي بنوها بعد ارتحالهم من فلسطين إلى شاطئ الأبيض الجنوبي قريب جدًّا — في أصله — من الكلمة الآرامية «قارة حداثة» أي: القرية الحديثة، وتحريفها إلى قرتاشة وقرطاجة على ألسنة الرومان قريب جدًّا بعد إسقاط الحاء التي لا يَنطق بها الغربيون.
واليونان وضعوا اسم «أثيوبية» — ومعناه الوجوه المحترقة — وأرادوا به البلاد التي عرفها العرب قديمًا وحديثًا باسم الحبشة، ثم شملوا بها اليمن وسموها بأثيوبية الآسيوية، وأوشكوا بعد ذلك أن يعمموا اسم الأثيوبيين على الأفريقيين السود جميعًا، وهم الكوشيون في عُرف اليهود والناقلين عنهم من شُرَّاح الكتب الدينية.
ومصر القديمة سماها اليونان باسم مدينة كبتوس «قفط» ثم أطلقوا اسم «جبتوس» على القُطر كله، وهو الاسم المشهور الآن في اللغات الأوروبية.
والهند سُميت كلها باسم نهرها المعروف في الغرب الشمالي منها، وما زالت حتى أصبح يُقَال عن «الأندوس»: إنه نهر في الهند، وهي منسوبة إليه.
وعلى هذا يحدث أحيانًا أن يتكلم اليونان عن أثيوبي وهو يمني، أو عن فينيقي وهو سوري، وعن آشورية assyria وهم يقصدون سورية Syria، وعن هؤلاء جميعًا وهم يقصدون المتكلمين بالآرامية التي كانت أوسع اللغات انتشارًا بين جميع هذه البلاد.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.