tafrabooks

Share to Social Media

علي يوسف
تجري المقارنة أحيانًا بين الكاتب الصحفي الذي كان يكتب في صحافتنا العربية قبل سبعين أو ثمانين سنة، وبين كاتبنا الصحفي الذي يكتب الآن في صحافتنا، بعد أن بلغت مع الصحافة العالمية آخر أطوارها من وسائل الطباعة والتحرير إلى وسائل الإدارة والتوزيع.
وقد نوجز هذه الفوارق التي يمكن أن تتعدد إلى غير نهاية فنقول: إن الفارق هنا هو الفارق بين «روبنسون كروزو» في جزيرته، وبين رحالة من سياح اليوم ترتسم له طريقه من رقم الكرسي في الطيارة إلى رقم الحجرة في الفندق، إلى أسماء الخطوط الجوية والبحرية في كل مدينة وكل فندق، وكل يوم من أيام الرحلة، منذ «قطع التذكرة» إلى تسليم البطاقة عند باب المطار الأخير، مع سلامة الإياب.
وفارق آخر ربما أوجز لنا تلك الفوارق على نحو آخر من المشابهة: وهو الفارق بين طبيب القرن التاسع عشر وطبيب القرن العشرين.
إن طبيب القرن العشرين يعرف عمله المطلوب من خلال عشرين كشفًا وتحليلًا وأداة طبية أو كيماوية بين يديه، ويستوحي وصفه للدواء من تحليل الدم وتحليل المواد الجسدية على اختلافها، ومن كشف الأشعة ورسامة القلب وشهادات للأحوال الخاصة والعامة يرجع إليها في سجلاتها إذا شاء.
ولم تكن لطبيب القرن التاسع عشر وسيلة من هذه الوسائل الميسورة اليوم في أكثر العيادات، فربما أعوزته السماعة فلم يعتمد في جس النبض على وسيلة غير الإصغاء بأذنيه، وهو بعد ذلك يعالج العلل جميعًا فلا يتخصص لعلة واحدة يستعد منذ عهد المدرسة «لتشخيصها» وتدبير علاجها.
وكتابنا الصحفيون من أعلام القرن التاسع عشر كثيرون.
ولكننا إذا نادينا أسماءهم من الذاكرة، لم يكن منهم من هو أسرع تلبية للنداء العاجل من اسم «علي يوسف» صاحب «المؤيد» أخيرًا، وصاحب «الآداب» قبل ذلك.
إن «علي يوسف» كان يصنع «صناعته» الصحفية ليتعلمها الناس منه، ولم يكن يتعلم تلك الصناعة على أساتذتها في الشرق والغرب، ولا على أدواتها التي تمليها عليه.
لم يكن يعرف لغة للصحافة غير العربية، ولم يكن يعرف من العربية غير ما اعتمد في معرفته على نفسه، بل غير ما اعتمد على نفسه قبل ذلك في اختيار أستاذه الذي يراجعها عليه.
وكان يسمع، ولا شك، بالصحافة الأوروبية ويعرف منها بالسماع أكبرها وأشهرها، ولكنه لم يعرف من صحافة الغرب صحيفة واحدة ينهج على منهجها، ولم يكن من غايته ولا طاقته أن يعرف «التيمس» أو «الطان» ليحكي هذه أو تلك في طبعها وتحريرها، ولكنه — هو وأقرانه من كتاب عصره — كانوا يبتدئون في الصحافة طريقًا أخرى غير تلك الطريق التي تقدمتهم فيها الصحف الأوروبية: طريقًا يستطيعونها وتستدعيهم إليها، وقد تكون الطريق لكل صحفي منهم غير الطرق الأخرى التي يستقيم عليها سائر زملائه.
كان «علي يوسف» يرتجل صناعته الصحفية في كل شيء: في التقاط الأخبار، وفي جمع الآراء، وفي تحرير المقالات، وفي سياسة الجمهور وسياسة ولاة الأمور.
وظهر من قضية «التلغرافات» التي سيق من أجلها إلى القضاء أنه كان يستطلع أخبار الحملة على السودان قبل وصولها إلى ديوان الوزارة؛ لأنه كان على صلة بموظف المكتب الذي يتلقاها، ولم يكن أحد يعرف «الواسطة» التي تحمل النبأ من مكتب البرق إلى مكتب التحرير.
وكانت تعبئة الآراء قبل هذا الجيل لازمة وعسيرة في وقت واحد، بل كانت إدارتها كلها مجهولة، يخترعها كل صاحب صحيفة على سنته في اختراع هذه الأدوات المرتجلة.
أما «علي يوسف» فقد كادت وسيلته لتعبئة الآراء أن تكون شخصية بينه وبين نفسه وصحبه، ومن يرجع إليهم في حياته الخاصة أو يرجعون إليه.
فلما اتهم اللورد كرومر هذه الأمة بالتعصب الديني وعداوة الجانب، جمع الشيخ «علي يوسف» نماذج الآراء التي تدفع هذه التهمة عن كل صاحب صفة ترشحه لإبداء الرأي فيها.
فقال الخواجة ميماراكي اليوناني: «أشهد أنني ما شعرت قط في معاملاتي مع المصريين بأنني أعامل أناسًا يخالفونني في العقيدة.»
وقال الفرنسي وكيل مصرف الكريدي ليونيه الفرنسي: «إننا لا نشعر بهذا التعصب الذي اتهمت به الأمة المصرية، اللهم إلا إذا كان التعصب موجودًا في غير الدائرة التي إليها معاملاتنا.»
وقال شكور باشا الإداري اللبناني: «إنني أفضل أن أمشي وحدي ليلًا في جهات السيدة زينب والنحاسين، على أن أمشي وحدي ليلًا في جهات مونمارتر بضواحي باريس.»
وقال إسكندر عمون المحامي: «إن المصري أكثر إكرامًا للغريب من سائر الشعوب.»
وقال باسيلي تادرس باشا: «لا صحة لما يقال من وجود التعصب الديني أو الجنسي في مصر.»
وحين سأل الشيخ كلًّا من السيد عمر مكرم والشيخ محمد بخيت من رجال الدين الإسلامي لم ينس أن يسأل رجلًا ينكر الأديان جميعًا، وهو الدكتور شبلي شميل الذي قال: «إن التعصب غير موجود في مصر على الإطلاق.»
أما المقالة فعي الصحفة المختارة على مائدة الشيخ علي يوسف بغير جدال.
وقد تكتب المقالة في موضوعها بأسلوب أجمل من أسلوبها، وعلى نمط من اللفظ والمعنى أبلغ من نمطها في لفظها ومعناها، ولكن مقالة «علي يوسف» هي مقالة علي يوسف التي لا يكتبها غيره، ولا يؤدي الغاية منها أحد كما يؤديها بقلمه ورأيه؛ فهي من الكلم المفصل على حسب قياسه جملةً جملةً وسطرًا سطرًا من فاتحتها إلى ختامها، وليست من الكلم «المجهز» على قياسه ولو على وجه التقريب الذي يحكمها إحكام التفصيل.
وإذا أردنا أن نجمع لهذه «الشخصية» النادرة مفتاحها في كلمة واحدة، فهي كلمة «العصامية»؛ حيث تصل العصامية أحيانًا إلى حدود المغامرة.
لقد كان ﻟ «علي يوسف ومصطفى كامل» طريقتان مختلفتان — بل مختلفتان جدًّا — في الكتابة الصحفية، وفي الخطة السياسية، وفي الدعوة الوطنية.
ولقد فرق النقاد بين الطريقتين، فكان الفرق بينهما عند أناس أن طريقة مصطفى كامل هي طريقة التطرف والحماسة، وأن طريقة علي يوسف هي طريقة المحافظة والاعتدال، وكان الفرق بينهما عند أناس آخرين هو الفرق بين التعليم الحديث والتعليم القديم، أو هو الفرق بين الشباب والكهولة، أو الفرق بين السياسة القومية وسياسة القصر والحاشية الخديوية، أو الفرق بين الخطيب المنطلق والكاتب الحصيف.
لكن الواقع أن الفرق الوحيد الذي يحتوي جميع هذه الفروق هو «شعور العصامية» في نفس الرجل الذي كان مثله الأعلى في الحياة أن يصل باجتهاده وحيلته إلى مكانة السيد الموقر، ليرعى له السادة الوارثون للسيادة كرامة الرأي وكرامة «الخاطر»، كما نقول في عرفنا المأثور.
وكان من حق العصامية الناجحة عند علي يوسف أن يتكلم مع ذوي «الاعتبار» كما يتكلم ذوو الاعتبار، ولا يخف به القلم خفة الحديث المتعجل أو الحديث المستثار.
وإذا قال، كما كان يقول كثيرًا، إنه لا يرضى السياسة على مذهب الرعاع، فليست كلمة الرعاع هنا مقابلة عنده لكلمة النبلاء أو «الأرستقراطيين»، وليس إنكاره ﻟ «مصطفى كامل» إنكارًا لإنسان دونه في المقام والمكانة الاجتماعية؛ لأن «مصطفى كامل» كان له نصيبه من الألقاب التي خلعت على الشيخ علي يوسف، وإن لم تغلب عليه.
وإنما كانت المقابلة عنده مقابلة بين خفة النزق والعجلة ورصانة «العقلاء» من ذوي الرأي والحنكة في كل طبقة؛ ولهذا كان يكثر من تلقيب مصطفى كامل ﺑ «الطائش»، ويكثر من وصف سياسته بالطيش، ويجذبه عرق الدراسة العتيقة فيقول معتذرًا من تكرار كلمة الطائش إنها تطابق اسم مصطفى كامل في حساب التنجيم؛ لأن مجموع الحروف بحساب الجمل في كلمة طائش وكلمتي مصطفى كامل واحد وهو (٣١٩).
وهذه القيمة — قيمة العصامي الذي بلغ في المكانة الاجتماعية مبلغ ذوي الرأي — هي هي التي جعلت لكتابته السياسية صبغة كصبغة اللغة الدبلوماسية بين وزراء الخارجية والسفراء، وهي هي التي جعلته يعتزل الصحافة بعد أن أسندت إليه وظيفة «سيد السادات» أو شيخ الطريقة الصوفية.
وقد كان يكتب عن خصوم القصر الخديوي جميعًا، فيبيح لقلمه من المغامز في الكتابة عنهم ما يرضي القصر ويستجيب لأمره وإيعازه، ولكنه كان يأبى كل الإباء أن يحمل على رجل ممن أحسنوا إليه في نشأته الأولى، كمحمد عبده، وحسن عاصم، وسعد زغلول؛ لأن هذه المحافظة على سمت الرجل الكريم تدفع عنه سبة النعمة المحدثة والمقام المدخول.
فإذا جاء بين تضاعيف الأخبار في صحيفة «المؤيد» شيء يمس هؤلاء مرضاة للحاشية الخديوية، فإنما كان يترك كتابته لغيره أو يفرغه في القالب الذي يوافق مظهر الكرامة وينفي عنه شبهات العتب والملام.
غير أن المحافظة على المظهر شيء، ومطاوعة الحيلة والدهاء من وراء الستار شيء آخر؛ ففي الوقت الذي كان فيه التشهير الصريح باسم محمد عبده محرمًا على أقلام المؤيد، كان وكيل المؤيد بالآستانة يتطوع لمصاحبة الشيخ المفتي الغريب عن المدينة، فيقحمه من مواطن الفرجة ما يتحاماه أمثاله، ويتواطأ بذلك مع رؤساء الشرطة ليَفْجَئُوا الشيخ والوكيل بين مواطن الريبة، ثم ينتهي الأمر إلى «وصمة» شائنة تصيب الشيخ في دار الخلافة الإسلامية، فلا يشق على الخديو بعد ذلك أن يعزله من مناصبه الدينية برخصة من مقام الخليفة الأعظم، ويتراجع أمامها مجلس الوزارة في مصر، فلا يعتبر عزل المفتي في هذه الحالة إخلالًا بنظام العزل والتوظيف.
•••
وقد عمت الصبغة الدبلوماسية كل منحى من مناحي تفكيره وعمله في السياسة، وفي علاقاته بالسياسيين الوطنيين وغير الوطنيين، وظهرت في كل تصرف من تصرفاته العامة حتى في صياغة المبادئ الوطنية التي قررها لحزبه أساسًا للمطالبة بحقوق الأمة ونظام الحكومة، فقد أوشك أن يجعل هذه المبادئ توريطًا دبلوماسيًّا من كلام المحتلين أنفسهم؛ ليسكتهم ولا يفتح لهم بابًا للاحتجاج على ولي الأمر أو اتهامه بتحريض الصحف والأحزاب عليهم؛ إذ كان انتساب الشيخ علي يوسف إلى القصر الخديوي أمرًا مفروغًا منه، مفهومًا بالتواتر بين دوائر السياسة الشعبية والرسمية في القاهرة وعواصم الدول ذات الامتيازات في هذه البلاد، وكان وكلاء «المؤيد» يزورون الدواوين — خارج القطر — كأنهم ملحقون بسفارات القصر، قبل أن توجد له سفارات.
فالمحتلون كانوا يسمون أنفسهم بالمصلحين، ويقولون إن إصلاح الأداة الحكومية غرض من أغراضهم الأولى التي ينجزونها قبل مغادرة البلاد.
والشيخ علي يوسف يسمي حزبه بحزب الإصلاح، فأي اعتراض للدولة البريطانية عليه أو على الخديو إذا أقام قواعد حزبه على المطالبة بالإصلاح؟!
والمحتلون كانوا يقولون إنهم يدربون المصريين على حكم أنفسهم ويحولون بين الأمير والاستئثار بالسلطة في مسائل الإدارة والمال على الخصوص.
والشيخ علي يوسف يقيد الإصلاح بأنه «إصلاح على المبادئ الدستورية»، ولا يذكر الدستور على إطلاقه لأنه قد يزعج الدولة العثمانية صاحبة السيادة التي لم تكن في بلادها حكومة نيابية، وقد يزعج الإنجليز أصحاب السلطان الفعلي كما يزعج الخديو صاحب السلطة الشرعية.
ولما ذكر «الاستقلال» ذكره مشروطًا بالمعاهدات التي ارتبطت بها بريطانيا العظمى، وقال إن تحقيقه تنفيذ لوعود هذه الدولة بالجلاء، وقد زادت هذه الوعود على السبعين.
وكل مقالة من مقالات «المؤيد» في السياسة العامة فهي على هذا النمط، مذكرة رسمية لا يأبى السفير أن يوقعها باسمه واسم ولي أمره ورئيس حكومته، فإذا جاوزت هذا الحد إلى شيء من الشدة في التعبير، فغاية خطبها أن تكون بمثابة المقال «الموعز به» إلى لسان حال رسمي من ألسنة الحكومات التي تسمى أحيانًا ﺑ «الصحف الشبيهة بالرسمية».
وقد اشتد الشيخ علي يوسف غاية شدته في الحملة على لورد كرومر بعد اعتزاله، أو عزله من منصب المعتمد البريطاني في القاهرة، وكان الشيخ علي حريصًا على ترويج الظن الذي شاع في البلد عن نجاح الخديو في مساعيه عند بلاط سان جيمس لعزل كرومر وتعيين رجل من أصدقائه في مكانه، ولكنه كان على حذر شديد من إعلان هذه الدعوى؛ مخافة أن يغضب الدولة البريطانية ويضطرها إلى الأخذ بناصر عميدها المخذول؛ صيانة له من مهانة الشماتة، وصيانة لها من الاعتراف أمام الناس بخذلانها لرجالها وخدام سياستها.
فإذا بالشيخ علي يوسف يخلص من هذا المأزق على أحسن حال من الكياسة والإنصاف، فيتهم كرومر نفسه بأنه فضح حقيقة الموقف بثورته المحنقة في خطاب الوداع، ويسأل: لماذا كل هذا الحنق والرجل لم يفارق قصر الدوبارة على الرغم منه كما يقال؟
وإذا بالشيخ يعترف للعميد المعزول بكل مأثرة من مآثره المدعاة، فلا ينكر عليه حسنة واحدة يعتبر إنكارها على دولته كلها من ورائه.
ثم يعمد الشيخ اللبق إلى الخطبة الكرومرية نفسها، فلا يضيف إليها حرفًا من عنده، بل يأخذها بنصوصها للإيقاع بينه وبين المحتفلين بوداعه وبين المتشيعين لسياسته والمسخرين أو المتبرعين بالشهادة لحكمه وحكم أعوانه ومستشاريه.
كان الأمير حسين كامل على رأس المدعوين للاشتراك في حفلة التوديع، فلم يكن تعليق الشيخ علي يوسف نقدًا للأمير — عم الخديو — بل كان إبرازًا واضحًا لإساءة كرومر إليه، مرة بالإنحاء على أبيه إسماعيل ومرة بالسكوت عن الإشارة إليه كأنه من سقط المتاع، وهو حاضر أمام عينيه: «هذا الأمير الجليل الذي والى جناب اللورد بالصداقة زمنًا طويلًا وخصه باحترامه دائمًا، وكان له في عهده أعظم أثر في خدمة البلاد معه خدمة حقيقية بأخذه الجمعية الزراعية الخديوية؛ لم ير اللورد أنه خليق بكلمة ثناء يوجهها إليه في جنب ما وجه من عبارات الثناء من الأحياء والأموات.»
ولم يتحدث الشيخ علي عن أحد من المحتفلين باللورد كأنه خصم يحاربه وكأنه صديق اللورد وموضع حظوته، بل كان حديثه عنهم جميعًا كأنهم ضحاياه وضحايا سياسته وسوء خلقه في حاضره وماضيه.
قال كرومر عن رياض باشا إنه علق الجرس في عنق الهر، فكان ثناء علي يوسف على رياض باشا أكبر من ثناء اللورد عليه، ولكنه استدرك قائلًا إن اللورد: «لم يقل إن رياض باشا لما أراد في زمنه هو أن يعلق الجرس في عنق الهر قطعت يده وحلف اللورد ألا يعود إلى خدمة الحكومة ما دام هو في البلاد، وزاده عقوبة فرفت ابنه من وكالة الداخلية في اليوم التالي من استقالة أبيه، فكان المستبد إسماعيل أخف وطأة على رياض باشا من المستبد كرومر.»
وأثنى كرومر على بطرس غالي باشا ومدحه بسعة الحيلة في حل المشكلات فقال الشيخ علي: «نعم، ولكنها المشكلات التي كان يخلقها اللورد بينه وبين الجناب العالي، وبينه وبين قناصل الدول من جهة أخرى.»
وتساءل الشيخ علي: «لماذا أعرض اللورد عن ذكر بقية الوزراء كأنهم ليسوا نظارًا في الحكومة وليس لهم عمل مطلقًا فيها؟»
وقد أشاد كرومر بالوفاق الإنجليزي الفرنسي الذي تم على يديه، فسرد له «الشيخ علي» سلسلة من الإساءات إلى الثقافة الفرنسية والخبراء الفرنسيين، وأنه يفعل ذلك «ليس حبًّا في مصلحة مصر، ولكن ليُحِلَّ محل كل قدم فرنساوية قدمًا إنجليزية».
ولم يكن كرومر ليعدل عن هذه الخطة مرة إلا إذا جاءه الأمر من رؤسائه في العاصمة البريطانية.
والحق أن براعة علي يوسف في التعقيب على أقوال كرومر كانت هي البراعة «الموصوفة» للرد على كل كلمة فيها بما يناسبها ويقلبها على صاحبها عند أنصاره قبل خصومه والشامتين به وبعهده، وقد قلنا — فيما تقدم: إن مقالة علي يوسف هي مقالة علي يوسف التي لا يكتبها غيره، وإن كتب ما هو أجمل منها وما هو أبلغ منها وأوفى.
فهذه المقالات في توديع كرومر هي بعض الشواهد على هذه «الخصوصية اليوسفية»؛ إذ لم يكتب أحد من مودعي كرومر نظيرًا لها بهذا الأسلوب «الدبلوماسي العصامي» الفريد، وإن كتبوا على أساليبهم ما هو جدير بالإعجاب من ناحيته في عبارته وفحواه.
ولم يستغرق هذا الأسلوب الدبلوماسي قلم الشيخ الألمعي في كل ما كتب من مقال أو خبر، فقد كان للكاتب «الإنسان» قلمه الذي يجري على هذه الطبقة من الفصاحة وحسن الأداء، ويجري كذلك مع العاطفة التي كان يأبى لها أن تقوده في مواقف السياسة والمطالب العامة، ولكنها العاطفة في نفس «العصامي» الذاكر لعصاميته، كيفما تقلبت به الحال بين الرضا والغضب، أو بين الفرح والأسى.
وله في رثاء ولده الوحيد عمر كلمات كتبها يوم نعيه ويوم تشييعه، لم يحتفل لها بعدة من عدد البلاغة غير الشجن والتجلد والتسليم للواقع الذي بطلت فيه حيلة الألسنة والأقلام كما بطلت فيه حيلة العقول والقلوب.
نعاه قلمه فقال:
فَقَدَ صاحب هذه الجريدة الساعة السادسة بعد ظهر أمس ولده الوحيد — عمر يوسف — في الحادية عشرة من عمره، بعد مرض قليل الأيام كثير الآلام. فإلى الله مآبك يا عمر، وإلى الله مآبك أيها الزهر الذي قطفه الموت في أزكى شذاه.
إلى الله مآبك أيها الكبد الذي يمشي على الأرض، ثم هوى إلى حفرة أبدية يسمونها القبر، ولو استطعنا لكان في القلب، بل هناك قلبان أولى بهما أن يكونا قبره: قلب والده الحزين وقلب أمه الثكلى.
وعاد من تشييع جنازته فكتب الخبر بقلمه وهو يمحو سطوره بدموعه، وقال بعد كلمات:
خرجنا به من الدار التي ولد فيها، فألفها منذ كان طفلًا يحبو إلى أن صار فتى يمشي بها مشية الخيلاء؛ من الدار التي كان يضيق فناؤها — على سعته — به، فيذهب إلى الشارع وإلى المتنزهات تحيط به الخدم أو يصيبه أذى، إلى ذلك اللحد الضيق الذي لا يستطيع أن يعيش فيه إنسان ساعة من الزمان، ولكنه — مع ما به من وحشة ووحدة — أوسع المنازل بعد الموت وآنسها لمن يلقى الله طاهرًا مثل عمر.
خرجنا به، لا كما يخرج في عربته إلى المدرسة يصحبه خادمه، بل محمولًا على الأعناق مودعًا بجماهير المشيعين، في سرير كما تزف العروس مغشى بالحرير الأبيض مجللًا بالزهور، ولكنه كان زفافًا محزنًا يعلوه جلال الموت خطيبًا يصيح: الصبر أجمل. والناس يصيحون، سار مشيعوه جميعًا مطرقي الرءوس كأن عليها الطير وتخاف أن يطير؛ إلا رأسين كانا يتلفتان إلى النعش بنظرات الملهوف: رأس والده الحزين في مقدمة الجنازة، ورأس والدته الثكلى في مؤخرتها، فيهما أربع أعين هامية، ودونهما قلبان مستعران ومهجتان زافرتان.
ويشاء القدر لهذه العصامية التي لم تفارقه في تشييع فلذة كبده، وأعز أهله عليه، أن تلازمه إلى أخريات حياته، وأن تسلبه كثيرًا كما وهبت له كثيرًا، فقد صحبتها دفعة الثقة بالنفس في مغامراتها، فغامر في طلب الحب كما غامر في طلب الكسب، فلم تكتب له السعادة في هذا ولا ذاك؛ لأنه شقي بالحياة الزوجية التي حسبها غاية الأمل نعمة وشرفًا.
وشقي بالمال الذي اقتناه فضاع كله بين عثرات الجد وعثرات الطموح والإقدام.



من المصادفات التي عرضت لي في حياتي الصحفية، أنني جلست على مكتب علي يوسف أيامًا في أثناء نيابتي عن الأستاذ أحمد حافظ عوض، الذي كان يتولى رئاسة «المؤيد» في تلك الأيام. وقد دعي الأستاذ أحمد حافظ عوض لمصاحبة الخديو في رحلته التي طاف فيها بأقاليم الوجه البحري على سبيل المظاهرة أمام الإنجليز؛ لأنه أحس أنهم يفكرون في خلعه وتعديل نظام الخديوية وولاية العهد في الأسرة العلوية، وقد كانت سفرته الأخيرة من مصر بعد الطواف بالأقاليم، وزيارة الوجهاء والنواب في مساكنهم، واستقبال الشعب في المنازل والطرقات، والتهويل على الدولة المحتلة بمظاهر الولاء التي أراد أن تحف به قبل رحيله من الديار، ولكنه خلع فعلًا بعد سفره بثلاثة أشهر، واحتج الإنجليز لخلعه بانضمامه في العاصمة التركية إلى دول أوروبة الوسطى، متابعة للدولة العثمانية.
وقد عهد إليَّ الأستاذ أحمد حافظ عوض أن أتلقى رسائله ورسائل وكلاء الصحيفة أثناء تلك الرحلة، وأفهمني أنه يعد العدة لتأليف كتاب عنها يقدمه إلى الخديو بعد عودته إلى الديار.
وتقدرون فتضحك الأقدار!
فلا الخديو عاد إلى الديار، ولا عاد إليها كتشنر الذي رسم الخطة قبل سفره من مصر لتغيير نظام الحكم كله في هذه البلاد، ولا الكتاب «المنتظر» كتب فيه حرف واحد؛ لأنني رفضت العمل فيه، واستقلْتُ من تحرير «المؤيد» أثناء اشتغال الأستاذ حافظ بجمع الصور والتواريخ لتأليفه وتنسيقه.
ومن المصادفات أن يتفق لي الجلوس على ذلك الكرسي، وأن أكتب على ذلك المكتب، الذي لم أكد أفرغ من حملاتي على صاحبه وعلى سياسته أثناء حياته وبعد مماته، ولا أذكر أنني لقيت فيه صاحبه غير مرة واحدة، كانت هي المرة الوحيدة التي حييته فيها لكلام كتبه في السياسة الوطنية.
وكان كثير من الشبان المصريين قد تفرقوا بين الأحزاب السياسية في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، فمال معظمهم إلى جانب الحزب الوطني؛ لاقتراب السن والتعليم بين مصطفى كامل «الحقوقي» وطلاب مدرسة الحقوق، الذين كانوا أكثر الطلاب اشتغالًا بالسياسة، ومالت طائفة منهم إلى حزب الأمة وهم في الغالب أبناء الأسر الذين تألف الحزب من آبائهم وذويهم، ولم يجنح أحد من الشبان إلى حزب الشيخ علي يوسف وهو حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية؛ لأن خطة الحزب كانت إلى «الدبلوماسية» أقرب منها إلى السياسة أو إلى الدعوة الوطنية، وكان «المؤيد» يتبع في كتابته أسلوب الصحيفة التي تعتبر لسانًا شبيهًا بالرسمي للقصر والحاشية الخديوية، وليس هذا الأسلوب بالذي يروق الشاب أو يوافق حماسته الفتية، ولم يكن الإعراض عن «المؤيد» من جانب واحد؛ لأنه إعراض متبادل من الطرفين، وكان علي يوسف يأبى على الطلاب أن يشتغلوا بغير الدراسة في سنوات التعليم، وكان مذهبه أن ينتظر رجال الغد إلى أن يأتيهم غدهم الذي هم رجاله، أما قبل ذلك فكل ما كان يرتضيه الشيخ منهم أن يدينوا بشرعة الولاء لأمير البلاد.
وكنت من فريق الشبان القلائل الذين نفروا من الأحزاب منذ اللحظة الأولى، فلم يكن لي حزب أتعصب له وأنتمي إليه، ولم تكن لي صحيفة أتشيع لسياستها ومنهجها في كتابتها، ولكنني كنت أفضل «الجريدة» في جانب الثقافة، وأفضل «اللواء» في شدته على الاحتلال والوزارة، وأقرأ «المؤيد» لمقالاته الشرقية والإسلامية، وأعتقد أن الخطة المثلى هي خطة «مصر للمصريين» تمييزًا لها من خطة المحافظة على السيادة العثمانية، وكان بعضهم يترخص في تسمية هذه الخطة وأصحابها باسم «حزب المفتي»؛ لأن الأستاذ الإمام محمد عبده — رحمه الله — كان أشهر المعروفين بذلك الرأي في تلك الفترة، ومعه في ذلك سعد زغلول وأحمد لطفي السيد.
على أنني — في المعارك القلمية — كنت أجد نفسي إلى جانب مصطفى كامل كلما نشبت الخصومة الحامية بينه وبين علي يوسف، وكنت أكتب إلى اللواء منتصرًا له كلما دخلت المعركة في دور من أدوار المساجلة الأدبية، ومن ذاك أن الشيخ علي يوسف كان يكثر من تلقيب مصطفى كامل بالطائش، ويتخذ لهذا اللقب شفيعًا من حساب الجُمَّل بموافقة مجموع الحروف في كلمة طائش واسم مصطفى كامل بذلك الحساب! وكنت يومئذ أدرس حساب الحروف والطوالع فيما كنت أحاوله من فضول الاستطلاع، فلفقت لعلي يوسف لقبًا مساويًا لاسمه بذلك الحساب، وهو لقب «نوري» بفتح النون أو ضمها على السواء، ومعنى نوري بالفتح أنه من شذاذ الآفاق المعروفين باسم النور، وكان هو متهمًا بالانتساب إليهم، كما كان يقال عنه إنه من «المسلمانية» الدخلاء من ناحية جده الأول، وواجهه خصومه في قضية الزوجية بهذه الدعوى أمام القضاء الشرعي، ليثبتوا أنه غير كفْء للزواج من بنت «السادات» ويؤيدوا بذلك طلب التفرقة بين الزوجين.
•••
ثم حدثت المعركة القلمية التي جمعت الرأي العام كله — على تعدد ألوانه وأذواقه — في صف واحد مع الشيخ علي يوسف، والتي سمع فيها صاحب المؤيد هتافًا بحياته بعد عشر سنوات مضت من أيام قضيته التي اشتهرت باسم قضية «التلغرافات» وظل فيها الشيخ علي «بطل الساعة» في حومة الصحافة بضعة شهور، وقد كان الهتاف بسقوط «المؤيد» وحياة «اللواء» يتكرر ويتواتر في المظاهرات الشعبية، حتى أصبح — على حد تعبير الظرفاء — من أولاد البلد كليشيهات مسموعة، وحتى اضطر الشيخ إلى التسليم بها، وعمد إلى الشعر لتعزية نفسه ومكايدة خصومه كلما واجهوه بمظاهرة من مظاهراتها، فنظم هذين البيتين:
يدعون للواء بالحياة
لأنه يعد في الأموات
ويهتفون: يسقط المؤيد
لأنه نحو السماء يصعد
أما المعركة القلمية التي أعادت الهتاف بالحياة والتحية إلى مسمع الشيخ، فهي معركة عنيفة دارت بين الصحف ورجال السياسة حول توديع اللورد كرومر بعد خطابه الذي ألقاه على ملأ من كبار الموظفين وأصحاب المقامات «الرسمية» من المصريين والأجانب والشرقيين، ولعل الشيخ علي يوسف قد «صعد إلى سمائه» في هذا الأفق؛ لأنه أفق الكتابة «الدبلوماسية»، ولأنه استطاع بالأسلوب «الدبلوماسي» أن يعزل اللورد كرومر وحده في ذلك الموقف بين مختلف التيارات السياسية، أو استطاع أن يكون دبلوماسيًّا وحماسيًّا إلى الغاية في دفاعه عن ولي نعمته «الخديو عباس الثاني» خصم كرومر اللدود.
كتب الشيخ علي مقاله في السابع من شهر مايو (١٩٠٧) وهو اليوم التالي لإلقاء الخطاب، فاشترك في التهليل له والإعجاب به قراء الصحف من كل طائفة وطبقة ومن كل مشرب ونزعة، وأهدى إليه جوهري كبير محبرة من الفضة المذهبة، وازدحمت رحبة «المؤيد» بالمتظاهرين والهاتفين من الطلاب وجمهرة الشباب، ومنهم أزهريون، ودرعميون، وحقوقيون، وموظفون. وتلقى «المؤيد» رسائل التأييد ممن لم يكن يؤيده أو يطيف به من قريب أو بعيد، فأصبح «المؤيد» لفظًا ومعنى، وكان «أولاد البلد» يأبون عليه أن يكون كذلك إلا بالقاف القاهرية؛ لأنه «يقيد» بقيود الأمير.
وفي هذه المعركة كتبت للمؤيد كلمة التأييد التي كنت في المعارك السابقة أكتبها عليه، وقلت عن تلك المقالة الطنانة إننا:
تلوناها كلمة كلمة وسطرًا سطرًا، فكنا كلما قرأنا كلمة أزالت تأثير لمحة من تلك الخطبة، وكلما تلونا سطرًا انهزم سطر منها، حتى جئنا على آخرها، فكأنما حقل ثقل وارتفع، أو هام جهام وانقشع، ولا غرو أن كانت مسهبة طويلة، فإنها تذيب سبابًا كالقار أسود لا يصهر إلا على أشد حرارة النار.
لقيت صاحب المؤيد في مكتبه للمرة الأولى والأخيرة لأسلمه تلك الكلمة، فاستقبلني مع رهط من الزوار والمحررين، ورأيته يكتب وهو يحمل الورقة في يده ويلتفت إلى محدثيه لحظة ثم يعود إلى ورقته يسطر فيها كأنه لم ينقطع عنها، ثم وضع الورقة على المكتب بعد الفراغ منها، وسألني: هل أنت طالب؟
ولم أكن يومئذ طالبًا ولا موظفًا، بل كنت بين طالب وموظف؛ لأنني كنت أستعد للعمل بمصلحة التلغراف وأتلقى دروسًا في الكهرباء والكيمياء بمدرسة الصناعة، فقلت: بين طالب وموظف!
فابتسم واستفسرني، وأوجزت له تفسير هذا العمل الجامع بين طلب العلم والوظيفة، وقد نبهته ذكرى «التلغرافات» على ما يظهر، فأقبل على التحدث إلي وعاد يسألني: وما الذي أعجبك في المقال؟ فقلت: أعجبني المقال كله، وبخاصة موقع الاستشهاد فيه بهذين البيتين، وهما من شعر أبي العلاء:
ربما أخرج الحزين جوى الحز
ن إلى غير لائق بالسداد
مثلما فاتت الصلاة سليما
ن فأنحى على رقاب الجياد
فقال وهو يقطع الكلمات: إذن أنت طالب، وموظف، وأديب. ووعدني بنشر الكلمة فنشرها بهذا التقديم «من حضرة الفاضل صاحب الإمضاء».
وكان الإمضاء «ع. م. العقاد» على عادة التوقيع بأوائل الحروف في المجلات الأوروبية التي كنا نقرؤها.
وتشاء المعارك القلمية — والحرب سجال كما يقال — أن يقرأ الشيخ بعد ذلك هذا التوقيع تحت مقال عنه بعيد جدًّا من مقالات الثناء والتأييد؛ لأنني كنت أوقع به كتابتي في صحيفة «الدستور» لصاحبها الأستاذ محمد فريد وجدي، وفيها كتبت وصفًا مجملًا للمظاهرة «العدائية» التي لقيها الشيخ بدار الجريدة بعد سنة من تاريخ خطاب اللورد كرومر، ولها قصة نوجزها فيما يلي: «شرع المحتلون بعد عهد كرومر في تنفيذ سياستهم الجديدة التي سميت بسياسة الوفاق بينهم وبين الخديو عباس، فكف المؤيد عن انتقادهم ومحاسبتهم، وتجاوز المجاملة أحيانًا إلى الرضا والتأييد، وسرت في الأمة يومئذ حركة قومية تطالب الأحزاب جميعًا بتعيين موقفها من السياسة الجديدة، فأعلن الأستاذ الجليل — أحمد لطفي السيد — عن خطاب شامل يلقيه بدار «الجريدة» في شارع غيط العدة، بيانًا لموقف حزب الأمة من السياسة المصرية على العموم (مايو سنة ١٩٠٨)، واكتظت دار الجريدة بمئات من المستمعين بينهم كثير من الطلبة والشبان، ونجح الأستاذ الجليل في اجتذاب الأسماع إليه، ولكنني سمعت إلى جانبي همهمة متواصلة في أثناء إلقاء الخطاب، ورأيت خمسة أو ستة من الشبان يخرجون ويعودون ومعهم قراطيس ملأى بالطماطم والبيض، ومع اثنين منهم حمائم يخفيانها تحت سترتيهما، وهما متحفزان.»
«وكان المقصود بهذه الحركة كلها إبراهيم الهلباوي بك، ولكنها تناولت الشيخ علي يوسف اتفاقًا حين رآه الحاضرون في الاجتماع، ولم يكن منظورًا أن يشهده؛ لما بين حزبه وحزب الأمة من الخلاف الشديد. فما هو إلا أن فرغ الأستاذ لطفي السيد من خطابه، حتى انطلقت في جو المكان تلك الحمائم، وانطلق معها هتاف كالرعد بسقوط جلاد دنشواي. ثم تلاه الهتاف بسقوط المؤيد وصاحبه أو سقوط سياسة النفاق، ونال الرجل من قذائف الحاضرين يومئذ أذى غير قليل. وقد وصفت الحفلة في صحيفة الدستور، فقلت إن مظاهرة غيط العدة نسخت مظاهرة قضية التلغرافات، وإن الشعب المصري إذا كان قد حيَّى صاحب المؤيد عند الحكم ببراءته في تلك القضية فقد سحب تحيته الأولى بهذه الثورة عليه».
«ولقيت الشيخ علي يوسف مرة أخرى في تلك السنة بفندق شبرد على الأرجح، حيث أقيمت حفلة توديع لوفد من أعيان البلاد، اعتزموا السفر إلى لندن لإقناع وزارة الخارجية بتوسيع نصيب مصر من الحياة النيابية، وكان هذا الوفد مؤلفًا من إسماعيل أباظة باشا ومحمد الشريعي باشا ومحمود سالم بك والسيد حسين القصبي وعبد اللطيف الصوفاني بك وناشد حنا بك والدكتور إبراهيم الشوربجي وبعض المترجمين والمحررين. وحضرت هذه الحفلة منتدبًا من جريدة «الدستور»، ولم نكن راضين عن مخاطبة الإنجليز في مسألة الدستور. ولكن الصحيفة ندبتني لتسجيل ما أراه في تلك الحفلة أو الوليمة على الأصح؛ لأنها كانت مقصورة على من ذكرنا من الأعيان وبعض الصحفيين، ومنهم الشيخ علي يوسف عن المؤيد وفارس نمر باشا عن المقطم وآخرون.»
«وفي تلك الوليمة بدا لي أن صاحب المؤيد لم ينس كلمتي عنه في التعليق على اجتماع دار الجريدة، فسألني: أنت ع. م. العقاد؟ قلت: نعم. قال: هل بينك وبين السيد حسن موسى العقاد قرابة؟ قلت: هي مشابهة أسماء. فضحك ضحكة غير خالصة وقال: بل لعلها مشابهة في غير الأسماء أيضًا. وهو يعني — على ما اعتقدت — ثورة السيد حسن موسى وتمرده؛ لأنه كان في أكثر أحواله مغضوبًا عليه من المؤيد وشيعته السياسية.»
ولا أذكر أنني قابلت الشيخ في مجلس من المجالس الخاصة غير هذه المقابلات أكثر من مرتين، يحضرني في إحداهما حديث عن الرتب والنياشين بمكتب أحمد زكي باشا السكرتير العام لمجلس النظار.
وكنا مع زملائنا الصحفيين في طوفتنا اليومية بين «نظارة» الداخلية ومجلس النظار؛ لتسلم نشرات الأخبار الرسمية التي تطبع في الدواوين وتوزع على مندوبي الصحف في مواعيدها اليومية، وقد نشر في ذلك اليوم خبر الإنعام على أحمد زكي باشا برتبة من رتب التشريف، أظنها الباشوية، فخطر لنا — نحن زمرة الصحفيين — أن نمر به مهنئين باعتباره زميلًا كبيرًا في صناعة القلم، فوجدنا عنده الشيخ علي يوسف يهنئه ويحدثه في مسألة من مسائل المجلس، وكان معنا الأستاذ جورج طنوس مندوب «الوطن» لصاحبه جندي إبراهيم، وكان جورج مشهورًا بين زملائه وعارفيه باللجاجة وقلقلة الحديث، فتطوع للنيابة عنا وافتتح التهنئة مخاطبًا السكرتير العام على النغمة التي كانت مألوفة في ذلك المقام، فجعل يقول له بصوته الجهوري كلامًا في هذا المعنى: «إن الرتبة تزدان بك ولا تزينك، وإن الباشوية لقب يفخر به صاحب العزبة وصاحب الثروة من المال والعقار. وأما صاحب القلم فهو يذكر باسمه — أحمد زكي — وكفى، وبهذا نناديك أيها الكاتب الكبير ولا نزيد.»
وقاطعه الشيخ علي متململًا، وتوقعنا أن يقول شيئًا يرد به على تهنئة الزميل اللجوج لأكثر من سبب، فإن رجلًا يعلم الناس أنه لسان حال القصر يأبى له «دوره» السياسي، إن لم نقل شعوره النفساني، أن يوصف أمامه إنعام الأمير بأنه تحصيل حاصل ونافلة من النوافل التي لا يحفل بها أصحاب الأقلام، وإذا سكت علي يوسف — لسان حال الأمير — عن هذا الاستخفاف بألقابه ونعمه فمن العسير أن يسكت عنه علي يوسف «موزع» الرتب والنياشين، إذ كان للرتب والنياشين موزعون معروفون يبيعونها بأسعارها من رتبة الميرمران الرفيعة بألف جنيه إلى رتبة البيكوية من الدرجة الثانية بثلاثمائة أو أربعمائة جنيه؛ لأن بخل عباس الثاني كان يأبى عليه أن يسخو بالإعانة من ماله على كبار الأعوان، أو يسخو بها على إدارة الصحف الكبرى كلما احتاجت إلى المال الكثير، وكانت لصغار الصحفيين إعاناتهم من «ميزانية المعية السنية» ومن هبات ديوان الأوقاف.
أما «المشروعات الصحفية الواسعة» فقد كان المعول في سداد نفقاتها على أثمان الرتب والنياشين، وكان لها موسمها في كل عام في مناسبات الأعياد والمهرجانات الخديوية، فكانت الحصة الأولى من هذا المحصول السنوي للشيخ علي يوسف وأعوانه في الإسكندرية وعواصم الأقاليم، وكان سكوت الشيخ عن تهوين شأن هذه «السلعة» على مسمع منه غير معقول ولا منتظر، ولعل صاحبنا جورج طنوس لم يقل كلمته تلك إلا وهو يتعمد إثارة الشيخ واستفزازه للرد عليه، ولم يمهله الشيخ — فعلًا — أن يتم كلامه إلى نهاية ثرثراته التي لم تكن لها نهاية، فاستوقفه متبرمًا وقال وهو يخاطبه خطاب من يعرفه ولا يجهل عاداته بين زملائه: «مهلًا مهلًا يا معلم، إن الرتبة تقدير من ولي الأمر وتقرير لفضل صاحبها بين من يعرفونه ومن يجهلونه، وهل ترفضها يا معلم جورج؟»
ثم التفت إلى السكرتير العام فأعاد عليه التهنئة وهو يقول: «سيهنئك أصحابنا هؤلاء بمزيد من الرتب إلى أعلاها وأرفعها إن شاء الله!»
•••
أما مقابلات الطريق فقد كانت مركبة الشيخ تصادفنا أحيانًا في طريقنا مع أصحابنا من العباسية حيث أسكن إلى الحي الحسيني حيث نلتقي بأكثر إخواننا الأدباء، أو إلى مقهى عابدين إلى جوار مدرسة الحقوق القديمة حيث كنا نلتقي بطائفة من الطلاب الحقوقيين وغير الحقوقيين، وليست هذه المقابلات العرضية وسيلة من وسائل التعريف تفيدنا كثيرًا في كلام نكتبه عن الشيخ كما عرفناه، ولكن إحدى هذه المقابلات ربما عرفتنا بالشيخ في خليقة من خلائقه التي أثرت عنه طوال حياته؛ وهي خليقة «المحافظة» على السمت القديم كما نشأ عليه، وربما عرفتنا مقابلة أخرى بهوى من أهواء نفسه أو أهواء قلبه التي كادت تشغله كما شغلته المحافظة على شارة السمت والوقار.
رأيناه مرة في طريقه إلى قصر عابدين في يوم من أيام التشريفات، فرأينا عجبًا من أزياء الرتب المدنية؛ لأنه حافظ على العمامة مع كسوة التشريفة التي تؤهله لها رتبته الرفيعة، ولم يشأ أن يغير عمامته كما غيرها الكثيرون ممن يلبسون كسوة الباشوية، وكان يبدو وهو جالس كأنه يلبس العمامة على «بدلة الأفندية» من لابسي السترة والبنطلون؛ وهو زي كان يتزيا به في القاهرة أبناء طائفة واحدة هي طائفة عمال شركة النور الذين كانوا يخرجون إلى الشوارع في المساء بسترتهم الملونة وسراويلهم الأفرنجية لإشعال مصابيح النور. وقد سخر إخواننا الشبان بهذه المفارقة وتنادروا بها غير قليل، ولكنني في الواقع أعجبت بالرجل لهذه المحافظة وهو يتحدى العرف والسخرية، وأحسست فيها عصامية تأبى أن تفصل مظاهر الألقاب بينها وبين ماضيها.
ومرة أخرى رأيت الشيخ مع السيد توفيق البكري قادمين في مركبة واحدة من قصر السيد بالخرنفش إلى ناحية باب الحديد، فإذا هما في زي واحد من ملابس النزهة الفضفاضة على غاية من الأناقة التي يقصدها القاصد من لابسي هذا الزي التقليدي في القاهرة الفاطمية! وزاد المشابهة في لون الكساء وتفصيله وهندامه أن الشيخ والسيد كانا نمطًا واحدًا في البنية والقامة وصورة الوجه الدقيق والرأس الصغير، فكأنما كان الشيخان في تلك «الطلعة» الأنيقة فتيين من فتيان الحسينية الظرفاء، يتبادلان المجاملة بهذه المباراة «الودية» في معرض من معارض الصبوة، ولكنها صبوة في حدود «التقاليد» على سنة «المشيخة» من أئمة الطريق، وكلا الرجلين كان من أبناء «الطريق» في مقام الرئيس أو مقام المرشح للرئاسة!
ولا ننسى أن «قضية الزوجية» قد عملت عملها المنتظر في الاندفاع بالشيخ إلى هذه الطلعة العاطفية.
إن السيد البكري كان طراز القدوة المختارة بين أبناء طبقته وزيه في الوسامة والقسامة ووجاهة المركب والشارة، وقد طمح الشيخ إلى البناء بأكرم الكرائم من بيت السادة الوفائية، فهل تطيب نفسها أن تراه، وتراه أترابها معها، في طلعة دون طلعة الطراز المرموق من سلالة السادة البكرية؟!
على أنها فتنة «عاقلة» لم تجاوز حدودها التقليدية في نطاق المشيخة كما تقدم، ولم يسلم حافظ إبراهيم من غلو الشعر حين قال في وصف تلك الصبوة من الشيخ الكهل إنه:
أتاه الغرام بسن الشيو
خ فجن جنونًا ببنت النبي
فإن الصبوة لم تخرج الرجل قط عن سمته الذي طبع عليه طبعًا وتكلف ما لم يطبع عليه منه تكلفًا طويلًا، وما كان لمثل تلك الصبوة أن تنسي الرجل كل ما كان يشغله في بواكير شبابه إلى خاتمة حياته، وهو شاغل «المقام» الملحوظ بين ذوي الشرف الموروث من علية السادة وذوي القدر والمهابة، وربما كان تحفظه المتأصل فيه هو الذي ألزمه، على غير اختيار منه، ديدن المحافظة إلى حد الاحتجاز، أو الاحتجاز إلى حد الانزواء، أو الانزواء إلى حد الاستكانة التي لم تفارقه بعد ارتفاعه بالجد والجهد معًا إلى حيث أراد من دنياه.
كتب الأمير شكيب أرسلان في عدد يناير من المقتطف (١٩٢٧) في روايته لبعض ذكرياته عن صاحب المؤيد:
كنا نجتمع دائمًا في مجلس المرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وأكثر ما نسمر عند صاحب الدولة سعد باشا زغلول، وهو يومئذ سعد أفندي زغلول المحامي الشهير بمصر، وكان ينتاب تلك الحلقة شيخ شخت الخلقة اسمه الشيخ علي يوسف، يأتي فيجلس في الآخر ويلبث أكثر المجلس ساكنًا مستمعًا، ونكاد نرثي له لضعفه ومسكنته.
ولا نستغرب أن يرى «علي يوسف الشاب» في إبان فقره وانقباضه وخفاء ذكره على سمة توصف بالمسكنة التي يرثي لها من يراه؛ لأن الناظر إلى صاحب المؤيد بعد ارتفاع الشأن وذيوع الصيت كان يستطيع أن يصفه باستكانة تشبه المسكنة إذا نظر إليه وهو صامت ساكن بين الجلساء والنظراء، لولا أن الاستكانة صفة لا يوصف بها المرء وهو يملأ الدنيا بما يقوله وما يقال فيه!
وإنما هو مزاج أصيل فطر عليه هذا العصامي الناجح وعرفه من ذات نفسه فعرف ما خلق له وما لم يخلق له من أول مسعاه، فلم يضيع جهده عبثًا في غير ما يستطيع.
إنه خلق لكل ما يبلغ المرء بالذكاء والحيطة ولباقة القلم وحضور الخاطر وحسن التفاهم مع القلائل المعدودين من النافعين والمنتفعين، ولم يخلق للسيطرة الغالبة في جلبة الزحام ولا للعظمة المزهوة بالطنين والخيلاء، فانتهى إلى غايته وهو يبدو في زاويته كالقابع المستكين، لولا أنه يقدر على خطوب لا يقدر عليها القابع المستكين.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.