موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهيَّة، منذ اتخذ الإنسان ربًّا إلى أن عَرف الله الأحد، واهتدى إلى نزاهة التوحيد.
وقد بدأناه بأصل الاعتقاد في الأقوام البدائية، ثم لخَّصْنا عقائد الأقوام التي تقدمت في عصور الحضارة، ثم عقائد المؤمنين بالكتب السماوية، وشفعنا ذلك بمذاهب الفلاسفة الأسبقين، ومذاهب الفلاسفة التابعين، وختمناه بمذاهب الفلسفة العصرية، وكلمة العلم الحديث في مسألة الإيمان.
وكانت عنايتنا فيه بالعقيدة الإلهية دون غيرها، فلم نقصد فيه إلى تفصيل شعائر الأديان ولا إلى تقسيم أصول العبادات؛ لأن الموضوع — على حصره في نطاقه هذا — أوسع من أن يُسْتقصى كلَّ الاستقصاء في كتابٍ.
وإنَّ موضوعًا كهذا الموضوع المُحيط لَعُرْضَةٌ للتشعُّب والتطويل كيفما تناوله الكاتب ومن أيِّ جانب تحرَّاه، فلا بد فيه من إيجاز، ولا بد فيه من اكتفاء.
غير أننا تحرَّيْنا الإيجاز، وتحرَّيْنا معه أن يُغنينا فيما قصدناه، وذاك هو الإلمام بأطوار العقيدة الإلهية على وجهتها إلى التوحيد، وأن تكون هذه الأطوار مفهومة العلل والمقدمات.
وإن الله الذي هدى الأمم كافة إلى هذا المنهج البعيد، لكفيل أن يهدينا إليه، وأن يوفقنا لسداد النظر فيه، فلا هداية إلا به، ولا معول إلا عليه، إنه سميع بصير مجيب.
مقدمة الطبعة الثالثة
في نهاية الطبعة الثانية من هذا الكتاب لخَّصْنا زُبدة الآراء الراجحة فيما تستطيعه العلوم الحديثة من الحكم الصادق في مسألة الحقيقة الإلهية، فقلنا: «إن العلوم الطبيعية ليس من شأنها أن تُخَوِّل أصحابَها حقَّ القول الفصل في المباحث الإلهية والمسائل الأبدية؛ لأنها من جهة مقصورة على ما يقبل المشاهدة والتجربة والتسجيل، ومن جهة أخرى مقصورة على نوع آخر من الموجودات، وهي — بعد هذا وذاك — تتناول عوارض الموجودات ولا تتناول جوهر الوجود، وهو لا يدخل في تجارب علم من العلوم.»
واستطردنا في هذا التلخيص قائلين: «ولكن العالم الطبيعي يحقُّ له إبداء الرأي بحق العقل والدليل والبديهة الواعية؛ لأنه إنسان يمتاز حقه في الإيمان بمقدار امتيازه في صفات الإنسان. أما العلم نفسه فلا غنى له عن البديهة الإنسانية في تلمس الحق بين مجاهل الكون وخوافيه، فكيف تسري المقررات العلمية بين العلماء — فضلًا عن الجهلاء — لولا ثقة البديهة؟ كيف يعرف المهندس صدق الطبيب في مباحثه العلمية؟ ولا نقول: كيف يعرفها الجاهل بالطب والهندسة؟ ما من حقيقةٍ من هذه الحقائق تسري بين الناس بغير ثقة البديهة وثقة الإيمان، وما من حقيقةٍ من هذه الحقائق يعرفها جميع المنتفعين بها معرفة العلماء أو يمكن أن يعرفها جميع الناس كما يعرفها بعض الناس، وهي مع ذلك مسائل محدودة يُتاح العلم بها لمن يشاء، فلماذا يخطر على البال أن حقيقة الحقائق الكبرى تستغني عن ثقة البديهة الإنسانية ولا يتأتَّى أن تقوم في روع الإنسان إلا بتجارب المعامل التي يباشرها كل إنسان؟»
وقد مضى العلم قُدُمًا في كشوفه وبحوثه عن حقيقة المادة وحقيقة ما وراءها خلال هذه السنوات، فلم يظهر في هذه الكشوف والبحوث ما يزيد دعوى العلم الحديث أكثر مما تقدم: قصاراه أن يذهب مع التجارب العقلية والحسية إلى غاية أشواطها، ثم ينتهي إلى عمل البديهة؛ لإدراك أقرب الموجودات إلى الحس وأبعدها منه، على حدٍّ سواء.
ويبدو أن الفلسفة اللاهوتية والفلسفة العلمية تتلاقيان على هذا الاتجاه، فلا تدعي الفلسفة اللاهوتية أنها أقدر من العلم على بلوغ أسرار الحقيقة الكبرى، وإنما غاية ما تدعيه أن الحقيقة الكبرى فرض محتوم كفروض الرياضة الصحيحة التي نسلمها لنقيس عليها الحقائق البرهانية.
ونحن نكتب هذه المقدمة في أواخر السنة ١٩٥٩ وأمامنا كتاب في موضوع الفلسفة الإلهية وخبر عن جائزة نوبل التي مُنحت للممتازين بخدمة العلم الطبيعي هذه السنة، فإذا بنا واقفين مع الفلسفة واللاهوت والعلم الطبيعي معًا عند نهاية أشواط الحس والفكر وبداية أشواط البديهة. ثم لا سبيل إلى الرجوع خطوة في هذه الطريق، ولا سبيل إلى التقدم وراءه خطوة واحدة بالتجربة الحسية أو العلمية.
بين أيدينا كتاب البروفيسور ﻫ. د. لويس Lewis الذي سماه «تجربتنا الإلهية» أو تجربتنا عن الإله Our Experience of God ولخص بها نتائج البحث المشروعة عن الحقيقة الإلهية، فما هو غاية المدى الذي تذهب إليه الفلسفة في رأي هذا الفيلسوف؟
غاية المدى في رأيه أن الحقائق التي يقررها العلم والفكر لا تعدو أن تكون حقائق نسبية أو حقائق بالإضافة إلى غيرها كما نقول في مصطلحات المنطق العربية، وبعض هذه الحقائق مقياس لبعض، ولكنها جميعًا لا تثبت للذهن بحالٍ من الأحوال بغير القياس إلى حقيقة مطلقة أبدية تحيط بها جميعًا، وهي الحقيقة الإلهية.
وليس البروفسور «لويس» ممن يستضعفون البراهين الفكرية التي يُستعان بها على إثبات وجود تلك الحقيقة، وليس هو كذلك ممن يقنعون بها، ويحسبونها يقينًا قاطعًا يحسن السكوت عليه، ولكنه يرى أن هذه البراهين هي واجب العقل الذي لا يجوز له أن يتخلى عنه في سعيه إلى هذه الحقيقة وإلى كل حقيقة، أو لا يجوز له أن يركن إلى البديهة وحدها، ويعفي نفسه مما هو قادر عليه، فإنه لا يستطيع أن يثق بالبديهة إن لم يبلغ بالبحث غاية الأمد المستطاع، وقد يشعر العقل أحيانًا أنه وثب بالإدراك الملهم وثبة تذهب به وراء المدركات التجريبية والمدركات الفكرية أو المنطقية، ولكن هذه التجارب القاصرة هي جزء من التجربة الإلهية وليست شيئًا مناقضًا لها أو مستوعبًا لجميع أجزائها.
ولو كان الفيلسوف لويس من المتصوفة القائلين بإمكان المعرفة من طريق الاتحاد بين الله والإنسان لما كان لفلسفته محل من البحث الحديث ولا البحث العلمي الفكري على إطلاقه، فهو لا يقول بإمكان هذا الاتحاد الإلهي الإنساني، ولا يسميه تجربة إنسانية في سبيل العرفان بالله، بل هو يرى أن المتصوفة يخطئون التعبير عن هذه التجربة، وينبغي أن يفرقوا بين معرفة تقوم على فناء الإنسان في الذات الإلهية ومعرفة تقوم على إدراكه لوجوده في صميمه، ثم إدراكه لما هو أعظم منه وأرفع من شأوه، ومحل فلسفة لويس من البحث الحديث أنه لا يعيد لنا عبارات الاتحاد والفناء ووحدة الوجود كما رددها بعض المتصوفة من جميع المذاهب، ولكنه يأتي بالجديد حين يقول: إن إدراك الحقيقة المطلقة عمل إنساني يعالجه الإنسان بما عنده من الوسائل المحدودة، وكل ما هنالك أنها وسائل غير كافية تحتاج إلى تتمة، فهي لا تعطينا كل شيء ولا تحيط بكل شيء، ولكن الفرق بينها وبين المعرفة الواجبة إنما هو فرق بين ناقص وتام وليس بفرقٍ بين باطل وحق، ولا بين شك ويقين.
وعلى الجملة يمكن أن تدل فلسفة لويس، ونظائرها من الفلسفات الدينية في هذا العصر، إلى نتيجتين:
• أولاهما: أن أدلة المنكرين غير كافية للإنكار، فليس عندهم من دليل مقنع يستند إليه العالم أو المفكر في الجزم بإنكار وجود الله.
• وثانيتهما: أن أدلة المؤمنين كافية لبعض الإثبات، ولا بد من ملاحظة الفرق بين هذا القول وبين القول بأن تلك الأدلة لا تكفي للإثبات على وجه من الوجوه، فإن ما يثبت بعض الثبوت بالعقل، ويتم ثبوته بعد ذلك بالبديهة غير الدعوى التي ليس لها ثبوت على الإطلاق، وبخاصة حين نعلم أن الاعتماد على البديهة سند معول عليه في الدراية الإنسانية، كما يعول الطبيب على حقائق الهندسة ويعول المهندس على حقائق الطب، ويعول الناس جميعهم في الحكم ببديهتهم على الحقيقة التي لا يحيطون بها كل الإحاطة.
أما المباحث التي اختص أصحابها بجائزة نوبل العلمية لهذه السنة فهي ذات مغزى كبير في التعريف بالأقيسة النسبية والأقيسة المطلقة أو المجردة من ناحية أخرى: وهي ناحية الحقيقة المادية.
فالباحثون في تركيب المادة يبحثون في البروتون والبوزيترون والكهرب والنيوترون، ويعلمون أنها جميعًا موجودات بالنسبة إلى غيرها، ولم يعرف بعد كيف يكون وجودها إذا انفردت بذاتها.
فالبروتون كهربة موجبة بالقياس إلى السالبة، والنيوترون كهربة محايدة بالنسبة للاثنين، والسالبة تلتزم السلب في علاقتها بالكهربات الأخرى، وقد يكون بعض هذه الموجودات سالبًا في حالة وموجبًا في حالة أخرى.
وهذه كلها موجودات اعتبارية بالقياس إلى غيرها، فكيف يكون وجود المادة المجردة من جميع هذه الاعتبارات؟ وكيف تكون المادة المطلقة على قدر ما نتصور الإطلاق في هذه الموجودات؟
إننا أشرنا إلى تجارب علماء «كليفورنيا» في هذه المباحث في باب العوالم الأخرى من كتاب «القرن العشرون ما كان وما سيكون» وذكرنا أنهم يحتملون وجود كائنات لا مادية Anti-Matter على بعض العوالم الأخرى، ولا نعلم ماذا ثبت من هذه الكائنات اللا مادية في مباحث البروتون التي أجراها العلماء المجازون وزملاؤهم المشتغلون بها في شتى الميادين، ولكن المهم في الأمر أن الحقيقة المادية والحقيقة المجردة لا تتناقضان عند العلم الحديث، خلافًا لما جرى عليه العرف بين عامة الباحثين إلى عهدٍ قريب.
فقد كان العرف الشائع إلى أوائل القرن العشرين أن البحث عن الحقيقة المجردة والبحث عن الحقيقة المادية طريقان متعارضان، ينبغي لمن يتوخى أحدهما أن يولي ظهره للآخر، ولا يترقب الوصول إلى غاية معقولة من سلوكه إياه.
فاليوم قد تبين — على الأقل — أن الإمعان في البحث عن حقيقة المادة يؤدي بنا إلى الحقيقة المجردة وينتهي بنا إلى التسليم بكائنات «لا مادية» تخالف ما كنا ندركه من صور المادة المحسوسة.
ولا بد من الحقيقة المجردة إلى جانب الحقائق الاعتبارية، أو الحقائق التي يقاس بعضها إلى بعض ولا تستقل بذواتها عن وجود آخر وراءها، وجود يسميه علماء المادة أنفسهم وجودًا «لا ماديًّا» للتمييز بينه وبين الموجبات والسوالب والمحايدات وسائر هذه المضافات.
إن السنوات التي مضت منذ تأليف هذا الكتاب عن «الحقيقة الإلهية»، قد تقدمت بنا في طريقنا ولم تزل تتقدم بنا فيه وتحطم الحواجز التي يُخيل إلينا بادئ الرأي أنها تنكص بنا عنه أو تتشعب بنا حوله.
فإذا أردنا أن نلخص ذلك كله في سطورٍ قليلة فخلاصته الواضحة أن الإيمان بالمحسوسات ينقص على أيدي التجارب العلمية نفسها ويحل محله إيمان بالغيب المجرد الذي لا يُوصف بالمادية، أو كما قلنا في كتابنا «عقائد المفكرين»: إن القرن العشرين عصر الشك في الإلحاد والإنكار بمقدار ما كان القرن الذي قبله عصر الشك في الإيمان والنظر إلى الغيب المجهول.
وكيف يكون الموقف يا ترى عند نهاية هذا القرن العشرين؟
لا نراه مؤدِّيًا بنا إلى رجعة عن هذا الطريق، بل نراه — علميًّا كما نراه دينيًّا — يمعن بنا في هذه الوجهة التي لمحناها على كثب يوم ختمنا هذا الكتاب عن الحقيقة الإلهية في طبعته الأولى، ولعل طبعاته المتوالية أن تكون في تقدير قرائه معالم متوالية لهذا الطريق المحدود إلى أن يشاء الله.
عباس محمود العقاد
أصل العقيدة
ترقَّى الإنسان في العقائد كما ترقَّى في العلوم والصناعات.
فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته، فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الأديان والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدةٍ منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى.
وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات.
لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبًا وأطول طريقًا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى.
وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان، ولبثوا إلى زمنٍ قريب يقولون بدورانها حول الأرض ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام، ولم يخطر لأحدٍ أن ينكر وجود الشمس؛ لأن العقول كانت في ظلامٍ من أمرها فوق ظلام، ولعلها لا تزال.
فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدلُّ على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال، وكل ما يدلُّ عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملةً في عصرٍ واحد، وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرًا بعد عصر وطورًا بعد طور، وأسلوبًا بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان.
وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثيرٍ من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية، أو بين أمم الحضارة العريقة، ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك، ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة؛ فهذه هي وحدها النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها، وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء، أو يبنون عليه جديدًا في الحكم على جوهر الدين. فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء إنما يبحث عن محال.
فأيًّا كان الرأي في جوهر الدين فالنقص في العبادات الهمجية أمر مفروغ منه لا يُستدل به على نفي ولا إثبات، وإنما يصح أن يوصف بالغرابة لسببٍ واحد، وهو هذا الإجماع على الاعتقاد أيًّا كان موضوع الاعتقاد، كأنما يوجد الاستعداد للعقيدة أولًا ثم توجد العقيدة على اختلاف نصيبها من الرشد والضلال، أو توجد المَلكة أولًا ثم يوجد موضوع الاعتقاد، ولا تتوقف صحة المَلكة على صحة الموضوع.
ففي الطبع الإنساني جوع إلى الاعتقاد كجوع المعدة إلى الطعام.
ولنا أن نقول: إن «الروح» تجوع كما يجوع الجسد، وإن طلب الروح لطعامها كطلب الجسد لطعامه، لا يتوقف على جودة الغذاء ولا على حلاوة المذاق، بل يتوقف على شعور الغريزة بالحاجة إليه.
ونخال أننا لا نخرج بالمشابهة عن مداها إذا قلنا: إن إنكار الحاسة الدينية لرداءة العقيدة الأولى أو سخف موضوعها كإنكار المعدة في الجوف لرداءة المأكول وسخافة الغذاء؛ فإنما المرجع إلى بنية الروح وبنية الجسد في الحالتين، وكلتاهما حق لا يقبل المراء.
حق لا يقبل المراء أن الحاسة الدينية بعيدة الغور في طبيعة الإنسان.
وحق لا يقبل المراء أن الإنسان يجب أن يؤمن ولا يستقر في وسط هذه العوالم بغير إيمان.
وهو قد وجد في وسط هذه العوالم لا مراء، فإذا كان الإيمان هو الحالة التي يتطلبها منه وجوده — فضعف الإيمان شذوذ يناقض طبيعة التكوين ويدل على خلل في الكيان.
وقد اتفق علماء المقابلة بين الأديان على تأصل العقيدة الدينية في طبائع بني الإنسان من أقدم أزمنة التاريخ، ولكنهم لم يتفقوا على أصل العقيدة أو أصل الباعث عليها، ولا بد لها من باعث، فلن يكون الوقوف على باعثها دليلًا على بطلانها؛ لأنها لا تأتي بغير باعث يؤدي إليها كائنًا ما كان.
نعم، هي ترجع إلى باعث يحفز الطبيعة الإنسانية إلى البحث عنها، وكذلك نبحث عن الطب إذا مرضنا، ونبحث عن الملجأ الأمين إذا فزعنا، ونبحث عن المال إذا افتقرنا، ولا يقدح ذلك بحالٍ من الأحوال في صحة الطب أو الأمن أو المال.
فما هو الباعث في الطبيعة الإنسانية إلى طلب العقيدة، وهل يلزم أن يكون باعثًا واحدًا، أو يجوز أن يرجع إلى بواعثَ كثيرة؟ وهل يثبت هذا الباعث على حالة واحدة أو تتجدد له أحوال بعد أحوال بتعاقب الأطوار أو الأجيال؟
أمَّا أنَّه باعث واحد فلا وجه للزومه، ولا مانع لتعدده، ويصح جدًّا أن تتفق جميع البواعث التي تفرق العلماء في شرحها وسرد الشواهد عليها، وألا ينفرد باعث منها بنشأة الدين منذ أقدم العصور، وألا تُوصد الأبواب على البواعث الأخرى التي قد تتجدد الآن، وقد تمضي في التجدد إلى غير انتهاء.
•••
يرى كثير من العلماء أن الأساطير هي أصل الدين بين الهمج، وهو رأي لا يُرفض كله ولا يُقبل كله؛ لأن العقائد الهمجية قد تلبَّست بالأساطير في جميع القبائل الفطرية، فلا يسهل من أجل هذا أن نرفض القول بالعلاقة بين الأسطورة والعقيدة، ولكن لا يسهل من جهةٍ أخرى أن نطابق بين العقيدة والأسطورة في كل شيء وفي كل خاصة؛ لأن العقيدة قد تحتوي الأسطورة ولكن الأسطورة لا تحتويها؛ إذ يشتمل عنصر العقيدة على زيادة لا يشتمل عليها عنصر الأسطورة، وهي زيادة الإلزام الأخلاقي والشعور الأدبي بالطاعة والولاء، والأمل في المعونة والرحمة من جانب الرب المعبود.
وقد وجدت أساطير كثيرة لا تتجاوز الأوصاف الرمزية والمشابهة الفنية التي طُبع عليها الخيال: فهي ترجع إلى ملكة التجسيم والتصوير، ولا ترجع إلى ملكة الإيمان والاعتقاد.
ووجدت أساطير كثيرة سببها عجز اللغة الإنسانية في نشأتها الأولى، كما ثبت للعلامة اللغوي ماكس موللر صاحب هذا التفسير لنشأة الأساطير، فإن الذي يقول: إن الأرض أم الثمرات كالذي يقول في العصر الحديث: إن فرنسا أم الثورة، ولكننا نعرف التلاقح الحي فلا نخلط بين الحقيقة والمجاز، ولم يكن الأقدمون على علمٍ بذلك، فلا يمضي الزمن على التشبيه حتى تصبح الأمومة المجازية كأمومة الواقع بين الأحياء.
ولا شك أن الإنسان يسمع الأسطورة ولا يتدين بها، ويتدين بالعقيدة ولا يلزم من ذلك أن تصطبغ أمامه بصبغة الأساطير، فليست كل أسطورة عقيدة، وإن كانت كل عقيدة في الجاهلية الأولى قد تلبست ببعض الأساطير.
•••
ويرى تايلور Tylor أن ملكة الاستحياء Animism هي أصل الاعتقاد بالأرباب.
فالطفل يضرب الكرسي إذا أوقعه كما يضرب الإنسان والحيوان، وتايلور يعتقد أن الإنسان الأول كان كالطفل في تخيله للأشياء وتمثله لها في صور الأحياء، فالنجوم أرباب حية تشعر وتسمع وتطلب ما يطلبه الحي من غذاء ومتاع، وكذلك الرياح والسحب والينابيع والعوارض الطبيعية على اختلافها، فلا جرم يشعر الهمجي الأول بما حوله من هذه القوى الحية شعور الرهبة والرغبة، ويحتاج إلى استرضائها بالصلاة والدعاء كما يسترضي الأقوياء من بني قومه بالملق والرجاء.
ويسبق هربرت سبنسر هذا التفسير بتفسير يوافقه في ظواهر الاستحياء ولا يوافقه في تعليل الاستحياء.
فالإنسان الأول — على ما يرى سبنسر — كان يؤمن بحياة الأرباب؛ لأن عبادة الأسلاف هي أقدم العبادات، وكان يرى الأطياف في المنام فيحسب أنها باقية ترجى وتخشى، وأنها تتقاضاه فروضًا لها عليه كفروض الآباء على الأبناء وهم بقيد الحياة.
ولكن يُرَدُّ على القول بعبادة الأسلاف أنها لم تستغرق عبادات الأقدمين في زمن من الأزمان، وأن النائم يرى أطياف الغرباء كما يرى أطياف الآباء، ويرى أطياف الأطفال الضعفاء، بل يرى أطياف السباع التي يخافها في يقظته فلا يعبدها؛ لأنه يخافها وتتردد عليه أطيافها، بل يقتلها ويحول بينها وبين الطعام.
ومهما يبلغ من قصور العقل في الهمج فهم لا يجهلون أن «الروح» الذي يحوم حولهم في طلب الطعام والشراب يحتاج إليهم ولا يستغني عنهم، فإن شاءوا منعوا عنه القوت فَأَرْدَوْهُ، وإن شاءوا والوه بالقوت فأبقوه، ولو لم يكن محتاجًا إليهم لما حام حولهم ولا انتظر منهم أن يسترضوه بإشباعه وإروائه، ولماذا لا يسعى لنفسه كما كان يسعى لها وهو مقيم بين ذويه؟
ومن الواجب أن تسأل إذا كان الهمجي كالطفل ينظر إلى جميع الأشياء كنظرته إلى الحي الذي يقصد ما يفعل: ترى لماذا لم يعبد الهمجي جميع الأشياء؟
لا بد أنه قد عرف قبل العبادة وصفًا للربوبية يميز به طائفة من الكائنات عما عداها، ويرى ذلك الوصف موفورًا في هذا الشيء وغير موفور في سواه.
وقد نقل السائحون عن أقزام أفريقيا الوسطى — وهم في حضيض الهمجية — أنهم يؤمنون برب عظيم فوق الأرباب، وعرفت من الهمج قبائل مُسِفَّة في الجهالة لم تعبد الأسلاف، وجعلت ظواهر الطبيعة مسخرة لروحٍ عظيم.
ويرجح آخرون أن السحر هو أصل العبادة وأصل الشعائر الدينية.
ولكن يُقال في الرد عليهم: إن السحر يستلزم وجود الأرواح التي تُعالج به وتراض بتعاويذه؛ لأن السحر لا يخلق الآلهة وإنما يخلقه السحرة والكهان الذين يخدمون تلك الآلهة، ويزعمون أنهم على مقربة منها وعلى علم بما يغضبها ويرضيها.
وقد شُوهد منذ القدم أن طبيعة السحر غير طبيعة العبادة في أساسها؛ لأن السحر منوط أبدًا بالأمور الخبيثة والوسائل الدنسة والنفايات التي تُعاف وتُنبذ في الخفاء، ولم تخل العبادة قط من توسل إلى الخير ورجاء في كرم المعبود، وقلَّما تخلو من «تطهر» بنوع من أنواع الطهارة يناقض وسائل السحر الخبيث، فكأنما فرق الناس بين العبادة والسحر عندما فرقوا بين الأرباب المرجوة والأرباب المرهوبة، فاتخذوا العبادة لأرباب الخير والمحبة، واتخذوا السحر لأرباب الشر والبغضاء.
ومهما يكن من تعليل نشوء السحر فليس لنا أن نزعم أن الناس سحروا ثم عبدوا، بل يحق لنا أن نزعم أنهم قد عبدوا ثم سحروا؛ لأن السحر اختراع لا معنى له ما لم يسبقه إيمان بالمعبودات التي يروضها السحرة ويخافها العباد.
•••
والأكثرون من ناقدي الأديان يعللون العقيدة الدينية بضعف الإنسان بين مظاهر الكون وأعدائه فيه من القوى الطبيعية والأحياء، فلا غنى له عن سند يبتدعه ابتداعًا ليستشعر الطمأنينة بالتعويل عليه والتوجه إليه بالصلوات في شدته وبلواه.
على أن القول بضعف الإنسان تحصيل حاصل إن أريد به بطلان العقيدة الدينية وإثبات التعطيل؛ لأن الإنسان ضعيف على كلا الفرضين، فليس من شأن ضعفه أن يرجح أحد الفرضين على الآخر.
فإذا ثبت أنه من خلق إله فعال قدير فهو ضعيف بالنسبة إلى خالقه، وإذا لم يثبت ذلك فهو ضعيف بالنسبة إلى الكون ومظاهره وقواه، فماذا لو كان قويًّا مستغنيًا عن قوى العالم؟ أيكون ذلك أدعى إلى إثبات العقيدة الدينية والإيمان بالله؟
إننا إذا حكمنا ببطلان العقيدة الدينية لضعف الإنسان فقد حكمنا ببطلانها على كل حال، ثبت وجود الله أو لم يثبت بالحس أو البرهان! لأنه لن يكون إلا ضعيفًا بالنسبة إلى الخالق الذي يبدعه ويرعاه.
لكن الواقع أن الضعف لا يعلل العقيدة الدينية كل التعليل؛ لأنها تصدر من غير الضعفاء بين الناس، وليس أوفر الناس نصيبًا من الحاسة الدينية أوفرهم نصيبًا من الضعف الإنساني سواء أردنا به ضعف الرأي أو ضعف العزيمة، فقد كان الأنبياء والدعاة إلى الأديان أقوياء من ذوي البأس والخلق المتين والهمة العالية والرأي السديد، ومهما يكن من الصلة بين ضعف الإنسان واعتقاده فهو لا يزداد اعتقادًا كلما ازداد ضعفًا ولا يضعف على حسب نصيبه من الاعتقاد، وما زال ضعفاء النفوس ضعفاء العقيدة، وذَوُو القوة في الخلق ذوي قوة في العقيدة كذاك.
فليس معدن الإيمان من معدن الضعف في الإنسان، وليس الإنسان المعتقد هو الإنسان الواهي الهزيل، ولا إمام الناس في الاعتقاد إمامهم في الوهن والهزال.
وربما كان الأصح والأولى بالتقرير والتحقيق أن العقيدة تعظم في الإنسان على قدر إحساسه بعظمة الكون وعظمة أسراره وخفاياه، لا على قدر إحساسه بصغر نفسه وهوان شأنه.
فمبلغ الإحساس بالعظمة هو مبلغ الإحساس بالعقيدة الدينية، وصغر الكون في نظر الإنسان نقص في الشعور بظاهره وخافيه، ونقص من أجل ذلك في طبيعة الاعتقاد وطبيعة الإيمان.
ومن هنا تكون الحاسة الدينية مجاوبة صحيحة للوجود العظيم الذي يحيط بالإنسان، سرمديًّا بعيد الأغوار عميق القرار.
فليس الكيان الصحيح هو الذي يمر بهذا الوجود السرمدي كأنه لا يراه ولا يهتز له ولا يستجاش من أعماقه إذا سبر غوره فقصر عن مداه.
وإنما الكيان الصحيح هو الذي يجيش بتلك الحاسة القوية، فيستهول الكون ويستقبله بالحيرة والتقديس؛ لأنه في الواقع هائل محير جامع لمعاني القداسة من حيث نجمت في لغة اللسان أو لغة الضمير.
وعلى هذا تكون العقيدة من مصدر الصحة؛ لأنها تجاوب الوجود المحيط بالنفس الإنسانية، ولا تكون من مصدر النقص والغفلة عن حقائق الأمور.
وإذا رجح العقل بأن العقيدة «ظاهرة اجتماعية» يتلقاها الفرد من الجماعة فليس الضعف إذن بالعامل الملح في تكوين الاعتقاد؛ لأن الجماعة تحارب الجماعة بالسلاح المصنوع وقوة الجنان مع القوة العددية، وتقيس النصر والهزيمة بهذا المقياس المعلوم، فلا تلجأ إلى مقياس العقيدة المجهول إلا إذا آمنت به لباعث غير باعث التسلح والاستقواء.
ورأيُ فرويد Freud قريب من رأي هؤلاء الذين يردون العقيدة الدينية إلى شعور الخوف في وسط العناصر الطبيعية، وربما اختلط به مزيج من الغريزة الجنسية في بعض المتهوسين وذوي الأعصاب السقيمة، فإن حب الله — كما يفسره فرويد عند هؤلاء — هو بمثابة الحب الجنسي في حالة «التسامي» أو حالة الحماسة، وتتشابه العوارض كلها مع هذا الفارق بين الحبين.
قال فرويد في مقاله مستقبل وهم: «ومتى نما الطفل ورأى أنه قد كتب عليه أن يظل طفلًا ما طوال حياته، وأنه لن يستغني عن حماية في وجه القوى الجبارة المجهولة — خلع عليها صورة الأبوة، وخلق لنفسه الآلهة التي يخافها ويرجو أن يستميلها، ولا بد له من أن يكل إليها أن تحميه وترعاه، ومن هنا يصبح تفسير الشوق إلى الأبوة مقرونًا بالباعث الآخر وهو حماية الإنسان من جرائر ضعفه، فتؤدي حالة الطفل الذي يشعر بقلة حيلته ولا يقوى على الحرمان من حنان الأبوة — إلى حالة الرجل الكبير الذي يشعر بقلة الحيلة أيضًا ويفتقر إلى نوع من الحنان الأبوي، فيصيبه في الديانة.»
وقال في الحضارة ومقلقاتها بعد أن أشار إلى آلام الواقع ومحاولة الهرب منها إلى التعزي بالأوهام: «إن ديانات بني الإنسان جميعًا ينبغي أن تحسب في عداد الأوهام الجماعية التي من هذا القبيل، ولا حاجة إلى القول بأن الذي يخضع للوهم لا يعلم أنه من الواهمين.»
ومن الواضح أن حالة «التسامي» هي آخر ما ارتقت إليه الديانات، فلا يمكن أن يقال إنها ينبوع العقيدة الهمجية الأولى.
ولا يمكن كذلك أن يقال إن «العقيدة الدينية» حالة مرضية في الآحاد والجماعات؛ لأننا لا نتخيل حالة نفسية هي أصح من حالة البحث عن مكان الإنسان من هذا العالم الذي ينشأ فيه، ولا يتجاهل حقيقته إلا وهو في «حالة مرضية» أو حالة من أحوال الجهالة تشبه الأمراض.
ولا بد أن نسأل: ما هو الكون في نظر الهمج الأولين؟ لأن الهمجي إذا أدرك أن الكون «كُلٌّ واحد» كان قد ارتفع بنظرته عن الجهالة البدائية وقضى دهرًا طويلًا وهو متدين على مختلف الديانات، فلا يقال إذن إنه بقي بغير أرباب حتى أدرك الكون العظيم، وأدرك ضعفه وقلة حيلته بالقياس إليه.
أما إن كان الهمجي الأول يخاف العناصر المحيطة به فهو لا يتوهم أنها أحياء تفهم وتسمع دعاءه بعد أن ينحلها عواطف الأبوة، بل يتوهم ذلك قبل أن ينحلها تلك العواطف، ويشعر بأنها قابلة لأن تحل منه محل الآباء من الأبناء، فمرحلة الشعور بالأبوة مسبوقة لا محالة بمرحلة أخرى قد نشأت فيها الأرباب والعبادات.
وقد أسلفنا في هذه الصفحات أن معدن العقيدة غير معدن الضعف، فليس أكثر الناس اعتقادًا هم أكثرهم ضعفًا، وليس الضعيف دائمًا بالقوي في التدين والاعتقاد.
•••
وطائفة أخرى من علماء الإنسان يقرنون بين «الطوطم» والدين، ويظنون أن الطواطم هي طلائع الأديان بين الهمج الأولين.
وقد تحقق أن شعائر الطواطم منتشرة بين مئات القبائل الهمجية في أستراليا وإفريقية والأمريكتين وبعض أقطار القارة الآسيوية وجزائرها.
فلا تزال في هذه القارات قبائل كبيرة وصغيرة تتخذ لها على الأكثر حيوانًا تجعله طوطمًا وتزعمه أبًا لها أو تزعم أن أباها الأعلى قد حل فيه، وقد يكون الطوطم في بعض الحالات نباتًا أو حجرًا يقدسونه كتقديس الأنصاب.
وإذا اتخذت القبيلة «طوطمًا» لها حرمت قتله وأكله في أكثر الأحوال، وحرمت الزواج بين الذكور والإناث الذين ينتمون إلى ذلك الطوطم ولو من بعيد، وقد يكون للقبيلة الكبرى بطون متفرقة تتعدد طواطمها ويجوز الزواج بين المنتمين إليها، ولكنهم يحرمونه في الطوطم الكبير.
ومن هذه اللوازم الطوطمية يرجح المخالفون لهذه الفكرة أن الطوطمية لم تكن أصل العقيدة الدينية؛ لأنها تنشأ بعد اتساع القبائل واعترافها بأنظمة الزواج وآداب المعاملات، وليست هذه المرحلة أولى المراحل في تطور الاعتقاد.
ولا شك أن الناس قد عرفوا شيئًا يسمى «الروح» يحل في جسد الحيوان أو يتلبس به قبل أن يعرفوا الطوطمية، وعرفوا كذلك تقديس الأسلاف قبل أن يعرفوها، وقد وُجدت قبائل شتى تتخذ الطواطم وتعبد أربابًا غيرها، ووُجدت قبائل لا تخلع على الطواطم صفة الأرباب على الإطلاق.
•••
والفيلسوف الفرنسي — هنري برجسون — يرجع بالعقيدة الدينية إلى مصدرين: أحدهما اجتماعي لفائدة المجتمع أو فائدة النوع كله، والآخر فردي يمتاز به آحاد من ذوي البصيرة والعبقرية الموهوبة.
فالحاسة الدينية الاجتماعية هي «حيلة نوعية» يلجأ إليها خيال النوع الإنساني لكبح الأثرة الفردية وإقناع الإنسان بنسيان مصالحه في سبيل المصالح الكبرى التي تتعلق بها حياة النوع في جميع الأحوال، فإن الإنسان لو استوحى عقله وحده خدم نفسه وأطاع لذته، ولم يحمل الألم ولا الخسارة من أجل أبناء نوعه، ولما كانت إرادة الحياة مُسْتَكِنَّة في النوع كما هي مُسْتَكِنَّة في آحاده على انفراد نشأت من الغريزة النوعية ملكة يسميها برجسون بملكة الخرافة الرمزية أو ملكة الأساطير، وتكفلت للإنسان بخلق العوض الذي يستعيض به عن منافعه ولذاته حين يهجرها لمنفعة نوعه، فاعتقد الجزاء بعد الحياة، وأحس أنه محاسب على الإضرار بغيره، مثابٌ على الخير الذي يسديه إلى أبناء نوعه، واقترنت فيه أثرة الفرد بأثرة النوع، فاستقامت على التوازن بينهما مصلحته ومصلحة الناس أجمعين.
أما الحاسة الدينية في الفرد الممتاز فهي الإلهام أو الكشف الذي يصل بينه وبين قوة الخلق أو دفعة الحياة Elan Vital كما يسميها برجسون، وقد تطورت دفعة الحياة هذه في ذهن الفيلسوف حتى أصبحت في كتبه الأخيرة «ذاتًا» إلهية تُغَيِّر ولا تتغير، ولكنها كونية غير منفصلة عن هذه الموجودات، وهي تتجلى على أكملها وأوضحها في بديهة النخبة المختارين من كبار العباقرة الروحانيين، وهم خالدون كما يرجح الفيلسوف أو أن خلودهم مسألة لا يمنعها العقل ولا يبعد أن تحققها الدراسات النفسية بالأسانيد العلمية، ولو بعد حين.
ويسأل السائل هنا: إذا كانت للخلق قوة كونية تتجلى لبعض الملهمين فلماذا تكون الحاسة الدينية الاجتماعية وهمًا مختلفًا أو خرافة مزخرفة أو اختراعًا لا أساس له غير الحيلة النوعية لحفظ البقاء؟ لماذا لا تكون من قبيل «التلمس» البديهي لتلك القوة الكونية؟ لماذا لا تكون في هذا «الوجود» ذات إلهية ثم نسمي البحث عنها حيلة مختلفة أو وهمًا من الأوهام؟
•••
وممن يُسمع لهم رأي راجح في مباحث العقيدة إمام علماء اللغات المحدثين «ماكس موللر» صاحب الرأي المعدود في اشتقاق اللغات ومعاني الأساطير وعلاقتها بالعقائد والعبادات، فهو يؤمن بأن «البصيرة» هبة عريقة في الإنسان، وأننا كما قال — في كلامه على مقارنة الأساطير: «مهما نرجع بخطوات الإنسان إلى الوراء لن يفوتنا أن نتبين أن منحة العقل السليم المستفيق كانت من خصائصه منذ أوائل عهده، وأن القول بإنسانية متسلسلة على التدريج من أعماق البهيمية إنما هو قول لن يقوم عليه دليل.»
ومصداقًا لهذا الرأي يرجح موللر أن الإنسان قد تدين منذ أوائل عهده لأنه أحس بروعة المجهول وجلال الأبد الذي ليس له انتهاء، وأنه مثل لهذه الروعة بأعظم ما يراه في الكون وهو الشمس التي تملأ الفضاء بالضياء، فهي محور الأساطير والعقائد كما ثبت له من المقابلة بين اللغات واللهجات.
وإذا قيل لموللر إن «الأبد» أو اللانهائية معنى لا توجد له كلمة في اللغات الهمجية ولا الحضارة الأولى قال إن الإحساس بالمعاني يسبق اختراع الكلمات، وقد ثبت أن الإنسان الأول لم يضع في لغاته كلمات لبعض الألوان، مع أنها قديمة محسوسة بالنظر موصولة بتجاربه اليومية. فإذا بحثنا عن لفظة تدل على معنى اللانهاية فلم نجدها في لغات الإنسان القديمة فليس ذلك بدليلٍ على أن المعنى النفساني غير موجود أو غير محسوس.
•••
ويبدو لنا أن القول بإدراك «الهمجي» لفكرة اللانهاية بعيد التصديق، وأنه لو كان قد أدركها قبل أن يتدين لتنزهت عقائده الأولى عن كثير من السخف الذي لا يجمل بتلك الحقيقة الكبرى، ولا يسلم من فساد الذوق ولا من العجز عن فهم العظائم التي تتجاوز أفقه الضيق ومعيشته المحدودة.
•••
وإلى هنا نحسب أننا قد ألممنا بأهم الفروض التي خطرت على الأذهان في تعليل العقيدة الدينية، أو تعليل نشأتها الأولى.
وجملة ما يقال فيها أننا لا نجد فرضًا منها يستوعب أسباب العقيدة كلها ويغنينا عن التطلع إلى غيره.
وجملة ما نفهمه من ذلك أن مسألة العقيدة أكبر من أن يحصرها تعليل واحد، وأنها قد تتسع لجميع تلك التعليلات معًا ولا تزال مفتحة الأبواب لما يتجدد من البحوث والدراسات.
وهكذا كل شعور واسع النطاق في طبيعة الإنسان.
فما من شعور متغلغل في أصول الطبيعة يقبل التفسير على وجه واحد والانطواء في هيئة واحدة، ولو كان مقصورًا على العالم المحسوس فضلًا عن عالم الغيب أو عالم ما بعد الطبيعة.
فلا يكفي في تفسير الحب مثلًا أن نفسره بحب البقاء أو بحب الجمال أو بحب اللذة أو الغلبة أو بحب التضحية والمفاداة.
ولا يكفي في تفسير الوطنية مثلًا أن نفسرها بالمصلحة أو باللغة أو بوحدة التاريخ أو بوحدة المكان أو بوحدة الدين أو بعصبية القرابة.
فالمسألة الكونية — بل المسألة الأبدية — أعظم جدًّا من المسألة النوعية أو المسألة الوطنية، وأحق من جميع المسائل بتعدد الأسباب وتشعب المناحي وغرابة الأطوار.
وليس مما يقدح في النتيجة أنها نجمت من هذا السبب أو ذاك، على اختلاف قيمة الأسباب في الفكر والشعور.
فالإنسان قد وصل إلى الطب النافع من طريق الشعوذة، ووصل إلى الكيمياء الصحيحة من طريق الكيمياء الكاذبة، ووصل إلى الصواب على الإجمال من طريق الخطأ على الإجمال، ولا يقول أحد: إنه لن ينتهي إلى صواب إلا إذا بدأ على صواب، وإنه إذا أخطأ في المحاولة وجب أن يلزمه الخطأ بغير أمل في الهداية.
ويجوز على هذا أن تنبعث العقيدة عن أكثر الفروض المتقدمة ولا تنبعث عن فرض واحد، ولكنها على تعدد الأسباب يمكن أن تجتمع في تفسير يشملها جميعًا لأنه يعتبر بمثابة التعميم الذي لا تشذ منه ناحية من نواحي التخصيص.
فنحن لا نهمل سببًا يخطر على البال إذا قلنا: إن العقيدة هي ترجمان الصلة بين الكون والإنسان، أو قلنا: إنها مظهر الصلة بين العالم الأكبر والعالم الأصغر كما يقول جماعة المتصوفة والنساك.
فلا بد من صلة بين الكون وبين كل موجود فيه.
ولا بد من أن تمتزج هذه الصلة بالوعي والشعور متى كان الموجود من أصحاب الوعي والشعور.
ومن العجيب أن يعرف العلماء شيئًا يسمى الغريزة النوعية، بل شيئًا يسمى غريزة الجماعة، ولا يعرفون شيئًا يسمى الغريزة الكونية أو السليقة الكونية، أو ما شاءوا من الأسماء.
فمن المحقق أن الصلة بين الكون وموجوداته ماثلة في جميع الموجودات، ومن المحقق أن «الوعي» لا يخلو من ترجمان لهذه الصلة لا يحصره العقل؛ لأنه سابق له محيط به غالب عليه.
ومن المحقق أن «الوعي الكوني» ملكة قابلة للترقي والاتساع؛ لأن الحقائق التي تقبل الفهم في الكون لا تزال على اتساعٍ وارتفاع يفوقان كل وعي ترقَّى إليه بنو الإنسان.
بل هذه الحواس الجسدية — وَدَعْ عنك الحقائق الأبدية — لا تحيط بكل ما تحسه العيون والأنوف والآذان، فبعض الحيوان يستنشق الرائحة على بعد أميال وهي كالعدم في أنف حيوان آخر ولو كانت منه على مدى قراريط، وبعض الأصوات نلتقطها بالآلات من وراء البحار والقفار وقد كان الظن قبل العصر الحاضر أن الصوت «عدم» على مد البصر القريب، ومن زعم أن «الموجود» هو ما تناوله الحس دون غيره كذبه الحس نفسه وقامت الحجة عليه من العيون والأنوف والآذان فضلًا عن البصائر والعقول.
ففي الكون مجال «للوعي الكوني» أوسع من مجال الحواس والملكات، وما دامت الصلة بين الإنسان وبين الكون قائمة فلا بد من دخولها في نطاق وعيه على مثال من الأمثلة، ولا موجب لوقوفها دون غاية من الغايات التي تطيقها ملكات الجنس البشري، ومنها ملكة الاعتقاد والإيمان.
وفي الكون العظيم حقائق لم تقابلها الحواس الجسدية ولا الحواس النفسية كل المقابلة إلى الآن.
ولا يوجد عقل سليم يمنع أن تترقى المقابلة بين الحواس النفسية وبين تلك الحقائق، ما دامت قائمة، وما دام الوعي في طريق الارتفاع والاتساع.
ولا يوجد عقل سليم يمنع التفاوت في هذه الحواس النفسية — التي نسميها بالوعي الكوني — فيمتلئ بها أناس ويقفر منها أناس، ويكون الفارق فيها بين الموهوبين والمجردين كالفارق — على الأقل — بين أذن الموسيقيِّ التي تميز مئات الألحان، وآذان السواد الذين يحسبونها كلها صوتًا واحدًا أو بضعة أصوات.
ونقول: «على الأقل»؛ لأن المحسوسات التي تدرك بالأذن أضيق من المحسوسات التي تدرك بالكيان كله مما يعيه وما لا يعيه.
فإذا قال لنا قائل إنني أحس «الحقيقة الكونية» أو أحس خالق الكون فلا ينبغي أن نكذبه لزعمنا أن الحقيقة الكونية مستحيلة وأن الوعي الكوني مستحيل؛ فإن الحقيقة الكونية لا شك فيها وإن الوعي الكوني لا شك فيه، ولكننا نكذبه — إن كذبناه — متى شككنا في صدقه كما نكذب من نشك في روايته لوقائع العيان، ولا شك في وقائع العيان.
ولنا أن نستبعد هذا الأصل أو ذاك من أصول العقائد الهمجية الغابرة أو الحاضرة، ولكن ليس لنا أن نستبعد «الوعي الكوني»؛ لأنه حقيقة يستلزمها العقل وتؤكدها المشاهدة في كل زمن وفي كل موطن وفي كل قبيل.
فالعقل الذي يرى للإنسان غرائز نوعية وغرائز اجتماعية يستبعد كل الاستبعاد أن يخلق الإنسان وهو ذرة من قوى الكون ومادته ثم يخلو من وعي يترجم هذه العلاقة التي هي أكثر من علاقة؛ لأنها احتواء واشتمال.
والديانات في كل قبيل تترجم هذا الوعي الكوني منذ القدم وتمثله بما تشاء من الرموز والعبارات، وهذا عدا الآحاد الممتازين الذين يبلغ فيهم هذا الوعي أقصاه ولا يسهل تفسير حالاتهم بعوارض الجنون كما يقول عنهم الجهلاء من أبناء قومهم، فإن هؤلاء الآحاد هم في الغالب من أعظم الرجال وأقدرهم على تبديل أحوال الشعوب والأجيال، ولا يسعنا أن نصرف حالاتهم بهذه السهولة أو بكلمةٍ واحدة تسمى الجنون، وهي هي الحالات التي ترتبط بها عقائد الملايين وألوف الملايين، ونعلم أنها لازمة ومعقولة بل أعظم من اللازم والمعقول؛ لأننا إذا حذفنا تلك الحالات وما تعبر عنه من العقائد نظرنا إلى الإنسان بعدها فإذا هو أعجب من أعجب الخرافات في أسخف البدائه والعقول؛ إذ نحن نراه موجودًا في عالم مُنْبَتٍّ عنه لا يحسه ولا يبالي أن يحسه ولا يربط حياته بظواهره وخوافيه ولا يقابل تلك الأسرار بسر فيه، وإن غيلان الصحراء وهامات الجاهلية وأصداءها لأقرب إلى العقل من هذا الإنسان.