قدم الكتاب بالعربية
جزيرة أقريطش «كريت» مركز من أهم مراكز الحفريات التي ينتفع بها طلاب التحقيق في تاريخ علم الإنسان أو «الأنثربولوجية»؛ لأنها جزيرة تتوسط بين القارات الثلاث: أفريقيا وآسيا وأوروبا، وردت عليها حضارة بعد حضارة من هذه القارات، ثم اختلفت الحضارات في برها الأصيل، كما اختلفت في داخل الجزيرة باختلاف عوامل التطور العالمية واختلاف عوامل التطور المحلية، فكل ما يهتدى إليه علماء الحفريات من بقايا الجزيرة القديمة فهو مادة صالحة لاستقراء الأصول والفروع من هذه الحضارات، ولاستقراء عوامل التطور مع حوادث التاريخ الإنساني الشامل، وعوامل التطور المنحصرة في جزيرة محدودة تنعزل حينًا آخر بما يحيط بها من أقطار القارات الثلاث.
ويأتي في المرتبة الأولى بين مباحث هذه الحفريات مبحث اللغة التي تكلم بها أبناء الجزيرة قبل الميلاد ببضعة عشر قرنًا، وقد ترتقي إلى ألفي سنة.
فإذا ترجمنا الأساطير اليونانية القديمة بلغة التاريخ؛ فالمفهوم من أشهر هذه الأساطير التي وردت في شعر «هوميروس»، أن الكريتيين كانوا من سلالة فينيقية؛ لأن ملك الجزيرة «مينوس» كان ابن الحسناء «أوروبة»، أميرة مدينة صور التي كان يحكمها الملك «فونيق».
ولكن علماء الحفريات يحاولون أن يحققوا التواريخ الأسطورية بتفسير النقوش التي ترجع إلى تلك الفترة من حضارة الجزيرة قبل الميلاد، ومنها نقوش عثروا عليها منذ نصف قرن، ولا يزالون مختلفين في المقابلة بين حروفها والحروف الأبجدية التي استخدمها سكان الجزيرة على أثر اتصالهم بالحضارة الإغريقية.
وبعد خمسين سنة في الفروض والتأويلات، أعلن الأستاذ سيروس جوردون، رئيس مباحث البحر الأبيض المتوسط بجامعة برانديس، أنه اهتدى إلى مفتاح الكتابة التي نقشت على ألواح الجزيرة، فوضح له أن اللغة «سامية» لا شك فيها، وأن بعض كلماتها تقارب الكلمات العربية التي نتكلمها في العصر الحاضر، ومنها كلمة «قرية» وكلمة «ميت» وكلمة «داود»، منطوقة بما يقرب من نطق حروفها التي تكتب بها الآن.
والعلماء الآخرون ممن اطلعوا على تأويلات الأستاذ جوردون ولم يشتركوا في أعمال الحفريات يراجعونه في مقارناته بين الحروف، ويقولون: إنها قد توافق النطق الفينيقي، ولكنها قد تكون مرادفة لمعاني الكلمات في لغات أخرى إذا أراد الناطق أن يتصرف بالمد والقصر، أو التفخيم والترقيق، في أداء الأصوات بما شاء من مخارج الحروف.
على أن المنكرين لمفتاح الأستاذ جوردون يتكلفون عنتًا شديدًا إذا كان إنكارهم مبنيًّا على الشك في وصول الفينيقيين إلى الجزيرة، وإقامتهم فيها قبل الميلاد بقرون عدة، ويتكلفون عنتًا أشد من ذلك إذا قدروا أن الملاحين الفينيقيين لم يكن لهم شأن في حضارتها، ولم تكن لهم صلة «لغوية» بأهليها، كائنًا ما كان أولئك الأهلون، قبل وصولهم إليها.
فمهما يكن رأي المؤرخ في الأساطير القديمة، فهي خيال لا يخلو من الواقع، وخبر لا يخلو من الدلالة، وليس من المعقول أن تزعم الأساطير أن أميرة صور كانت ملكة على جزيرة كريت إن لم يكن هناك علاقة من علاقات الملاحة والتجارة بين البلدين، ولم تكن تلك العلاقة في ذاكرة الرواة والشعراء يتناقلونها خلفًا عن سلف وجيلًا بعد جيل، ولا يخلقونها ساعة روايتها بلغة القصة أو لغة التاريخ.
فالقول بأن اللغة الفينيقية عرفت في جزيرة كريت قبل أربعة آلاف سنة أو نحوها هو أقرب الأقوال إلى التاريخ الصحيح، سواء نظرنا إلى تاريخ الملاحة في الجانب الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، أو نظرنا إلى الأساطير المروية عن علاقة الجزيرة بمدينة صور، أو نظرنا إلى تفسيرات الحفريين، ولم يظهر ما هو أولى منها بالقبول إلى الآن، أو نظرنا إلى الحروف الفينيقية التي اقتبسها اليونان وأبناء الجزر اليونانية جميعًا بعد العصر المقدر لوجود الأميرة «أوروبة» والملك «مينوس» ببضعة قرون.
ونحن — إلى هنا — نذكر اللغة الفينيقية والحروف الفينيقية عند الكلام على التاريخ قبل أربعة آلاف سنة؛ لأننا نعقب بهذا الكلام على تعبيرات العلماء الأوروبيين الذين يسمون الشعوب السامية بتلك الأسماء كلما ذكروا شيئًا عن تواريخها في تلك الأزمنة الخالية.
أما الذي نؤثره ونستند في إيثاره على الأصول المعقولة؛ فهو تغليب كلمة «العربية» على كلمة الفينيقية أو كلمة السامية على اختلاف مدلولاتها؛ حيث يرجع الأمر إلى أربعة آلاف سنة من تاريخ هذه اللغات القديمة، أو على الأصح من تاريخ تلك اللهجات كما ينبغي أن تسمى في ذلك الحين؛ لأنها كانت قبل أربعين أو خمسين قرنًا لهجات تتفرع على أصل واحد قديم.
فقد كان الفينيقيون يقيمون بين النهرين على مقربة من خليج العرب قبل انتقالهم إلى صور وغيرها من المدن على شواطئ فلسطين.
وقد كانت الحروف المنسوبة إليهم عربية على التحقيق، ولم تكن مقصورة على القبائل الفينيقية في العراق أو فلسطين، ولو لم تكن عربية عامة لما وجدت بصورها الباقية إلى اليوم في الخط المسند الذي لا شك في قدمه وقدم الحضارة اليمانية، بل العروبة اليمانية — من قبله — فإن الأبجدية المشهورة باسم الفينيقية، والأبجدية التي كانت تكتب في بلاد اليمن متشابهتان في أكثر الحروف، وما اختلف منها قليلًا فهو اختلاف في الأداء دون الأصول، ومثله هذا الاختلاف الذي نشاهده بين كتابة المشارقة وكتابة المغاربة لبعض الحروف العربية إلى اليوم.
وإذا جاز الشك في العلاقة القديمة بين الحضارة العربية وجزيرة كريت، فليس هناك محل للشك في علاقة هذه الحضارة باليونان منذ عصر الملك «قدموس»، وهو مقارب في حساب التاريخ وحساب الأساطير لعصر الأميرة «أوروبة» والملك «مينوس» على رواية الشاعر هوميروس.
نعم، لا شك في هذا؛ لأن الأبجدية اليونانية باقية إلى اليوم تدل على تاريخ العلاقة القديمة.
فهذه الأبجدية التي يكتبها اليونانيون في عصرنا هذا موافقة بترتيبها حرفًا حرفًا لترتيب الأبجدية العربية، ولا يختلف هذا الترتيب مرة إلا إذا تقابل حرف من حروف الحلق بحرف من الحروف التي تقاربه في نطق الأوروبيين، لأن الأوروبيين لا ينطقون حروف الحلق كما هو معلوم.
فالأبجدية اليونانية تبتدئ بحروف «ألفا وبيتا وجاما ودلتا»، وهي حروف الألف والباء والجيم والدال في «أبجد» على هذا الترتيب، ثم تتقابل حروف «هوز» بما يقاربها مع اختلاف نطق الهاء، ونطق الواو حين تكون حركة مد عندهم وحرفًا منطوقًا عندنا في بعض الأحيان، ثم تأتي «كلمن» متتابعة كما هي عندنا بغير اختلاف؛ لخلوها من حروف الحلق والمد، وهم ينطقونها «كافا ولامتا ومي وني»، ويتبعونها ببقية حروفنا على النحو الذي أشرنا إليه.
ومن المؤرخين الأوروبيين مَن يتعصبون في نسبة كل ثقافة أوروبية إلى أصل من أصولها العربية أو الشرقية، فهم يدركون هذا الشبه بين الأبجدية عندنا والأبجدية عند اليونان؛ فيعترفون به، ولكنهم يسألون: ولماذا لا يكون الساميون هم الذين اقتبسوا هذه الحروف من مصدر أوروبي قديم؟
وقد ظل هذا السؤال زمنًا معلق الجواب أو محتملًا للإجابة بنسبة الأصول الأبجدية إلى المصادر الأوروبية، لولا أن أسماء الحروف العربية عرفت بمعانيها وأشكالها، ولم يعرف لها معنًى ولا شكل يعود بها إلى لغة من لغات الأوروبيين. ومن معاني هذه الحروف ما نفهمه في أحاديثنا اليومية إلى هذه الأيام؛ كالباء من البيت، والجيم من الجمل، والعين من العين، والكاف من الكف، والنون من النون أو الحوت.
وكلما كشف الحفريون حرفًا مكتوبًا، وعرفوا معناه وعمله في الجملة؛ عاد بهم هذا الكشف الجديد إلى أصل قديم يقدر تاريخه بآلاف السنين، فقد كشف الحفريون من آثار بلاد النبط بعض حروف الجر التي كانت تستعمل في مثل موقعها من الجملة عندنا قبل ثلاثة آلاف سنة. فإذا قدرنا أن حرف الجر عادة هو اسم أو فعل مختزل لا تتعود الألسنة اختزاله قبل انقضاء مئات السنين، فلا بد من تقرير زمان سابق لتاريخ تلك الكتابة النبطية بعدة قرون، كانت فيها اللغة العربية لغة تركيب وإعراب بقواعدها التي تطورت مع الزمن حتى وصلت إلى ما هي عليه، وبلغت فيها قواعدها غاية مداها من الضبط والاستقرار.
وها هنا ننتهي إلى بيت القصيدة من تحقيق القول بقدم اللغة العربية.
فإن قدم اللغة — على أية حال — عراقة تحسب لها كما تحسب لكل كائن حي عريق، ولكن الذي يعنينا منه في هذا المقام هو جانب التمام والنضج بعد طول التطور والتقويم.
فما من قاعدة من قواعد اللغات السامية تابعت نموها، ونضجت في تطورها كما نضجت في لغتنا العربية بعد ذلك التقدم المتطاول من أقدم العصور.
في اللغات السامية إعراب، ولكنه قاصر غير مطرد ولا متناسق في مواضعه، ولم يبلغ قط مبلغ «القانون» الذي نعرف فيه حدود الاطِّراد وحدود الاستثناء.
وفي اللغات السامية اشتقاق، ولكن قوالب المشتقات فيها لم تتميز بأوزانها ومعانيها كما تميزت مع تطور اللغة العربية.
وفي اللغات السامية حروف لم تعرف في غيرها من العائلات اللغوية كما يسميها المحدثون، ولكن لغة من اللغات — سامية كانت أو آرية أو طورانية — لم تتحرر فيها المخارج بحروفها ولا الحروف بمخارجها كما تحررت في لغة الضاد؛ فليس في لغة الضاد حرف ملتبس بين مخرجين، ولا مخرج ملتبس بين حرفين.
وفي اللغات السامية نحو وصرف، ولكنهما واقفان — فوق المنبت — جذورًا، كالخشب الذي لا يقبل النمو بعد ما وصل إليه، وما من جذر من جذور نحونا أو صرفنا لم يتفرع، ولم يحتفظ بقوة الحياة فيه كما تحتفظ البنية الحية بقوة حياتها، وفي كل عضو من أعضائها.
ومن الواجب أن تتمثل هذه الظواهر العربية الخاصة في أذهان أولئك «المصلحين» الذين يحسبون أنهم يتناولون هذه اللغة بالإصلاح كلما احتاج الأمر إلى توفيق بينها وبين مطالب العصر الحديث … فلا محل في البنية الحية النامية لإصلاح التركيب أو تقويم البنية من جديد، وإنما هو «الغذاء» الذي يوافق تلك البنية، وتأخذ منه بقدرتها الحية ما يأخذه الأحياء الأصحاء من كل غذاء طيب وكل طعام مفيد.