(1)
تتبدل ألوان الحياة من الأسود إلى الأبيض، ربما تظلل بظلال رمادية، تغطى على اللون الأبيض، يبقى اللون الأسود مسيطرًا على الحياة مدة، حتى يزول الظلام.
يضىء الرقم ثم ينطفئ، كالفلاشة الصغيرة، أسنانه المغروسة فى عقلى تجذبنى بقوة إلى المعمل الذى تطل الأبحاث من عيونه الصغيرة المخصصة، لتجميد المواد الكيميائية والأبحاث، وحفظها داخل معمل مركز البحوث الزراعية.
أبحث عن نبات ولكن لا أعرف اسمه، لا أتذكر إلا الرقم الذى ذكره لى صديقى مدحت، الرقم حفظ فى ذهنى منذ أن ذكره وهو على حافة الموت، قاله ثم انتهت أنفاسه، لم يبق منه إلا ذكراه.
- (2222) أمشى فى هذا المعمل الذى يشبه المغارة فى وسط الجبل على شكل مستطيل، عرضه متران، وطوله حوالى خمسة أمتار، الجانب الأطول مغطى بأدراج، منتظمة، بحيث يقسم إلى صفوف وأعمدة مرتبة بانتظام، كل صف أو عمود لا يزيد أو يقل عن الذى يليه، كلها متشابهة لا يظهر منها إلا مقبض صغير، كأنه مصفوفة مرسومة بدقة تامة، الدرج بداخله البحث الذى يخصه، يوجد ممشى فى المنتصف، حوالى سبعين سنتيمترًا، بحيث يتحرك داخلها شخص واحد فقط، أمين المعمل أو صاحب الدرج.
المواد الكيمائية داخل الأدراج فى المعمل؛ مرتبة بنظام، بحيث يرتبط كل مركب كيميائى ببحث داخل الدرج، عندما تنادى على اسم البحث يبرز الجزء الأمامى إلى الخارج قليلًا، تسمع بعدها صوتًا باسم المركب الذى داخله، يمكن أن تتعرف على نبذة مختصرة عن البحث، عندما يبرز الدرج، ينادى عليه بطريقتين:باسم المركب، أو بالرقم السرى للدرج، ولا يفتح بالكامل إلا بنطق اسم المركب ورقمه، وبذلك لا يمكن فتح الدرج إلا بالشخص الذى يعرفهما معًا.
وكمٌّ من الأدراج لا يمكن فتحه، لأن بعض الباحثين نسوا رقمه السرى، أو حاول أحدهم فتح الدرج ونطق الاسم، ثم نطق الرقم ثلاث مرات خاطئة، ولو قرر صاحب الدرج فتحه مرة أخرى بعد أن أغلق، وكرر المحاولة مرة أخرى لمرتين متتاليتين، كل محاولة منهما ينطق الرقم خطأ لمدة ثلاث مرات، ينفجر الدرج بما فيه، وحرق المعمل، لذلك عند نطق الرقم السرى مرتين فإنه تنطلق صفارة إنذار كبيرة، يسمعها كل الموجودين فى المعمل.
بدأت فصول الحكاية عندما كلمتنى زوجته على تليفونى المحمول، وهى تصرخ كأنها قطة صغيرة تموء، تصرخ بصوت أسمعه من شقتى فى الشارع القريب:ـ تعالَ يا دكتور خالد بسرعة، مدحت يتلوى من التعب.بسرعة ركضت إلى الشقة، يخترق ذهنى كثيرًا من الوساوس والشكوك، كنت معه بالأمس، ألازمه كالصغير عندما يلازم والده.
أستاذى منذ أن كنت فى الجامعة، دلفت إلى الشقة، قابلتنى زوجته بوجهها الذى يملؤه الانزعاج، رأيتها، قلت:
ـ ماذا حدث؟
ـ يا دكتور دخلت إلى حجرته، وجدته ينظر فى كل الاتجاهات يبحث عن شيء ضاع منه، لا أعرف ما هو.
ـ ماذا كانت أحواله قبل ذلك؟
ـ دائمًا شارد الذهن، عيناه ذائغتان، تبرزان قليلُا إلى الخارج.ينظر إلى بنظرة حادة، كأننى من تسببت فى موته، سمعته يئن بصوت خافت:
بطنى تتمزق.
سألتها فى عجلة، قلقى يكاد يقتلنى:
ـ أين هو؟
- أشارت إلى بيدها، وهى ترتعش من التوتر، قالت:
ـ فى حجرته.
دخلت إلى حجرته، وجدت عينيه الذابلتين، ويديه المقوضتين، رآنى.
نظرت إليه بتوجس، حرك شفتيه كأنه يريد إخبارى بشيء، الكلمات محجوزة داخل فمه كأنها بعض الأحجار الصغيرة، وقفت بالقرب منه حاول أن يتحرك أخيرًا، مال بجانبه إلىّ، انحنيت ناحيته، تكاد أنفاسه أن تخرج، بعد محاولات سمعت صوته الخافت:ـ أريد الذهاب إلى مركز البحوث.حاولت أن أجمع كلماته المتقطعة، أخيرًا فهمت ما يقوله.سألته:ـ هل أحضر طبيباً؟ هز رأسه قليلاً، كأنه يقول لى:
ـ لا.
ثم حرك شفتيه، سمعته يقول:
ـ بطنى تتمزق، جزء من جسمى يتساقط، كما تتساقط أوراق الأشجار الذابلة عند الخريف، لا بد أنه بسبب ثمار الغار التى جلبتها من الغابة الكبيرة التى أنشأنها فى جبل البحر الأحمر، فى الصحراء الشرقية، على السهول الجبلية له المطل على البحر الأحمر.
أخذتنى غفوة من التفكير ربما أصابتنى الحمى، نظرت إليه وجدته يشير إلىّ بيده، يهمس:
ـ الترياق فى داخل درجى فى معمل معهد البحوث.
عقلى يبعث إلىّ بإشارات تجذبنى إلى ميدان التعجب الذى يزيد داخلى، يرفع انبعاث الخوف والبعد عن هذا الواقع الذى نعيشه، لا أريد الذهاب إلى المركز.
لكنى لا أستطيع أن أمنع حبى له، أو حتى الإيمان بتفوقه العلمى وحبه للناس، حملته على كتفي، خرجت إلى خارج منزله، توجهنا إلى المركز.
فى الطريق لا ينطق إلا بكلمة واحدة:
ـ نعم إنه الطريق، هو الحل الوحيد.
الأفكار تموج فى صدرى، لا أعرف ما يحدث له بالضبط، تمتزج الألوان كلها معاً
( 2)
يفتح باب السر لينير ثقوب الوضوح، واحدة تلو الأخرى، يفسر ألوان الغموض للناس فيتجلى السر واضحًا ظاهرًا. وصلنا إلى المركز، خرج من السيارة يتلوى، ثم ركض مسرعًا كأنه مسكون، يسقط ثم يصر على الوقوف مرة أخرى، عندما نظرت إليه وجدت جلده يتغير إلى اللون الأخضر، كأنه ساق أحد النباتات تخرج منه بعض الأوراق، أمسكته بقوة، رفعته من على الأرض، تحاملت على نفسى حتى وصلنا إلى داخل المعمل، دخلنا إلى غرفة حفظ الأبحاث، نطق اسمًا معينًا، نسيت سريعًا، ثم ذكر رقمه السرى الخاص، فتح الدرج العلوى فى الصف الخامس فى العمود السادس، نظر داخل الدرج بشدة وبدأ بالبحث فيه، سألته:
ـ ماذا تفعل يا دكتور مدحت؟
ـ أبحث عن ثمار هذا النبات الملعون، وعن المصل الذى لم يكمله الدكتور ناجح، احتفظت ببعض منه فى هذا الدرج، لكى أستطيع أن أعرف كيف أقضى عليه، ربما ينفعنا فى القضاء عليه.
تعجبت من ذكره اسم الدكتور ناجح صديقى، انتفض من بين يدى وأمسك بالدرج، رأيت عينيه تهتزان بشدة، مال بجسده، وقع، سقط الدرج بالقرب منه، تناثر ما بداخله على الأرض، نظر إليه، وبدأ بالزحف على ساقه.
هرولت إليه لكى أحميه من الوقوع، ولكنى لم أستطع، التقط الثمار التى تناثرت على الأرض، أخذ قارورة صغيرة يبدو أن بها المصل، تناوله، حاولت أن أمنعه لم أستطع، لا أعرف ماذا يحدث، ثم وقع مغشيًا عليه، ظننت أنها النهاية، ولكن لم يحدث ما توقعته، نهض مرة أخرى، وقف على ساقه كأن لم يحدث شيء، هز رأسه كأنه أفاق من غيبوبة، ثم همس فى نفسه بعض الكلمات:
ـ ليس لى إلا درج الدكتور ناجح.
عاد إلى طبيعته الأولى، أخذ بعضًا من المصل الذى كان فى درجه، لكنه يعرف أنه لم يكتمل صنعه.
استيقظ فجاء، استطرد:
لا بد أن أرجع إلى المنزل، لكى أطمئن زوجتى، فهى تنتظرنى.
تملكتنى السعادة، لم أتفوه بكلمة واحدة، صَمتُّ، ظهرت على وجهى بعض علامات التعجب التى لم أستطع أن أخفيها عنه، عدنا إلى منزله يتملكنى شعور بالدهشة، عندما رأته زوجته، ساورها نفس الشعور كأنها تقول:
ـ ماذا فعلت به لم يكن كذلك؟!
نظرت إلىّ لكى تشكرنى.استأذنتها وغادرت.
حاولت أن أنسى ما حدث، وأن أمارس حياتى كالسابق، ولكن التفكير فيما حدث لم يبرح عقلى، ظل يجتاحنى هذا الشعور.
( 3 )
بعد يومين سمعت صوت الخوف من زوجته مرة أخرى، تأتى دقات الآلام لكى توحى ببدء بزوغ وجه التعب، تنتشر ببطء فى الجسم، حتى تهجم عليها سهام الأمل، فتزيله من كل أجزاء الجسم، كما سمعته فى المرة السابقة:
ـ الحقنى بسرعة يا دكتور خالد.
ولجت إلى شقته رأيت احمرار وجهه هذه المرة، تختلف عن المرة السابقة، غشاء بشرته يبدو مائلًا للاحمرار، مثل الثمرة فى مرحلة النضج، حاولت كثيرًا أن أثنيه عن الذهاب إلى المعمل، ولكنى لم أستطع؛ أصر على الذهاب.
يتآكل أمامى كما يتآكل الحديد من الصدأ، فعلت كما فعلت فى المرة السابقة، أعرف أنه لا يوجد مصل فيه، سألته:ـ لماذا نذهب إلى المعمل؟
ـ ربما يكون المصل فى درج الدكتور ناجح أو بعض الثمار فى درجه، فهو المسئول الأول عن النبات، مَنْ جلبه معه من غابات الأمازون، هو وزوجته من حاولا صنع مضاد لتأثير سموم هذا النبات، كانا يعرفان مدى تأثيره على البشر من حولهما.
ذهبنا إلى المركز مرة أخرى، نادى على درجه، فتح بحثًا فيه عن الثمار، لم يجد شيئًا، بعد ذلك نادى على رقم أتذكره جيدًا هو 2222 ثم نادى على اسم المركب الذى نسيته سريعًا، فتح الدرج فتش فيه لم يجد ما يبحث عنه، صاح بصوت عالٍ:
ـ أين المصل الذى أعده الدكتور ناجح كان هنا؟
لا بد أنه الدكتور فايز، إنه يعرف الرقم السرى الخاص بالدرج، كما يعرف كل التجارب التى أجراها الدكتور ناجح، أمسكته فى يدى، وذهبت إلى مدير المركز الدكتور فؤاد، عندما قصصنا عليه ما حدث، لم يتعجب من مما سمع، تمتم:
ـ لقد ترك الدكتور ناجح المصل فى درجه بعدما أن رجع من سوريا مع زوجته.
ـ ماذا نفعل يا سيدى؟
نظر على الأرض وقال بصوته الذى يشبه صوت الديك الرومى عندما يخرج دفقات من فمه، وجسمه الضخم الذى يظهر تفاصيل بطنه الكبير المدلى كثيرًا إلى الأمام، وأنفه البارز قليلًا عن سطح الجسم، قال:
ـ ربما يتحسن الدكتور مدحت، لو أكل بعضًا من ثماره، ربما تكون الثمرة نفسها تحمل المضاد لهذا الفطر، الدكتور ناجح يعلم تمامًا هذا، وصنع المضاد المناسب للقضاء عليه.
كلانا يفكر فى إيجاد الثمار، أصر الدكتور فؤاد أن نذهب إلى الغابة المصطنعة، سألته:
ـ لماذا نذهب إلى هناك، نظر إلى الأرض كعادته عن الكلام، نفخ كرشه إلى الخارج، وقال فى هدوء:
ـ تذهب لتبحث عن ثمار النبات، فهو موجود فى هذه الغابة.
ـ كيف أعرف النبات؟
انتظر كثيرًا يفكر، حك بطنه بيده، نظر إلىّ وقال:
ـ سوف تأخذ معك الدكتور فايز.
تعجبت من قوله، يعرف أننى أمقته، لا أستطيع سماع حروف اسمه، نظرت إليه نظرة بغض، هززت رأسى، رفع حاجبه الأيمن وأنزل حاجبه الأيسر، بدا منزعجًا، واستطرد:
ـ لا أحد يعرف مكان النبات إلا هو، أنت تعرف أنه أكبر عالم فى وقاية النبات، المتخصص الأول فى النباتات الجبلية، الوحيد الذى يعرف شكل النبات جيدًا، كما يعرف كيف يقى الدكتور مدحت من تأثيره.
(4)
لا بد أنه يعلم أنها نهايته، تظهر وجه النهاية واضحة، لكنها تكون مغلفة عن الناس، وتظهر بعد تتابع الخطوات للأحداث المختلفة حتى تتجلى فتضىء المكان. فايز من سيحدد مكان دفنه، أعرفه جيدًا، كان صديقنا أنا والدكتور ناجح فى كلية الزراعة، حتى أنه كان طالبًا فى نفس قسمه، قسم وقاية النبات، دائمًا ما يحصل ناجح على المركز الأول، ويأتى فايز فى المرتبة الثانية خلفه، جميع من فى القسم يعرف من سيعين معيدًا فى هذه السنة. ولكن فايز كتب رأيًا آخر، استخدم جميع الحيل لكى يعين معيدًا، استطاع أن يقيم صداقة قوية مع ناجح حتى ظن أنه أخوه، لا يفترقان، يستذكران دروسهما معًا، يشرح له ما يصعب عليه، عرفه بكل أصدقائه وأساتذته الذين يعرفهم، لم يكن فايز بهذا الذكاء، لكن أسلوبه المائل إلى اللون الرمادى المغلف بالظلال الأسود، جذب إليه بعض أساتذته، وكذلك الطلاب من حوله، جعلهأكثر شهرة فى القسم، والأكثر قربًا إلى زملائه، يفعل كثيرًا بخلاف ما يبطن، تمكن من الحصول على المركز الثانى فى السنوات الثلاث السابقة، إلا أنه فى السنة الرابعة، حب النفس مغناطيس يجذب الإنسان إلى ما يريده، فينفذه الفرد دونما تفكير، قرر أن يتخلص من منافسه الأول ناجح، حتى يعين معيدًا فى القسم، فى اليوم الأخير لامتحان السنة الرابعة كان اختبار مادة الكيمياء، فى هذا اليوم طلب منه أن يبقى حتى يستطيع أن يستذكر معه منهج الكمياء، مكث إلى منتصف الليل، وعندما حان وقت مغادرة المنزل بعد انتهاء المذاكرة، تلكأ بحجة أنه لم ينهِ المذاكرة بعد، عرض عليه ناجح أن ينتظر حتى الصباح، وافق حتى أنه نام فى نفس الحجرة مع صديقه فى هذا اليوم، هل الصباح تأخر لم يغادر إلى منزله، عرض عليه ناجح أن يذهبا إلى الامتحان معًا، بعد أن استيقظا طلب فايز أن يعد كوبًا من الشاى، فإنه معتاد على شرب الشاى فى الصباح. هذا ما اعتاده منذ صغره، لم تكن والدة ناجح مستيقظة، طلب أن يعده بنفسه يعرفه جيدًا، ذهب إلى المطبخ، جهزه الشاى ثم أذاب بكوب ناجح بعض حبات المنوم، قدمه إلى صديقه، الأيام تزيد من ثقة الإنسان بمن يعاشره من البشر ومن حوله، تناول ناجح ما أعد دون تردد، بعد استيقاظ والدة ناجح، أعدت طعام الإفطار، خرج من الحجرة، سألته والدته:
ـ أين ناجح؟
ـ إنه نائم ولا يريد الاستيقاظ.
ـ اجلس يا بنى تناول طعامك، هو سوف يستيقظ ويأكل.
غادرت إلى المطبخ، جلس يأكل وترك صديقه، همّ بمغادرة المنزل سريعًا، عندما رأته يغادر، سألته عنه، أخبرها بأنهحان وقت الامتحان، ويجب أن ينصرف.
دخلت بسرعة إلى حجرة ابنها حاولت إيقاظه لكنها لم تفلح، كررت محاولتها عدة مرات حتى استيقظ، ثم نام مرة أخرى، ظلت تحاول عدة مرات ولكنها لم تستطع أن توقظه، يصحو ثم ينام مرة أخرى، حتى انقضى وقت الامتحان، تركته حتى أفاق وحده من سُباته، سألته فى تعجب:
ـ ماذا حدث؟
أخبرها بأنه تعب فجأة ولم يستطع أن يستيقظ، لم تصمت حتى قص عليها ما حدث، استنتجت أنه الفاعل، استشاطت غيظًا، لأنها كانت حسنة الظن بصديق ابنها، وتمنت لو أبعدته عنه من قبل.
تختفى الأشياء، ثم يأتى موعد ظهورها واضحة، فتكشف ما تم ستره لوقت طال أو قصر.
(5)
الحياة ستائر متطابقة على بعضها البعض إذا زالت واحدة منها، أخفى الآخر ما تبقى من أيام.
تقابلا فى الجامعة عند بوابة الكلية، سأل ناجح حتى يخفى ما فعله لعله يضع الستائر السوداء حول ما فعله:
ـ ماذا حدث؟
صَمَتَ فترة من الوقت ثم تكلم مرة أخرى:
ـ كنت نائمًا لم أستطع إيقاظك، وأتى وقت الامتحان، تأخرت عنه، لم أستطع أن أبقى، فأخبرت والدتك وذهبت.
تحجج بأنه حاول إيقاظه ولكنه لم يستطع، فتركه لوالدته حتى تتمكن من أن تفعل ذلك. حاول تصديق نفسه. بعد انتهاء الامتحان اختفى إلى أن أتى موعد إعلان النتيجة، ظهر ليقول للناس إنه أصبح الأول، بينما ناجح أصبح راسبًا. تم اختياره معيدًا فى القسم، لأنه جدير بهذا المكان، بينما ناجح إعادة لاختبار المادة التى لم يمتحنها ونجح فيها، حزن أساتذته بشدة، اختلط الحزن بالشفقة حاولوا أن يساعدوه بطرق مختلفة، وكان بينهم الدكتور مدحت، أصيب بحالة من الحزن والغضب على صديقه وتلميذه، لم يعجب زميله السابق فايز، حاول بكل الطرق أن يغير نظرات أساتذته نحوه، أصبح واحدًا منهم، أقرب إليهم منه، لذلك استطاع أن يبدل قلبهم عليه، أطلق عليه بعض الصفات مثل الكسلان، والتائه، لأنه لم يأتِ إلى موعد الاختبار، كما شوه أخلاقه بأن أطلق شائعات تؤكد أنه كان يتناول مخدرًا عندما كان يستذكر دروسه، لذلك لم يستطع أن يقاوم تأثير المخدر، بعدما سيطر على حواسه، منعه من الحضور إلى الامتحان فى موعده، صدق بعض زملائه كلماته، أما بقية أساتذته فلم تصدق ما يقوله، ومنهم الدكتور مدحت، حاول أن يساعده فى إكمال دراساته العليا، جهز له كل الكتب التى يحتاجها، دفع له مصاريفها، أشعلت نار الغيرة رأس فايز، نصب العديد من الفخاخ لإخراجه منه، أوغل صدر أساتذته عليه، وصفه بأنه إنسان متعالٍ ومتفاخر بنفسه، استطاع أن يجذب الدكتور «ناظم» المسئول الأول عن الدراسات العليا تجاهه، تقرب منه، أصبح فى خدمته، نفذ كل ما يريده، جلب له بعض الهدايا، لذلك تلكك لناجح بحجة أنه مسح إحدى الإجابات بالقلم الجاف، منحه تقدير ضعيف، وعندما راجعه الدكتور مدحت أخبره بأن من أراد أن يكون دكتورًا فى الكلية يجب ألا يخطئ فى أحد الأسئلة.
ترك ناجح الدراسات العليا فى كلية الزراعة جامعة القاهرة حاول أن يلتحق بالعمل، بعد أن أصيب بالإحباط.
(6)
هذا الشخص أعرفه جيدًا، تغيب الدنيا ثم تظهر مرة أخرى، حتى تأتى إليك وتقص عليك ما تخفيه. تجعلك ترضى بما لم تكن ترضى به سابقًا، .
لن أذهب معه إلى أى مكان، يكفى ما فعله بصديقى ناجح. أصر الدكتور فؤاد على ذهابى معه إلى الغابة، أعرف الغابة الكبيرة المصطنعة، ولكن إصراره على ذهابه معى، يبدو أن هناك شيئًا ما يحدث، قلق ظاهر على وجهه، رعشة أصابت جسده، توتر عندما أخبرته بما حدث إلى صديقى مدحت، يدل على أن هناك أمرًا غريبًا، حتى عندما سألته:
ـ أين الثمار التى كانت فى المعمل؟
ـ استخدمناها فى إجراء تجارب لإيجاد مصل للمرض الذى يصيب البشر عند أكل هذه الثمار.
عندما نظرت إلى صديقى مدحت غيرت رأيي، وافقت على الذهاب معه إلى الغابات فى جبل علبة، حالة صديقى المتأخرة جعلتنى أقبل هذه الإنسان المتسلق الذى يشبه الثعبان فى سلوكه. هذا الرجل الطويل، وجهه الضخم الملامح الذى يشبه الفيل، وأنفه الذى يشبه الخرطوم. عندما دخل علينا مكتب الدكتور فؤاد منذ دخوله إلى خروجه لا يصمت يحاول أن يثبت أنه يعرف كل ما يدور حوله، لم يظهر كرهه للدكتور مدحت، لأنه ساند ناجح فى الحصول على الدراسات العليا. ألقى السلام علينا، صافحنا بحرارة حتى أنه أمسك بيد الدكتور مدحت وهو نائم على كرسيه، يحاول أن يثبت أنه يحبه، وأن العلاقة بينهما تحفها مودة. طلب منه المدير أن يرشدنى إلى الغابة، وإلى أشجار الفار التى جلبها الدكتور ناجح معه من رحلاته إلى غابات الأمازون. قبل بابتسامته المهزوزة التى يُظِهرُ فيها بعضًا من أسنانه الصفراء من كثرة التدخين. طلبت من الدكتور فؤاد أن نذهب سريعًا من أجل سوء حالة الدكتور مدحت. أمسكت يدى الدكتور ثمحملته على ظهري، حاول فايز أن يساعدنى ولكنى رفضت، حملته بإعياء، وضعته فى الكرسى الخلفى للسيارة، جلس على الكرسى الأمامى. لم نستخدم السيارات الطائرة المصنوعة حديثًا فى هذا العهد، الطريق، الكلمات الخافتة لا تخرج من فمى، وميض الكلمات غاب عن فمه، حتى وصلنا إلى الغابة الكثيفة، ثم سرنا داخلها نتحسس علامات الطريق التى وضعت من بداية صنع الغابة. تعجبت من الأشجار التى توجد فيها حتى أننى سألت نفسى:
ـ لماذا أنشئت هذه الغابة فى هذا المكان؟
لم أجد جوابًا. سألت نفسى متعجبًا:
ـ كيف يصل الماء إلى هذه الغابة؟ عندما نظرت بتفحص، وجدت الطرق ممهدة بطريقة ثابتة منظمة، بحيث يشق بصورة مائلة، له جانب علوى فى الوسط، وينحدر الطريق قليلًا إلى أن يصل إلى الرصيف، وهكذا الجانب الآخر من الطريق، يخرج من الجزء العلوى بروز حديدية مائلة تشبه خراطيم المياه، ولكنها مصنوعة من مادة تتحمل الضغط الكبير عليها. تؤكد أن المياه تمر من خلال تلك الخراطيم من أسفل إلى أعلى، كما أن لها جدارًا شفافًا يسمح بمرور المياه وباقى المواد التى تذوب فيها بين الأشياء الكبيرة لا تدخل داخلها، بحيث تسقى المياه باقى الأرض من الغابة، الماء ينزل من الأمطار الغزيرة التى يسقط عليها كل يوم. طافت السيارة بنا داخل الغابة حتى وصلت بها إلى الأطراف الشرقية قرب البحر، نظر فايز، قال:
ـ ليس هنا، بل فى منطقة المستنقعات العملاقة فى وسط الغابة.
أعد السيارة إلى الخلف، انطلقنابالسيارة حتى وصلنا إلى المنطقة التى وصفها، ظهر الماء واضحًا أمام السيارة، توقفت السيارة أمام الماء، ترجلت، وقفت مندهشًا، المرة الأولى التى أرى فيها هذا المكان، مع أنى زرت الغابة عددًا من المرات، تشبه هذه المنطقة منطقة المستنقعات الموجودة على النيل الأزرق، أو مستنقعات نهر الأمازون، بعد قليل سمعت الدكتور مدحت ينادى بصوت خافت:
ـ أنزلنى أنزلنى من فضلك.
سمعت كلماته التى قطّعت رأسى إلى قطع صغيرة، أنزلته بسرعة، استنشق الهواء كأنه يتنفسه أول مرة، أخرجته من السيارة، وبعد لحظات هرول سريعًا إلى داخل الغابة، وعندما وصل إلى إحدى المناطق القريبة الممتلئة بأشجار كثيفة وقع على الأرض، ظننت أن ساقه علقت بأحد الجذوع الموجودة فى الأرض بكثرة، أسرعت لأرفعهلأعلى، وجدت أنفاسه تذهب ببطء، حتى تكاد أن تختفى، لم أستطع رفعه، سحب على بطنه إلى شجرة كبيرة، أمسك بإحدى أوراقها، أبعدها قليلًا، ظهرت ثمرة صغيرة، قطفها، ثموضعها على فمه، ولكنه لم يستطع أكلها، أنزل وجهه على الأرض، وهمس إلىّ: التجربة (2222)، نظرت بوجهه، تحسست نبضاته، وجدته فارقالحياة، همست فى نفسى:
ـ لماذا أتى إلى هنا، لماذا أصر الدكتور فؤاد على نقله إلى هنا وهو يعرف تأخر حالته، لماذا فارق الحياة؟
والدموع تتساقط كالأمطار من عينى، صرخت صرخة فزعت منها الطيور الموجودة فى المكان: كنت أظن أننى نزحت به إلى هنا لكى أجد له العلاج؟
(7)
الحزن يملأ جسدى، يمتزج بالإحساس بالهم، يفوران فى جسدى كالبركان الذى يقذف بالحمم فى كل مكان. رآه فايز، طلب منى أن نذهب حالًا، ونتركه مكانه، حتى لا نكون فريسة لما أصابه نحن أيضًا، لم أصدق كلمة واحدة مما يقوله، شككت أنه من فعل هذا، لأنه كان قد قال لى عند نزولنا إلى أرض الغابة:
ـ لو مات الدكتور مدحت لابد أن نتركه ولن يعود معنا مرة أخرى.
كلماته تطرق عقلى بقوة، كذلك كلمات الدكتور مدحت:
ـ إذا مت اتركنى مكانى حيث مت، ولا تعود بي مرة أخرى، لعلى أجد راحتى فى المكان الذى أموت به.
ظننت أنه يهذى، سمعت كلماته ونسيتها إلى أن توفى. صرخت على فايز:
ـ احمل معى بسرعة، لنعيده إلى عائلته وأهله. تراخى قليلًا كأنه لا يريد أن يفعل. صرخت فيه:
ـ احمله معى، هل تتركه فريسة للسباع والطيور المتوحشة؟ سمع كلماتى تقدم خطوات نحو الجثة ليحملها معى.
فجأة ظهرت مجموعة من الضباع الشرهة، أتت لتناول الطعام المتوفر، تركنى فايز بسرعة، ظننت أنه سيهرب ويتركنى، لكنه لم يفعل، قفز إلى السيارة، أمسك بطنه الكبيرة ثم أضاء اللمبات الأمامية، ثم الخلفية، صاح إلىّ:
ـ تعالَ يا دكتور بسرعة. قفزت أنا أيضًا داخلها، بعد لحظات عندما رأت الضباع الضوء، فى ثوانٍ معدودات غادرت المكان بسرعة، خوفًا منه، أدار السيارة وهمّ أن ينطلق بها حتى يخرج من المكان، قلت بصوت عالٍ:
ـ لا. لا سنبقى، لن نترك جثة الدكتور مدحت.
أطفأ الأنوار الأمامية للسيارة، ظهرت الضباع مرة أخرى لا أعرف من أين، جلست ساكنًا أراقب ما يحدث، وجدت أحد الضباع يهجم على جثة الدكتور مدحت وينهشها بأسنانه الحادة، صرخت بصوت عالٍ:
ـ اذهب.
نظر بوجهه البائس الذى يحمل عينى النمر، وأنف الكلب، وتقسيم وجه مثل الماعز، كأنه يبتسم من صرخاتى، نزعت من داخلى الخوف، القناع الذى يغلف المكان، انتفضت، نزلت من مكانى هرولت إلى الجثة لعلى أحميها، انكشفعلىّأحد الضباع، كاد أن يهجم علىّ، فجأة أضاء فايز الأنوار الأمامية، انكشح الظلام وهرب الضبع خلف الأشجار الكثيفة، تقدم بالسيارة قليلًا ناحية الجثة، انكشف المكان أكثر، نظرت إلى كل جزء فى المكان، لعلى أجد مكان اختفاء القطيع، لكنى لم أجده، بسرعة تفقدت جسد الدكتور مدحت، وجدت أجزاءه ممزقة، حاولت أن أنقله سريعًا، لكن الليل قد هب وظهرت بوادره، حاولت أن أسرع، ولكن فايز أكد أننا لن نستطيع نقله قبل الليل، اتصلت بالدكتور فؤاد طلب منى أن آتى سريعًا قبل الليل.
(8)
لا أعرف كيف انقضت الساعات، طارت سريعًا كالطيور التى تسير بسرعة فى الفضاء، نراها ولكن نستطيع أن نوقفها إلا باصطيادها لكى تقف الأيام، لا بد أن ننهى أعمالنا، ونكملها تمامًا، بذلك يقف دوران الأيام لأننا نأخذ ما نحتاجه منها.
بسرعة حاولنا سباق الليل ولكنه أسدل ستائره، هبت أصوات الحيوانات المفترسة بكل أنواعها من كل مكان فى الغابة الكبيرة، أحيت الذعر فى المكان، حملت جثة مدحت إلى داخل السيارة، وقفزت داخلها، كذلك فعل فايز، حاولت تشغيل السيارة بسرعة، وجلس هو بجوار الدكتور، أظلمت الدنيا، لم أرى شيئًا حتى عندما أضأنا لمبات السيارة الأمامية والخلفية لم تضئ شيئًا، كما جذبت الكثير من الحيوانات ناحيتنا، مكثنا داخل السيارة حتى الصباح فى صمت كأننا نجلس فى مكانين مختلفين فى وجوم تام، كل منا يخشى أن يتفوه بكلمة لا تعجب الأخرى فيثور عليه، فك رموز لسانى أخيرًا عندما قلت:
ـ كنت تعرف حقيقة هذا المكان ولم تخبرنى بما يحدث.
أقسم إنه لا يعرف مما حدث، قال:
ـ هذه الأشياء حدثت بالصدفة نحن فى غابة مليئة بالحيوانات المفترسة.
انتظرنا طوال الليل فى السيارة نحاول أن نختفى عن الحيوان المفترسة حتى هل الصباح. أطلقنا عنان السيارة تحركت رويدًا، بعد لحظات قليلة ظهر قطيع من الجاموس الكبير أمام السيارة قبل أن تأخذ السيارة سرعتها، تهرول ناحيتنا، توقفت بالسيارة سريعًا حتى لا يظن أفراد القطيع أنه حيوان مفترس يحاول أن يفترسها، بدت السيارة كقطعة من الصخور الكبيرة، يتلمسها كل القطيع بأنفه الحاد، تذوقها أحدها بلسانه حتى يتبين أنها ليست نباتًا للأكل، بعد لحظات انصرف الجميع عنها، غادروا المكان، حاولت زيادة سرعة السيارة سريعًا، لكن صوت السيارة جذب انتباه أحد العجول ناحيتنا، أتى مسرعًا، أطفأت السيارة، جلسنا داخلها بلا حراك، نظر العجل إلى السيارة وضربها بقرنه عدة مرات حتى يؤكد للجميع أنه لا خطر منها، وقف بالقرب حتى سطوع شمس الصباح. اتصلت بالدكتور فؤاد، أخبرته بما حدث لنا، طلب منى أمرًا لم أكن أتصوره، أمر أن أدفن جثة مدحت فى نفس المكان الذى نحن فيه ونأتى سريعًا، تعجبت من قرره سألت نفسى: لمَ يفعل هذا. صرخت:
ـ يمكننا أن نجلبه معنا قد ظهر الصباح ونستطيع أن نحمله؟
قال لى معللًا:
ـ ادفنه فى مكانه، لكى لا يرى أهله التغيرات التى حدثت فى جسده، فيأمروا بتشريحه.
لم أصدق ما يقوله، يبدو أن هناك أمرًا ما يخفيه. تخيرت المكان المناسب لدفنه، حددته تمامًا حتى آتى إليه مرة أخرى، وأستخرجه وأنقله إلى مقابر عائلته. لكنى وأنا أبحث عن المكان شهدت أمرًا لم أتوقعه، وجدت جثث بعض الحيوانات معلقة فى الهواء، ملقى على ظهرها، يخرج من الجزء السفلى من بطنها أحد النباتات، كل جثة منها معلقة فوق الأرض بحوالى ربع متر تقريبًا وعظام ظهرها يظهر بوضوح، والجزء الأمامى يخرج منه النبات، والجسد ملتف حول النبات كأنه جزء منه، اقتربت أكثر إلى الجسد لأرى ما يحدث بالضبط، وجدت ساق النبات يخترق بطن الحيوان وعضلات البطن ملتفة حول الساق بانتظام، هززت النبات بقوة فتحرك الجسد معها، لم يقع على الأرض، أصبت بالدوران، تركت النبات، فتشت فى المكان، أبحث عن مكان مناسب لأوارى جثة صديقى، تحركت قليلًا إلى الأمام، شاهدت المزيد من جثث الحيوانات أمامى معلقة على ساق النبات، بنفس الطريقة، ملفوفة حول الساق، مختلف الأنواع من الحيوانات البرية، هياكل أحصنة برية، وهيكل حمار وحشى، وغزال، مجموعة مختلفة من هياكل الحيوانات، يخرج من كل الحيوانات نوع واحد من النبات، الحيوانات مرتفعة على الأرض، بنفس المقدار تقريبًا، كأن أحدًا ما رفعها، حركها إلى أعلى وتركها، كنت أظن فى بادئ الأمر أنها مجزر لذبح الحيوانات، بركت على ركبتى، نظرت فى كل الاتجاهات لم أجد شيئًا، تمالكت نفسى، غصت أفتش فى المكان جيدًا، لعلى أجد ما يبين سبب وجود هذه الحيوانات فى هذا المكان، ووجود هذه الجثث من الحيوانات معلقة هكذا، فتشت المكان جيدًا، ولكنى لم أفهم سبب وجودها. بحثت كثيرًا لكنى لاحظت أمرًا أن كل العظام المتناثرة موجودة حول نبات واحد فقط، أوراقه مفلطحة، تشبه مضرب كرة السلة، لكن له نهاية مدببة قليلًا. ترتبط الورقة بالساق بجزء أسطوانى، طوله حوالى ثلاثين سنتيمترًا. يوجد عليها القليل من الأشواك، ليست كثيرة مثل نبات الصبار الصحراوى، وهناك أوراق تشبه مضرب كرة تنس الطاولة، الساق ليست خشبية، وليست خضراء، ولكنها ساق صفراء اللون قليلًا، أجزاء من الجذور توجد فوق سطح التربة تصل إلى الجثة، يخترق جزء منها الجسد الموجود فوق التربة، تحمله فى وضع يشبه الكرسى تقريبًا، حيث يستقر فوقها الجسد وهو مسجى على ظهره، توغلت أكثر فى الغابة الكثيفة، وجدت بقايا أجساد بشرية كثيرة لا أعرف ما أتى بها هنا، فى بعض الأشجار بقايا كبيرة من هياكل بشرية، وفى بعضها الآخر يوجد قليل من بقاياه، كمتحف كبير لبقايا الأجساد من كل نوع. نحمل جسد الدكتور مدحت أنا وفايز، حاولت أن أهرب بعيدًا عن هذا المكان، أحسست أن به لعنة من نوع ما، أشرت إليه بالتوقف لكى نعيد الجثة، ولكنه أبى ألا يفعل، كانت حجته أنه متعب، ودفنها فى أى مكان لا يؤثر عليها، لكن ما يؤثر عليها هو التأخير فى دفنها.
العتمة تثير فى القلب الخوف من الدنيا، وتفصل الإنسان عن الواقع، تقربه من العالم الخفى الذى يحيط به، ولا يعلم عنه شيئًا.
بعدت قليلًا عن المكان، بحثت حتى وجدت المكان المناسب، بعيدًا عن متحف بقايا الأجساد، حفرت حفرة ليست عميقة حتى أجده إذا بحثت عنه، حاولت أن أحددها بعلامات لأجدها بعد ذلك، أمسكت بحذاء الدكتور مدحت، وضعت الحذاء الأيمن على الجانب الأيمن، والحذاء الأيسر على الجانب الآخر، وحفرت تحت ظل شجرة كبيرة، أزلت جزءًا من الخشب الموجود على الشجرة، رسمت على اللحاء الداخلي علامة كبيرة تشبه القلم، وضعت دائرة كبيرة تحته، كتبت فيها اسم الدكتور مدحت بخط واضح وكبير، ثم رسمت طائر الهدهد الذى تعلمت رسمه كثيرًا تحته، حددت البعد بين الشجرة والطريق القريب، واتجاه الشجرة بالنسبة لأقرب علامة على الطريق.
(9)
لا أعرف كيف يمر الوقت يطير بسرعة فائقة، مثل الصاروخ الذى قذف ليهدم مكانًا، ليجعله ظلامًا، يزيل الحركة، لجعل الدنيا سكونًا. الوقت أصبح عصرًا. نبهنى الدكتور فايز إلى مرور الليل، لا بد من العودة الآن إلى المركز، اتصلت بالدكتور فؤاد أخبرته بما حدث، طلب منى الرجوع سريعًا قبل هجوم الليل. وقفت أمام مقبرة مدحت، يشدنى الحزن إلى البقاء أمام القبر فترة أطول، صرخ فايز:
ـ هيا لنذهب قبل ظهور الليل ويكشفنى للحيوانات.
لم أسمعه، هزنى بقوة، جذبنى من يدى، أفقت من الهم الذى أصابنى، تنقلت خطوة تلو الخطوة، حتى وصلت إلى السيارة، دلفت إليها خلف فايز، صرخت:
ـ هل حددت المكان جيدًا؟
ـ نعم. رسمت المكان فى ذهنى، كل قطعة منه محددة بدقة، مشفرة بشفرة خاصة فيه.
سألته بحرص لعلى أعرف معلومة جديدة:
ـ كيف حدث ذلك؟ أشار بإصبعه الأيمن قائلًا:
ـ هل ترى هذا الحجر المكتوب عليه الرقم (9) المرسوم عليه ثعبان الأناكوندا الضخم.
ـ نعم أراه.
ـ كنا قديمًا نحدد مساحة الغابة برقم معين كل مائة فدان، نزيد رقمًا على الذى يسبقه، كل عشرة أفدن نحيطها بطريق، ثم كل مائة فدان طريق دائرى حولها ونحدده برقم معين، أيضا كل عشرة أرقام نرسم الحيوان المسيطر على الحياة فى هذا الجو، بعد علامة الثعبان سوف يظهر الأسد، ثم بعد الأسد يظهر النمر، ثم تأتى المنطقة الصحراوية، تظهر علامة الجمل الجبلى. نعرف أن المنطقة جبلية وعرة، حاول العلماء تجميع الماء المتساقط فى ممر واحد، عندما نجحوا، فكروا فى زراعة المكان بعد زيادة الماء المتجمع، قرروا أن يجعلوا المنطقة مثل غابات الأمازون من كثرة الماء، تم استيراد العديد من النبات التى تنبت فى مناطق المستنقعات فى هذه الغابات، مساحة الغابة كانت صغيرة جدًا: مائة فدان فقط، ولكن كلما زاد الماء فكر العلماء فى زيادة مساحة الغابة، وكلما زادت الغابة وُضِع حجر جديد وتم ترقيمه برقم معين، كل مئة فدان لا بد أن تلتف بطريق دائرى ضخم، بحيث إذا عبرنا ذلك الطريق فإننا نعرف كل ما يحدث داخل الغابة، حفرة أسفل كل طريق، عدد من المواسير العمالقة، وعدد من المواسير الصغيرة التى تمتص كل جزء من الماء، وتعبر به إلى الجزء الآخر من الطريق، ثم تلفظه، كانت الفكرة الأساسية عبور الماء من المكان بسهولة بعدما اكتشف المادة التى تمتص ماء الندى، وتجمعها، ثم تتركها كماء نقى، كل مائة فدن نرسم طريقًا دائريًا كبيرًا يحيط بها، نحدده برقم، تبدأ الأولى منها بعلامة رقم واحدة كلما زادت الغابة زادت العلامات. ازدادت اتساعًا حتى وصلت الآن العلامة رقم (80)، جلبنا كل أنواع الحيوانات، وفرنا لها الحماية، وكذلك البيئة المناسبة، فزادت، أصبحت كالحيوانات التى تحيا فى هذه الأرض من سنوات عديدة. الدكتور مدحت من الجيل الأول الذى أعد الغابة ورسم الطرق المختلفة لصناعتها، الطرق المختلفة لكى تنمو وتكبر، ساعدت تجاربه فى تنمية الغابة وزراعتها. فى السنة الأولى لزراعة الغابة كانت المياه غريزة، كانت كل تجاربنا فى تجميع المياه المناسبة لزراعة هذه النباتات، لكن فى الموسم الثالث زادت المياه الساقطة على المكان، أقيمت سدود لمنع المياه من العبور بعيدًا وحجزها، تجمعت المياه داخل الغابة، ففكرنا أن نجلب نباتات المستنقعات من غابات نهر الأمازون، بالفعل جلبنا الكثير منها، زادت نموًا فى الغابة بطريقة أسرع من النمو فى مكانها الأصلى.