كلام المؤرخين عن طبائع الأمم قديم، ومثله في القدم كلامهم عن العلاقة بين طبائعها وآثارها الأدبية والثقافية، وقد كثر الكلام في هذه العلاقة، بعد ظهور المباحث النفسية، واستفاضة النظر في علم النفس الاجتماعي وأطوار الجماعات على التعميم، وقد يكثر الخطأ كلما كثر الكلام في هذا الصدد، ولا مقياس لتحقيق الخطأ والصواب كالمقياس الذي نحقق به صحة المسائل الحسابية أو صحة الفروض الرياضية، ولكن غيبة المقياس لا تقضي ببطلان البحث ولا بالعدول عنه، فهو مسلك مطروق غير موصد، ولن توصده اليوم ولا في الغد كثرة الخلاف عليه.
والنقاد يذهبون تارةً من فهم طبائع الأمم إلى فهم آدابها وثقافتها، ويذهبون تارةً أخرى من فهم آدابها وثقافتها إلى فهم طبائعها، ويطيلون من أجل ذلك في بحث عناصر الأجناس، أو بحث الأمزجة القومية على ضوء العقائد الموروثة، وعلى ضوء المقررات العلمية الحديثة، ومهما يكن من توفيقهم في ذلك أو إخفاقهم فيه، فهم متفقون على صعوبة التطبيق؛ حيث تتعدد العناصر وتمتزج في البيئة الواحدة، وأصعب ما يكون ذلك تطبيقًا في بيئة كالولايات المتحدة، تنتمي إلى عناصر شتى من السكسون واللاتين وأمم الشمال وأمم الجنوب، ويذكر فيها الذاكرون بين أجدادهم أناسًا من الإنجليز والسكندنافيين والهولنديين والإسبان والفرنسيين والإيطاليين، فلو كانت هذه الأصول أنهارًا وجداول تجري على انفراد، ثم تمتزج في الطريق، ثم تخلص من الملتقى إلى ملتقى آخر، تطرد عليه أمدًا، وتنحرف عنه أمدًا آخر، لكان من العسير تخليص أمواهها، وتحليل مقاديرها، ونسبة الامتزاج والانفصال بين أجزائها، فكيف بعناصر الفكر والشعور وهي قد تخفى على صاحبها في الوقت الواحد، وتخفى عليه من باب أولى في معظم الأوقات …؟
أقرب من البحث في العناصر وامتزاجها — على ما نعتقد — أن نبحث في البواعث التي اشتركت فيها الأفواج المهاجرة إلى القارة الأمريكية، فهي بواعث محدودة معروفة، وآثارها ليست من الخفاء واللبس بحيث تختلط فيها الآراء، كما تختلط في امتزاج الطبائع والأقوام.
كانت بواعث الهجرة الأولى تنحصر — أو تكاد — في التماس النجاة من الضغط على الحرية الدينية، والتماس البيئة التي يتسع فيها الميدان لإقامة «الطوبى» الروحانية على مشيئة المهاجرين، وكان طلاب النجاة فريقين من المتطهرين ومِمَّنْ يسمونهم بالحجاج، والأولون متدينون محافظون متشددون، والآخرون متدينون محافظون يتصرفون في شئون التقاليد بالرأي والتجديد.
واقترنت هذه الهجرة الدينية بهجرة دنيوية يقودها الطموح، وبُعد الهمة، والاعتداد بالنفس، والجرأة على اقتحام المورد المجهول، ولم تكن الهجرة الدينية خلوًّا من عامل الطموح وبُعد الهمة، فمَنْ كان ضعيف السعي، هيابة للمجهول، لا يلتمس النجاة بعقيدته ولا المغامرة في سبيل دنياه.
وَلَمَّا وجد المهاجرون الأولون أنفسهم في المجاهل الأمريكية، كان موقفهم من سكانها الأصلاء موقف مَنْ يؤمن أنه يستخلص لله أرضًا في حوزة الشيطان، فكان شعور الجهاد للسماء مقترنًا بشعور الجهاد للأرض، وكان السعي عندهم في طلب الرزق كالغزوة في طلب النجاة من الشيطان والغلبة عليه.
إن المهاجرين الذين حَفَّزتهم هذه البواعث يتشابهون على اختلاف العناصر والأقوام، وربما كان الهولندي الذي يحرص على إيمانه، وتستنهضه همته إلى ترك الديار والتغرب في مجاهل الأرض أقرب إلى الإنجليزي أو السويدي أو الإسباني الذي يشبهه في بواعث نفسه من أبناء الوطن الواحد الذين لا تشابه بينهم في الغيرة على ذخائر الروح، أو الغيرة على ذخائر الأرض والحطام، فهذه أخلاق متمكنة في الطبائع تتوارثها الأجيال، ويتشابه فيها الأبناء والآباء، ولا يصعب على المؤرخ أن يتتبع فعلها في تكوين المجتمع وحوادث التاريخ.
ومن ثَمَّ غلبت على المجتمع الأمريكي خصلتان ظاهرتان: إحداهما سيادة السُّنَّة العامة في شئون العقائد والأخلاق، والأخرى خصلة التجربة العملية والاعتداد بالذات في شق طريق الحياة ومواجهة المجهول.
خصلتان قد تتوافقان أحسن وفاق، وقد تتنازعان أشد نزاع، فتجري رعاية السُّنَّة العامة مع الاعتداد بالذات في اتجاه واحد، أو يختلف الاتجاه مع تجارب الواقع، فذلك هو الصراع العنيف، ونحسبه محور الصراع الأكبر في مشكلات الأدب ومعضلات النفس البشرية بين النجاح العملي الواقعي ورعاية المبادئ والأصول، كما تتمثل في الآداب الأمريكية الحديثة، قصة كانت، أو مسرحية، أو مذهبًا من مذاهب الفلسفة، أو رأيًا من آراء السلوك والأخلاق.
ولا نذكر «البرجمية Pragmatism» ودلالتها، فهي أبرز من أن تحتاج إلى إبراز، ولكننا ندع القراء يذكرون ما يشاءون من القصص الكبار أو الصغار، فلن يعدموا في واحدة منها مشكلة تنجم من الاعتداد بالذات والمغامرة في مواجهة المجهول كائنًا ما كان هذا المجهول. وها هنا مجموعة من القصص نرى فيها المُراشهِن على الغيب، والشيخ المنفرد بمسكنه بعد السبعين، والمريض الذي يقلقه العلاج الطويل فيعشق على السماع، ويهجم على بلد المعشوقة التي لم يرها قط، ولم يكن لها وجود، والخابط في الأرض على غير قصد، حتى يلتقي على رءوس الجبال بأرواح الحراس من الرواد الأقدمين، والمؤمن الساذج الذي تنهار حياته حتى يدعمها في مجاهل أفريقيا بإيمان جديد، والخطيب الذي يناضل الشيطان بالحصافة الدنيوية كما يناضله بالعقيدة القوية، والفتى الذي يركب رأسه شوقًا إلى التجربة الحسيَّة، فيهجم من متعة الحياة إلى الموت، والأب الذي يلهو فترده تجارب اللهو بهدى العاطفة الأبوية إلى الرصانة والاعتدال … وهكذا كل «شخصية» في كل قصة تختارها جزافًا أو تختارها بقصد وتمييز، فلن تعدم فيها جميعًا عنصر التجربة الذاتية أو الصراع بين المبدأ والواقع، أو الإقدام على المجهول، ولن يشق عليك أن ترجع إلى أصول ذلك قبل جيلين أو بضعة أجيال، من طريق أوجز وأوثق من تلك الطرق التي تتعقب العناصر وطبائع الأقوام.
•••
قرأت في كتاب «الفكرة الأدبية في أمريكا» Literary Opinion in America فصلًا للكاتب الناقد جيمس جبون هنكر Hunker يقول فيه في أثناء الكلام عن الرواية الأمريكية الكبيرة: «أَمَّا آداب التطهر في روايتنا الحاضرة فمِمَّا يجترئ المرء على أن يجبه المتدين الناشئ قائلًا له: إنها ليس لها وجود.»
وبعد صفحتين اثنتين يقول الكاتب نفسه: إن الروايات تفيض بالعظات الملتهبة، للإقناع بهذا المذهب أو ذاك من مذاهب السياسة أو الأخلاق …
وقد كان خليقًا بالكاتب الناقد أن يفطن للتناقض الواضح بين موت «التطهر» والولع بالوعظ، والإقناع بأية دعوة من الدعوات. فإنهما في الباطن من معدن واحد، وإن جنحت الدعوة إلى التمرد على العرف والسنن المرعية، فليست الحماسة هنا إلا من مادة الحماسة للمعتقد كيفما كان.
ويكاد يُجمع النُّقَّاد المُحْدَثون على أن صبغة التجربة Experience أغلب الصبغات على الأدب الأمريكي المعاصر، وهم على صواب في هذا الإجماع، فإن محاولات التجربة نفسها تدل على أن الخصلتين في وقت واحد تدل على الاعتداد بالذات، وعلى قوة العرف والتقليد، ولا معنى لتغليب التجربة إن لم تكن هنالك مغالبة أو محاولة للتوفيق بين ما يكشفه الإنسان لنفسه وما يفرضه العرف عليه.
وتكاد هذه الصبغة تكون ملازمة للمصنفات الأمريكية من أقدم عهودها، قبل الاستقلال وبعد الاستقلال، وإنما كانت صبغة الدينيات أعم وأشيع في القرن السابع عشر، ثم عمت وشاعت بعده صبغة السياسيات في دور النزاع بين سكان البلاد وحكامها، ثم ظهرت الثقافة الأدبية — أول ظهورها — مستقلة مصطبغة بزمانها ومكانها ودواعيها … ولم تكن مهملة قبل عهد الاستقلال إلا لأنها كانت مهملة في الحياة العامة، ولم تكن هي التي تمثل الأخلاق والمقاصد والطباع.
وتنقسم عهود الأدب الأمريكي بفواصل من الزمن مرسومة متفق عليها بين مؤرخي الآداب، فهناك فاصل الثورة على الحاكم المستعمر، وفاصل الحرب الأهلية، وفاصل الخروج من العزلة بعد الحرب العالمية الأولى، وكلها فواصل بيِّنة صحيحة، تُؤرخ الانتقال من عهد إلى عهد، ومن اتجاه إلى اتجاه، ولكننا نود أن نقرن بها فاصلًا يُذكر أحيانًا، ولا يُعطى حقه من الشأن والأثر، وهو معادل في اعتقادنا لفواصل الثورات والحروب، ذلك الفاصل هو عهد الصور المتحركة، ويلحق به فاصل الإذاعة. فإن أثر الصور المتحركة لعظيم في اختيار الموضوع، عظيم في تنويع الأسلوب، عظيم في تنسيق القصة والحوار … وسيرى القُرَّاء في القصص التالية هذا الفارق بيِّنًا لا خفاء به فيما كُتِب منذ شيوع الصور الناطقة على اللوحة البيضاء، فإن الكاتب ليشغل قلمه فيها كما يشغل انتباهه بعوارض حسيَّة لا دخل لها في لباب الموضوع، لولا أنه يكتب ويحسب حساب المخرج الذي يتولى كتابة «الوصفة المنظرية» أو السنار. فما دخل النمل، وقياس المرتفعات، وألوان الأشجار، والمسافات بينها، وأطوالها أو غزارة أوراقها ونزارتها، في قصة «شتينبك» عن الشيخ الهرم زعيم الهجرة، ورحلات التغريب …؟
إن هذا وأشباهه مِمَّا أدخلته الصورة المتحركة على أسلوب الكتابة، وقد أثبتنا بعضه على سبيل المثال، وتعمدنا أن نضع هذه القصص بعضها إلى جانب بعض كما تتفق بغير تمييز مقصود؛ لأننا نعتقد أن الدلالة على هذا النحو أصدق من دلالة التمييز والانتقاء.
أمَّا طريقتنا في الترجمة فهي مراعاة الأصل غاية المراعاة، ما لم يكن حشوًا لا محل له من لباب المعنى ومن الوجهة الفنية، ففي هذه الحالة نكتفي بالمفيد، ولا نلتزم الحشو، وهو لا يزيد في الكتاب كله على بضعة أسطر … وقد أردنا ترجمة صادقة في نقل العبارة بمعانيها وظلالها، ولم نرد نسخًا كنسخ الوَرَّاقين Copyism من لغة إلى أخرى، فمَنْ سَمَّى ذلك نسخًا أو مسخًا، فقد أصاب التسمية! ونرجو أن تكون دقة الأداء وتلخيص التراجم وشواهد التمثيل على المختار من كل أديب؛ صورة صادقة لتطور القصة القصيرة في الآداب الأمريكية منذ وُجدت على عهد «أرفنج» إلى هذه الأيام.
عباس محمود العقاد