إن الكتابة القصصية أنواع كثيرة في العصر الحاضر، منها الرواية وهي التي تقابل كلمة نوفيل Novel في اللغات الأجنبية، ومنها الرواية الصغيرة، وهي التي تقابل كلمة نوفليت Novelette ومنها القصة أو الحكاية وهي التي تقابل كلمة «استوري» Story، ومنها الحكاية القصيرة أو النادرة وهي التي تقابل كلمة «شورت استوري» وترجمتها الحرفية على حسب أصل الكلمة: تاريخ قصير.
ومن البديهي أن الفوارق بين هذه الأنواع لا ترجع إلى الطول والقصر، ولا إلى الإسهاب والإيجاز، ولا إلى العناية بالأسلوب الأدبي وقلة العناية بذلك الأسلوب، ولا إلى خطر الموضوع أو تفاهته، فكل أولئك صفات قد تتشابه فيها جميع هذه الأنواع، فتكبر الحكاية المطولة حتى تلتقي بالقصة القصيرة في عدد الكلمات، أو تتناول الحكاية موضوعًا من أجلِّ الموضوعات، ولا تتناول القصة الكبيرة إلا موضوعًا هينًا من مسائل المجتمع أو مسائل الأحوال النفسية.
إنما يرجع الاختلاف بينها إلى فارق أصيل من باب التغليب والترجيح — على الأقل — إن لم يكن من باب الحسم والشمول، ولم نعرف تفرقة بينها أصح وأصدق من التفرقة التي أجملتْها الكاتبة «أديث هوارتون» حين قالت: «إن الموقف هو الموضوع الغالب على القصة القصيرة، وإن رسم الشخصية هو الموضوع الغالب على الرواية …»
ويمكن أن نضيف إلى الموقف موضوعًا آخر يصلح للقصة القصيرة أو الحكاية، وهو الإيحاء ولفت النظر، أو هو ما يقابل — حرفيًّا — كلمة «الاقتراح Suggestion ».
ولا بد أن نحسب حساب الاصطلاح والتخصيص في هذه التفرقة الأخيرة، فإنها لم تكن كذلك منذ نشأت الحكاية أو القصة القصيرة في القدم، وكثيرًا ما كانت هذه الموضوعات تتلاقى وتتشابه، ولا يلحظ بينها فاصل حاسم غير الطول والسعة، ولكنها تفرقة لم تزل تلتزم شيئًا فشيئًا مع تقدم الفن وجنوح الكتابة الحديثة إلى التخصيص وتوزيع الأغراض والمناسبات.
فالقصة القصيرة أو الحكاية لا تتسع لرسم شخصية كاملة أو عدة شخصيات كاملة من جميع جوانبها، ولا تتسع كذلك للحوادث الكثيرة ولا للحادثة الواحدة التي لا تتم إلا مع التشعب والاستيفاء والإحاطة بأحوال جملة من الناس في مختلف المواقف والأحوال، ولكنها قد تعطينا لونًا من ألوان الشخصية كما تتمثل في موقف من المواقف، فنفهمها بالإيحاء والاستنتاج، وقد تعرض لنا موضعًا نفسيًّا أو موضعًا اجتماعيًّا، ينفرد بنظرة عابرة ويؤخذ على حدة، فيدل كما تقدم دلالة الموقف والإيحاء.
من هنا كانت القصة القصيرة لونًا من الكتابة مناسبًا كل المناسبة للأدب الأمريكي، منذ استقل هذا الأدب بأقلامه وموضوعاته، وعُرف له رسالة قائمة بذاتها غير المحاكاة والتقليد.
فالمواقف أكثر ما تكون في بلاد الأقاليم والأجناس، وبلاد التاريخ المذكور الذي تلتقي فيه الوقائع الحاضرة بالذكريات القريبة، وتصطبغ فيه هذه الذكريات بصبغة الخبر تارةً وصبغة الأسطورة تارةً أخرى، وعلى حسب النظرة إليها، وعلى حسب «الزاوية» التي ينظر منها المقيم في هذا الإقليم أو ذلك الإقليم.
وليست الأقاليم هنا حدودًا جغرافية تختلف بالمواقع والأبعاد وكفى، ولكنها ثروة زاخرة بتعدد الأجناس والأمزجة والمصالح والأعمال. وقد قيل مثلًا: إنك في الجنوب لا تستطيع أن ترمي بحجر دون أن تصيب شاعرًا … فكان هذا فارقًا من فوارق الأقاليم في مزاج التخيل والشعور، ولكنه فارق يرتبط في الواقع بالتاريخ وشواغل الحياة، كما يرتبط بالموقع وأصول النازلين فيه.
ومن مادة الفكاهة الخالدة التي تصلح لمواقف القصص القصيرة؛ حياة الريف وعادات أهله، وحرب النكات بين الأجناس والأقوام، وكلها مادة لا تنفد في مصنفات أمراء الفكاهة المعروفين، وكلها يتسع لها المجال في الأقاليم الأمريكية التي تمتزج فيها الأجناس والأقوام، ويكثر فيها التندر بطرائف الأمم وغرائب الأطوار والتقاليد في مجتمع واحد، ويعيش فيها الريفي بعاداته ومأثوراته، إلى جانب الطوارئ والبدع المتجددة في الحواضر والعواصم، فلا ينضب معين الفكاهة أو الملاحظة السريعة التي تتمثل في المواقف الخفيفة، وتدور عليها القصة القصيرة في باب النقد الاجتماعي وما إليه، ثم تأتي الصحافة المحلية فتعتمد على النادرة التي تبدأ وتنتهي في نشرة، وتضمن المدد من هذه النوادر إذا فاتها الخبر الواقع المتجدد في جميع النشرات، وتأتي بعد ذلك شرائط الصور المتحركة ومسارح الأقاليم الجوالة؛ فتضع المواقف في موضعها المحسوس من التصوير والتمثيل، وتستطيع أن تخلق من القصة القصيرة مناظر تشغل النظر ساعة أو ساعات، حيث ينتهي القارئ من مطالعة القصة القصيرة في دقائق معدودات.
هذه كلها مادة للقصة القصيرة تتوافر للأدب الأمريكي أو يزداد نصيبه منها على نصيب الآداب في الأمم الأخرى، فلا جرم إذا كانت هذه القصة لونًا من ألوان الأدب الأمريكي يكاد يغلب عليه، وكانت نماذجه منها قدوة يقتدي بها الكُتَّاب كأنها مصدر «الأزياء الفنية» في هذا الباب!
وقد اتفق في وقت واحد أن هذه القصة تخصصت بالموقف والإيحاء، وأن الفن كله يتجه إلى تمثيل الحالات وعرض الصور، وينفر قليلًا قليلًا من تعمد التسلية، بمجرد سرد الحوادث، وتعليق الأنفاس بالمفاجآت ومثيرات الشعور، فربما أنف الكاتب في العصر الحديث أن يقال عنه إنه يكتب للتسلية والتشويق، ويختلق العظائم والقوارع لتنبيه القارئ والاستيلاء على شعوره وخياله، فحسبه أنه يدير نظر القارئ إلى موقف نفساني أو موقف اجتماعي؛ ليكون قد أبلغ وأدى ما عليه، وحسبه أن يوحي إلى القارئ بما يتخيله ويرتب عليه أفكاره، مستقلًّا بالتخيُّل والتفكير، ليكون كاتبه وأديبه وشريكه أو مشركه معه في المشاهدة والملاحظة، وبهذا تتفق قصة الموقف ورسالة الفن العصري من الوجهة العامة، فيصبح تصوير الموقف غرضًا شاملًا يُغني عن اعتساف الحوادث والبحث عن «غير المعتاد» للتنبيه والاستيلاء على الشعور … ولا شك أن التحول من بطولات الأمراء والنبلاء والسروات قد كان له دخل كبير في هذه الخصلة الفنية التي جاء بها العصر الحديث، فلا ضرورة «لغير المعتاد» في تصوير الأبطال والحوادث إذا كان العرف قانعًا بتصوير كل إنسان وكل موقف، غير مقصور على الإنسان الخاص أو على الحادث الخاص متسعًا شاملًا بالتعميم على سُنَّة العصر في جميع الأمور.
وسيرى القراء في مجموعة القصص التالية مذاهب المؤلفين في اختيار المواقف خلال القرن الأخير، فقد كان الموقف وحده لا يكفي لكتابة القصة قبل سبعين أو ثمانين سنة، بل كان من الواجب أن يكون الموقف رائعًا أو كافيًا لاستغراق الحواس وغمر النفوس بالعاطفة، فلم يزل هذا الموقف يتطور مع الزمن حتى أصبح «الموقف» جديرًا بالتسجيل كلما كان فيه موضع للملاحظة القريبة، أو للمقارنة العاجلة، أو للتأمل الذي ينبعث فيه القارئ مع نوازعه وأهوائه، غير متقيد بالكاتب في نزعته أو هواه.
في العصر الحاضر أصبح الكُتَّاب من طراز فولكنر أو همنجواي أو شتينبك يكتبون القصة لموقف واحد لا ينتهي إلى قارعة، ولا يتبعه الكاتب أو القارئ إلى نتيجة مقصودة، فمن مواقف أقاصيصهم موقف رجل يدخل بيته فتنبئه زوجته أنها عثرت بخادمة موافقة، فإذا بالخادمة «لا توافق» لأن الرجل يعلم بعد أن يراها أنها كانت زميلته في الدراسة، ولا تزال هي وهو يتناديان بالأسماء دون الألقاب، ومن مواقفها موقف مصارع يأتمر به منافسوه ليقتلوه، فيتلقى الخبر ولا يتبعه بعمل؛ لأن حكم الموقف يأبى عليه الهرب كما يأبى عليه إبلاغ ولاة الأمور … ومن مواقفها موقف شيخ من الجيل الماضي يُسئِم السامعين المُحدَّثين بأخبار الطواف إلى الغرب، ثم التمادي في الطواف، فلا يطيق المحدثون سماع هذه «الأعاجيب» التي كانت في يوم من الأيام تهز المشاعر وتكفي وحدها للتغريب، ثم التغريب من غير قصد إلى مكان معلوم، وإنما هو كشف آخر من جانب البر بعد الكشوف الأولى من جوانب البحار، ولا محل له من السمر أو الكلام بعد أن كشف المحدثون كل بقعة من بقاع الغرب، ونسوا أنه كان غيبًا مجهولًا قبل جيل.
هذه القصص تُختار لهذه الدلالة، وتفيد في اختيارها إلى جانب القصص التي سبق إليها المؤلفون قبل جيل واحد، فهي القصة القصيرة في معرض الأجيال على حسب اختلاف المواقف والأحوال؛ ولهذا توضع المجموعات المختارة من ألوان الفن وضروب الكتابة، ولعل هذه المجموعة أن تكون لها رسالتها الكافية بين المجموعات.