ونستطرد من تلخيص نتيجة اللفائف المكشوفة إلى تلخيص نتيجة المناقشة — أو المناقشات الطويلة — حول الترجمة المنقحة في اللغة الإنجليزية لكتابي العهد القديم والعهد الجديد.
إنَّنا سمعنا بنبأ هذه الترجمة المنقحة بعد سماعنا بنبأ اللفائف المكشوفة، وكدنا نحصر الضجة الكبرى حول فقرة واحدة في كتاب أشعيا في العهد القديم، فاعتقدنا أنَّ المشتغلين بتنقيح الترجمة رجعوا إلى نصٍّ جديد في لفائف وادي القمران؛ لأنَّ كتاب أشعيا هو الكتاب الكامل الذي اشتملت عليه تلك اللفائف فيما اشتملت عليه من الآثار المتفرقة، ولكننا تلقينا البيان الوافي عن عمل المنقحين، فلم نجد فيه ما يُشير إلى علاقة بين الكشوف الجديدة وبين تنقيح الترجمة المتداولة من كتب العهد القديم على الخصوص؛ لأنَّ الفقرة التي جاءت في كتاب أشعيا وثارت حولها الضجة الكبرى بين أنصار التنقيح ومعارضيه، لم تُفاجئ علماء اللاهوت برأي لم يعلموه من قبل، ولم يذهبوا فيه كل مذهب من الطرفين المتقابلين.
ثارت الضجة حول فقرة في الإصحاح السابع مترجمة في اللغة العربية بالكلمات الآتية: «… يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحمل وتلد ابنًا، وتدعو اسمه عمانويل.»
فهذه الفقرة تظهر في الترجمة الإنجليزية المنقحة بعبارة «امرأة شابة» في مقابلة كلمة «علامة» العبرية، وكلمة Parenthos «بارنثوس» في الترجمة السبعينية، ولا جديد أيضًا في هذا الخلاف؛ لأنَّه خلاف لم ينقطع بين المذاهب الثلاثة التي يدور بحثها على تفسير المقصود ببتولة السيدة مريم أم المسيح — عليه السلام. فمن أصحاب المذاهب المسيحية من يفسرها بالبتولة الدائمة قبل ميلاد المسيح وبعده، ومنهم من يقول بالبتولة قبل ميلاده، ثم ولادة إخوة له بعد ذلك وردت الإشارة إليهم في كتب العهد الجديد، ومنهم من يرجع إلى النصوص العبرية، ولا يذكر كلمة البتول كما تقدم. وجواب القائلين بالبتولة الدائمة على المستشهدين بذكر إخوة السيد المسيح في كتب العهد الجديد أنَّهم أبناء عمومة أو أنَّهم إخوة منسوبون إلى يوسف خطيب مريم، إلى آخر ما ورد في هذا الخلاف القديم الجديد.
ولقد كانت أمامنا تفاصيل هذا الخلاف عند كتابة «حياة المسيح» فلم نعرض له، ولم نعرض لبحث من البحوث في هذا الصدد، إلا ما كانت له صلة لا فكاك لها برسالة السيد المسيح في عالم الهداية الروحية، ولهذا لم نذكر معنى كلمة «أخي الرب» التي شفعت باسم «جيمس» المقابل لاسم يعقوب في الترجمة العربية، وقلنا عنه إنَّه «جيمس قريب السيد المسيح».
وقد خطر لبعض الناقدين أنَّنا سميناه كذلك؛ لأنَّنا لم نطلع على الترجمة العربية لكتب العهد الجديد، وإنَّه لظن يستسهله من يستسهل النقد بغير روية، ويحسبه بعيدًا كبعد المستحيل من يعلم من قراءة «حياة المسيح» أنَّنا على الأقل فتحنا كتب العهدين مائة مرة، لنبحث فيها عما بحثناه، وننقل منها ما نقلناه، فالآن تعرض المناسبة التي نذكر فيها سبب تلك الإشارة على علاتها، دون أنْ نُبدي رأيًا في تصحيف كلمة جيمس من كلمة يعقوب، ودون أنْ نُقرر في الإشارة العابرة حكمًا فاصلًا لا موضع له بين هذه التفصيلات.
وربما كان اتفاق الوقت بين ضجة الترجمة المنقحة، وضجة اللفائف المستخرجة من وادي القمران، مع تكرار الكلام عن كتاب أشعيا في كلتا الضجتين؛ هو الذي أوحى إلينا أنْ ننتظر ما وراء ضجة الترجمة كما أوحى إلينا أنْ ننتظر ما وراء ضجة اللفائف المكشوفة، فقد يكون هنالك من النصوص والأسانيد ما يُوجب إعادة النظر في كتابة «حياة المسيح»، ولولا هذا التقدير لما كان الخلاف على تفسير البتولة وحده موجبًا للانتظار إلى ما بعد فراغ القول منه، إذ كانت أوجه الخلاف جميعًا في هذه المسألة معروفة من زمن قديم، وكانت من المسائل التي كان في وسعنا أن نتتبعها في مصادرها قبل الكتابة عن السيد المسيح.
إلا أنَّنا نسأل الآن بعد خمس سنوات: هل كان مما يريح الضمير أنْ نمضي في إصدار الكتاب مرة أخرى، قبل أنْ نطلع على الكتب الجديدة التي كانت تتعاقب في اللغات الغربية، كتابًا بعد كتاب عن السيد المسيح ورسالته، ونظرات المحدثين إلى هذه الرسالة في زمانها وفيما أعقبه من الأزمنة؟
إنَّنا تمهلنا قبل خمس سنوات في إصدار الطبعة الحاضرة؛ لأنَّنا اعتقدنا أنَّ تنقيح الترجمة قد يعود إلى أسباب توجب المراجعة وإعادة النظر، ولكننا نسأل اليوم: ترى لو أنَّنا علمنا يومئذٍ محور الضجة على الترجمة، وعلمنا أنَّها موضوع مُعادٍ في قضية معروفة؛ هل كنَّا نستخف من أجل ذلك بالفيض المتدفق من الكتب والرسائل التي كتبها أصحابها في موضوع كموضوعنا، ومن وجهة نظر تعنينا، أيًّا كان شأنها من الموافقة، أو المخالفة لوجهة نظرنا؟
نحسب أنَّ اشتغالنا بالاطلاع على طائفة من تلك الكتب كانت سببًا كافيًا لتعليق النظر كي نصدر الكتاب على الأقل مطمئنين إلى عاقبة هذه الأناة، فإنْ غيَّر الاطلاعُ على الكتب الجديدة آراءَنا في موضع من مواضع الكتاب، فتلك فائدة جديرة بالانتظار، وإنْ اطلعنا على الكتب الجديدة، ولم تتغير نظرتنا، فتلك طمأنينة نحمدها، وما ضيعنا شيئًا بهذه الأناة.
وأيسر ما نقوله الآن عن الكتب الجديدة، إنَّ الاطلاع عليها كان متعة من متع القراءة، تُرضينا قارئين قبل أن تُرضينا مؤلفين، وقد كان فيها السمين والغث، والمتفوق والمتخلف، كما يكون في كل تأليف، ولكننا خلقاء أنْ نحمد حظنا ما استوفيناه منها؛ لأنَّ الغث منها كان من قبيل المقروءات التي تنكشف غثاثتها للمتصفح بعد الإلمام بسطور هنا وسطور هناك، وأمَّا السمين منها فقد كان كافيًا في موضوعه، كما كان مكافئًا لما ينفقه القارئ من الوقت والجهد فيه.
ونستطيع أنْ نسلك هذه الكتب القيمة في بابين واسعين: باب التأمل وما إليه من النظر الفلسفي والخواطر الوجدانية، وباب النقد التاريخي والتحليل العلمي على قواعد المقابلة بين الأديان.
ويلذ القارئ ولا ريب أنْ يعلم رأي الفيلسوف العصري في المقابلة بين تعاليم المسيح وتعاليم نيتشه في العصر الحاضر، أو يعلم رأيه في المقابلة بين تعاليم المسيح وتعاليم كارل ماركس وأصحابه الماديين، أو يعلم وجوه المشابهة ووجوه المناقضة بين خطة المسيح في الإصلاح الإنساني وخطط الساسة ودعاة الاجتماع في القرون الحديثة، أو يعلم بلاغة الكلمات المسيحية حين تقترن بكلمات البلغاء من أصحاب الكلم الجامع والحكمة المأثورة، فهذه وأشباهها هي مدار القول في كثير من تلك الكتب العصرية، يتفق أحيانًا أن تدل عناوينها على أغراضها، ولكننا لا نعتقد أنَّها مما يقتضينا البحث في كتابنا هذا أنْ نبسطها أو نطويها موجزين، وقصارى ما نقوله عنها أنَّها أشبه بالصور المتعددة للوجه الواحد في لوحات كثيرة، ليست محل تلخيص ولكنَّها محل استزادة لمن شاء.
أما الكُتب التي نسلكها في باب النقد التاريخي والتحليل العلمي، ففيها حقًّا ما يهتم به الباحث في تاريخ الرسالة المسيحية وفيها — ولا مراء — بحوث جديرة بطول التأمل، وإنعام النظر، ومواجهة الموضوع كله في نطاقه الواسع من جميع جهاته، وليس في استطاعة أحد أن يُواجه هذا الأفق الواسع ما لم يكن على استعداد له بكل عدته من المراجع والأسانيد.
ومن الإطالة على غير طائل أن نسرد هنا أسماء المؤلفات والمؤلفين في هذه البحوث النقدية، فإننا — بعد ما وقفنا عليه منها — نرى أنَّ القارئ لا يفوته شيء من جوهرها إذا اطلع منها على كتابين اثنين يحويان جملة المناقضات والأقاويل التي تتعرض للقبول أو الرفض في هذه البحوث، ونعني بها كتاب١ «الجانب الآخر من القصة» تأليف روبرت فيرنو، وكتاب٢ «إنجيل الناصري يُعاد» تأليف روبرت جريفس وجوشيا بردو، وكلا الكتابين مؤلف باللغة الإنجليزية.
وندع التخمينات الملفقة التي تتخلل الكتابين، وينبغي أنْ نذكر — بداءة — أنَّها تخمينات كثيرة، وأنَّها في بعض الأحايين تخمينات معتسفة يعترف المؤلفون باضطرارهم إليها؛ لإتمام الحلقات المفقودة في السلسة التي سبكوها من بقايا الأسانيد المختلفة منذ القرن الأول للميلاد، ومن صنع خيالهم في مواقع النقص المعترضة في فجوات تلك الأسانيد. ولا ننسى أنَّ أحد المؤلفين — روبرت جريفس — قصاص يعتمد على التصور الفني في التوفيق بين الأخبار وتنسيق الملامح وملاحظة التناسب بين ألوان الشخصيات، وله قصة في الموضوع نفسه سمَّاها «عيسى الملك» يشرح فيها بالأسلوب الروائي نظريته التاريخية عن سيرة السيد المسيح، وزبدتها أنَّ السيد المسيح قد نشأ برعاية هيئة باطنية كانت تعمل لتعجل الخلاص على يد الملك «المسيح» الذي يأتي من ذرية داود لإنقاذ شعب الله المختار، وأنَّ يُوحنا المعمدان هو الذي وُكِّل إليه اختيار المسيح المنتظر على حسب العلامات المحفوظة في النبوءات، فاختاره وعاهده وبايعه «ملكًا» مسيحًا أي ممسوحًا بالزيت المقدس على سنة الملوك المختارين من الأقدمين، وأنَّ زعماء الهيكل لم يكونوا جميعًا من المطلعين على سر هذه المُبايعة التي جمعت بين يمين الإيمان ويمين الطاعة، وتولاها المشرفون على تنفيذها وهم حذرون من سلطان رومة ومن سلطان الهيكل في وقت واحد، ثم جرت الحوادث مجراها الذي نعلمه من الأناجيل، مزيدًا عليها هنا وهناك حلقات تربط الصلة بين التاريخ الظاهر والتاريخ الباطن كما جمعه المؤلف من أسانيده ومن وحي خياله أو تنسيق فنه وتقدير ظنِّه، وربما زاد الجانب المضاف هنا وهناك على الجانب الأصيل.
ونحن ندع هذه التخمينات، ونجتهد في حذفها كما اجتهد المؤلف الروائي في إضافتها، ولكنَّنا لا نريد أنْ نحذفها، حيث تترك الفراغ بعدها أدعى إلى الحيرة والتردد من الإثبات.
وصفوة ما يبقى بعد حذف هذه التخمينات أنَّ الدعوة المسيحية بعد السيد المسيح كانت ترجع إلى مركزين: أحدهما برئاسة جيمس (أي يعقوب) المُسمَّى بأخي الرب، ومقره بيت المقدس؛ والثانية برئاسة بولس الرسول ومريديه، ومقرها خارج فلسطين بعيدًا عن سلطان هيكل اليهود. وقد كانت شعبة بيت المقدس أقرب إلى المحافظة والحرص على شعائر العهد القديم، ملحوظةَ المكانة في العالم المسيحي داخل فلسطين وخارجها من بلاد الدولة الرومانية، كما يظهر من وصاياها ومن أجوبة المسيحيين في الخارج عليها، وكلها وصايا تحث على رعاية الشعائر الإسرائيلية كما تقدمت في النبوءات.
وظلت الرئاسة على العالم المسيحي معقودة لهذه الشعبة المقيمة في بيت المقدس حتى تهدم الهيكل، وتقوضت مدينة بيت المقدس، وتبددت الجماعة في أطراف البلاد، وآلت قيادة الدعوة إلى الشعبة التي كانت تعمل في خارج فلسطين، فكان لذلك أثرٌ كبير في أسلوب الدعوة، وفي اختيار وسائل الإقناع، إذا اختلف الأسلوبان بين الخطاب الموجه إلى اليهود وحدهم، والخطاب الموجه إلى الأممين النافرين من اليهود، فبينما كان الخلاص على يد فرد من بني إسرائيل لإنقاذهم دون غيرهم أمرًا مفروغًا منه بين اليهود، كان العالم الخارجي بحاجة إلى صفات إلهية في الرسول المخلص يقبلها الأمميون، ولا يتقيدون في قبولها بالشروط والعلامات التي يلتزمها المتشبثون بحرف الناموس، وقد كانت كتابة الأناجيل في وقت يوافق هدم الهيكل وتفرق الشعبة المقيمة ببيت المقدس، فوضحت فيها دلائل الدعوة كما تولاها المبشرون بها في بلاد الأممين، وغلبت فيها الصفة الإلهية على غيرها من الصفات المسموعة في جدار الهيكل، قبل إلحاح الحاجة إلى تدوين الأناجيل، وإنَّ المؤلفين ليطنبوا إطنابًا كبيرًا في ترديد الكلمات الإنجيلية التي تدل على اعتصام السيد المسيح بكتب التوراة، وتوصية التلاميذ باتباعها على سنة الفريسيين، وأشهر هذه الكلمات قوله للتلاميذ والجموع كما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين، من إنجيل متَّى: «إنَّه على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكل ما قالوا لكم أنْ تحفظوه فاحفظوه وتعلموه، ولكن حسب أعمالهم لا تفعلوا، لأنَّهم يقولون ولا يفعلون.»
ومن تلك الكلمات قوله كما جاء في الإصحاح الخامس: «لا تظنوا أنني جئت لأنقص الناموس أو الأنبياء، وما جئت لأنقص بل لأكمل، فإني الحقَّ أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل …»
ومنها قوله كما جاء في الإصحاح العاشر: «إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة السامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة.»
ومنها قوله كما جاء في الإصحاح الخامس عشر: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة …» إلى أقوال أخرى تفهم في مضامينها إن لم تفهم من لفظها الصريح كما في هذه الأقوال.
١ The Other Side of the Story by Rupert Furneaux.
٢ The Nazarene Gospel Restored by Graves and Podro.