عصر النهضة في الأدب العربي الحديث
يبدأ عصر النهضة في الأدب العربي الحديث منذ الصدمة الأولى التي شعر بها العالم العربي على أثر الحملة الفرنسية التي قادها نابليون الأول إلى وادي النيل قبيل نهاية القرن الثامن عشر، واصطحب فيها طائفة من العلماء والباحثين المنقبين، ومعهم مطبعتهم وأزوادهم من كتب المراجع ومصنفات العلم الحديث.
يقول ابن خلدون: إن المغلوب مولع بمحاكاة الغالب؛ لأن الهزيمة توحي إليه أن مشابهة الغالب قوة يدفع بها مهانة الضعف الذي جنى عليه تلك الهزيمة، ويوشك أن يندمج المغلوب في بنية القوي المتسلط عليه ويفنى فيه — عادةً وعملًا ولغةً وأدبًا — إن لم تعصمه من هذا الفناء عصمة من بقايا الحيوية كمنت فيه وورثها من تاريخه القديم.
ولقد كانت لوادي النيل عصمته التي سلم بها من غوائل الذهاب مع المحاكاة إلى نهاية شوطها، فكانت الصدمة الأولى من صدمات الإيقاظ والتنبيه، ولم تكن صدمة يتبعها التضعضع والاستكانة، أو استكانة يتبعها التسليم فالزوال.
وكانت لوادي النيل حيويتان كامنتان في تلك الفترة من فترات الجمود والظلام، ولم تكن حيوية واحدة من بقايا التاريخ المندثر كما يحدث في كثير من أمثال هذه الصدمات.
كانت له حيوية المجد التاريخي المتأصل في الحضارة المصرية العريقة.
وكانت له حيوية اللغة العربية بثقافتها الروحية والفكرية، وهي حيوية لم يلتفت إلى حقيقة قوتها من يكتبون عنها من غير العرب؛ لأن العربي الذي يدين بالإسلام يفسر بقاء اللغة بمعجزة القرآن الكريم، ولكن الباحث الأجنبي الذي لا يؤمن بهذه المعجزة ينبغي أن يكون منطقيًّا مع نفسه، فيُنسَب إلى قوة اللغة تلك الحيوية التي أتاحت لها البقاء.
كان من أثر الصدمة الأولى بين العالم العربي وسطوة الحضارة الأوروبية الحديثة أن المغلوب أخذ في محاكاة الغالب كما هي العادة العامة، وأن هذه المحاكاة بدأت بالتقليد الآلي الذي لا تمييز فيه ولا اختيار، ولكنها لم تنطلق فيه إلى نهاية الشوط بل تحولت عنه بعد قليل إلى المحاكاة المميزة المختارة، ثم إلى الاستقلال المتعثر المضطرب في أول الأمر، فالاستقلال الناشط المسدد إلى الغاية من خطاه بعد حين.
إن حيوية التاريخ واللغة هي التي أوحت إلى عقول المتيقظين من أبناء الشرق أنهم يشبهون أنفسهم في أيام مجدهم وازدهار لغتهم، ولا يشبهون الأوروبيين في حضارتهم الحديثة التي انتصروا بها على جيش المماليك الغرباء عن ذلك التاريخ وعن تلك اللغة عند سفح الأهرام.
فلم تمضِ سنوات على افتتان الشرق المغلوب بمظاهر القوة في الحضارة الأوروبية الحديثة، حتى سُمِعت في مصر وفي العالم العربي صيحةُ الدعوة إلى إحياء التراث القديم ورد الأمانة إلى أهلها مرة أخرى قبل فوات الأوان؛ لأن الحضارة الحديثة عند الأوروبيين عارية مستعارة من هذا الشرق العربي، أخذوها وأقاموا بنيانهم على أساسها الذي هو أولى بنا ونحن أولى به من أن نتركه للمستعمرين المتطفلين عليه، وليس بالعسير علينا أن نقيم بناءنا الجديد على أساسنا القديم.
لهذا كانت الصدمة صدمة إحياء للتراث القديم، ولم تكن في أشد أيام الضعف والمحاكاة صدمة تسليم وفناء.
بدأت النهضة في وقت واحد بالترجمة والنقل وبإعادة البلاغة العربية إلى الحياة في تراثها المأثور من المنظوم والمنثور، وانقضى أكثر من قرن ونصف قرن منذ أيام الحملة الفرنسية تقدمت فيه النهضة في مراحلها الثلاث إلى مرحلتها الحاضرة التي أوشكت أن تسير مع الحضارة الغربية جنبًا إلى جنب في مراحل التقدم والاستقلال.
تقدمت من مرحلة النقل الآلي إلى مرحلة النقل المتصرف، إلى مرحلة الاستقلال المبتدئ المتعثر، إلى هذه المرحلة الأخيرة من مراحل الاستقلال المتمكن من غايته ومن خطاه.
ولم ينقضِ عصر الترجمة بعد، ولا نعتقد أنه ينقضي أو ينبغي أن ينقضي في زمن من الأزمنة المقبلة؛ لأن الثقافة الإنسانية في هذا العصر العالمي على الخصوص شركة بين أمم العالم لا تقبل الانفصال أو الانقطاع، ولكن الفرق بيننا في هذا العصر وبيننا قبل نهاية القرن التاسع عشر أن الترجمة اليوم لا تنفرد بالظهور في ميدان من ميادين الثقافة، ولكنها تظهر في جانب ويظهر معها التأليف في جانب يضارعه في السعة والانتشار، أو تظهر الترجمة أحيانًا على التأليف، ولكنها ترجمة الفهم والاختيار والموازنة بين ما يُؤخَذ وما يُترَك، وليست بترجمة النقل الآلي والاقتباس الجزاف.
ومن الحوادث الكبرى التي كانت لها صدمة كصدمة الحملة الفرنسية بعد أواخر القرن الثامن عشر حادث الاحتلال البريطاني قبيل نهاية القرن التاسع عشر، ثم حادث الحرب العالمية الأولى تتبعها الحرب العالمية الثانية إلى منتصف القرن العشرين.
وهنا كانت للحوادث الكبرى دفعتها التي حركت العالم العربي قدمًا إلى الأمام مع اختلاف واضح بين أثر الصدمة الأولى وآثار الصدمات الأخيرة، ولكنه واضح في الدرجة والمقدار أكثر من وضوحه في العمق والقوة.
فالصدمة الأولى كان لها أثر الانبعاث في أول الطريق، وفي نطاق محدود بين أبناء الأمة الواحدة، والصدمات الأخيرة كان لها أثر المضي والاستمرار، وأثر الشيوع والاتساع الذي يناسب السعة العالمية، وهي طابع كل حركة من حركات الجماعات منذ منتصف القرن العشرين.
والجديد بعد الحوادث الكبرى الجديدة بالنسبة إلى زماننا هو كل جديد يصاحب الكثرة العددية وسعة الانتشار.
فاتساع العلاقات العالمية قد صاحبته الدعوات التي ترمي إلى تطبيق النظم الاجتماعية على العالم كله، ولا تقنع بانحصارها في وطن واحد.
واتساع نطاق التعليم قد أدخل في ميادين الثقافة ألوفًا من طلاب الثقافة — أو من قراء الكلم المطبوع — لم تكن لهم عناية من قبل بشيء مطبوع أو مكتوب.
وقد تبين أن الحيوية الواقية كانت ألزم للعالم العربي في هذا الدور مما كانت في جميع الأدوار الماضية منذ ابتداء النهضة في العصر الحديث.
فإن الدعوات العالمية خليقة أن تجور على كيان القومية، وأن تؤول بها إلى فناء كفناء المغلوب في الغالب.
وإن شيوع الثقافة خليق أن يمسخها ويشوِّه معالمها؛ لأنه قد يضحي بالعمق والنفاسة في سبيل الضحالة والإسفاف.
وقد أخذت الدعوات العالمية تتستر وراء اسم الأدب الهادف لتتجه بالكتابة نظمًا ونثرًا وقصة ودراسة إلى وجهة الدعاية المذهبية التي يروجها أعداء القومية والوطنية، وأعداء الثقافة الخالدة من كل تراث مأثور.
وأخذت هذه الدعوات وغيرها من دعوات الكسب والتجارة في التستر وراء اسم «الشعبية» لتسويغ الإسفاف السهل على الأدعياء، أو تسويغ القضاء على الشعب بالجهل الأبدي الذي يقصر مطالعاته على موضوعات لا تعلو بالقارئ عن طاقة «الأمية» وما يشبه الأمية من سقط المتاع.
وأخذت الدعوة إلى هدم قواعد الفنون تظهر حينًا من جانب العاجزين عن التعبير الفني بقواعده الأصيلة، وحينًا آخر من جانب المتواطئين على الهدم والمتعللين له كل يوم من وراء الستار بعلة جديدة.
وأخذت الشعوبية تحارب العروبة بمختلف الأسلحة أو مختلف الحيل والأحابيل.
ولكن حيوية اللغة — ومعها حيوية التاريخ العريق — هما الحارس القوي الأمين الذي تقاصرت عنه تلك الحيل وتلك الجهود، فبقيت النهضة على حصانتها المنيعة بين العاملين على هدمها وتعويقها عامدين لرغبتهم في الهدم أو غير عامدين لعجزهم عن النهوض بمطالب الفن الصحيح.
وحق لنا أن نقول: إن نهضة الأدب العربي في العصر الحديث قد أصبحت كما ينبغي عالميًّا في الصميم؛ لأن العالمية في صورتها الصحيحة هي وحدة إنسانية تقوم على التضامن بين الأمم، ولا تقوم على هدم هذه الأمة أو تلك في بلادها، وبناء العالم — المهدوم — من الأخلاط والفوضى التي لا تعرف القومية ولا تعرف الإنسانية على السواء.
وقد صارت النهضة بالأدب العربي إلى السعة العالمية بهذا المعنى الذي لا اختلاف عليه بين طلاب الثقافة الإنسانية، وإنما يكون الأدب عالميًّا إذا اتسع لكل موضوع من الموضوعات الإنسانية المشتركة كما يحسها أبناء كل أمة في الزمن الذي يعيشون فيه، وليس بالشرط اللازم في الأدب العالمي أن يُكتَب باللغة التي يستطيع أن يقرأها أبناء العالم أجمعين، فإن اللغة الصينية يتكلمها خمسمائة مليون ولا يُقال عن آدابها الحاضرة أنها أجدر بوصف العالمية من آداب الأمة السويدية أو البلجيكية أو التشيكية، وإنما تكون عالمية بمقدار نصيبها من موضوعات الأدب التي تشترك فيها أمم الحضارة في العصر الحديث، وبخاصة تلك الموضوعات «التعبيرية» التي تصاحب الأمم الحية في كل زمن ولا تتوقف على نصيبها من المزايا العرضية بين حين وحين، فربما كثر عدد الفلاسفة والرياضيين في زمن من الأزمنة وقل في زمن آخر، والأمة هي الأمة في علاقاتها العالمية وتعبيراتها عما تُكِنُّه من الشعور، ولكنَّ المعبرين عن ذلك الشعور من الشعراء والأدباء والفنانين يقلون، وتكون قلتهم دليلًا على نقص الحيوية، ويكثرون وتكون كثرتهم دليلًا على قوتها واندفاعها إلى إثبات وجودها والتعبير عن بواطنها.
ومن الأدلة على الصبغة العالمية في أدبنا الحديث أنه يمثل العوارض العالمية في نواحيها المتعددة بما يصيبها من نشاط وفتور أو من محافظة وتجديد، فكل ما هو شائع رائج من الفنون بين أمم الحضارة له مثل هذا النصيب من الشيوع والرواج بين المتكلمين بالعربية، وكل ما يُقال عنه: إنه شيء في غير أوانه يُعاد فيه هذا القول بيننا مع اختلاف العبارة كما ينبغي أن تعترف بين قوم وقوم يخالفونهم باللغة والتاريخ.
إن الشعر — مثلًا — من الفنون التي يُقال عنها أنها في غير أوانها بين أبناء العصر الحديث، ويعتقد النقاد ما يعتقدون في تعليل ذلك، ونعتقد نحن أن المسألة كلها مسألة توزيع لمواضع التعبير وليست مسألة انصراف عن وسائله وأدواته، فإن العصر الذي يملك من وسائل التعبير عن العاطفة الإنسانية فنونًا تتوزَّع بين المسرح، والقصة، والصور المتحركة، وأغاني الإذاعة، والحاكي (الجرامفون)، وأخبار الصحف … وغيرها من فنون العاطفة، لا يُعقَل أن يكون نوع الشعر الذي يُطلَب فيه كنوع الشعر الذي يُطلَب، وهو هو الفن الوحيد المعبر عن عواطف الشعراء والمستمعين.
وأيًّا كان سبب التغير في مناهج الشعر وميادينه، فالمهم فيما نحن بصدده أن الظاهرة العالمية تظهر عندنا كما ظهرت بين أمم الحضارة الحديثة، وأنها آية من آيات الصيغة العالمية التي تترقى إليها نهضة الأدب العربي الحديث.
تترقى نعم، ولا نقول إنها تصل إذا كان معنى الوصول الوقوف والاستقرار، وتترقى أيضًا مع حفظ النسبة بيننا وبين أناس سبقونا بعدة أجيال، وحسبنا مع الأمل الطيب في المستقبل أننا وصلنا إلى الميدان، وإن لم نصل في أوائل الصفوف.