كتب خلق كثير عن حياة شكسبير، واختلف الرُّوَاة فيها أيَّمَا اختلاف، ولست أريد أن أعرض لهذا كله، أو أتقصَّاه من جميع جهاته، ولكنِّي سأجتزئ هنا بالوقائع الثابتة، والأحداث المحققة، فلا أتحدث عن آبائه الأولين، فإن هذا الاسم «شكسبير» كان شائعًا في القرون الوسطى، مُدوَّنًا في عدة أقاليم من الجزيرة البريطانية، وكان قومه من الفلَّاحين، فهو فلاح من سلالة زُرَّاعٍ وحُرَّاثٍ يعملون في الأرض، والظاهر أن أباه «جون شكسبير» كان أخا نعماء — وصاحب شأن، في استراتفورد، وتزوج «بماري أردن» وهي فتاة ورثت عن أبويها أرضًا ودورًا ولكنَّها لم تتلقَّ شيئًا من العلم، وقد شوهدت بصمتها في عدة وثائق، ولم يثبُت أنها كانت توقِّع باسمها. وكان «وليم» ثالث ابن رُزِقَاه، وأكبر الأحياء من أولادهما بعد وفاة أخويه الأولَيْن، وكان مولده في شهر أبريل عام ١٥٦٤ بقرية «استراتفورد» القائمة على ضفاف نهر إيفون.
وكان أبوه يومئذ في أحسن حال، وأرغد عيش، ولم تكد تنقضي على مولد «وليم» ثلاثة أشهر أو نحوها، حتى تفشَّى الطاعون في القرية، وأخذ يحصد أهل الفاقة من بينها حصدًا، فأقبل أبوه على إنقاذ الناس من هذا الشر المستطير كريمًا سمحًا غير ضَنين، ولكنه بعد بضع سنين غَرِقَ في الديون، وأحاطت به المتاعب، فاضطر إلى رهن عقار زوجته، وانصرف عن الاشتغال بالشئون البلدية والقروية في إقليمه.
طفولته وشبابه
وما لبث أن واجهته نفقات تعليم أولاده (وهم خمسة)، ثلاثة صبيان، وابنتان أصغر سنٍّا من وليم، وكان الصِّبيَة يستحقون التعليم في المدرسة الأولية بغير نفقة فأُدخلوا فيها، وبدءوا يتلقَّوْن مبادئ في اللاتينية، والنحو والصرف، والأدب وتواتَى لوليم فيما بعد شيء من علم الفرنسية، فانتفع به في روايته التاريخية «هنري الخامس»، ولكنَّه لم يقضِ وقتًا طويلًا في المدرسة، لتدهور أحوال أبيه، وحين بلغ الثالثة عشْرة، بدأ يشتغل «قَصَّابًا» وهي الحِرفَة التي أصبح أبوه يعتمد عليها في كَسْب قوته.
زواجه
وكانت تقوم على مقربة من استراتفورد دار ريفية معروشة السقوف، لا تزال تُعرف باسم «كوخ آن هاتاواي»، وكان يقيم فيها آل هاتاواي، إلى عام ١٨٣٨، وكان ريتشارد هاتاواي والد «آن» غنيًّا، فلما قضى نَحْبَه، ترك ضَيْعة ورِثَها عن آبائه الأولين، فتولَّت رعايتها من بعده أرملتُه وأكبر بنيه، وكان نصيب كل بنت من بناته لا يتجاوز ستة جنيهات وثلاثة عَشَر شلنًا وأربعة بنسات، وهو ما يساوي نحو مائة وستين جنيهًا في أيامنا هذه.
وقد تزوج شكسبير بالفتاة «آن» حين تجاوز الثامنة عشْرة وكانت أكبر منه بعدة سنين، إذ كانت يومئذ تبلغ السادسة والعشرين.
ولا يحدِّثنا التاريخ كيف كان قرانهما على هذا الفارق في العمر، ولا كيف كان عيشهما، ولكنَّ الثابت أن حياتهما لم تكن هنية رغيدة، وقد رُزقا بنتين وولدًا.
حياته الأولى
ولئن رأيناه يقول عن آن … إن لآن هاتاواي، وما أدراك من آن هاتاواي، سبيلًا لفتنة القلوب، وسحرًا يجتذب الأفئدة … فقد عجزت عن كبح جماحه، أو قص جناحه، أو ردِّه عن هواه، فقد مضى يلهو بين أهل قريته، ولم تقنعه صنوف اللهو المألوفة في محيطه، فانطلق يختلط بقرناء السوء، وشرار الصحب، ويُغِير على أماكن الصيد التي يملكها أهل اليسار والسلطان، فيسرق الغزلان، ويصطاد الأرانب، حتى اضطُر في النهاية إلى مغادرة القرية، وهجرة الأهل والنزوح عن البيئة التي نشأ فيها عدة سنين.
وقد اعتدى على حدائق السير «توماس لوسي» في شارلكوت أكثر من مرة في تلك الأيام، وكانت العقوبة يومئذ لا تقل عن الحبس ثلاثة أشهر، ودفع غرامة تُقدَّر بثلاثة أمثال قيمة التلف الذي أحدثه، فلم يلبث أن اشتدَّ حقده على ذلك الوجيه فراح يثأر منه بأبيات من الشعر علقها على أبواب حدائقه، وهي فعلة أثارت عليه غضب ذلك الكبير، وطالب بمزيد من العقاب، فلم يسع شكسبير سوى الفرار إلى لندن في عام ١٥٨٥ للبحث عن عمل يسد منه أرماقه.
حياته في لندن
وتختلف الروايات بسبيل محاولاته الأولى عند قدومه إلى لندن، ولكنَّ الثابت أنه لم يلبث بعدئذ أن اتَّجه إلى مهنة الممثل، ويُقال إنه بدأ يؤلِّف روايات تمثيلية، أو يقتبس أخرى من الكُتَّاب، ويعيد صياغتها، ويحوِّر في ألفاظها وعباراتها، ثم يعرضها على الفرق التمثيلية، فتشتريها، وتنتقل ملكيتها من يده. وكان من عادة مديري هذه الفرق إحالة الروايات على المراجعين قبل عرضها على المسرح، وهذا ما حدث لروايته الأولى «جهد حب ضائع» التي يغلب على الظن أنه وضعها في عام ١٥٩١، فقد رُوجعت عام ١٥٩٧ ونُشِرت في العام التالي باسمه. وكانت هذه هي أوَّل مرة يبدو فيها اسمه منشورًا على صدر كتاب من قلمه وتأليفه. والظاهر أن حوادثها لم تُقتبس — كأكثر مسرحياته — من قصة قديمة أو كتاب سابق كما يبدو في روايته «روميو وچولييت» (١٥٩١–١٥٩٣) وهي مأساته الأولى، فقد توالَّى اقتباس قصتها عدة مرات منذ وُضعت في القرن الثاني قصة «أنتيا وابروكوماس» في اللغة الإغريقية، وكانت معروفة في طول أوربا وعرضها، وتكرر ظهورها نثرًا وشعرًا عدة أجيال.
أما قصة تاجر البندقية (١٥٩٤) فقد رجع فيها إلى عدة مصادر، من بينها مجموعة قصص إيطالية كُتبت في القرن الرابع عشر، ومن المُرجَّح أن تكون أكثر مسرحياته قد استغرقت زُهَاء عشرين عامًا من عمره، أو بين السابعة والعشرين والسابعة والأربعين؛ أي بمعدل روايتين في العام.
أهل السلطان الذين رَعَوْه
وكان له بين الأشراف راعٍ يُدعَى «الأرل أوف سلوتامينون»، وقد وجَّه إليه كثيرًا من أغانيه، وإن لم يذكر اسمه صريحًا، كما أبدت الملكة «إليزابث» نحوه شيئًا من العطف في عام ١٥٩٤ وطُلب عقب تتويج الملك جيمس الأول للتمثيل في حضرته، وكان تمثيل رواية «العاصفة» ولعلها آخر ثمار عبقريته بمناسبة قران الأميرة إليزابث بالأمير فردريك عام ١٦١٣.
عودته إلى استراتفورد
وما كاد ينتصف به العمر حتى بدأ يهدأ ويتدبر مطالب الحياة، ويسعى جاهدًا في معاودة العيش في العشيرة، والإخلاد إلى الحياة المنظَّمة، فعاد إلى استراتفورد، بعد هجرتها أحد عَشَرَ عامًا، وإن ظل يزورها مرة على الأقل في كل عام، فاشترى في عام ١٥٩٧ أكبر بيت في القرية لقاء ستين جنيهًا، وكان للبيت مخزنان للغلال وحديقتان، فعكف على إصلاحه، وعَنِيَ بالحديقتين، ولعلَّ هذا القدر اليسير من المال الذي اشتراه به يساوي اليوم ١٥٤٠ جنيهًا. وقد سُمِّيَ يومئذ «المكان الجديد»، وجعل الناس يدعونه قرية «الغني الوجيه». وزاد في نفوذه أنه استعان بأبيه على الظَّفَر بشعار النبالة، وأصبح معدل إيراده السنوي من التمثيل والتأليف المسرحي كبيرًا، وعندما تم تشييد مسرح «جلوب» في عام ١٥٩٩ بدأ يتلقَّى حصة من أرباحه، فارتفع إيراده إلى مائة وثلاثين جنيهًا أو ما يساوي اليوم نحو ثلاثة آلاف، ثم نما على الأعوام أيضًا، فأصبح رب ضَيْعة كبيرة وكان مولعًا بالقضايا، كثيرَ الدخول في المنازعات أمام المحاكم، وكثيرًا ما كان يخرج منها كاسبًا موفقًا.
في أخريات أيامه
وقد أخرج أحسن رواياته في تلك الفترة السعيدة من حياته وهي جميعًا قصص مرحة خفيفة الظل، ثم تلتها بعد عام ١٦٠٠ ثلاث أخرى يغلب الجد عليها وهي: يوليوس قيصر، وهملت، وعطيل.
وفي عام ١٦٠٦ أتمَّ «مكبث»، ثم «الملك لير» التي مُثِّلت في بلاط «هوايتهول» خلال شهر ديسمبر عام ١٦٠٦.
والظاهر أنه انصرف عن التأليف للمسرح بعد عام ١٦١١، ولبث مقيمًا في استراتفورد أكثر أيامه.
وبدأت صحَّته تعتل في بداية عام ١٦١٦، ولكنْ لا يعرف أحد أسباب وفاته، وكان ابنه الأوحد «هانمت» قد قضى نحبَهُ قبل ذلك بعدة سنين، وقد ترك من بعده زوجه وابنتيه «سوسنة هول» و«جوديث كويني»، وكانت منيَّتُه في الثانية والخمسين، ودُفِنَ في كنيسة استراتفورد وكُتبت على قبره أبياتٌ من شِعْره البديع.