وجدت الأخت جوكوندا نفسها لدى باب قاتم بلا مصراعين، في سور شامخ مبني من حجارة قاتمة، فتقدمت إلى الباب، وأجالت نظرها وهي هالعة القلب، وإذا الأب سلفاستروس مُقْبِل، فما وقعت العين على العين حتى أسرع إليها مرحِّبًا: أهلًا وسهلًا أيتها الصديقة البارة، لقد أُنْبئت بقدومك فتعالي.
فقالت باكية: ويحي من عذاب المطهر يا أبي.
– لا تفزعي، لا عذاب هنا إلا الملل والضجر.
– الملل والضجر فقط!
– نعم، وهو عذاب كافٍ، عذاب ألوف السنين.
– ويحي! إنَّ الراهبات في الدير يصلين لأجلي لكي تقصر سنو مطهري.
– ويحهم! إنهم بصلاتهم يزيدون سني مطهرك، أما زعموا أنك قديسة عجائب، وأنك منتقلة إلى السماء؟ فلماذا الصلاة لأجلك إذا كنتِ في السماء؟ وهل أحكام الديان خاضعة لصلاتهم؟
– لقد انخدعت يا صديقي سلفاستروس، انخدعت.
– وهنا عقاب الانخداع، فتعالي نُصَلِّ ونتوسل إلى الله.
فطاف بها الأب سلفاستروس على جماعات المتطهرين، وهم يصلون ويتضرعون، واشتركا مع جماعة منهم.
•••
انقضى زمان حتى ملت الجموع الصلاة، وتفرقت هنا وهناك أزواجًا وفرادى، وسلفاستروس يقود صديقته جوكوندا بين الجموع إلى أن قال لها: ستُعقَد في جهنم غدًا حفلة نادرة، فَلْنذهب ونشاهدها.
– ويحك! كيف نذهب إلى جهنم حيث النار المتقدة والعذاب الذي لا يُطَاق؟!
فقهقه سلفاستروس وقال: لا تخافي ليس عذاب جهنم النار، بل عذابها الشر الأبدي.
– لا، لا، بربك دعني في مطهري، دعني بعيدة عن شر جهنم.
– نحن لا نشترك مع أهل جنهم بشرهم، بل نمكث في شرفة نطل بها على أهل جهنم ونشاهد الحفلة.
– لا لا، لا أذهب، لا أذهب إلى هناك.
– لا تخافي ليس في المشاهدة أذًى، كثيرون يذهبون كل يوم من هنا إلى هناك للمشاهدة، حتى أهل السماء يزورون شرفات جهنم؛ لكي يروا الفرق بين شقاء جهنم وسعادة السماء، أَلَا تذكرين حكاية الغني الذي شاهد اليعازر في حضن إبراهيم، واستغاث بإبراهيم عسى أن يرسل اليعازر ليبلَّ بطرف أصبعه لسانه بالماء، إنَّ هذه المشاهدة تجعلنا نعجِّل بالتوبة لكي نصعد إلى السماء. تعالي لا تخافي.
وما زال يقنعها إلى أن اقتنعت، فتمشيا إلى بوابة أخرى للمطهر، حيث رأت جوكوندا رهطًا من الجن يحفون حول منطاد عظيم جدًّا.
فقالت مذعورة: ما هذا يا سلفاستروس؟
– هذا هو أحد المناطيد التي تنقل أهل المطهر إلى جهنم، وهؤلاء الجن هم الذين يتولَّون أمر المنطاد.
– عجبًا! هل اخترع الجن مناطيد.
– بل تعلموا صنعها من أهل الأرض، هلمي قبل أن يمتلئ المنطاد ولا يبقى لنا محل، فنضطر أن ننتظر منطادًا آخَر، وقد يفوتنا مشهد الحفلة.
ودخلا إلى المنطاد، وجلسا على مقعد واحد، فقالت له: ما هو شأن هذه الحفلة الجهنمية؟
– يقال إنها حفلة انتصار الشياطين في إثارة الحرب العظمى على الأرض وفوزهم فيها.
– يا للعجب! إذن كان الحلفاء شياطين لأنهم انتصروا.
فقهقه سلفاستروس وقال: لم ينتصر الحلفاء، ولا ألمانيا وحلفاؤها انتصروا، بل جميعهم خسروا الحرب، والمنتصرون هم الأبالسة فقط.
– لا أفهم ماذا تعني؟
– أعني أنَّ الحرب انتصرت على السِّلْم، والشياطين أعداء السِّلْم وأنصار الحرب، أَليست الحرب كارثة للجنس البشري وويلًا للغالب وللمغلوب جميعًا؟
– بلى.
– إذن، نجح بها الأبالسة.
ثم نهض المنطاد وانساب في الفضاء، وما هي إلا فترة حتى جعل يهبط إلى أن استقر عند شفا هاوية، وخرج الركاب إلى أرض صخرية كالحة سوداء، فتمشى سلفاستروس وجوكوندا إلى أن بلغا إلى صف طويل من الشرفات المطلة على الهاوية فمكثا فيها، وأطلت جوكوندا وقالت مبهوتة: ما هذا! إني أرى مدينة عظيمة وأبنية شامخة وشوارع؟
– هذه مدينة الأبالسة، عاصمة بعلزبول زعيم الشياطين.
– يا للعجب! هل يحذق الشياطين فن البناء أيضًا.
– تعلموه من ضيوفهم الأشرار الأرضيين.
– أرى سيارات وترامات وأسلاكًا …
– نعم، ترين كما في جهنم كذلك على الأرض، لقد اقتبس الخطاة الأرضيون كل ما عرفوه على الأرض، فصنعوا مثله في جهنم، وكلما جاء فوج جديد من الأرض اصطنع في جنهم ما جدَّ على الأرض من الاختراعات.
– إذن هم يتمتعون بجميع محاسن الأرض، فكيف يتعذبون؟!
– يتعذبون بشرورهم، واختراعاتهم تزيدهم عذابًا، وهو عذاب أبدي. أليس أهل الأرض أيضًا يزدادون بؤسًا وشقاءً بازدياد معارفهم واختراعاتهم؟
– إذن، رأيك أنَّ العلم والمعرفة سبب الشقاء.
– لا، بل رأيي أنَّ سوء استعمال الناس العلم والمعرفة هو السبب؛ فالأفراد الذين يستخدمون العلم لاستثمار أتعاب الأفراد، والأمم القوية التي تستخدم العلم لاستعمار الأمم الضعيفة، هؤلاء هم الذين يسببون الشقاء والبؤس، وكما فعل هؤلاء على الأرض جاءوا يفعلون هنا، وجاءوا يستعمرون جهنم ويبتَزُّون أهل جهنم.
ما اكترثت جوكوندا كثيرًا بهذا الشرح كأنها لم تفهمه؛ ولذلك اقتضبته قائلة: ولكن أين الحفلة؟
– الحفلة ستُعقَد هنا تحت في هذا الميدان العظيم الذي نشرف عليه، أَلَا ترين هناك ديوان بعلزبول منصوبًا؟ وسيمثل أمامه كبار الرجماء الذين قاموا بمهمة الحرب، والجموع تحف حول ذلك الديوان لتشاهد الحفلة.